مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 208879
تحميل: 8617

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208879 / تحميل: 8617
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

وفي رواية الدينوري، أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام لما وافى الكوفة، نزل في دار المختار، فكانت الشيعة تختلف إليه، وهو يقرأ عليهم كتاب الإمام الحسينعليه‌السلام ، « ففشا أمره بالكوفة حتى بلغ ذلك النعمان بن بشير أميرها، فقال: « لا أُقاتل إلاَّ مَن

____________________

=إلاّ وفي أصلها شيطان جالس، وإنّ في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني... ) . (البحار، ٤٤: ٢٥٦ رقم ٥ عن أمالي الصدوق: ١١٥ المجلس ٢٨، حديث رقم ١).

و( روي عن محمد بن سيرين، عن بعض أصحابه قال: قال عليّ لعمر بن سعد:( كيف أنت إذا قُمت مقاماً تُخيَّر فيه بين الجنّة والنار فتختار النار ) . (تهذيب الكمال، ١٤: ٧٤).

وكان عمر بن سعد قد تعوّد من قبْل على الظلم والقسوة والغشم، و( عن أبي المنذر الكوفي: كان عمر بن سعد بن أبي وقّاص قد اتّخذ جعبة، وجعل فيها سياطاً نحواً من خمسين سوطاً، فكتب على السوط عشرة، وعشرين، وثلاثين، إلى خمسمئة على هذا العمل، وكان لسعد بن أبي وقّاص غلام ربيب مثل ولده، فأمره عمر بشيء فعصاه، فضرب بيده إلى الجعبة، فوقع بيده سوط مئة فجلَده مئة جلدة، فأقبل الغلام إلى سعد دمه يسيل على عقبيه، فقال: مالك؟! فأخبره، فقال: اللّهم اقتل عمر، وارسل دمه على عقبيه. قال فمات الغلام وقتل المختار عمر بن سعد ). (تهذيب الكمال ١٤: ٧٤).

و( عن الفلاس قال: سمعت يحيى بن سعيد القطّان، وحدّثنا عن شعبة وسفيان، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حُريث، عن عمر بن سعد. فقام إليه رجل (أي إلى القطّان) فقال: أما تخاف الله؟! تروي عن عمر بن سعد!! فبكى وقال: لا أعود أُحدّث عنه أبداً! (تهذيب الكمال، ١٤: ٧٤).

وممَّا يؤسَف له، أنّ بعض الرجاليين السنيّين من أهل التعصُّب الأعمى، يترجم لعمر بن سعد قاتل الحسين عليه‌السلام كما يُترجم لمؤمن تقيّ من أهل الجنّة!! هذا الذهبي يقول: ( ابن سعد أمير السريّة الذين قاتلوا الحسين، ثمّ قتله المختار، وكان ذا شجاعة وإقدام، روى له النسائي، قُتل هو وولداه صبراً! ) (سير أعلام النبلاء، ٤: ٣٥٠)، ويقول ابن عبدون العجلي: ( كان عمر بن سعد يروي عن أبيه أحاديث، وروى عنه الناس، قَتَل الحسين، وهو تابعي ثقة!! ). (تهذيب الكمال، ١٤: ٧٣ رقم ٤٨٢٨)، انظر إلى هذا الأحمق الأعمى قلبه، كيف يوثّق قاتل سيّد شباب أهل الجنّة؟!!

( قال أحمد بن زهير: سألت ابن معين: أعمَرُ بن سعد ثقة؟ فقال: كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟! ) (ميزان الاعتدال، ٣: ١٩٨)، و(القاموس، ٨: ٢٠٠).

١٢١

قاتلني، ولا أثِب إلاّ على مَن وثب عليَّ، ولا آخذ بالقرفة والظنّة، فمَن أبدى صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم أكن إلاّ وحدي ». وكان يُحبّ العافية ويغتنم السلامة.

فكتب مسلم بن سعيد الحضرمي وعُمارة بن عقبة - وكانا عيني يزيد بن معاوية - إلى يزيد يُعلمانه قدوم مسلم بن عقيل الكوفة داعياً للحسين بن عليّ، وأنّه قد أفسد قلوب أهلها عليه، فإنْ يكن لك في سلطانك حاجة فبادر إليه مَن يقوم بأمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان رجل ضعيف أو مُتضاعف، والسلام »(١) .

أمّا البلاذري، فقد قال في روايته: « فكتب وجوه أهل الكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري، ومحمّد بن الأشعث الكندي(٢) ، وغيرهما إلى يزيد بخبر مسلم

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٣ ١.

(٢) محمّد بن الأشعث الكندي: وهو ابن الأشعث بن قيس، الذي أُسِرَ في الكفر مرّة وفي الإسلام ( مُنافقاً) مرّة أُخرى، وقد اعترض الأشعث على بعض كلام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فخفض عليه‌السلام إليه بصره ثمّ قال:( ما يُدريك ما عليَّ ممّا لي؟! عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين، حائك ابن حائك! منافق ابن كافر! والله، لقد أسرك الكفر مرّة والإسلام مرّة أُخرى! فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك! وإنّ امرءاً دلَّ على قومه السيف، وساق إليهم الحتف، لحريٌّ أن يمقته الأقرب، ولا يأمنه الأبعد! ) (نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح: ٦١ - ٦٢ رقم ١٩)، وقد اشترك هذا الأشعث اللعين في المؤامرة المتعدّدة الأطراف لقتل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام .

فمحمّد بن الأشعث هذا، أخو جَعدة بنت الأشعث، التي سمّت الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومحمد هذا وأخوه قيس ممّن ساهم مُساهمة قياديّة فعّالة في قتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، ولمحمّد هذا دور قيادي بارز في قتال مسلم بن عقيل عليه‌السلام في الكوفة.

وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أنه قال: ( إنّ الله لعن أقواماً، فسرت اللعنة في أعقابهم، منهم

١٢٢

____________________

=الأشعث... ) (تنقيح المقال، ٢: ٨٣).

وكان محمّد بن الأشعث ضعيف النفس، يتملّق للسلطان حتى مع مُخالفة الأدب، فيعرّض نفسه للإهانة ولا يُبالي، فقد ( وقف الأحنف بن قيس، ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأُذن للأحنف، ثمّ أُذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدّم الأحنف ودخل قبله، فلمّا رآه معاوية غمّه ذلك وأحنقه، فالتفت إليه فقال: والله، إنِّي ما أذنت له قبلك! وأنا أُريد أن تدخل قبله، وإنّا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم، ولا يزيد متزيّد في خطوِه إلاّ لنقص يجده من نفسه! ) (العقد الفريد، ١: ٦٨).

وقال عبيد الله بن زياد في مدحه محمّد بن الأشعث: ( مرحباً بمن لايُستَغشُّ ولا يُتَّهم! ). (البحار، ٤٤: ٣٥٢).

كيف لا؟! فقد كان ابن الأشعث من سواعد ابن زياد في جلّ جرائمه، في مواجهة مسلم عليه‌السلام ، وفي مواجهة الحسين عليه‌السلام ، وفي مواجهة عبد الله بن عفيفرضي‌الله‌عنه وجموع الأزد الذين دافعوا عنه، وفي المكر بهاني بن عروة واستقدامه إلى ابن زياد، وفي رفع راية أمان ابن زياد الكاذبة لمن جاءه من الناس في الكوفة بعد انتفاضة مسلم عليه‌السلام ، ومن قبلُ في البحث عن حجر بن عدي (أيّام معاوية) لإلقاء القبض عليه، وغير ذلك من مواطن ومواقف السوء والخزي!

وقيل في موت عدوّ الله هذا - وقد كان على رأس ألف فارس في جيش ابن سعد في كربلاء -: إنّه خاطب الإمام عليه‌السلام يوم عاشوراء قائلاً: ( يا حسين بن فاطمة، أيَّة حُرمة لك من رسول الله ليست لغيرك؟! فتلا الحسين هذه الآية:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الآية، ثمّ قال:( والله، إنّ محمداً لمن آل إبراهيم، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمد، مَن الرجل؟ ) . فقيل: محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه إلى السماء فقال:( اللّهم، أرِ محمّد بن الأشعث ذلاًّ في هذا اليوم لا تُعزَّه بعد هذا اليوم أبداً ) . فعرض له عارض، فخرج من العسكر يتبرّز، فسلّط الله عليه عقرباً فلدغته، فمات بادي العورة. (البحار، ٤٤: ٣١٧).

وقيل: إنّه جاء ( فقال: أين الحسين؟فقال: ( ها أنا ذا ) . قال: أبشِر بالنار ترِدها الساعة.قال: ( بل أُبشَّر بربٍّ رحيم وشفيع مُطاع، مَن أنت؟ ) . قال: أنا محمّد بن الأشعث.قال: ( اللّهمّ، إن كان عبدك كاذباً

١٢٣

وتقديم الحسين إيّاه إلى الكوفة أمامه، وبما ظهر من ضعف النعمان بن بشير وعجزه ووهْن أمره»(١) .

تأمُّلٌ ومُلاحظات:

١) - سكون ما قبل العاصفة في الكوفة:

أحدث دخول مسلم بن عقيلعليه‌السلام مدينة الكوفة داعياً للإمام الحسينعليه‌السلام

____________________

=فخُذه إلى النار، واجعله اليوم آية لأصحابه! ) . فما هو إلاّ أن ثنى عنان فرَسه فرمى به، وثبتت رجله في الركاب فضربه حتّى قطَّعه ووقعت مذاكيره في الأرض... ) (البحار، ٤٥: ٣١).

لكنّ جلّ المؤرّخين يذكرون أنّ محمّد بن الأشعث بقي إلى ما بعد ثورة المختار، فهرب منه وانضمّ إلى مصعب بن الزبير، وقُتل محمد بن الأشعث في المواجهة بين جيش مصعب وجيش المختار. (راجع: الكامل في التاريخ، ٣: ١٣، وتاريخ الطبري، ٣: ٤٩٦، والأخبار الطوال:٣٠٦، والمعارف: ٤٠١).

ويبدو أنّ صاحب قاموس الرجال (التُّستري) يميل إلى أنّ محمد بن الأشعث لم يشترك في معركة كربلاء في مواجهة الإمام الحسين عليه‌السلام ، حيث يقول: ( ورد في خبر أنّ محمّد بن الأشعث شرك في دم الحسين عليه‌السلام ، إلاّ أنّ الخبر أعمُّ من شهوده حربه! وذكر أهل السير أنّ أخاه قيس بن الأشعث شهد حربه، وأمّا محمد فإنّما أعطى مسلماً الأمان، ولم يُجِزْه ابن زياد فسلّم (أي رضي وقبل) وأنّ أخاه قيس بن الأشعث قال يوم الطفّ للحسين عليه‌السلام : أوَلا تنزل على حكم بني عمّك؟! فإنّهم لن يُروك إلاّ ما تُحبّ ولن يصل إليك منهم مكروه.

فقال له الحسين عليه‌السلام :( أنت أخو أخيك! أتُريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل... ) (قاموس الرجال، ٩: ١٢٣).

ومع أنّ استفادات صاحب القاموس (ره) في هذه المسألة لا تنهض إلى مستوى الدليل على ما يميل إليه؛ فإنّ ما يميل إليه خلاف ظاهر النصوص بل خلاف صريحها.

(١) أنساب الأشراف، ٢: ٨٣٦.

١٢٤

تحوّلاً كبيراً في ظاهر الحياة السياسية في تلك المدينة بعد أن « انثالت الشيعة على مسلم تُبايعه للإمام الحسين عليه‌السلام ، وكانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله وسنّة رسوله، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسويّة، وردّ المظالم إلى أهلها، ونُصرة أهل البيتعليهم‌السلام ، والمسالمة لمن سالموا، والمحاربة لمن حاربوا... »(١) ، حتى كان عدد مَن بايعه من أهلها على أقل التقادير ثمانية عشر ألفاً، وعلى أعلاها أربعين ألفاً.

وكأنّ الكوفة - على أساس هذا التحوّل الظاهري - كانت قد سقطت سياسياً وعسكرياً أو تكاد، في يد سفير الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولم يبقَ دون أن يتحقّق ذلك فعلاً إلاّ أن يأمر مسلم بن عقيلعليه‌السلام بهبوب عاصفة الثورة والتغيير، لكنّ التزام مسلمعليه‌السلام بحدود صلاحياته التي رسمها الإمامعليه‌السلام حال دون هبوب العاصفة التي تنتزع الكوفة فعلاً من يد الحُكم الأُموي، فظلّت الكوفة تعيش أيّامها تلك في سكون يُنذر باحتمال هبوب العاصفة في أيّة لحظة إذا ما أخلّ بذلك السكون سبب غير مُحتسب.

٢) - ( الغَشْم ) وسيلة خروج الأُمويين من مأزقهم الكبير!

فزع الأُمويّون - وعملاؤهم وجواسيسهم - من تجاوب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ورأوا أنّ زمام الأمور سيكون بيد الثوّار تماماً، إن لم تُبادر السلطة الأُموية المحلّية في الكوفة إلى اتّخاذ التدابير اللازمة، الكفيلة بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق عهده، أو منع تدهوره إلى حدّ سقوط الكوفة فعلاً بيد الثوّار.

ولعلم الأُمويين « بالحالة النفسية الكوفية » العامة آنذاك، ولخبرتهم الطويلة في التعامل معها، كان رأيهم أنَّه لا وسيلة لهم للخروج من هذا المأزق الكبير إلاّ

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٣٤٥ - ٣٤٦.

١٢٥

« الغشم » وهو الظلم والغصب، وأنّه لابدّ للكوفة من حاكم أُمويّ « غشوم » وهو الظالم المبادر بالظلم، الآخذ بالقهر كلَّ ما قدر عليه.

وقد أرادوا من النعمان بن بشير ذي التأريخ الأسود في مُعاداة أهل البيتعليهم‌السلام أن يكون هو هذا الحاكم الغشوم المنشود، وطلبوا إليه - بعد أن أنكروا عليه تراخيه في مواجهة مُستجدّات الأحداث(١) - أن يُبادر إلى تهديد الكوفيين وإرهابهم وقمعهم.

لكنّ الأُمويين وعملاءهم في الكوفة، أحسّوا بالخيبة حينما خطب النعمان بأهل الكوفة خطبته، التي كشف فيها عن ضعفه أو تضاعفه، وجرّأ الكوفيين على مواصلة التعبئة للثورة والتأهُّب لها، فبادروا - وهم على خوف من تسارع الأيّام والأحداث - إلى رفع تقاريرهم إلى السلطة المركزية في الشام، والتي طلبوا فيها من يزيد أن يُسارع إلى إقالة النعمان بن بشير، وتعيين حاكم آخر غشوم، يأخذ أهل الكوفة بالاحتيال والقوّة والقهر.

٣) - سرّ التراخي في موقف النعمان بن بشير:

للنعمان بن بشير بن سعد الخزرجي - ولأبيه بشير - تأريخ أسود طويل، في نصرة حركة النفاق بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ أباه بشير بن سعد الخزرجي؛ لحسده سعد بن عبادة على موقعه المرموق في الخزرج خاصة والأنصار عامة، ولبُغضه لأهل البيتعليهم‌السلام ، كان أوَّل مَن بادر إلى مُبايعة أبي بكر في السقيفة، وظلّ موالياً لحزب السلطة ومُعادياً لأهل بيت النبوّةعليهم‌السلام ، وابنه النعمان « كان قد ولاَّه معاوية الكوفة بعد عبد الرحمان بن الحَكم(٢) ، وكان عثمانيّ الهوى، يُجاهر ببُغض عليّعليه‌السلام

____________________

(١) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٣٥٠.

(٢) هرب هو وأخوه (يحيى) يوم الجمل، بعد أن شُجِّجوا بالجراحات، فأجارهم عصمة بن أبير

١٢٦

ويُسيء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصِفِّين، وسعى بإخلاص لتوطيد الحُكم لمعاوية، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابية على بعض المناطق العراقية، ويقول المحقّقون: إنّه كان ناقماً على يزيد، ويتمنّى زوال الملك عنه شريطة أن لا تعود الخلافة إلى آل عليّعليهم‌السلام ... »(١) .

ويُروى أنّ سبب نقمة النعمان على يزيد، هو أنّ يزيد كان يُبغض الأنصار بُغضاً شديداً، ويُغري الشعراء بهجائهم، الأمر الذي أثار حفيظة النعمان بن بشير، فطلب من معاوية قطع لسان الشاعر الأخطل النصراني الذي هجاهم، وأجابه معاوية إلى ذلك، لكنّ يزيد أجار الأخطل عند أبيه، فعفا معاوية عن الأخطل بدعوى أنّه « لا سبيل إلى ذمّة أبي خالد - يعني يزيد - »، وكُبت بذلك النعمان، فلم يزل ناقماً على يزيد(٢) .

ويروي التاريخ، أنّ عمرة بنت النعمان بن بشير كانت زوجة المختار بن أبي عبيدة الثقفي، الذي نزل عنده مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ويرى بعض المتتبِّعين أنّ هذه الصلة أيضاً كانت سبباً في تراخي موقف النعمان من الثوَّار، إضافة إلى السبب الأهمّ وهو نقمته على يزيد(٣) .

ولعلّ بإمكاننا هنا، أن نُضيف سبباً آخر إلى أسباب تراخي موقف النعمان من الثوّار، وهو أنّ النعمان وإن كان أنصارياً، إلاّ أنه كان أحد أفراد حركة النفاق، عُرف عنه أنّه عثمانيّ الهوى، مُتفانٍ في حُبّ بني أميّة، ومُتبَنٍّ لسياسة معاوية في قيادة

____________________

= حولاً. (راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٥٦).

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٣٤٩.

(٢) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ١٨٨ - ١٩٠.

(٣) راجع: نفس المصدر، ٢: ٣٤٩.

١٢٧

حركة النفاق تبنِّياً تاماً، وكان من معالم هذه السياسة أنّ معاوية كان يتحاشى المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأنّ معاوية لو اضطرّ إلى مواجهة علنيّة، أي إلى قتال ضدّ الإمام الحسين عليه‌السلام ، وظفر بالإمام عليه‌السلام لعفا عنه، وليس ذلك حبَّاً للإمام عليه‌السلام ؛ وإنّما لأنّ معاوية - وهو من دُهاة السياسة النكراء والشيطنة - يعلم أنّ إراقة دم الإمام عليه‌السلام علناً وهو بتلك القُدسية البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأُموي خاصة أدراج الرياح، خصوصاً الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأُموية بالإسلام في عقل الأمّة وعاطفتها، مزجاً لم يَعُدْ أكثر هذه الأمّة بعدها يعرف إلاّ (الإسلام الأُموي)، حتّى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأُموية إلاّ إذا أُريق ذلك الدم المقدّس - دم الإمام عليه‌السلام - على مذبح القيام ضدّ الحُكم الأموي(١) .

ولقد صرّح معاوية بذلك حتى للإمام الحسينعليه‌السلام نفسه قائلاً: «... ولكنَّني قد ظننتُ - يا بن أخي - أنّ في رأسك نزوة، وبودِّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنَّني - والله أتخوّف - أن تُبلى بمَن لا ينظرك فواق ناقة »(٢) .

وقال في وصيّته لابنه يزيد بصدد الإمام الحسينعليه‌السلام : «... ولن يتركه أهل العراق حتى يُخرجوه، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه؛ فإنّ له رحِماً ماسّة وحقّاً عظيماً وقرابة من محمّد »(٣) .

____________________

(١) وقد كشف النعمان عن معرفته بموقف معاوية من قتل الإمام الحسين عليه‌السلام في مُحاورته مع يزيد (كما في رواية الصفحة التالية).

(٢) شرح نهج البلاغة، ١٨: ٤٠٩.

(٣) الكامل في التأريخ، ٢: ٥٢٣.

١٢٨

وكان النعمان بن بشير مؤمناً بصحّة نظر معاوية في هذا الصدد، وقد أراد أن يُذكّر يزيد نفسه بذلك، حينما استدعاه يزيد إلى القصر بعد مقتل الإمامعليه‌السلام ، وبعد نصب الرأس المقدّس بدمشق، فلمّا جاءه سأله يزيد قائلاً: كيف رأيت ما فعل عبيد الله بن زياد؟

قال النعمان: الحرب دُوَل.

فقال يزيد: الحمد لله الذي قتله!

قال النعمان: قد كان أمير المؤمنين - يعني به معاوية - يكره قتله(١) .

ولا شكّ أنّ معاوية - كما قلنا من قبل - يكره قتل الإمامعليه‌السلام في مواجهة علنية، أمّا في مواجهة سرِّيّة فما أكثر مَن قتلهم معاوية بالسّم أو الاغتيال، ومنهم الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، فمعاوية لا يتورّع قيد أنمُلة في المبادرة إلى قتل الإمام الحسينعليه‌السلام في مواجهة سرّية، بسمّ أو اغتيالاً ما دعته الضرورة إلى ذلك.

من كلّ ما تقدّم؛ نُرجّح أنّ موقف النعمان بن بشير من الثوّار ومن بوادر الثورة، إنّما اتّسم ظاهراً باللين والتسامح؛ لأنّه كان يرى - إيماناً بنظرة معاوية - أنّ المواجهة العلنيّة مع الإمام الحسينعليه‌السلام ليست في صالح الحُكم الأُموي.

فلم يكن النعمان ضعيفاً، بل كان يتضعّف مكراً وحيلة، معوّلاً على الأُسلوب السرّي والخدعة الخفيّة للقضاء على الثورة، والتخلّص من مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، بل حتى من الإمام الحسينعليه‌السلام .

فالنعمان لم يكن « حليماً ناسكاً يُحبّ العافية! » كما صوّرته رواية الطبري، أو « يُحبّ العافية ويغتنم السلامة! » كما صوّرته رواية الدينوري، بل كان شيطاناً يحذو

____________________

(١) راجع: مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ٥٩ - ٦٠.

١٢٩

حذو معاوية، كبيرهم الذي علّمهم الشيطنة في رسم الخُطط الماكرة، لكنّه أخطأ هذه المرّة في حساباته، تماماً، كما صوّرت ذلك التقارير المرفوعة إلى يزيد من عُملاء وجواسيس الحُكم الأمويّ في الكوفة؛ لأنّ الزمن آنذاك كان يجري في صالح النهضة الحسينية، وكان لابدّ من المسارعة إلى عزل النعمان والإتيان بوالٍ غشوم كعبيد الله بن زياد، يُبادر إلى اتّخاذ الإجراءات اللازمة، التي تقلب مسار حركة الأحداث في العاجل لصالح الحُكم الأُموي، وهكذا كان.

ونحن - مع هذا - لا ننفي احتمال أن يكون لسخط النعمان على يزيد، ولوجود صلة المصاهرة بينه وبين المختار تأثير على موقفه من الثوار، لكنّنا نُرجّح أنّ السبب الذي بيّناه كان هو السبب الأهمَّ.

حركة السلطة الأُمويّة المركزية في الشام:

لنَعُدْ إلى متابعة حركة الأحداث حسب تسلسلها التاريخي، وننظر ماذا صنعت في دمشق التقارير التي رفعها إلى يزيد من الكوفة الأُمويون فيها، مثل عمارة بن عقبة، وعملاؤهم مثل عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وجواسيسهم مثل عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي!

يُتابع الطبريّ رواية القصّة قائلاً: « فلمّا اجتمعت الكتب عند يزيد، ليس بين كتبهم إلاّ يومان، دعا يزيد بن معاوية سرجون(١) مولى معاوية.

____________________

(١) هو سرجون بن منصور الرومي (النصراني): كان كاتب معاوية وصاحب سرّه، ثمّ صار كاتب يزيد وصاحب سرّه أيضاً بعد موت معاوية. (راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٥ و٢٨٠ و٥٢٤، والكامل في التاريخ، ٢: ٥٣٥، والعقد الفريد، ٤: ١٦٤)؛ ويقول ابن كثير: كان كاتب معاوية وصاحب أمره (البداية والنهاية، ٨: ٢٢ و ١٤٨)؛ وكان يزيد يُنادم على شرب الخمر سرجون =

١٣٠

فقال: ما رأيُك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يُبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقول سيِّئٌ - وأقرأه كتبهم - فما ترى؟ مَن أَستعمل على الكوفة؟

وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد.

فقال سرجون: أرأيت معاوية لو نُشر لك أكنت آخذاً برأيه؟

قال: نعم. فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة.. فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب.

فأخذ برأيه، وضمّ المصرين إلى عبيد الله، وبعث إليه بعهده على الكوفة »(١) .

ثمّ يُتابع الطبري رواية القصّة قائلاً:

____________________

= النصراني (الأغاني، ١٦: ٦٨). فهو - إذن - مُستشاره وصاحب سرّه وأمره ونديمه على الإثم، وهكذا كان المبرَّزون من رجال فصيل مُنافقي أهل الكتاب في خدمة أهداف حركة النفاق، يعملون تحت ظلّ فصائل حركة النفاق الأُخرى، مثل فصيل حزب السلطة، وفصيل الحزب الأُموي، مُقرّبين من الحُكّام ومُستشارين لهم وندماء!

يقول ابن عبد ربَّه: ( سرجون: كتب لمعاوية، ويزيد ابنه، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، إلى أن أمره عبد الملك بأمر فتَوانى فيه، ورأى منه عبد الملك بعض التفريط، فقال لسليمان بن سعد كاتبه على الرسائل: إنّ سرجون يُدّل علينا بضاعته، وأظنّ أنَّه رأى ضرورتنا إليه في حسابه، فما عندك فيه حيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحوّلت الحساب من الرومية إلى العربية. قال: افعل. قال: أنظرني أُعاني ذلك. قال: لك نظرةٌ ما شئت. فحوّل الديوان، فولاّه عبد الملك جميع ذلك. (العقد الفريد، ٤: ١٦٩، عنوان: من نبل بالكتابة وكان خاملاً).

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠، والإرشاد: ٢٠٦ بتفاوت يسير.

١٣١

« ثمّ دعا مسلم(١) بن عمرو الباهلي وكان عنده، فبعثه إلى عبيد الله بعهده إلى البصرة، وكتب إليه معه: أمّا بعدُ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي! من أهل الكوفة يُخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فَسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه. والسلام.

فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد الله بالبصرة. فأمر عبيد الله بالجهاز والتهيؤ والمسير إلى الكوفة من الغد »(٢) .

هذا، وقد نقل الموسوي الكركي في كتابه «تسلية المجالس» رسالة يزيد إلى ابن زياد بتفاوت مُهمّ، ونصّها: « سلام عليك.

أمّا بعد: فإنّ الممدوح مسبوب يوماً، والمسبوب ممدوح يوماً، ولك ما لك، وعليك ما عليك، وقد انتميت ونُميتَ إلى كلّ منصب كما قال الأوّل:

رُفِعتَ فجاوزتَ السحاب برفعة

فمالك إلاّ مقعدُ الشمسِ مقعَدُ

____________________

(١) مسلم بن عمرو الباهلي: كان مع زياد بن أبيه في البصرة، وجيهاً في قبيلة باهلة، عريفاً عليها في ولاية زياد بن أبيه سنة ٤٦هـ (راجع تاريخ الطبري، ٥: ٢٢٨)، ثمّ سكن الشام فكان بصرياً شامياً، ورجع من الشام إلى البصرة بكتاب يزيد إلى ابن زياد، ثمّ سافر معه إلى الكوفة، وتكلّم مع هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه حينما أُدخل على ابن زياد ليُقنعه بتسليم مسلم عليه‌السلام إلى ابن زياد، وهو الذي شتم مسلم بن عقيل عليه‌السلام حين انتهائه إلى باب القصر وطلبه الماء.

ثمّ ازدلف إلى مصعب بن الزبير، فكان كالوزير لمصعب، وكان يُحبّ المال حبّاً جمّاً، وبعثه مصعب إلى حرب ابن الحرّ فهُزم. (راجع وقعة الطف:١٠٣، الهامش).

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠.

١٣٢

وقد ابتُلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وابتُلي بلدك دون البلدان، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيل في الكوفة، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع إليه خلق كثير من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه حتى تَقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتها إليك، وجعلتها زيادة في عملك، فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز، فإذا ظفرت به فخُذْ بيعته أو اقتله إن لم يُبايع، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتك، فالعَجَل العَجَل، الوحا الوحا، والسلام »(١) .

وقد روى الوالد (قدس سره) في كتابه «مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام » - نقلاً عن كتاب ناسخ التواريخ - أنّ يزيد في رسالته لابن زياد قال: « بلغني أنّ أهل الكوفة قد اجتمعوا على البيعة للحسين، وقد كتبت إليك كتاباً، فاعمل عليه؛ فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأ منك، فإذا قرأت كتابي هذا فارتحل من وقتك وساعتك، وإيّاك والإبطاء والتواني، واجتهد ولا تُبقِ من نسل عليّ بن أبي طالب أحداً، واطلب مسلم بن عقيل، وابعث إليَّ برأسه »(٢) .

تأمّل وملاحظات:

١) - سرجون النصراني.. والاقتراح المتوقَّع!

في إطار حركة النفاق - بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - كان فصيل منافقي أهل الكتاب يرى أنّ غاية وجوده وعلّة تأسيسه هي دعم خطّ الانحراف عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وتكفي نظرة عابرة على سيرة أمثال: كعب الأحبار، وتميم الداري،

____________________

(١) تسلية المجالس، ٢: ١٨٠.

(٢) مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام للمرحوم آية الله الشيخ محمد رضا الطبسي (مخطوط): ١٣٧.

١٣٣

ووهب بن مُنبّه، ونافع بن سرجس مولى عبد الله بن عمر، وسرجون مُستشار معاوية ويزيد، وأبي زبيد مُستشار الوليد بن عقبة؛ دليلاً على منهج هذا الفصيل في نوع حركته على أساس العداء لأهل البيتعليهم‌السلام .

فكان من المتوقّع بما يُشبه اليقين - على ضوء التحليل التأريخي والنفسي - أن يُبادر سرجون نفسه فيقترح على يزيد تعيين عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة بدلاً من النعمان بن بشير، لمواجهة المستجدّات الصعبة هناك؛ لِما يعلمه سرجون من حقد عبيد الله على أهل البيتعليهم‌السلام وبُغضه الشديد لهم، وهذا أهمّ مزايا عبيد الله في نظر سرجون؛ ولما يعلمه فيه من عدم التورُّع عن الغشم والظلم والقتل، وقدرة إدارية عمادها المكر والحيلة، فهو الرجل المناسب لإدارة الأمور في الكوفة في ذلك الظرف الاستثنائي المعقّد.

لكنّ سرجون يعلم أيضاً، أنّ هذا الاقتراح قد لا يقبله يزيد؛ لأنّه كان يُبغض عبيد الله بُغضاً شديداً(١) أو كان عاتباً عليه(٢) ، فسعى سرجون إلى دعم هذا الاقتراح بكتاب معاوية - الذي أمر به قُبيل وفاته - بتولية عبيد الله بن زياد على الكوفة، مؤكّداً بذلك مطابقة رأي معاوية لرأيه في هذه المسألة أو العكس.

فسرجون - وهو ممثِّل فصيل منافقي أهل الكتاب في البلاط الأمويّ - لم يكن غير ذي رأي في المسألة، بل كان قد اقترح ما يراه هو - بطريقة غير مباشرة - في إطار رأي معاوية في نفس المسألة.

وما يُدرينا؟! فلعلّه كان قد أشار على معاوية أيضاً بنفس هذا الرأي فتبنّاه معاوية، ثمّ أظهره سرجون ليزيد في الوقت المناسب على أنّه رأي أبيه! والله العالم.

____________________

(١) راجع: تذكرة الخواص: ٢١٨.

(٢) راجع: تاريخ الطبري: ٢: ٢٨٠.

١٣٤

٢) - ماذا يعني عهد معاوية - أواخر أيّامه - لعبيد الله على الكوفة؟!

لقد أحسَّ معاوية بن أبي سفيان قُبيل وفاته بإرهاصات تمرّد الكوفيين على الحُكم الأُموي؛ ذلك لأنّ عامة أهل العراق بنوع خاص نتيجة ما لمسوه من فداحة الظلم الأُموي، صاروا يرون بُغض بني أميّة وحُبّ أهل البيتعليهم‌السلام ديناً لأنفسهم(١) ؛ فكان لابدَّ للكوفة خاصة من إدارة قويّة تُمسك بأزمّة الأمور فيها، الأمر الذي لم يوفّق فيه النعمان بن بشير واليها وقتذاك، فبادر معاوية إلى استباق الأحداث وعهد إلى عبيد الله بن زياد بالولاية على الكوفة؛ ليضبط الأمور فيها، لكن الموت أدرك معاوية قبل التنفيذ العملي لهذا العهد، وبقي كتاب هذا العهد محفوظاً عند مُستشاره سرجون النصراني، الذي ربّما كان هو الذي حرّك معاوية باتِّجاه اتِّخاذ مثل هذا القرار.

هذا، وهناك رأي آخر يقول: إنّ قرار معاوية - بمشورة سرجون - بتعيين عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة، يُعتبر الخطوة العملية الأُولى لقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ ذلك لأنّ معاوية يعلم أنّ الإمامعليه‌السلام - بعد موت معاوية - لن يُبايع ليزيد، ولابدّ له من القيام، ولابدّ لأهل الكوفة من تأييده ودعوته إليهم، فلابُدَّ - إذن - من المواجهة العلنية مع الإمامعليه‌السلام .

ومعاوية يعلم أنّ يزيد وعبيد الله بن زياد بما يحملانه من حقد شديد على أهل البيتعليهم‌السلام واعتساف في معالجة الأمور وقلّة في التدبّر والدهاء والصبر، سوف يُقدمان على قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، بل كان معاوية قد أخبر الإمامعليه‌السلام بذلك في إحدى رسائله إليه(٢) .

____________________

(١) راجع: الفتنة الكبرى: ٢٩٥.

(٢) راجع: شرح نهج البلاغة: ١٨: ٤٠٩.

١٣٥

إذن فمعاوية بهذا مُشارك فعّال في جريمة قتل الإمامعليه‌السلام !

ونقول: إنّ هذا صحيح من حيث النظر إلى النتيجة العملية، وقد أدرك معاوية هذه النتيجة في حياته، في إصراره على البيعة لابنه يزيد وليّاً للعهد من بعده - وتولية يزيد على كلّ البلاد أهمّ من تولية عبيد الله على الكوفة - وكان معاوية يعلم بأنّ يزيد سيرتكب تلك الجريمة - التي تحاشا معاوية أن يرتكبها هو في حياته -؛ لأنّه يعلم أنّ قتل الإمامعليه‌السلام في مواجهة علنيّة، سوف يقضي بالنتيجة على الحُكم الأُموي نفسه، وعلى كلّ جهود حركة النفاق منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى موت معاوية؛ ولذا كان معاوية إذا تأمّل في النتيجة العملية تأكلُ قلبه الحسرة، إزاء ضعفه أمام عاطفته ليزيد وهواه فيه، فكان يقول: « ولولا هواي في يزيد لأبصرت رُشدي وعرفت قصدي... »(١) .

وقد حاول معاوية قبل موته أن يحتاط لهذا الأمر، وأن يحول دون أن يرتكب يزيد من بعده حماقة قتل الإمام الحسينعليه‌السلام في مواجهة علنية، فأوصاه بذلك(٢) ، ولعلّه أكّد عليه في هذه المسألة بأكثر من سبيل، ولات حين فائدة!!

٣) - يزيد يستخدم أسلحة أبيه في الإرهاب الديني!!

من التضليل الديني الذي ابتدعه معاوية لتثبيت مُلكه، ولاستخدامه في إرهاب الأمّة إرهاباً دينيّاً من أجل تحذيرها وتخديرها عن التفكير بالقيام ضدّه، الأحاديث الكثيرة التي وضعها له وافتراها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عملاؤه، من صحابة وتابعين،

____________________

(١) الفتوح، ٤: ٣٤٤، والبداية والنهاية، ٨: ١٢٦.

(٢) وقد رويت هذه الوصيّة في مصادر الفريقين مع تفاوت في الألفاظ: راجع مثلاً: تاريخ الطبري، ٣:٢٦٠، والكامل في التاريخ، ٢: ٥٢٣، وأمالي الصدوق: ١٢٩ المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

١٣٦

معروفين بنفاقهم وتهالكهم على دنيا معاوية، كأبي هريرة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، والمغيرة بن شُعبة، وسُمرة بن جُندب، وغيرهم من النفعيين، الذين تفنّنوا في وضع مُفتريات تدعو الأمّة إلى الصبر على ظلم الحاكم الجائر والخضوع له وعدم الخروج عليه، فمن مُفتريات ابن عمر - على سبيل المثال لا الحصر - « ستكون هنات وهنات، فمَن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمّة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً ما كان » و« مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنّ مَن فارق الجماعة شبراً فمات إلاَّ ميتة جاهلية! » و« أدّوا إليهم حقّهم - أي الحكّام - واسألوا الله حقّكم! »(١) وأمثال ذلك.

فأراد يزيد أن يعزف على نفس النغمة في رسالته إلى عبيد الله بن زياد بقوله: « فإنّه كتب إليَّ شيعتي! من أهل الكوفة، يُخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين... »، وكأنّ يزيد أراد أن ينبِّه ابن زياد ليقوم باستخدام تُهمة « شقّ عصا المسلمين » في مواجهة مسلم إعلامياً، ويُعرّفه أن عقوبة هذه التُّهمة هي القتل، وما يجري على مسلم من التُّهم عند الأُمويين يجري بالضرورة على سيّده الإمام الحسينعليه‌السلام ، بل لقد وجّه الأُمويون هذه التُّهمة إلى الإمامعليه‌السلام بشكل سافر، لما أرادوا منعه عن الخروج من مكّة المكرّمة فأبى عليهم، حيث نادوه: « يا حسين، ألا تتَّقي الله؟! تخرج من الجماعة، وتُفرِّق بين هذه الأمّة!! »(٢) .

ولقد أسرف ابن زياد في استخدام هذه التُّهمة إعلامياً ضدّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام والثوّار في الكوفة؛ لتنفير الناس عنهم، وخاطب مسلماًعليه‌السلام بهذه التُّهمة مُباشرة، بعد أن تمكّنوا منه وأحضروه في القصر قائلاً: « يا عاقّ، يا شاقّ، خرجت على إمامك! وشققت عصا المسلمين! وألقحت الفتنة! ». لكنّ البطل الشجاع مسلم

____________________

(١) راجع: ثورة الحسين عليه‌السلام ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية: ١٠٥ - ١١٤.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٦.

١٣٧

بن عقيل عليه‌السلام ردّ عليه قائلاً: ( كذبت يا بن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحها أنت وأبوك زياد... )(١) .

٤) - مَن هو عبيد الله بن زياد!؟

كان زياد بن أبيه قبل استلحاق معاوية إيّاه وادعّائه أنّه أخوه من أبيه، يرى نفسه من الموالي؛ لأنّه ولِد على فراش عبيد الرومي(٢) ، فكان زياد يحنو على الموالي ويُدافع عنهم ويدرء عنهم الغوائل، كما فعل في ردّ عمر بن الخطاب عن خطّته في الفتك بالموالي والأعاجم، التي كتب بها إلى أبي موسى الأشعري(٣) .

ولعلّ هذا العامل النفسي كان أقوى عوامل انتماء زياد بن أبيه إلى صفّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام والعمل تحت لوائه حينذاك.

وكان معاوية - بدهائه وخُبثه ومعرفته بنفسية زياد بن أبيه - قد انتبه إلى هذا العامل النفسي المؤثّر جدّاً في نوع انتماء زياد فكرياً وسياسياً، فبادر إلى القول بتلك الدعوى المختلقة، دعوى الاستلحاق؛ ليُطلق زياداً من عقدة انتمائه إلى الموالي، وينسبه إلى نسبه «إلى أبيه» أي إلى بيت معروف من بيوتات قريش، وبهذا ضمن معاوية - بما له من معرفة بزياد - تحوّله إلى صفّه وباطله.

وهكذا كان، فبعد أن تحوّل زياد إلى باطل معاوية مُتحرِّراً من عُقدة الموالي بطش بالموالي أشدّ البطش، وكان جلّ الشيعة منهم، وساعده على ذلك معرفته السابقة بهم وبأشخاصهم ورموزهم وأمكنتهم.

____________________

(١) اللهوف: ١٢١.

(٢) وقيل: هو أبو عبيد عبد بني علاج من ثقيف (نهج الحق وكشف الصدق: ٣٠٧).

(٣) راجع: تفصيل القصّة في كتاب سليم بن قيس: ١٧٤ - ١٧٩.

١٣٨

وفي الرسالة الاحتجاجية الشاملة، التي بعثها الإمام الحسينعليه‌السلام إلى معاوية أشارعليه‌السلام إلى هذا البُعد النفسي من وراء الاستلحاق، إضافة إلى مُخالفة هذا الاستلحاق للشريعة المقدّسة، تأمّل في قولهعليه‌السلام في هذه الرسالة:

( أوَ لستَ المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف؟! فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولَد للفراش وللعاهر الحجَر. وتركت سُنّة رسول الله تعمّداً وتبعت هواك بغير هُدى من الله، ثُمَّ سلّطته على العراقَين، يُقطِّع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويُسمّل أعيُنهم، ويُصلِّبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك... ) (١) .

ولقد نشأ عبيد الله بن زياد في ظلّ الاعتزاز بالنسَب السفياني، وكان يفخر به(٢) ، وأجّج فيه وهمُ هذا الانتساب نيران حقد شديد على أهل البيتعليهم‌السلام خاصة والشيعة عامة، فسجّل له التاريخ ملفَّاً أسود مليئاً بأبشع الجرائم التي يندى لها جبين التاريخ نفسه!

وروي أنّ عبَيد الله ولِد سنة ٢٠هـ(٣) ، وكانت أمّه مرجانة مجوسيّة معروفة بالبغاء، فارقها زياد وتزوّج بها شيرويه «الأسواري»(٤) ، ودفع زياد إليها عبيد الله، فنشأ في بيت شيرويه «ولم يكن مسلماً» وتربّى في بيته، فكانت فيه لكْنة لا يستطيع

____________________

(١) اختيار معرفة الرجال، ١: ٢٥٢ - ٢٥٩ رقم ٩٩.

(٢) فقد قال لأهل البصرة مثلاً: (... وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان ) (تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١).

(٣) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٤٦.

(٤) الأساورة: قوم من العجم بالبصرة نزلوها قديماً... والإسوار والأسوار. الواحد من أساورة فارس وهو الفارس من فرسانهم المقاتل... (راجع: لسان العرب، ٤: ٣٨٨).

١٣٩

بسببها أداء بعض الحروف العربية كما هي، فكان يقول للحروري مثلاً: هروري، فيضحك سامعوه(١) .

وهلك أبوه زياد سنة ٥٣هـ، فوفد ابنه عبيد الله على معاوية فولاَّه خراسان سنة ٥٤ هـ(٢) ، ثمّ ولاَّه البصرة سنة ٥٥ هـ، فترك على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي ورجع إلى البصرة(٣) . ولمَا مات معاوية كان عبيد الله لم يزل والياً عليها.

ومع أنّ حقد عبيد الله بن زياد على أهل البيتعليهم‌السلام كان كافياً في دفعه إلى ارتكاب جريمة قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، لكنّ خوفه من نقمة يزيد عليه وبغضه له، ورغبة عبيد الله في ترضية يزيد والتودّد إليه، شكّلا دافعاً مضافاً في العزم على قتل الإمامعليه‌السلام وإظهار الإخلاص التام ليزيد(٤) .

وكان يزيد قد استخدم مع عبيد الله نفس سلاح أبيه معاوية مع زياد، في تهديده بسحب هوية النسَب الأُموي المكذوب منه، فيعود كما هو عبداً لثقيف، حينما حثّه على امتثال أمره في قتل الإمامعليه‌السلام ؛ إذ كتب إليه: « إنّه قد بلغني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتُليت به من بين العمّال، وعنده تُعتق أو تعود عبداً. فقتله عبيد الله وبعث برأسه وثِقله إلى

____________________

(١) راجع: سير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٥، والعقد الفريد، ٢: ٤٧٧، والملحمة الحسينية، ٣:١٤٠.

(٢) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٤٢ و٢٤٦.

(٣) نفس المصدر.

(٤) ولعلّ بُغض يزيد لعبيد الله (كما في تذكرة الخواص: ٢١٨) أو عتبه عليه (كما في تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠) كان نتيجة لبُغض يزيد لزياد أبي عبيد الله؛ بسبب ما كان يراه زياد من عدم لياقة يزيد للخلافة بسبب افتضاح فسقه وفجوره، وكان زياد يَثنى معاوية عن الإقدام على أخذ البيعة بولاية العهد ليزيد، ويُحذّره من عواقب ذلك.

١٤٠