أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)44%

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام) مؤلف:
المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67094 / تحميل: 8423
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الصدق مَنجاة

ما أكثر الأفراد الذين التزموا الصدق، في المواقع الحرجة، والمآزق الشديدة؛ وكان ذلك سبب خلاصهم.

لا يجهل أحد، مدى الجرائم التي قام بها الحَجَّاج بن يوسف الثقفي، والدماء التي أراقها بغير حَقٍّ.

وفي يوم مِن الأيَّام، جيء بجماعة مِن أصحاب عبد الرحمان مأسورين، وكان قد صمَّم على قتلهم جميعاً، فقام أحدهم واستأذن الأمير في الكلام، ثمَّ قال:

إنَّ لي عليك حَقَّاً! فأنقذني وفاءً لذلك الحَقَّ.

قال الحَجَّاج: وما هو؟

قال: كان عبد الرحمان يسبُّك في بعض الأيَّام، فقمت ودافعت عنك.

قال الحَجَّاج: ألك شهود؟

فقام أحد الأُسارى وأيَّد دعوى الرجل، فأطلقه الحَجَّاج، ثمَّ التفت إلى الشاهد، وقال له: ولماذا لم تُدافع عنِّي في ذلك المجلس؟

أجاب الشاهد - في أتمِّ صراحة ـ: لأنِّي كنت أكرهك.

فقال الحَجَّاج: أطلقوا سراحه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤١

احِفظ الله يَحفظك

خطب الحَجَّاج مَرَّة فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة، فإنَّ الوقت لا ينتظرك، والرَّبَّ لا يعذرك، فأمر بحبسه، فأتاه قومه، وزعموا أنَّه مجنون، وسألوه أنْ يُخلِّي سبيله، فقال: إنْ أقرَّ بالجنون خلَّيت سبيله.

فقيل له، فقال: مَعاذ الله، لا أزعم أنَّ الله ابتلاني، وقد عافاني.

فبلغ ذلك الحَجَّاج فعفا عنه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤٢

المَنطق السليم

بلغ المنصور الدوانيقي، أنَّ مَبْلغاً ضَخماً مِن أموال بني أُميَّة مُودعة عند رجل، فأمر الربيع بإحضاره.

يقول الربيع: فأحضرت الرجل، وأخذته إلى مجلس المنصور.

فقال له المنصور: بلغني أنَّ أموال بَني أُميَّة مودَعة عندك، ويجب أنْ تُسلِّمني إيَّاها بأجمعها.

فقال الرجل: هل الخليفة وارث الأُمويِّين؟!

فأجاب: كلاَّ.

فقال: هل الخليفة وصيُّ الأُمويِّين؟!

فقال المنصور: كلاَّ.

فقال الرجل: فكيف تُطالبني بأموال بَني أُميَّة؟!

فأطرق المنصور بُرهةً، ثمَّ قال: إنَّ الأُمويِّين ظلموا المسلمين، وانتهكوا حُقوقهم، وغصبوا أموال المسلمين وأودعوها في بيت المال.

فقال الرجل: إنَّ الأُمويِّين امتلكوا أموالاً كثيرة، كانت خاصَّة بهم، وعلى الخليفة أنْ يُقيم شاهداً عدلاً، على أنَّ الأموال التي في يدي لبَني أُميَّة، هي مِن الأموال التي غصبوها وابتزُّوها مِن غير حَقٍّ.

فكَّر المنصور ساعة، ثمَّ قال للربيع: إنَّ الرجل يصدق.

فابتسم بوجهه، وقال له: ألك حاجة؟!

قال الرجل: لي حاجتان:

٤٣

الأُولى: أنْ تأمر بإيصال هذه الرسالة إلى أهلي بأسرع وقت؛ حتَّى يهدأ اضطرابهم، ويذهب رَوعهم.

والثانية: أنْ تأمر بإحضار مَن أبلغك بهذا الخبر؛ فو الله، لا توجد عندي لبَني أُميَّة وديعة أصلاً، وعندما أُحضرت بين يدي الخليفة، وعلمت بالأمر، تصوَّرت أنِّي لو تكلَّمت بهذه الصورة كان خلاصي أسهل.

فأمر المنصور الربيع بإحضار المُخبِر.

وعندما حضر نظر إليه الرجل نظرة، ثمَّ قال: إنَّه عبدي سَرَق مِنِّي ثلاثة آلاف دينار وهرب.

فأغلظ المنصور في الحديث مع الغلام، وأيَّد الغلام كلام سيِّده في أتمِّ الخَجَل، وقال: إنِّي اختلقت هذه التُّهمة لأنجو مِن القَبض عليَّ.

هنا رَقَّ قلب المنصور لحال العبد، وطلب مِن سيِّده أنْ يعفو عنه، فقال الرجل: عفوت عنه، وسأُعطيه ثلاثة آلاف أُخرى، فتعجَّب المنصور مِن كرامة الرجل وعظمته.

وكلَّما ذُكِر اسمه كان يقول: لم أرَ مثل هذا الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٤

النبي أولى بالمسلمين مِن أنفسهم

وزَّع رسول الله غنائم حُنين - تبعاً لمصالح مُعيَّنة - على المُهاجرين فقط، ولم يُعط الأنصار سَهماً واحداً...

ولمَّا كان الأنصار قد بذلوا جهوداً عظيمة، في رُفعة لواء الإسلام، وخدمات جليلة في نُصرة هذا الدين؛ فقد غَضب بعضهم مِن هذا التصرُّف، وحملوه على التحقير والإهانة، فبلغ الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر بأنْ يُجمع الأنصار في مكان ما، وأن لا يشترك معهم غيرهم في ذلك المجلس، ثمَّ حضر هو وعلي (عليهما السلام)، وجلسا في وسط الأنصار، ثمَّ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: (أُريد أنْ أسألكم عن بعض الأمور فأجيبوني عليها).

قال الأنصار: سَلْ، يا رسول الله.

قال لهم: (ألم تكونوا في ضَلال مُبين، وهداكم الله بيَّ؟).

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (ألم تكونوا على شَفا حُفرة مِن الهلاك والنار، والله أنقذكم بيَّ؟).

قالوا: بلى.

قال: (ألم يكن بعضكم عدوَّ بعض، فألَّف الله بين قلوبكم على يديَّ؟).

قالوا: بلى.

فسكت لحظة، ثمَّ قال لهم: (لماذا لا تُجيبونني بأعمالكم؟).

قالوا: ما نقول؟!

قال: (أما لو شِئتم لقُلتم: وأنت قد جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمنَّاك، وجئتنا مُكَذَّباً فصدَّقناك...).

هذه الكلمات الصادرة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أفهمت الأنصار

٤٥

أنه لا يُنكَر فضلهم، ولا يُنسى جهودهم، ولم يكن ما صدر منه تِجاههم صادراً عن احتقار أو إهانة...

ولذلك فقد أثَّر فيهم هذا الكلام تأثيراً بالغاً، وارتفعت أصواتهم بالبُكاء، ثمَّ قالوا له: هذه أموالنا بين يديك، فإنَّ شِئت فاقسمها على قومك، وبهذا أظهروا ندمهم على غضبهم واستغفروه.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اللَّهمَّ اغفر للأنصار، ولأبنا الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٦

الكريم يَسأل عن الكريم

في إحدى الغزوات، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُصلِّي في مُعسكره، فمَرَّ بالمُعسكر عِدَّة رجال مِن المسلمين، وتوقَّفوا ساعة، وسألوا بعض الصحابة عن حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوا له، ثمَّ اعتذروا مِن عدم تمكُّنهم مِن انتظار النبي حتَّى يفرغ مِن الصلاة فيُسلِّموا عليه؛ لأنَّهم كانوا على عَجلٍ، ومضوا إلى سبيلهم. فانفتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُغضباً، ثم قال لهم: (يقف عليكم الركب ويسألونكم عنِّي، ويُبلِّغوني السلام، ولا تعرضون عليهم الطعام!).

ثمَّ أخذ يتحدَّث عن جعفر الطيار، وعظمة نفسه، وكمال أدبه، واحترامه للآخرين... (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٧

مَن كانت أفعاله كريمة اتَّبعه الناس

ليست فضيلة احترام الناس، وتكريمهم في الشريعة الإسلاميَّة الغرَّاء، خاصَّة بالمسلمين فيما بينهم فقط، فإنَّ غير المسلمين أيضاً، كانوا ينالون هذا الاحترام والتكريم مِن المسلمين، فقد تصاحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع رجل ذِمِّيٍّ خارج الكوفة، في أيَّام حكومته، وكان الذِمِّيُّ لا يعرف الإمام، فقال له: أين تُريد يا عبد الله؟

قال الإمام علي (عليه السلام): (أُريد الكوفة).

ولمَّا وصلا إلى مُفترق الطُّرق المؤدِّية إلى الكوفة، توجَّه الذِّمِّيِّ إلى الطريق الذي يُريده، وانفصل عن الإمام (عليه السلام)... ولكنَّه لم يَخطُ أكثر مِن بِضع خُطوات، حتَّى شاهد أمراً عَدَّه غريباً؛ فقد رأى أنَّ صاحبه الذي كان قاصداً الكوفة، ترك طريقه وشايعه قليلاً. فسأله ألست تقصد الكوفة؟

قال الإمام: (بلى؟).

قال الذِّمِّيُّ: (ذلك هو الطريق المؤدِّي إلى الكوفة).

قال الإمام: (أعلم ذلك).

سأل الذِّمِّيُّ باستغراب: ولماذا تركت طريقك؟

قال الإمام (عليه السلام): (هذا مِن تمام حُسن الصُّحبة، أنْ يُشيِّع الرجل صاحبه هُنيَّهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيِّنا).

قال الذِّمِّيُّ: هكذا أمر نبيُّكم؟!

قال الإمام: (أجلْ).

٤٨

قال الذِّمِّيُّ: لا جَرَمَ، أنَّما تبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة.

ثمَّ ترك طريقه الذي كان يقصده، وتوجَّه مع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة، وهما يتحدَّثان عن الإسلام وتعاليمه العظيمة، فأسلم الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٩

انزل عن مِنبر أبي!

زيد بن علي، عن أبيه: (إنَّ الحسين بن علي (عليهما السلام) أتى عمر بن الخطاب، وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال: انزل عن مِنبر أبي، فبكى عمر، ثم قال: صدقت - يا بُني - مِنبر أبيك لا منبر أبي. وقام عليٌّ (عليه السلام).

وقال: ما هو - والله - عن رأيي.

قال: صدقت! والله، ما اتَّهمتك يا أبا الحسن).

هذا دليل على أنَّ عمر أيضاً، كان يعرف أنَّ الحسين ذو شخصيَّة مُمتازة، وله إرادة مُستقلَّة، وليس كلامه صادراً عن تلقين مِن أبيه، بل هو نِتاج فِكره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٠

يَفرُّ مَن أخطأ!

قصد المأمون بغداد بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام)، وخرج يوماً للصيد، فمَرَّ في أثناء الطريق برَهط مِن الأطفال يلعبون، ومحمد بن علي الجواد (عليه السلام) معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حوله... فلمَّا رآه الأطفال فرُّوا، بينما وقف الجواد (عليه السلام) في مكانه ولم يَفرَّ. مِمَّا أثار تَعجُّب المأمون؛ فسأله:

لماذا لم تلحق بالأطفال حين فرُّوا؟

ـ يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضِيقٌ لأوسِّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنِّي بك حَسنٌ أنَّك لا تضرب مَن لا ذنب له فوقفت.

تعجَّب المأمون مِن هذه الكلمات الحكيمة، والمنطق الموزون، والنبرات المُتَّزنة للطفل فسأله: ما اسمك؟

ـ محمد.

ـ محمد ابن مَن؟

ابن عليٍّ الرضا...

عند ذاك ترحَّم المأمون على الرضا (عليه السلام)، ثمَّ ذهب لشأنه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥١

رِفقاً بالحسين!

روي عن أُمِّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، مُرضعة الحسين (عليه السلام) أنَّها قالت: أخذ مِنِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسيناً أيَّام رضاعه، فحمله فأراق شيئاً على ثوبه، فأخذتُه بعنف حتَّى بكى. فقال (صلى الله عليه وآله): (مَهلاً يا أُمَّ الفضل، إنَّ هذا مِمَّا يُطهِّره الماء، فأيُّ شيء يُزيل هذا الغبار عن قلب الحسين؟!) (1).

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٢

كرهت أنْ أُعجِّله!

دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صلاة، والحسن مُتعلِّق، فوضعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانبه وصلَّى، فلمَّا سجد أطال السجود، فرفعت رأسي مِن بين القوم، فإذا الحسن على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمَّا سلَّم قال له القوم: يا رسول الله، لقد سَجدت في صلاتك هذه سَجدةً ما كنت تسجدها! كأنَّما يوحى إليك؟!

فقال: (لم يوحَ إليَّ، ولكنَّ ابني كان على كتفي، فكرهت أنْ أُعجِّله حتَّى نزل).

هذا العمل مِن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه ولده الصغير، أمام ملأٍ مِن الناس، نموذج بارز مِن سلوكه في تكريم الطفل.

إنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل أقصى ما يُمكن مِن احترام الطفل، في إطالته سجدته، وأرشد الناس ضمناً إلى كيفيَّة بناء الشخصيَّة عند الطفل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٣

تكريم الطفل

عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنَّه قال: (صلَّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس الظهر، فخفَّف في الرَّكعتين الأخيرتين.

فلمَّا انصرف قال له الناس: هل حدث في الصلاة شيء؟!

قال: وما ذاك؟

قالوا: خفَّفت في الرَّكعتين الأخيرتين.

فقال لهم: أما سمعتم صُراخ الصبي؟!).

هكذا نجد النبي العظيم، يُطيل في سجدته تكريماً للطفل تارة، ويُخفِّف في صلاته تكريماً للطفل أيضاً تارة أُخرى، وهو في كلتا الحالتين، يُريد التأكيد في احترام شخصيَّة الصبي، وتعليم المسلمين طريق ذلك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٤

هلاَّ ساويتَ بينهما؟!

نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان، فقبَّل أحدهما وترك الآخر.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (فهلاَّ ساويت بينهما!).

وفي حديث آخر: (اعدلوا بين أولادكم، كما تُحبُّون أنْ يعدلوا بينكم).

إنَّ الأمل الوحيد للطفل، ومبعث فرحه ونشاطه، هو عطف الوالدين وحنانهما، ولا يوجد عامل يُهدِّئ خاطر الطفل، ويبعث فيه الاطمئنان والسكينة، مِثل عَطف الوالدين، كما لا يوجد عامل يبعث فيه القَلق والاضطراب، مِثل فُقدان جزء مِن حَنان الوالدين أو جميعه.

إنَّ حسد الولد تِجاه أخيه الصغير، الذي وِلد حديثاً لا غرابة فيه؛ لأنَّه يشعر بأنَّ قِسماً مِن العناية، التي كانت مُخصَّصة له، قد سُلِبت منه، والآن لا يُستأثر باهتمام الوالدين. بلْ إنَّ الحُبَّ والحنان يجب أنْ يتوزَّع عليه وعلى أخيه الأصغر (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٥

التصابي مع الصبي

عن يعلى العامري: أنَّه خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعام دُعي إليه، فإذا هو بحسين (عليه السلام) يلعب مع الصبيان، فاستقبل النبي (صلى الله عليه وآله) أمام القوم، ثمَّ بسط يديه، فطفر الصبي ههنا مَرَّة وههنا مَرَّة أُخرى، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُضاحكه حتَّى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذِقنه، والأُخرى تحت قَفاه، ووضع فاه على فيه وقبَّله.

إنَّ نبيَّ الإسلام العظيم، يُعامل سِبطه بهذه المُعاملة أمام الناس؛ لكي يُرشد الناس إلى ضرورة إدخال السرور على قلوب الأطفال، وأهميَّة اللعب معهم، فضلاً عن قيامه بواجب تربوي عظيم (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٦

أو ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله الرسول؟!

عن أبي رافع، قال: كنت أُلاعب الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وهو صبيٌّ بالمَداحي، فإذا أصابت مِدحاتي مِدحاته؛ قلت احملني فيقول: (ويحَك! أتركب ظهراً حمله رسول الله؟!)، فأتركه.

فإذا أصابت مُدحاته مُدحاتي قلت: لا أحملك كما لا تحملني!

فيقول: (أوَ ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!)، فأحمله.

مِن هذا الحديث يظهر جليَّاً إباء الحسن (عليه السلام)، وعِزَّة نفسه، وعُظم شخصيَّته.

إنَّ الطفل الذي يُربيه الإسلام في حِجره، ويُحيي شخصيَّته النفسيَّة، يعتقد بسموِّ مقامه، ولا يرضى التكلُّم بذلَّة وحقارة (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٧

وا حيائي مِنك يا أمير المؤمنين!

رأى الإمام علي (عليه السلام) امرأة في بعض الطُّرقات، تحمل قِربة مِن الماء، فتقدَّم لمُساعدتها، وأخذ القِربة وأوصلها إلى حيث تُريد، وفي الطريق سألها عن حالها، فقالت: إنَّ عليَّاً أرسل زوجي إلى إحدى النواحي فقُتِل، وقد خلَّف لي عِدَّة أطفال، لا أقدر على إعالتهم؛ فاضطررت للخدمة في بعض البيوت. فرجع عليٌّ (عليه السلام) وأمضى تلك الليلة في مُنتهى الانكسار والاضطراب، وعند الصباح حمل جِراباً مَملوءاً بالطعام، واتَّجه إلى دار تلك المرأة. وفي الطريق كان بعض الأشخاص يطلبون منه أنْ يَحمل عنه الجراب فيقول لهم: (مَن يحمل عني أوزاري يوم القيامة؟).

وصل إلى الدار، وطرق الباب، فقالت المرأة: مَن الطارق؟

قال: (الرجل الذي أعانك في الأمس على حمل القِربة. لقد جئتك ببعض الطعام لأطفالك).

فتحت الباب وقالت: رضي الله عنك، وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب!

فقال لها: (أتخبزين أم تُسكِّتين الأطفال فأخبز؟).

قالت: أنا أقدر على الخبز، فقُم أنت بتسكيت الأطفال.

أخذتْ المرأة تعجن الدقيق، وأخذ عليٌّ (عليه السلام) يخلط اللَّحم بالتمر، ويُطعم الأطفال منه، وكلَّما ألقم طفلاً لقمة قال له برفق ولين: (يا بُني، اجعل علي بن أبي طالب في حِلٍّ).

ولمَّا اختمر العجين، أوقد عليٌّ (عليه السلام) التنور، وفي الأثناء دخلت امرأة تعرفه، وما أنْ رأته حتَّى صاحت بصاحبة الدار ويحَك! هذا أمير المؤمنين!

فبادرته المرأة، وهي تقول: وا حيائي منك يا أمير المؤمنين!

فقال: بلْ وا حيائي منكِ - يا أمة الله - فيما قصَّرت مِن أمرك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٨

لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصِّبيان

ورد في الحديث: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يُصلِّي يوماً في فِئة، والحسين صغير بالقُرب منه، فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (عليه السلام) فركب ظهره، ثمَّ حرَّك رجليه فقال: (حَلٍ، حَلٍ!).

فإذا أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنْ يرفع رأسه، أخذه فوضعه إلى جانبه، فإذا سجد عاد إلى ظهره، وقال: (حَلٍ، حَلٍ!)، فلم يزل يفعل ذلك حتَّى فرغ النبي مِن صلاته.

فقال يهودي: يا محمد، إنَّكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان).

قال: فإنِّي أؤمن بالله وبرسوله؛ فأسلم لمَّا رأى كرمه مع عظيم قدره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٩

أين الدُّرُّ والذهب مِن سورة الفاتحة؟

كان عبد الرحمان السلمي، يُعلِّم وَلداً للإمام الحسين (عليه السلام) سورة الحمد، فعندما قرأ الطفل السورة كاملة أمام والده مَلأ الإمام فمَ مُعلِّمه دُّرَّاً، بعد أنْ أعطاه نقوداً وهدايا أُخَر. فقيل له في ذلك!

فقال (عليه السلام): (وأين يقع هذا مِن عطائه)، يعني: تعليمه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٢ - فدك عبر العصور

كيف عادت فدك لأهل البيت ( عليهم السلام )؟

يُعد مسير فدك التاريخي من عجائب التاريخ الإسلامي، فقد كان لكل من الخلفاء عبر العصور موقفاً خاصاً منها، فمنهم مَن قبضها، ومنهم مَن ردّها إلى أصحابها، وطال الأمد بها على هذا الحال إلى أن سبخت الأرض وضاع منها نعيمها، وللتعرّف على فصول النزاع الذي مرت به هذه القرية العامرة، يكفينا الوقوف على النقاط التالية:

١- انتقلت ( فدك ) كما نعلم إلى الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) بعد سقوط خيبر؛ لأنّه قبل الصلح مع اليهود وطبقاً للآية الشريفة ( وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِه... ) ، فقد صارت كلها ملكاً شخصياً مختصاً برسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

٢- طبقاً للوثائق التاريخية المعتبرة فإنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) منح وبأمر إلهي فدكاً إلى فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في حياته، وذلك عند ما نزلت الآية الشريفة ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، بهذه الصورة أصبحت في حيازة ابنة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ).

٣- اغتُصبت هذه المعمورة في زمن الخليفة الأَوّل، وضُمَّت إلى أموال الدولة، وقد سعى هؤلاء إلى الحفاظ على هذا الوضع.

٤- ظل الوضع على هذا الحال إلى أن آلت الخلافة إلى الخليفة

٨١

الأموي ( عمر بن عبد العزيز )، الذي كان أقرب لأهل البيت ( عليه السلام ) من غيره، حيث نقرأ في شرح نهج البلاغة: لمّا وُلّي عمر بن عبد العزيز ردَّ فدك على وُلد فاطمة، وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: إنّ فاطمة قد وُلدت في آل عثمان، وآل فلان، وآل فلان، فعلى مَن أردُّ منهم؟ فكتب إليه:

( أمّا بعد: فإنّي لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاةً لكتبت إلي: أَجماء أَم قرناء؟ أو كتبت إليك أن تذبح بقرةً لسألتني: ما لونها؟ فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في وُلد فاطمة من عليٍّ ( عليه السلام ) والسلام )(١) .

بهذا الشكل صارت ( فدك ) بيد أبناء فاطمة ( عليها السلام )، بعد أن دارت دورةً كبيرة تنقّلت فيها بين هذا وذاك.

٥- لم يمضِ وقت طويل حتى غصبها الخليفة الأموي ( يزيد بن عبد الملك ) ثانيةً.

٦- بعد أن ولّى الأمويون واستخلفهم العباسيون، أعاد الخليفة العباسي المعروف ( أبو العباس السفاح ) فدكاً إلى ( عبد الله بن الحسن بن علي ) ( عليه السلام )، باعتباره ممثّل بني فاطمة ( عليها السلام ).

٧- بعدها مباشرةً قام ( أبو جعفر العباسي ) بانتزاعها من ( بني الحسن )؛ ( لأنّهم ثاروا على بني العباس )

٨- أعاد الخليفة ( المهدي العباسي ) ابن ( أبو جعفر ) فدكاً إلى أبناء فاطمة ( عليها السلام ).

٩- قام الخليفة العباسي ( موسى الهادي ) بغصبها ثانيةً، وظل الوضع على هذا الحال في زمن هارون الرشيد.

____________________

١. البلاذري، فتوح البلدان ص٣٨.

٨٢

١٠- ولكي يُظهر علاقته الشديدة بأهل بيت الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وأبناء عليٍّ وفاطمة ( عليها السلام )، قام المأمون برد فدك إلى وُلد فاطمة ( عليها السلام ).

لقد ورد في التاريخ أنّ المأمون كتب إلى واليه على المدينة ( قثم بن جعفر ) قائلاً:

( إنّه كان رسول الله أعطى ابنته فاطمة فدكاً، وتصدّق عليها بها، وإنَّ ذلك كان أمراً ظاهراً معروفاً عند آله ( عليهم السلام )، ثمّ لم تزل فاطمة تدّعي منه بما هي أَولى مَن صدق عليه، وإنّه قد رأى ردها إلى ورثتها وتسليمها إلى ( محمّد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي )... و ( محمّد بن عبد الله بن الحسين )... ليقوما بها لأهلهما ).

يقول ابن أبى الحديد:

( جلس المأمون للمظالم، فأَوّل رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى، وقال للذي على رأسه: نادِ أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخُفّ تعزي، فتقدم فجعل يناظره في فدك، والمأمون يحتجُّ عليه، والمأمور يحتج على المأمون، ثمَّ أمر أن يسجّل لهم بها، فكتب السجل وقرئ عليه، فأنفذه، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أوّلها:

أصْبَحَ وَجْهُ الزّمانِ قدْ ضَحِكَا

بِرَدِّ مَأمُونَ هاشِماً فَدَكاً (١)

وقد ذكر مؤلّف كتاب ( فدك )، أنّ المأمون اعتمد على رواية أبي سعيد الخدري بإعطاء النبي ( صلّى الله عليه وآله ) فدكاً لفاطمة، فقام برد فدك على أبنائها(٢) .

١١- أمّا ( المتوكل العباسي )؛ وبسبب الحقد الذي كان يضمره لأهل بيت النبوة ( عليه السلام )، قام بغصب فدك من أبناء فاطمة ( عليها السلام ) مجدّداً.

____________________

١. شرح نهج البلاغة، ابن أبى الحديد، ج١٦، ص٢١٧.

٢. فدك، السيد محمّد حسن القزويني الحائري، ص٦٠.

٨٣

١٢- أصدر ابن المتوكل وهو ( المنتصر ) أمراً برد فدك إلى الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ثانيةً.

ممّا لا شك فيه أنّ تنقّل الأرض من يد لأخرى، والتلاعب بأمرها في كل يوم من قِبل السياسيين الحاقدين، سيسبّب هلاكها وخرابها بسرعة، وهو عين ما حدث لفدك، فسرعان ما خربت عمارتها، وتيبّست أشجارها، وجفت ثمارها!

على كل حال؛ فإنّ هذه الانتقالات التي حصلت إنّما تدل على حقيقة محسوسة ملموسة، أَلا وهي أنَّ الخلفاء كانوا شديدي الحساسية تجاه فدك، فتصرّف وموقف كلّ منهم إنّما هو نابع ممّا تقتضيه مصلحته السياسية.

وكل ذلك تأكيد على ما ذكرناه من أنّ لغصب فدك بعداً سياسياً أهم من بعده الاقتصادي، فمصلحتهم كانت تقتضي منهم، أن يعملوا على إبعاد أهل بيت الرسالة ( عليه السلام ) عن المجتمع الإسلامي، والتقليل من شأنهم ومكانتهم، وإظهار العداء لهم تارةً، والتقرّب والتودّد إليهم تارةً أخرى عن طريق ردِّ فدك إليهم، والذي تكرر لعدة مرات عبر التاريخ.

إنّ أهمية فدك في أذهان عامة المسلمين محدودة، فما يذكره التاريخ هو أنّها لم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، وكان فيها إحدى عشرة نخلةً غرسها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بيده، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحجّاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل(١) .

____________________

١. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج١٦، ص٢١٧.

٨٤

٣ - فدك وأئمة الهدى ( عليهم السلام )

من المسائل المُلفتة للنظر هي عدم تدخل أي من الأئمة ( بعد الغصب الأَوّل ) في أمر فدك، ابتداءً من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومروراً بالأئمة من وُلده، بل إنّ بعض الخلفاء من أمثال ( عمر بن عبد العزيز ) و ( المأمون ) اقترحوا ردّها على واحد من أئمة أهل البيت ( عليه السلام )، وكان ذلك مدعاةً للحيرة والتساؤل عن سبب موقفهم هذا من فدك.

لِمَ لم يُرجع علي الحق إلى أهله عندما كانت الدولة الإسلامية تحت سيطرته؟ أو لماذا ( على سبيل المثال ) لم يعطِ المأمون فدكاً إلى عليِّ بن موسى الرضا ( عليه السلام )، خصوصاً وأنّه كان يظهر للإمام حبه العميق؟ ولماذا أعطاها لبعض من حَفَدة زيد بن علي بن الحسين ( عليه السلام ) باعتباره ممثلاً عن ( بني هاشم )؟.

ونقول في الإجابة على هذا السؤال التاريخي المهم:

أمّا بالنسبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام )، فإنّه أفصح عن رأيه في أمرها في قوله المختصر الغزير المعنى، والذي قال فيه:

( بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ

٨٥

وَغَيْرِ فَدَكٍ، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا... ) (١) .

بيّن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصورة عملية، أنّ مطالبته بفدك لم تكن لكونها منبعاً ومصدراً اقتصادياً يسترزق منه، وأنّ هو وزوجته طالبا بها يوماً؛ فلأنّها سبيل إلى تثبيت مسألة الولاية، ومنع خطوط الانحراف من السيطرة على منصب خلافة الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، الآن وبعد أن مضى ما مضى، وبعد أن بقى لفدك جانبها المادي فقط، فما فائدة استردادها؟

وللعالم والمحقّق الكبير السيد المرتضى كلام قيّم بهذا الشأن حيث يقول:

( لمّا آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب، كُلِّم في رد فدك فقال: إنّي لأستحي أن أرُدَّ شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر )(٢) .

إنّ هذا القول الحكيم يشير في الحقيقة إلى شهامة، وعدم اعتناء الأمير ( عليه السلام ) بفدك كونها ثروةً مادية، ومصدر رزق من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو يعرّف غاصبي الحق الأوائل.

أمّا لماذا لم يسلّم الخلفاء الذين أظهروا ودّهم لآل بيت النبوة ( صلّى الله عليه وآله ) فدك إلى الأئمة، ودفعوها إلى أحد أحفاد زيد بن علي مثلاً، أو أشخاصاً غير معروفين باعتبارهم ممثّلين لبني فاطمة ( عليها السلام )؟

فإنّه يمكن أن يكون لهذا الأمر سببان:

١- لم يكن أئمة الهدى (عليه السلام ) ليتقبّلوا فدكاً، فحينها كان لذلك العمل بعداً مادياً يطغى على بعده المعنوي، وربّما كان يُحمل على أنّه تعلق بثروة دنيوية لا معنوية.

____________________

١. نهج البلاغة، الرسالة ٤٥.

٢. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج١٦، ص ٢٥٢.

٨٦

بتعبير آخر فإنّ تسلّم الأئمة ( عليه السلام ) لها في تلك الظروف يقلّل من شأنهم، إضافةً إلى أنّ ذلك سيمنعهم من القيام على خلفاء الجور، فكلما أرادوا مجاهدة الحكام انتزعت منهم فدك، ( وهذا نفس ما رواه التاريخ، من أنّ الخليفة العباسي ( أبو جعفر ) انتزع فدك من ( بني الحسن )؛ عندما ثار بعضهم عليه ).

٢- من ناحية أخرى كان الخلفاء يفضّلون عدم تطور إمكانات الأئمة ( عليه السلام ) المادية، فكما هو معروف في قصة ( هارون الرشيد )، عند مجيئه للمدينة واحترامه الشديد للإمام ( موسى بن جعفر ) ( عليه السلام )، بشكل أذهل ذلك ابنه المأمون.

ولكن عندما حان وقت الهدايا، أرسل الرشيد هديةً متواضعةً للإمام ( عليه السلام )، فتعجب المأمون من ذلك، وعندما سأل أباه عن السبب، قال الرشيد:

( أسكت لا أمّ لك! فإنّي لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمِئة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم )(١) .

____________________

١. الاحتجاج الطبرسي، ص ١٦٧ ( وكان الرّشيد قد أعطى لغير الأمام خمسة آلاف دينار، وأعطى للإمام مِئتي دينار فقط ).

٨٧

٤ - محكمة تاريخية

كما مرّ ذكر - سابقاً - نقل الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ملكية فدك إلى فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، بعد أن نزلت الآية الشريفة( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، ولم ينفرد مفسرو الشيعة في نقل هذه الرواية عن الصحابي المعروف ( أبي سعيد الخدري )، بل واتفق معهم علماء الجمهور أيضاً، وقد أوردنا أسناد هذه الرواية آنفاً.

وضعت الحكومة التي استولت على الخلافة بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) يدها على فدك، وأخرجت أبناء فاطمة ( عليها السلام ) منها، نقل هذا الأمر كل من العالم السني المعروف ( ابن حجر ) في كتاب ( الصواعق المحرقة )، و ( السمهودي ) في ( وفاء الوفاء )، و ( ابن أبي الحديد ) في ( شرح نهج البلاغة ).

قامت سيدة الإسلام ( عليها السلام ) بالمطالبة بحقها عن طريقين:

الأَوّل: هو كون فدك هدية الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لها، والثاني: هو أنّها ميراثها من أبيها ( صلّى الله عليه وآله ) ( بعد أن رُدّت دعوى الهدية ).

استشهدت سيدة النساء في المرحلة الأُولى بأمير المؤمنين ( علي بن أبي طالب ) ( عليه السلام )، و ( أمّ أيمن ( رض ) ) عند الخليفة الأَوّل، لكن الخليفة لم يقبل شهادتهما، ولم يقر حقها؛ بحجّة أنّ الدعوى لا تثبت إلا بشهادة رجلين، أو رجلاً وامرأتين.

ثمّ رفض مسألة ( الإرث ) مدعياً أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قال:

٨٨

( إنّا معاشر الأنبياء لا نُورّث ما تركناه صدقةً ).

لكن ومن خلال تحقيق شامل، يتضح أنّ النظام الحاكم الغاصب قد ارتكب في عمله هذا عشرة أخطاء فاحشة، سنقوم بعرض مختصر لها، ونوكل الخوض في التفاصيل إلى محل آخر:

١- كانت فاطمة ( عليها السلام ) تملك فدك، أي أنّها كانت ( ذا اليد )، وفي رأي القوانين الإسلامية وجميع القوانين المعروفة في الوسط العقلائي العالمي، فإنّ ( ذا اليد ) لا يحتاج إلى استشهاد أو تصديق على ما يملكه، إلاّ إذا أُظهرت شواهد على بطلان ملكيته.

فمثلاً إذا ادّعى شخص ملكية دار يسكن فيها، فلا يمكن إخراجها من يده ما لم يظهر دليل يُنافي ادّعائه، كما لا حاجة في أن يشهد أحداً على ديمومة ملكيته، بل إنّ هذا التصرّف ( إن أراد إنجازه بنفسه أو يوكله لممثليه )، لأَفضل دليل على صحة مالكيته.

٢- إنّ شهادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) لوحدها كانت كافيةً في هذه المسألة؛ لأنّها معصومة بحكم الآية الشريفة:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) ، وحديث الكساء المشهور الذي نقلته كتب العامة المعتبرة وكتب الصحاح، فأَبعد الله عزّ وجل القبح والذنب عن، النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وعليّ وفاطمة، والحسن والحسين ( عليهم السلام )، وطهّرهم من كلِّ معصية، فكيف يمكن أن يشكَّ أو يرتاب الآخرون بادّعاء مثل هذا الشخص؟

٣- إنّ شهادة الإمام علي ( عليه السلام ) لوحدها كانت كافيةً أيضاً، فهو يتحلّى بمنزلة العصمة أيضاً، وآية التطهير والروايات التي دلّت على هذا المعنى وفيرة.

____________________

١. سورة الأحزاب، آية ٣٢.

٨٩

منها الحديث المشهور( الحق مع علي، وعلي مع الحق، يدور معه حيثما دار ) (١)، الذي يكفينا دليلاً على عصمته ( عليه السلام ).

إذن، كيف يدور الحق حول محور وجود علي ( عليه السلام )، لكن شهادته غير مقبولة؟!

٤- تُعد شهادة ( أمّ أيمن ) هي الأخرى كافيةً في إثبات الحق، فكما ينقله ابن أبي الحديد:

عندما جاءت فاطمة ( عليها السلام ) بأمّ أيمن للشهادة، قالت ( أمّ أيمن ) لأبي بكر: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجّ عليك بما قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، أنشدك بالله، ألست تعلم أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال:( أمّ أيمن امرأة من أهل الجنة ) ، فقال أبو بكر: بلى.

إذن، فكيف تُردُّ شهادتها بعد أن علموا مقامها، وهي من أهل الجنة؟(٢) .

٥- إضافةً إلى كلِّ ما سبق، يكتفي الحاكم بتوفّر القرائن المختلفة ( أَحسيةً كانت أم الشبيه بها )؛ ليقوم بالفصل في الدعوى، فهل يا ترى أنّ مسألة ( ذي اليد ) من ناحية، وشهادة الشهود - الذين تكفي شهادة كلٍّ منهما في إثبات وإحقاق الحق - من ناحية أخرى، لا يوفّران العلم واليقين لدى الحاكم؟

٦- لم يكن حديث ميراث الأنبياء في الواقع كما صاغه وفسّره الغاصبون، وإنّما كان بشكل ومعنى آخرَينِ، فمصادر الحديث تنقل الحديث بالشكل الآتي،( إنّ الأنبياء لم يُورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر ) (٣) .

____________________

١. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج ١٦، ص٢١٩.

٢. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد.

٣. الكافي، ج١، ص٣٤.

٩٠

وهنا نستدل أنّ الحديث يقصد الإرث المعنوي الذي يورّثه الأنبياء، ولا علاقة له بالإرث المادي، وهذا هو مصداق الحديث المروي عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في أنّ:( العلماء وَرَثة الأنبياء ) .

خاصةً عبارة ( ما تركناه صدقة ) فهي حتماً لم تكن موجودةً في الحديث مطلقاً، فهل يمكن أن يتحدث الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) بما يخالف صريح القرآن؟ إنّ القرآن الكريم يشهد في مواضع متعددة على توريث الأنبياء أبناءهم، وتشير آياته الشريفة بوضوح، إلى أنّ ميراثهم لم يقتصر على الميراث المعنوي فحسب، بل وشمل الجانب المادي أيضاً.

وقد استدلت سيدتنا فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بهذه الآيات المباركة في خطبتها المعروفة، التي أَلقتها في المسجد النبوي الشريف بين جمع من المهاجرين والأنصار، فلم ينكر عليها أحد منهم ما تقول، كل ذلك كان دليلاً على زيف الحديث الذي ادّعاه الخليفة.

٧- إن صحَّ هذا الحديث، فكيف لم تعرف ولم تسمع به أي من نساء النبي ( صلّى الله عليه وآله )، حيث أرسلن إلى الخليفة مَن يطالب بسهمهنَّ من ميراث الرسول ( صلّى الله عليه وآله )(١).

٨- إن صح هذا الحديث، فلماذا أصدر الخليفة مباشرةً حكماً أمر فيه برد فدك إلى فاطمة الزهراء ( عليها السلام )؟ ذلك الحكم الذي سلبه الخليفة الثاني منها ومزّقه(٢) .

٩- إذا كان لهذا الحديث واقعية، وكان لازماً تقسيم فدك على

____________________

١. معجم البلدان الحموي، ج٤، مادة فدك، ص٢٣٩، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج٦، ص٢٢٣.

٢. السيرة الحلبية في سيرة الأمين والمأمون، ج٣، ص٣٩١.

٩١

المستحقين باعتبارها صدقةً، فلِمَ استدعى الخليفة الثاني في زمان خلافته عليّاً ( عليه السلام ) والعباس - بعد فوات الأوان - وأبدى استعداده في تسليمهما فدك؟ كما جاء في كتب تاريخ الإسلام المشهورة(١) .

١٠- ورد في كتب ( الشيعة ) و ( السنة ) المعتبرة، أنّ سيدة الإسلام فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) غضبت على الخليفتين الأَوّل والثاني، بعد أن منعاها حقها - فدك -، وقالت لهما:( لن أكلّمكما بعد اليوم ) (٢)، وكان الأمر كما قالت إلى أن وافاها الأجل.

في حين تنقل المصادر الإسلامية المشهورة عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) حديثه المشهور، الذي قال فيه:( مَن أحب ابتني فاطمة فقد أحبني، ومَن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومَن أسخط فاطمة فقد أسخطني ) (٣) .

فهل من الممكن بعدها أن تُمنع فاطمة ( عليها السلام ) حقاً تطالب به، ويُتمسك بحديث يفتقد إلى الصحة والصدق، والرجوع إليه في مقابل نص كتاب الله، الذي ينصُّ على توريث الأنبياء أبناءهم.

على كلِّ حال، لا يوجد أي مسوّغ في مسألة غصب فدك، وليس لذلك الفعل دليل معقول.

مالكية الزهراء ( عليها السلام ) من ناحية.

الشهود العدول المعتبرون من ناحية أخرى.

شهادة القرآن المجيد من ناحية ثالثة.

ومن ناحية رابعة نرى الروايات الإسلامية المختلفة كلها أدلة، تصدّق وتشهد بأحقية سيدة الإسلام في فدك.

____________________

١. صحيح البخاري باب فضل الخمس، وكتاب ( الصواعق المحرقة ) لابن حجر، ص٩.

٢. الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ص١٤.

٣. صحيح البخاري، باب فضل الخمس، وكتاب ( الصواعق المحرقة ) لابن حجر، ص٩.

٩٢

إضافةً إلى كلِّ ذلك، فإنَّ آيات المواريث عموماً تنصّ على أنّ لجميع الناس الحق في تركة آباءهم وأمهاتهم والأقربين؛ لذا لا يمكن التغاضي عن هذا الحكم الإسلامي، مادام الدليل لم يقم على نفي تلك العمومات، وهذا شاهد آخر.

٩٣

٥ - حدود فدك!

إنّ فدك - كما ذكرنا آنفاً - هي في الظاهر قرية مخضرّة مثمرة قريبة من خيبر، لم تخفَ حدودها على أحد، لكن الغريب ما ورد في جواب الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) لهارون الرشيد عندما سأله الأخير قائلاً:

( حُدَّ فدكاً حتى أَردّها إليك )

حيث أبى الإمام ( عليه السلام ) لكن الرشيد ألحَّ عليه.

فقال ( عليه السلام ):لا آخذها إلاّ بحدودها.

قال هارون: وما حدودها؟

قال ( عليه السلام ):إنْ حدّدتها لم تردّها.

قال هارون: بحق جدك إلاّ فعلت؟

قال ( عليه السلام ):أمّا الحد الأَوّل فعدَن، فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً، قال:والحدّ الثاني سمرقند، فأربد وجهه، قال:والحدّ الثالث أفريقية، فاسودَّ وجهه، وقال: هيه، قال:والرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية.

قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شيء، فتحول إلى مجلسي.

قال الإمام ( عليه السلام ):قد أعلمتك أنّني إن حدّدتها لم تردّها، فعند ذلك عزم على قتله(١) .

____________________

١. بحار الأنوار، ج٨ ص١٠٦.

٩٤

فهذا الحديث دلالة واضحة على ارتباط قضية ( فدك ) ( بالخلافة )، ويبيّن أنّ المهم في الأمر كان غصب خلافة رسول الله( صلّى الله عليه وآله )، وإذا أراد هارون أن يعيد فدك فإنّ عليه أن يتخلّى عن الخلافة، وهذا ما جعله يلتفت إلى أنّ الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) إذا شعر بالقوة سيزيله عن الخلافة؛ ولذلك عزم الرشيد على قتل الإمام ( عليه السلام ).

٩٥

استنتاج

إنّ قصة ( فدك ) المؤلمة، التي تحكي أحداث قرية صغيرة عانت الكثير عبر تاريخ الإسلام، تشير بوضوح إلى المؤامرة الكبيرة، التي هدفت إلى إبعاد أهل بيت النبوّة ( عليهم السلام ) عن منصب الخلافة الإسلامية، وتجاهل مقام إمامتهم وولايتهم، مؤامرة شملت مختلف الأبعاد.

لقد سعى السياسيون منذ البدء خصوصاً في عصر ( بني أميّة ) و ( بني العباس )، أن يسدلوا الستار على أهل بيت النبوة ( عليهم السلام )، ويسلبوهم كل ميزة تؤدي إلى تفوّقهم وانتصارهم، بل لم يتوانوا ( عند لزوم الأمر ) في الاستفادة من عنوان واسم أهل البيت ( عليهم السلام ) في تحقيق مآربهم، في حين رفضوا ردَّ الحق إلى أصحابه!

نعلم جيداً أنّ حجم الدولة الإسلامية قد اتسع في عصر ( بني أميّة ) و ( بني العباس )، كما زادت ثرواتها، وكثرت ذخائر بيت المال، بشكل قلَّ مثيله في تاريخ العالم إن لم ينعدم، ورغم أنّ فدك لم تكن لتشكّل رقماً في مقابل كلّ ذلك، إلاّ أنّ الدوافع الشيطانية لم تسمح لهم برد الحق إلى أصحابه، بل والكف عن مواصلة التلاعب بهذه القضية.

وفي الحقيقة، تُعتبر قصة فدك وثيقة تاريخية إسلامية، تثبت مقام آل بيت النبّي ( صلّى الله عليه وآله ) الرفيع من ناحية، وتشير إلى ظلامتهم من ناحية أخرى،

٩٦

وتكشف الغطاء عن المؤامرات التي حاكها الأعداء لهم من ناحية ثالثة.

اللهمَّ اجعل محيانا محيا محمدٍ وآل محمد، ومماتنا ممات محمد وآل محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلم )، واحشرنا في زمرتهم، والعن أعدائهم أجمعين.

٩٧

٩٨

الملحمة الكبيرة

٩٩

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173