مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة9%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220119 / تحميل: 9448
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يزيد »(١) .

وكان عبَيد الله قبيح السريرة، فاسقاً ظالماً غشوماً جباناً إذا ضعف، جبّاراً إذا تمكّن، قال الحسن البصري: « قدم علينا عبيد الله، أمّره معاوية غلاماً سفيهاً، سفك الدماء سفكاً شديداً.. وكان عبيد الله جباناً »(٢) .

« وكان الحسن البصري يُسمّيه الشابّ المترف الفاسق، وقال فيه: ما رأينا شرّاً من ابن زياد! »(٣) .

و« جيء إليه بسيّد من سادات العراق، فأدناه منه ثمّ ضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشقّ حاجبيه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه »(٤) .

« وغضب على رجل تمثّل بآية من القرآن، فأمر أن يُبنى عليه ركن من أركان قصره! »(٥) .

« وكان يقتل النساء في مجلسه، ويتشفّى بمُشاهدتهنّ يُعذَّبن وتُقطّع أطرافهن! »(٦) .

« عاش مكروهاً عند أهل العراق »(٧) و« مهيناً عند أهل الحجاز »(٨) .

____________________

(١) العقد الفريد، ٤: ٣٨٢.

(٢) راجع: سير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩.

(٣) أنساب الأشراف، ٥: ٨٣.

(٤) مروج الذهب، ٢: ٤٤; ولعلّ ذلك السيّد الوجيه هو هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه .

(٥) المحاسن والمساوئ، ٢: ١٦٥.

(٦) بلاغات النساء: ١٣٤; وأنساب الأشراف، ٥: ٢٨٩.

(٧) الإمامة والسياسة ٢: ١٦.

(٨) الأغاني، ١٨: ٢٧٢.

١٤١

« لما مات يزيد أغرى بعضَ البصريّين أن يُبايعوه، ثمّ جبن عن مواجهة الناس فاستتر ثمّ هرب إلى الشام.. وكان عبيد الله من الأكلة، كان يأكل جديّاً أو عناقاً يُتخيَّر له في كلّ يوم فيأتي عليه! وأكل مرّة عشر بطّات وزبيلاً من عنب، ثمّ عاد فأكل عشر بطّات وزبيلاً من عنب وجديّاً!! »(١) .

« قال التنوخي: إنّ عبيد الله بن زياد لما بنى داره البيضاء بالبصرة بعد قتل الحسين، صوّر على بابها رؤوساً مُقطّعة، وصوّر في دهليزها أسداً وكبشاً وكلباً، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح.

فمرّ بالباب أعرابي، فرأى ذلك فقال: أما إنّ صاحبها لا يسكنها إلاّ ليلة واحدة لا تتمَّ!

فُرفع الخبر إلى ابن زياد، فأمر بالأعرابي فضُرب وحُبس، فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى قيس بن السكون ووجوه أهل البصرة في أخذ البيعة له، ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه، وراسل بعضهم بعضاً في الوثوب عليه في ليلتهم «أي على ابن زياد»، فأنذره قوم كانت له صنائع عندهم، فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين بني تميم بسببه، حتى أخرجوه فألحقوه بالشام، وكُسِر الحبس فخرج الأعرابي، ولم يَعُدْ ابن زياد إلى داره، وقُتل في وقعة الخازر »(٢) .

ولما رأى ابن زياد - بعد فاجعة كربلاء - أنّه لم يجنِ إلاّ غضب الله وسخط الناس عليه(٣) سعى إلى التنصّل من مسؤولية قتل الإمامعليه‌السلام ، فكان يدّعي قائلاً: « أمّا

____________________

(١) أنساب الأشراف، ٥: ٨٦.

(٢) راجع: الفَرَج بعد الشدّة، ٢: ١٠١.

(٣) زار ابن زياد عبد الله بن مغفل الصحابي في مرضه، وقال له: أتعهد إلينا شيئاً قال: لا تُصلِّ عليَّ

١٤٢

قتلي الحسين، فإنّه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترتُ قتله! »(١) .

ولما جاء نعي يزيد هرب عبيد الله بعد أن كاد يؤسَر، واخترق البرّية إلى الشام، وانضمّ إلى مروان وقاتل معه، فلمّا ظفر مروان ردّه إلى العراق، فلمّا دخل أرض العراق وجّه المختار إليه إبراهيم بن مالك الأشتر، فالتقوا بقرب الزاب، وقتل إبراهيم بن الأشتر عبيد الله بن زياد بضربة نجلاء، قدَّه بها نصفين، وكان ذلك في يوم عاشوراء سنة ٦٧هـ(٢) .

« وأُنفذ رأس عبيد الله بن زياد إلى المختار ومعه رؤوس قوّاده، فأُلقيت في القصر، فجاءت حيّة دقيقة فتخلّلت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيد الله بن زياد ثمّ خرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فيه، فعلت هذا مراراً، أخرج هذا الترمذيّ في جامعه »(٣) .

وكانت جثّته قد أُحرقت بعد قطع رأسه(٤) .

وهلك هذا الطاغية حين هلك ولم يكن له عقب(٥) .

____________________

= ولا تقُم على قبري. (سير أعلام النبلاء ٣: ٥٤٩). وقالت له أمّه مرجانة: يا خبيث، قتلت ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! لا ترى الجنّة أبداً (الكامل في التاريخ ٣: ٨).

وقال أخوه عثمان وهو يسمع: لوددتُ أنّه ليس من بني زياد رجلٌ إلاّ وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنَّ حسيناً لم يُقتل. (تاريخ الطبري ٣: ٣٤٢، والكامل في التاريخ ٢: ٥٨٢).

(١) الكامل في التاريخ، ٢: ٦١٢.

(٢) راجع: المعارف: ٣٤٧، وسير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩.

(٣) الكامل في التاريخ، ٣: ٨، وقد أخرجه الترمذي في المناقب من سُننه، ٥: ٦٦٠ رقم ٣٧٨٠، وقال: حسن صحيح. كما أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩ وصحّحه.

(٤) الكامل في التاريخ، ٣: ٨.

(٥) راجع: المعارف: ٣٤٧.

١٤٣

ومع أنّنا نجد في كتاب الله الحكيم، أنّ الله تعالى لعن المفسدين في الأرض القاطعين الرحِم في قوله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) (١) ، ولا نظنّ أنّ مسلماً عاقلاً عالماً، يشكّ في أنّ يزيد وعبيد الله بن زياد وأضرابهم كانوا المصداق الأتمّ لمفهوم المفسد في الأرض والقاطع الرحم، كيف لا، وقد قتلوا عامدين ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسينعليه‌السلام شرّ قتلة مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه وسبوا حريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أفجع حالة، يتصفّح وجوههنّ الأعداء والغرباء من كربلاء إلى الشام؟! وهل هناك عند الله وعند المؤمنين رَحِم أعزّ وأولى بالصلة من رحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! وهل هناك إفساد مُتصوَّر أكثر وأكبر وأنكر ممَّا اجترحه يزيد وعبيد الله وأضرابهم؟!

مع كلّ هذا، يقول الذهبي في شدّة ورع وتقوى!!: « الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله! ونبرأ منهم ولا نلعنهم، وأمرهم إلى الله! »(٢) .

ونقول: شنشنة أعرفها من أخزمِ!!(٣) .

هل غيّرت السلطة الأُموية المركزية والي مكّة؟

يذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ معاوية مات حين مات: « وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكّة يحيى بن حكيم بن صفوان بن أميّة(٤) ، وعلى

____________________

(١) سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله : الآية ٢٢ و ٢٣.

(٢) سير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩.

(٣) عجز بيت شِعر قديم، مضى مثلاً للقضية المعروف أصل سببها.

(٤) يحيى بن حكيم بن صفوان بن أميّة: وهو من بني جمح الذين كانوا مع عائشة يوم الجَمل، فقُتل منهم اثنان وهرب الباقون، وكان يحيى هذا ضمن الذين هربوا ونجا بنفسه، ويُروى أنّ أمير المؤمنين

١٤٤

الكوفة النعمان بن بشير الأنصاريّ، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد »(١) .

وهذا يعني أنّ السلطة الأُموية المركزية في دمشق، قد عزلت يحيى بن حكيم عن ولاية مكّة، وأحلّت مكانه عمرو بن سعيد الأشدق، ضمن الإجراءات الجديدة التي اتّخذتها على أثر وصول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مكة المكرّمة.

غير أنّ مؤرّخين آخرين، روَوا أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق هو الذي كان والياً على مكّة حين مات معاوية(٢) ، ثمّ جمع له يزيد الولاية على مكّة والمدينة، بعد عزله الوليد بن عتبة عن منصب الولاية في المدينة.

وممّا يؤيّد هذا ما روي أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لما ورد مكّة قال له عمرو بن سعيد: ما إقدامك؟! فقالعليه‌السلام :( عائذاً بالله وبهذا البيت ) (٣) . فتأمّل.

عزْل الوليد بن عُتبة عن ولاية المدينة:

كان الوليد بن عتبة(٤) أُمويّاً مُخلصاً كلّ الإخلاص للحُكم الأمويّ عن وعي تامٍّ؛

____________________

= علياً عليه‌السلام لما مرَّ بقتلى موقعة الجَمل بعد انتهائها قال:(... لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب! أدركت وتْري من بني عبد مناف وأفلتني أعيار بني جُمح... ) (شرح نهج البلاغة، ١١: ١٢٣، وروى ابن أبي الحديد: أنّ يحيى هذا عاش حتى استعمله عمرو بن سعيد الأشدق على مكّة، لما جمع له يزيد الولاية على مكّة والمدينة، فأقام عمرو بالمدينة ويحيى بمكّة، راجع ١١: ١٢٥).

(١) الأخبار الطوال: ٢٢٧.

(٢) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٢، والكامل في التاريخ، ٢: ٥٢٩.

(٣) تذكرة الخواص: ٢١٤.

(٤) راجع عنوان (شخصية الوليد بن عتبة) في الجزء الأول من هذا الكتاب (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة): ٣٦١ - ٣٦٥.

١٤٥

لانتمائه القبلي وحرص بالغ على تقديم بني أميّة على مَن سِواهم، وكان في نفس الوقت يتمنّى أن لا يصطدم مع بني هاشم عامة وأهل البيت خاصة، ويطلب العافية من ذلك ويرجوها.

وفي صدد الموقف من الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة، كان الوليد يتبنّى نظرة معاوية الذي كان يرى أنّه ليس من مصلحة الحُكم الأُموي أن يدخل في مواجهة علنيّة مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، مع ما روي أنّ الوليد كان يرى لأهل البيتعليهم‌السلام حُرمة ومنزلة عند الله تعالى! ولذا؛ فقد اتّسم موقفه من رفض الإمام الحسينعليه‌السلام بالتسامح واللّين؛ الأمر الذي أغضب السلطة الأُموية المركزية في دمشق، وأسخطها على الوليد، فقام يزيد بعزل الوليد عن ولاية المدينة في شهر رمضان من نفس السنة(١) ، وأضاف ولاية المدينة لعمرو بن سعيد الأشدق مع ولاية مكّة المكرّمة.

رسالة يزيد إلى عبد الله بن عبّاس:

ومن الإجراءات التي بادرت إليها السلطة الأُموية المركزية في الشام، بعد وصول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مكّة، إرسال الكُتب إلى مَن يُحتمل أن يكون له تأثير على موقف الإمام الحسينعليه‌السلام من بني هاشم خاصة، أو من وجهاء الأمّة الإسلامية عامة(٢) ، وقد سجّل لنا التأريخ في هذا الإطار قصّة الرسالة التي بعث بها يزيد إلى عبد الله بن عباس، يطلب إليه فيها أن يردَّ الإمامعليه‌السلام عن الخروج على النظام

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٢، والبداية والنهاية، ٨: ١٥١، وتاريخ الخليفة: ١٤٢.

(٢) نظنّ ظنّاً قويّاً، تدعمه دلائل تاريخية أنّ حماسة عبد الله بن عمر في مُحاولاته ردّ الإمام عليه‌السلام عن القيام، ونهيه عن الخروج إلى العراق، كانت بدفع من السلطة الأُموية، لكنّنا لم نعثر على وثيقة تاريخية تنهض بهذا الظنّ القويّ إلى مستوى القطع، ونُذكِّر هنا بأنّ معاوية في وصيّته ليزيد يقول: ( - فأمّا عبد الله بن عمر فهو معك فالزمه ولا تدعه... ) (أمالي الصدوق: ١٢٩، المجلس ٣٠ حديث رقم ١).

١٤٦

الأُموي، وأن يُحذّره من مغبّة ذلك، ويُمنّيه بالأمان والصلة البالغة والمنزلة الخاصة عند السلطان الأُموي!

« قال الواقدي: ولما نزل الحسين مكّة، كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس:

أمّا بعدُ: فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ الله ابن الزبير التوَيا ببيعتي، ولحقا بمكّة مرصدَين للفتنة، مُعرّضين أنفسهما للهلكة، فأمّا ابن الزبير، فإنّه صريع الفناء وقتيل السيف غداً، وأمّا الحسين فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه، وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يُكاتبونه ويُكاتبهم، ويُمنّونه الخلافة ويُمنّيهم الإمرة.

وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحُرمة ونتايج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبتّهُ، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فالْقه فاردُده عن السعي في الفُرقة، وردّ هذه الأمّة عن الفتنة، فإنْ قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأُجري عليه ما كان أبي يُجريه على أخيه، وإنْ طلب الزيادة فاضمن له ما أراك الله أنفذ ضمانك، وأقوم له بذلك، وله عليَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليه.

عجّل بجواب كتابي وبكلّ حاجة لك إليَّ وقِبَلي، والسلام »(١) .

وأضاف صاحب تذكرة الخواص قائلاً:

« قال هشام بن محمد: وكتب يزيد في أسفل الكتاب:

يا أيُّها الراكب الغادي لمطيَّته(٢)

على عذافرة في سيرها قحمُ

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢١٥.

(٢) هكذا في الأصل، والصحيح ( لطيّته ) كما هو في رواية الفتوح، ٥: ٧٦.

١٤٧

أَبـلغ قـريشاً على نأي المزار بها

بـيني وبـين الحسين اللهُ والرحمُ

ومـوقف بـفناء الـبيت أنـشده

عـهد الإلـه غـداً يوفى به الذممُ

هـنـيتمُ قـومكم فـخراً بـأمِّكمُ

أُمٌّ لـعَمري حـسانٌ(١) عفَّة كرمُ

هـي الـتي لا يُـداني فضلها أحدٌ

بنت الرسول وخير الناس قد علموا

إنّــي لأعـلم أو ظـنّاً لـعالمه

والـظنّ يـصدق أحـياناً فينتظمُ

أنْ سـوف يـترككم ما تدَّعون به

قـتلى تـهاداكم الـعقبان والرخمُ

يا قومنا لا تشبُّوا الحرب إذ سكنتْ

وأمـسكوا بحبال السلم واعتصموا

قد غرَّت الحرب مَن قد كان قبلكمُ

مـن الـقرون وقد بادت بها الأُممُ

فـأنصفوا قـومكم لا تهلكوا بذخاً

فَرُبَّ ذي بذخ زلَّت به القدمُ »(٢)

مُلاحظات حول هذه الرسالة:

١) - هناك مُشتركات نفسية أساسية بين متن الرسالة وبين أبيات الشعر التي قال (هشام بن محمّد): إنّ يزيد أرفقها مع الرسالة، وأهمُّ هذه المشتركات هو أنّ كليهما تضمّن الترغيب والترهيب معاً، ومُخاطبة الإمامعليه‌السلام عن طريق ابن عبّاس الذي عبّر عنه يزيد بـ (قريش) في الشِعر، وهناك مُشترك نفسي آخر فيهما، وهو أنّ يزيد اجتهد في هذه الرسالة أن يُمسك بزمام حنقه وغضبه، وهو الناصبيّ الفظّ

____________________

(١) هكذا في الأصل، وفي رواية الفتوح، ٥: ٧٦ (حصانٌ) وهو الصحيح.

(٢) تذكرة الخواص: ٢١٥ - ٢١٦.

١٤٨

الغليظ الجلف الذي لا يتناهى عن منكراته(١) ، وهذا التماسك فرضته الضرورة السياسية على مزاج يزيد الذي تعوّد الاستهتار، ولا يبعد أن تكون هذه الموازنة في الترغيب والترهيب من تأثير وإملاء سرجون المستشار النصراني المعتَّق، صاحب الخبرة في الحرب النفسية، ومعالجة الأزمات السياسية منذ عهد معاوية.

٢) - ونقف في هذه الرسالة مرّة أخرى أيضاً، أمام نفس النغمة التي يعزفها الحُكم الأمويُّ بوجه المعارضة، وهي التحذير من شقّ عصا الأمّة، وتفريق كلمة المسلمين وإرجاعهم إلى الفتنة وما إلى ذلك.

هذا السلاح الذي ابتكره معاوية، واستخدمه في وجه مُعارضيه، بعد أن روّج له في الأمّة من خلال أحاديث مُفتريات على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تدعو الأمّة إلى الخنوع للحاكم الظالم والصبر على جَوره، وتدعو إلى قتل كلّ مَن ينهض للخروج على الحُكّام الجائرين بتُهمة شقّ عصا الأمّة وتفريق كلمتها.

فليس من المستغرب أن يُخاطب يزيد ابن عبّاس بذلك فيقول: ( فالقَه فاردُده عن السعي في الفرقة، ورُدَّ هذه الأمّة عن الفتنة! )، وليس بمُستغرب أن يُخاطب ابن زياد مسلم بن عقيل قائلاً: ( أتيتَ الناسَ وهم جميع فشققتَ بينهم! وفرّقتَ كلمتهم! وحملت بعضهم على بعض! )(٢) ، فمن قبل كان معاوية يدسُّ تلك التُّهم إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ويعزف نفس النغمة، من خلال تحذيره بألاّ يشقّ عصا هذه الأمّة وألاّ يردّها في الفتنة، وكان الإمام أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يُجيبه قائلاً:(... فلا

____________________

(١) يقول الذهبي في يزيد: ( كان ناصبياً، فظّاً غليظاً، جلفاً، يتناول المسكر ويفعل المنكر.. وقال فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :( لا يزال أمرُ أمّتي قائماً حتى يثلمه رجل من بني أميّة، يُقال له: يزيد... ) (سير أعلام النبلاء، ٣: ٣٧).

(٢) الإرشاد: ٢١٦، وعنه البحار، ٤٤: ٣٥٧.

١٤٩

أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي وولْدي وأمّة جدّي أفضل من جهادك، فإن فعلتُه فهو قربة إلى الله عزّ وجلّ، وإن تركته فأستغفر الله لذنبي وأسأله توفيقي لإرشاد أموري... ) (١) .

٣) - سعى يزيد في هذه الرسالة إلى اتِّهام الإمامعليه‌السلام بأنّ غاية خروجه طلب الملك والدنيا؛ ولذا فقد طلب في الرسالة إلى ابن عبّاس أن يُمنّي الإمامعليه‌السلام - في حال تخلّيه عن القيام - بالأمان والكرامة الواسعة! وإجراء ما كان معاوية يُجريه على أخيهعليه‌السلام ! وأنّ له ما يشاء من الزيادة على ذلك!

ويزيد يعلم تمام العلم أنّ الإمامعليه‌السلام لم يقُمْ ولم يخرج أشِراً ولا بطراً، ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرج لطلب الإصلاح في هذه الأمّة المنكوبة بكارثة الحُكم الأُموي الجاثم على صدرها سنين طويلة، لكنّها عادة الطغاة في مواجهة الثائرين، وعادة الضلال في مواجهة الهدى، فمن قبل سعى أبو سفيان جدُّ يزيد وأعلام جاهلية قريش إلى اتِّهام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتُهمة طلب الملك والدنيا، وشرطوا لأبي طالبعليه‌السلام أن يُحقِّقوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما يتمنّاه من ذلك فيهم، إذا هو تخلّى عن دعوته، لكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ردّ على إغرائهم وتُهمتهم بقاطعيّة يخلُد ذِكرها ما خلد الدهر:( يا عم، والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يُظهره الله، أو أهلَك فيه، ما تركته ) (٢) .

٤) - ومع ما قدّمناه من ملاحظات حول متن هذه الرسالة، ينبغي أن نُلفت الانتباه إلى أنّ الواقدي الذي رويت عنه قصّة هذه الرسالة، قد تأمّل علماء الرجال فيه أو رموه بالكذب، فقد قال الذهبي: « قال البخاري: سكتوا عنه، تركه أحمد وابن

____________________

(١) الاحتجاج، ٢: ٢١.

(٢) السيرة النبوية، ١: ٢٨٥.

١٥٠

نمير، وقال أسلم وغيره: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الشافعي: كُتُب الواقدي كَذِب. وقال ابن معين: ليس الواقدي بشيء. وقال مرّة: لا يُكتب حديثه. وقال أحمد بن حنبل: الواقديّ كذّاب. وقال إسحاق: هو عندي يضع الحديث. وقال النسائي: المعروفون بوضع الحديث على رسول الله أربعة.. والواقدي ببغداد. وقال أبو زرعة: ترك الناس حديث الواقدي. وروى عبد الله بن علي المديني، عن أبيه قال: عند الواقدي عشرون ألف حديث لم أسمع بها. ثمّ قال: لا يُروى عنه وضعّفه »(١) .

هذا عند رجاليّي العامة، وأمّا عندنا فلم يتعرّضوا له بمدح أو ذم(٢) ، وإن حاول المامقاني جعله في سلك الحسان(٣) ، كما تفرّد ابن النديم في نسْبته إلى التشيّع.

هذا فضلاً عن أنّ الرواية مُرسلة؛ لأنّ الواقدي وراوي الرسالة ولِد بعد المئة والعشرين للهجرة، والرسالة - على الفرض التاريخي - تكون قد صدرت عام ستِّين للهجرة.

والظاهر أنّ أوّل مَن ذكر أنّ هذه الرسالة كانت موجّهة إلى ابن عباس هو ابن عساكر المتوفّى سنة ٥٧١ هـ(٤) ، وبعده سبط ابن الجوزي المتوفَّى ٦٥٤ هـ، ثمَّ المزّي المتوفَّى ٧٤٢هـ، أمّا الكُتب التاريخية التي هي أقدم من هذه الكُتب، كالفتوح، وتاريخ الطبري، فهي خالية من هذه الرسالة، والأبيات الشعرية التي أوردها سبط ابن الجوزي في ذيل الرسالة أوردها صاحب الفتوح، على أنّ المخاطب بها همْ أهل

____________________

(١) سير أعلام النبلاء، ٩: ٤٦٢.

(٢) مُعجم رجال الحديث، ١٧: ٧٢.

(٣) تنقيح المقال، ٣: ١٦٦.

(٤) مُعجم المؤلّفين، ٧: ٦٩.

١٥١

المدينة - وسيأتي ذكرها - ممَّا يُثير الشبهة في أنّ هذا الكتاب - الرسالة - ربّما كان من مُفتعلات مُرتزقة التاريخ، الساعين في خدمة الشجرة الملعونة؛ ظنّاً منهم أنّ ذكر مثل هذه الرسالة يُشكّل تبريراً لموقف يزيد، بأنّه قد بادر وكتب إلى ابن عبّاس «بني هاشم» وخاطب الحسين عليه‌السلام من خلالهم، وأنّه قد أعذر من أنذر!

رسالة يزيد إلى (القرشيّين) في المدينة:

ويروي التاريخ أيضاً، أنّ يزيد بعث برسالة إلى أهل المدينة تتضمّن أبياتاً من الشعر - وهي التي مرّ ذكرها - تحتوي على تهديدهم وتحذيرهم من أيِّ تحرُّك يتنافى ومصالح السلطة الأمويّة، فعن ابن أعثم الكوفي: « وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد - من قريش وغيرهم من بني هاشم، وفيه هذه الأبيات..

قال: فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات، ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ - رضي الله عنهما - فلمّا نظر فيه، علم أنّه كتاب يزيد بن معاوية، فكتب الحسين الجواب:

( بسم الله الرحمن الرحيم:

( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) .(١) والسلام ) (٢) .

ويظهر من قول المزّي، أنّ يزيد كان قد كتب هذه الأبيات إلى ابن عبّاس، وإلى مَن كان في مكّة والمدينة من قريش، حيث يقول: « كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مَن

____________________

(١) سورة يونس عليه‌السلام : الآية ٤١.

(٢) الفتوح، ٥: ٧٧.

١٥٢

بمكّة والمدينة من قريش »(١) .

والملفت للانتباه هنا، أنّ جواب الإمامعليه‌السلام كاشف عن ازدرائهعليه‌السلام الكامل ليزيد؛ إذ لم يذكر في الجواب اسمه، كما لم يُلقِّبه بلقب، ولم يُسلِّم عليه؛ ممّا يتبيّن منه أنّ يزيد لعنه الله مصداق تام للمكذِّب بالدين وبالرُّسل والأوصياءعليهم‌السلام ، وقد فصّلنا القول في التعليق على هذه الرسالة في الفصل الأوّل فراجع.

التخطيط لاغتيال الإمام عليه‌السلام أو اعتقاله في مكّة:

ومن الإجراءات السرّية التي اتّخذتها السلطة الأُموية المركزية في الشام، بعد فشل خُطّتها الرامية إلى اعتقال الإمامعليه‌السلام أو قتله في المدينة المنوّرة(٢) ، هو قيامها بالتدابير اللازمة لاغتيال الإمامعليه‌السلام أو اعتقاله في مكّة المكرّمة.

وخُطّة السلطة الأُموية لاغتيال الإمامعليه‌السلام في مكّة المكرّمة أو اعتقاله، من المسلّمات التاريخية، التي يكاد يُجمع على أصلها المؤرّخون، وكفى بتصريح الإمام الحسينعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفية:

( يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم؛ فأكون الذي يُستباح به حُرمة هذا البيت! ) (٣) .

وقولعليه‌السلام للفرزدق:( لو لم أُعجِّل لأُخذت ) (٤) .

____________________

(١) تهذيب الكمال، ٤: ٤٩٣، والبداية والنهاية، ٨: ١٦٧.

(٢) راجع الجزء الأول من هذه الدراسة (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة): الفصل الرابع، عنوان: لماذا لم يبقَ الإمام عليه‌السلام في المدينة المنوّرة؟ ص٣٧٣ - ٣٧٦.

(٣) اللهوف: ١٢٨.

(٤) الإرشاد: ٢٠١.

١٥٣

ذكرت بعض المصادر التاريخية: « أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاجّ، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتْك بالحسين أينما وجِد... »(١) .

ويقول مصدر آخر: « وبعث ثلاثين من بني أميّة مع جمع، وأمرهم أن يقتلوا الحسين »(٢) .

ويقول آخر: « إنّهم جدُّوا في إلقاء القبض عليه وقتله غيلة، ولو وجِد مُتعلّقاً بأستار الكعبة »(٣) .

ومن الوثائق التاريخية الكاشفة عن هذه الحقيقة، رسالة ابن عباس إلى يزيد، والتي ورد فيها: «... وما أنسَ من الأشياء، فلست بناس اطّرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك عليه الرجال تغتاله... فأكْبِر من ذلك ما لم تُكْبِر حيث دسست عليه الرجال فيها ليُقاتَل في الحرم... »(٤) .

وفي هذا القدر من المتون التاريخية كفاية في الدلالة على خُطّة السلطة الأُمويّة المركزية في الشام؛ لإلقاء القبض على الإمامعليه‌السلام أو اغتياله في مكّة المكرّمة.

____________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٦٥.

(٢) تذكرة الشهداء: ٦٩.

(٣) الخصائص الحسينية: ٣٢، طبعة تبريز.

(٤) تاريخ اليعقوبي، ٢: ٢٤٨ - ٢٤٩، والبحار، ٤٥: ٣٢٣ - ٣٢٤، وفي تذكرة الخواص: ٢٤٨ ( أنسيت إنفاذ أعوانك إلى حرم الله لقتل الحسين... ).

١٥٤

حركة السلطة الأُمويّة المحليّة في البصرة:

كان عبيد الله بن زياد مدّة ولايته على البصرة قد هيمن على ظاهر الحياة السياسية والاجتماعية فيها؛ لِما عُرف عنه من قدرة على الغَشم والظلم والجَور، والتفريق بين القبائل، وخَلْقِ الكراهية بين الوجهاء والأشراف، وما إلى ذلك من فنون المكر في إدارة شؤون الأمّة التي تعرف فساد حكّامها وفسقهم، وتنطوي على كرههم.

لكنّ باطن الحياة السياسية والاجتماعية في البصرة آنذاك، كان يشهد أمراً آخر، وهو النشاط السرّي للمعارضة الشيعية بشكل أساسي، فقد كان للشيعة في الخفاء منتدياتهم الخاصة، التي يتداولون فيها الأخبار ووقائع الأحداث ومستجدّات الأمور، ويتشاورون بصددها فيما بينهم، وكان ابن زياد على علم إجمالي بمثل هذه الحركة الخفيَّة، وكان يتوجّس منها؛ والدليل على ذلك لحن الخطاب الأخير، الذي ألقاه في البصرة قبل سفره منها إلى الكوفة.

تلقّى ابن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي، والتي ولاّه فيها على الكوفة إضافة إلى البصرة، ودعاه فيها إلى المبادرة - حين قراءة الرسالة - إلى التوجّه إلى الكوفة؛ ليطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة حتى يُثْقِفه فيُوثقه أو يقتله أو ينفيه.

وما إنْ قرأ ابن زياد الرسالة حتى أمر بالجهاز والتهيُّؤ والمسير إلى الكوفة من الغد(١) ، لكنّ المفاجأة التي أذهلته قُبيل سفره إليها، هي معرفته بأنّ الإمامعليه‌السلام قد أرسل رسولاً إلى البصرة إلى الأشراف ورؤساء الأخماس فيها، يدعوهم فيها إلى تأييده والانضمام إليه في قيامه « وإن كان المتيقّن أنّ عبيد الله بن زياد قد اطّلع

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١.

١٥٥

بالفعل على نسخة رسالة الإمام عليه‌السلام إلى المنذر بن الجارود فقط، لكن ممّا لا ريب فيه، أنّ خبرة ابن زياد الإدارية والسياسية، تجعله على يقين بأنّ المنذر بن الجارود كان واحداً من الأشراف الذين كتب إليهم الإمام عليه‌السلام ، ولم يكن الوحيد فيهم ».

ولم يُحدّثنا التاريخ - بل لم نقع على وثيقة تُحدّثنا - أنّ ابن زياد قد سعى إلى معرفة الأشراف الآخرين الذين كتب إليهم الإمامعليه‌السلام ، أو سعى إلى مُطاردتهم واضطهادهم مثلاً؛ ولعلّ ذلك بسبب ضيق الوقت والعجالة التي كان عليها في عزمه على السفر إلى الكوفة، وهي الساحة الأهمّ والمضطربة الأحداث آنذاك؛ أو لأنّه كان مُطمئنّاً لولاء أكثر هؤلاء الأشراف للحُكم الأمويّ.

لنَعُدْ إلى مجرى حركة الأحداث في البصرة قُبيل يوم واحد من سفر ابن زياد إلى الكوفة..

وصلت نسخة من رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى أشراف البصرة، بيد رسوله سليمان بن رزين إلى المنذر بن الجارود - الذي كانت ابنته بحرية زوجة لعبيد الله بن زياد - فلم يُخفِ أمر الرسالة كما فعل الآخرون، ولم يحفظ الأمان للرسول، بل عزم على الخيانة التي تعوّدها من قبل، فأقبل بالرسالة وبالرسول إلى عبيد الله بن زياد؛ زعماً منه(١) أنّه خاف أن يكون الكتاب دسيسة من عبيد الله نفسه، فصلبه عبيد الله بن زياد(٢) ، أو قدّمه فضرب عنقه على رواية أُخرى(٣) . ثمّ صعد عبيد الله منبر البصرة، وقلبه يرتعد خيفة من استجابة أهلها لنداء الإمامعليه‌السلام ، ويعتصره القلق من انتفاضة المعارضة الخفية وقيامها مع الإمامعليه‌السلام ،

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠.

(٢) راجع: اللهوف: ١١٤.

(٣) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠، وإبصار العين: ٢٧.

١٥٦

فكان خطابه مليئاً بالتهديد والوعيد، كاشفاً بذلك عن قلقه وخوفه، وعن قوّة المعارضة التي يخشاها، فقد قال في خطابه - بعد أن حمد الله وأثنى عليه -: « أمّا بعدُ، فو الله، ما تُقْرَنُ بي الصعبة(١) ، ولا يُقعقع لي بالشّنان(٢) ، وإنّي لَنَكِلٌ(٣) لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارَّة مَن راماها(٤) .

يا أهل البصرة، إنَّ أمير المؤمنين ولاّني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان(٥) ، وإيّاكم والخلاف والإرجاف،

____________________

(١) الصعبة: الناقة صعبة القياد.

(٢) القعقعة: الصوت، كأنّه يقول: لا أدَع الناس يتكلّمون ببُغضي وكراهتي.

(٣) نكل: أي مُعذِّب لمن عاداني، من النكال: أي العذاب والانتقام.

(٤) أنصف القارّة مَن راماها: رجز لرجل من قبيلة (القارّة)، وكانوا حُذَّقاً في الرماية، فالتقى رجل منهم بآخر من غيرهم، فقال له القارَّي: إنْ شئتَ صارعتك، وإنْ شئت سابقتك، وإنْ شئت راميتك. فقال الآخر: قد اخترتُ المراماة.

فقال القارّي:

قد أنصف القارَّة مَن راماها

إنّا إذا ما فئة نلقاها

نردُّ أُولاها على أُخراها

فرماه بسهم فشكَّ به فؤاده.

فكأنّ ابن زياد أراد أن يدّعي: أنّ بني أميّة حُذَّق في أمور السياسة والمواجهات السياسية، وأنّ مَن أراد مواجهتهم - وقد أنصفهم - لابدّ أنّه سيخسر في المواجهة.

(٥) عثمان بن زياد بن أبيه: أخو عبيد الله، توفِّي شابَّاً وله ثلاث وثلاثون سنة. (راجع: تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث سنة ٦١ إلى ٨٠: ص ٥). وقد استخلفه أخوه عبيد الله على البصرة حين ذهب إلى الكوفة (راجع: البداية والنهاية، ٨: ١٦٠).

ويبدو أنّه كان أهون من أخيه عبيد الله بكثير، وكان إدراكه لعواقب الأمور فيه بقية من بصيرة، حيث قال في محضر أخيه عبيد الله: (... ولوددت والله، إنّه ليس من بني زياد رجلٌ إلاّ وفي أنفه خزامة =

١٥٧

فو الذي لا إله غيره، لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنّه وعريفه ووليّه، ولآخُذنّ الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي ولا يكون فيكم مُخالفٌ ولا مشاقٌّ، أنا ابن زياد، أشبهته من بين مَن وطَأ الحصى ولم ينتزعني شَبهُ خالٍ ولا ابن عمّ »(١) .

ويُلاحِظ المتأمّل هنا أيضاً، أنّ عبيد الله بن مرجانة مع كلّ ما أظهره من استعداد للظلم والغَشم والقتل، الكاشف عن خوفه وتوجُّسه من قدرة المعارضة الخفيّة على التحرّك لنصرة الإمام الحسينعليه‌السلام ، كان قد افتخر بانتسابه الموهوم إلى أبي سفيان؛ حيث قال: ( وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان )، ومراده من هذا الافتخار تحذير أهل البصرة وتخويفهم، بتذكيرهم أنّه وأخوه امتداد لعائلة معروفة بالحيلة والمكر والدهاء، وبسابقة طويلة في الممارسة السياسية.

حركة السلطة الأُمويّة المحلِّية الجديدة في الكوفة:

السفر السريع إلى الكوفة:

بعد أن تسلّم عبيد الله بن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي، أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيُّؤ إلى الكوفة من الغد(٢) ، فلم يبقَ في البصرة بعدها إلاّ يوماً، قتل فيه سليمان بن رزينرضي‌الله‌عنه رسول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى أشراف البصرة، وألقى فيه خطاباً على منبر البصرة، أعلن فيه لأهلها عن استخلافه أخاه عثمان بن زياد عليها، وهدّد فيه أهل البصرة وحذّرهم من الخلاف والإرجاف! وتوعّدهم على ذلك، وفي غد ذلك اليوم خرج من البصرة إلى الكوفة.

____________________

= إلى يوم القيامة وأنّ حسيناً لم يُقتل ). (البداية والنهاية، ٨: ٢١٠).

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠، وتذكرة الخواص: ٢١٨، والأخبار الطوال: ٢٣٢.

(٢) راجع: الإرشاد: ٢٠٦.

١٥٨

تقول رواية تاريخية: « وأقبل إلى الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي(١) ، وحشمه وأهل بيته، حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو مُتلثّم... »(٢) .

____________________

(١) شريك بن الأعور الحارثي: كان من شيعة عليّ، وكان ساكناً بالبصرة (سفينة البحار، ٤: ٤٢٤ - الغارات: ٢٨١)، وكان من رؤوس الأخماس، وكان على خُمس العالية، وقدم معهم برفقة ابن عبّاس إلى عليّ عليه‌السلام تلبية لدعوته لحرب معاوية (وقعة صِفِّين: ١١٧).

كان اسم والده الحارث، ومن ثَمَّ يُطلق على شريك: الحارثي. (مُعجم رجال الحديث، ٩: ٢٤). وكان من خواص أصحاب عليّ عليه‌السلام ، شهد معه الجَمل وصِفِّين، وكان قويّ الإيمان صُلب اليقين، وكان ردءاً لجارية بن قدامة في مُحاربة ابن الحضرمي بالبصرة، ولمعقل بن قيس الرياحي في مُحاربة الخوارج بالكوفة، وهو في ثلاثة آلاف مقاتل من أهل البصرة.

جاء من البصرة مع ابن زياد إلى الكوفة فمرض، فنزل دار هاني أيّاماً، ثمّ قال لمسلم بن عقيل: إنّ عبيد الله يعودني، وإنّي مُطاوله الحديث، فاخرج إليه واقتله...

وعن المحدّث القمّي: أنّه مات قبل شهادة مسلم وهاني، ودُفِن في الكوفة.

وله حوار صاخب مع معاوية، أغضبه في الحوار فخرج من عنده وهو يقول:

أيشتمني معاوية بن صخر

وسيفي صارم ومعي لساني

فلا تبسط علينا يا بن هند

لسانك أن بلغت ذُرى الأماني

وإنْ تَكُ للشقاء لنا أميراً

فإنّا لا نقرُّ على الهوانِ

وإنْ تكُ في أميّة من ذراها

فإنّا من ذُرى عبد المدانِ

(راجع: سفينة البحار، ٤: ٤٢٦; ومُستدركات علم الرجال، ٤: ٢٠٩).

استُعمل على اصطخر فارس فبنى مسجداً عام ٣١ هـ. ق، وولي كرمان من قِبَل عبيد الله بن زياد عام ٥٩ هـ. ق، ولبث بعد وصوله الكوفة أيّاماً فمات، فصلّى عليه ابن زياد. (تاريخ الطبري، ٥: ٣٦٤).

(٢) الإرشاد: ٢٠٦; وقال المزّي في تهذيب الكمال، ١٤: ٧٥ ( وبلغ مسيره - أي الحسين عليه‌السلام - عبيدَ الله بن زياد وهو بالبصرة، فخرج على بغالهم هو واثنا عشر رجلاً حتى بلغ الكوفة ).

١٥٩

وتقول رواية أُخرى: « فتعجّل ابن زياد المسير إلى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي، والمنذرُ بن الجارود، وشريك الحارثي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، في خمسمئة رجل انتخبهم من أهل البصرة، فجدَّ في السير، وكان لا يلوي على أحد يسقط من أصحابه، حتى إنّ شريك بن الأعور سقط أثناء الطريق، وسقط عبد الله بن الحارث رجاء أن يتأخّر ابن زياد من أجلهم، فلم يلتفت ابن زياد إليهم؛ مخافة أن يسبقه الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة، ولما ورد القادسية سقط مولاه مهران. فقال له ابن زياد: إنْ أمسكتَ على هذا الحال، فتنظر القصر فلك مئة ألف.

قال: والله، لا أستطيع.

فتركه عبيد الله، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وانحدر وحده، وكلّما مرّ «بالمحارس» ظنّوا أنّه الحسينعليه‌السلام فقالوا: مرحباً بابن رسول الله. وهو ساكت، فدخل الكوفة ممَّا يلي النجف »(١) .

ونتابع القصَّة على رواية الطبري، حيث يقول: « والناسُ قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين قدم عبَيد الله أنّه الحسين، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاّ سلّموا عليه(٢) وقالوا: مرحباً بك - يا بن رسول الله -! قدمت خير مقدم. فرأى من تباشيرهم بالحسينعليه‌السلام ما ساءه، فقال مسلم بن عمرو - لما أكثروا -: تأخّروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد!

فأخذ - حين أقبل - على الظَهر(٣) ، وإنّما معه بضعة عشر رجلاً. فلمّا دخل

____________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٤٩ - دار الكتاب الإسلامي.

(٢) وفي رواية (الأخبار الطوال: ٢٣٢): ( فكان لا يمرّ بجماعة إلاّ ظنّوا أنّه الحسين، فيقومون له ويدعون، ويقولون: مرحباً بابن رسول الله، قدمت خير مقدم! ).

(٣) الظَهر: أي ظهر الكوفة وهو النجف.

١٦٠

القصر، وعلِم الناس أنّه عبيد الله بن زياد، دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد، وغاظ عبيد الله ما سمع منهم، وقال: ألا أرى هؤلاء كما أرى! »(١) .

إنّ المتون التاريخية، التي وصفت الطريقة التي دخل بها ابن مرجانة الكوفة، تكشف لنا أنّ حالة التأهُّب «بل الغليان!» والتوتُّر، التي كانت تعيشها الكوفة، وهي تنتظر قدوم الإمام الحسينعليه‌السلام ما كانت تسمح لأيِّ مبعوث أُموي أن يدخلها علناً وبسهولة؛ لأنّ الأمّة مُنتفضة على السلطة الأُمويّة أو تكاد، فكان لابدّ لأيِّ مبعوث أو مسؤول أُموي من التخفّي والتنكّر ومُخادعة الناس، فيأتي من طريق غير الطريق التي يأتي منها المسؤولون الرسميّون في العادة، ويتنكّر في زيّ آخر، ويُشبّه على الناس أنّه محبوبهم الذي ينتظرون قدومه بكلّ اشتياق؛ كي يستطيع العبور بسلام والوصول إلى القصر، ليُباشر منه التخطيط والقيام بالإجراءات اللازمة، للقضاء على انتفاضة الأمَّة في الكوفة أوّلاً، ثمّ القضاء على محبوب الأمّة القادم إليها.

خدعة ابن زياد تنطلي حتى على النعمان بن بشير!

وتواصل الرواية التاريخية قصّة خدعة ابن زياد، فتقول: « وسار حتى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التقوا به لا يشكّون أنّه الحسينعليه‌السلام ، فأغلق النعمان بن بشير الباب عليه وعلى خاصته، فناداه بعض مَن كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسينعليه‌السلام .

فقال: أنشدك الله إلاّ تنحَّيت، والله، ما أنا بمُسلّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من أرب. فجعل لا يُكلّمه.

ثمّ إنّه دنا وتدلَّى النعمان من شرف القصر، فجعل يُكلّمه..

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١، وانظر مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٢٩٠، والإرشاد: ٢٠٦.

١٦١

فقال: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك!

وسمعها إنسان خلفه، فنكص إلى القوم الذين اتَّبعوه من أهل الكوفة على أنَّه الحسينعليه‌السلام ، فقال: يا قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره!

ففتح له النعمان، فدخل وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا »(١) .

هذا النصّ كاشف تماماً عن درجة الضعف المذهل، التي كان عليها ممثّلو النظام الأمويّ في الكوفة يومذاك، فابن بشير يلبد في القصر، ويخشى الخروج منه لمقابلة القادم الذي ظنّ أنّه الحسينعليه‌السلام ، وعبيد الله - وهو بين مجموعة من أهل الكوفة - يخشى حتى من إظهار صوته مخافة أن يُعرف.. فما أقوى دلالة هذا النصّ على حالة «الانقلاب» التي كانت الكوفة تعيشها في رفضها النظام الأمويّ، وانتظارها لوصول القيادة الشرعية القادمة إليها.

الخطاب الإرهابيّ الأوّل:

ما إن دخل ابن مرجانة القصر، وهدأت أنفاسه المضطربة من الخوف والتعب، حتى أمر الناس بالاجتماع في المسجد ليُعلن لهم عن وصوله، وعن بداية قرارات الغشم الإرهابية.

تقول الرواية التاريخية: « لما نزل القصر نودي: الصلاة جامعة. قال: فاجتمع الناس، فخرج إلينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مِصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومُطيعكم، وبالشدّة على مُريبكم وعاصيكم، وأنا مُتّبع فيكم أمره، ومُنفّذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومُطيعكم كالوالد البَرّ، وسوطي وسيفي على مَن ترك أمري وخالف عهدي، فليُبقِ امرؤ على

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٦; وعنه بحار الأنوار، ٤٤: ٣٤٠.

١٦٢

نفسه. الصدق ينبئ عنك لا الوعيد! ثمّ نزل »(١) .

إشارة:

تُلفت انتباه المتأمّل في هذه الخُطبة، دعوى ابن مرجانة بأنّ يزيد أمره فيما أمره به « بالإحسان إلى سامعكم ومُطيعكم! » فمع أنّ هذه الدعوى لم تُصدّقها وثائق التاريخ، وهي أكذوبة من أكاذيب ابن زياد الكثيرة، وهذا الإحسان - لو تحقَّق - مشروط بالانقياد التام والخنوع للسلطة الأموية، فإنّ موعدة الإحسان الكاذبة هذه جاءت مُتأخّرة جدّاً، بعد سنين مُتمادية، تعمّد فيها طاغية الأُمويّين الأكبر معاوية أن يُذيق أهل الكوفة الضيم والجوع والحرمان، وأن يجعلهم وقود حروبه في الثغور وفي مواجهة الخوارج، عقوبة لولائهم لعليعليه‌السلام ، وكان معاوية لا يعبأ بشكاية أهل الكوفة، بل يردّ على مَن يحمل إليه الشكوى منهم أسوأ الردّ، ويُعامله بالاستخفاف والقسوة.

هذه سودة بنت عمارة تأتيه من العراق، وتشكو إليه جور ولاته الذين حكّمهم في رقاب وأموال أهل الكوفة، فتقول: « لا تزال تُقدم علينا مَن ينهض بعِزّك ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي وأخذ مالي... »(٢) .

فما كان جواب الطاغية إلاّ أن قال لها: « هيهات، لمَظكم ابن أبي طالب الجُرأة! »(٣) .

وقالت له عكرشة بنت الأطرش: « إنّه كانت صَدَقاتنا تؤخَذ من أغنيائنا فتُرَدُّ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١، والإرشاد: ٢٠٢.

(٢) العقد الفريد، ٢: ١٠٤.

(٣) نفس المصدر.

١٦٣

على فقرائنا، وإنّا قد فقدْنا ذلك، فما يُجبَر لنا كسير ولا يُنعَشُ لنا فقير، فإنْ كان ذلك عن رأيك فمثلك مَن انتبه عن الغفلة وراجع التوبة، وإنْ كان عن غير رأيك، فما مثلك مَن استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة! »(١) .

فما كان جواب معاوية إلاّ أن قال لها: « هيهات يا أهل العراق، نبَّهكم عليّ بن أبي طالب، فلن تُطاقوا... »(٢) .

فلم تكن الكوفة تنتظر من السلطة الأمويّة المركزية، ولا من ولاتها إحساناً ورأفة ورفقاً، طيلة سنين مُتمادية، جرّعها فيها معاوية كأس الهوان والمذلّة والحرمان.

لكنّ بُركان الكوفة لما فارت أعماقه بالحِمم، ودوّت في فمه صرخة النُذُر بالتمرّد والقيام مع الحسينعليه‌السلام ضدّ الحُكم الأُموي، عزف الوالي الجديد ابن زياد نغمة الإحسان لتهدئة ثورة البركان المتأزّم بقذائف الحِمم، بعد سنين طويلة، فلعلّ وعسى! ولكن أيّ إحسان هو؟! إنّه الإحسان الخاص للمنقادين السامعين الطائعين فقط.

الإجراء الإرهابي الأوّل:

ثمّ إنّ عبيد الله بن مرجانة، أتبع خطابه الإرهابي الأوّل بعمل إرهابي كان الأوّل

____________________

(١) نفس المصدر، ٢:١١٢.

(٢) العقد الفريد، ٢: ١١٢; وهناك وافدات أُخريات وفدن على معاوية بالشكاة والتبرّم من جَوره وجَور ولاته، منهنّ: الدارمية، وأمّ الخير، وأروى بنت عبد المطلب، وأم سنان، والزرقاء، وبكارة الهلالية (راجع: العقد الفريد، ٢: ١٠٢ - ١٢١). وظاهرة وفود النساء دون الرجال على معاوية بالشكوى والتظلّم، كاشفة عن أنّ الإرهاب الأُموي بلغ آنذاك حدّاً من التعاظم على رجال الكوفة، إلى درجة أنّ أحداً منهم لم يكن ليستطيع التشكّي والتظلّم؛ خوفاً من قسوة العقوبة والنكال.

١٦٤

أيضاً في سلسلة أعماله القمعية: « فأخذ العُرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال: اكتبوا إليّ الغرباء، ومَن فيكم من طلبة(١) أمير المؤمنين، ومَن فيكم من الحرورية(٢) ، وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمَن كتبهم لنا فبريء، ومَن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا ما في عرافته ألاّ يُخالفنا منهم مُخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمَن لم يفعل برئت منه الذمّة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيُّما عريف وُجدَ في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيت تلك العرافة من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعُمان الزارة(٣) »(٤) .

إشارة:

كانت العرافة من وظائف الدولة؛ لمعرفة الرعيّة وتنظيم عطائهم من بيت المال، وقد كان في الكوفة مئة عريف، وكان العطاء يُدفع إلى أُمراء أرباع الكوفة الأربعة، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه هؤلاء إلى أهله في دورهم، وكان يؤمر لهم بعطائهم في المحرّم من كلّ سنة، وبفيئهم عند طلوع الشعرى في كلّ سنة حيث إدراك الغلاَّت.

وكانت العرافة على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ، « وكانت الدولة تعتمد على العرفاء، فكانوا يقومون بأمور القبائل ويوزّعون عليهم العطاء، كما كانوا يقومون بتنظيم السجلاَّت العامة التي فيها أسماء الرجال

____________________

(١) أي الذين يطلبهم يزيد ويبحث عنهم ليُعاقبهم.

(٢) أي الخوارج، نسبة إلى حروراء من نواحي الكوفة، أوّل موضع اجتمع فيه الخوارج في مُنصرفهم من صِفّين قبل وصولهم إلى الكوفة.

(٣) وهي المعروفة على ساحل الخليج قرب عمان، وهي شديدة الحرارة؛ ولذا يوعد ابن مرجانة بتبعيد المخالفين إليها لشدّة وصعوبة العيش فيها (راجع: معجم البلدان، ٤: ١٥٠).

(٤) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١، والإرشاد: ٢٠٢، وتذكرة الخواص: ٢٠٠.

(٥) وقعة الطفّ: ١١٠.

١٦٥

والنساء والأطفال، وتسجيل مَن يولد ليُفرض له العطاء من الدولة، وحذف العطاء لمن يموت، كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا في أيّام الحرب يندبون الناس للقتال ويحثّونهم على الحرب، ويُخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلّفون عن القتال، وإذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم، فإنّ الحكومة تُعاقبهم أقسى العقوبات.

ومن أهمّ الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل، هو قيام العرفاء بتخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الإرهاب بين الناس، كما كانوا السبب الفعّال في زجِّ الناس لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام »(١) .

قتْل عبد الله بن يقطر(٢) الحميريرضي‌الله‌عنه

إنّ المشهور عند أهل السيَر(٣) هو أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام سرّح عبد الله بن يقطررضي‌الله‌عنه إلى مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلمعليه‌السلام إلى الحسينعليه‌السلام يسأله القدوم ويُخبره باجتماع الناس، فقبض عليه الحُصين بن نمير(٤) «أو بن تميم»(٥) بالقادسية.. إلى آخر قصّة استشهادهرضي‌الله‌عنه .

ولذا؛ فقصّة استشهادهرضي‌الله‌عنه من مُختصّات تأريخ فترة وقائع الطريق بين مكّة

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٤٤٧.

(٢) ضبطه التُّستري: بقطر، وقال إنَّ يقطر غلط. (راجع: قاموس الرجال، ٦: ٦٦٦)، وقال المحقِّق السماوي: ( ضبطه الجزري في الكامل بالباء الموحّدة، لكنّ مشيختنا ضبطوه بالياء المثنّاة تحت ) (إبصار العين: ٩٤).

(٣) راجع: إبصار العين: ٩٣.

(٤) راجع: الإرشاد: ٢٢٣.

(٥) راجع: إبصار العين: ٩٣.

١٦٦

وكربلاء، أي من مُختصّات «الجزء الثالث» من هذه الدراسة.

لكنَّ هناك روايتين تُحدّثتا في قصّة قتلهرضي‌الله‌عنه مفادهما: أنّه قُتل في الفترة التي كان فيها الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة المكرّمة؛ ولذا، فنحن نتعرّض لهاتين الروايتين هنا في هذا الموقع.

الرواية الأُولى: وهي رواية ابن شهر آشوب، وفيها: أنّ عبيد الله بن زياد بعد أن زار شريك بن الأعور الحارثي في مرضه «في بيت هانئ بن عروة»، وجرى ما جرى من حثّ شريك مسلماًعليه‌السلام على قتل عبيد الله من خلال رمز ( ما الانتظار بسلمى أن تُحييها... )، فأوجس عبيد الله منهم خيفة فخرج.

« فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي، بكتاب أخذه من يدي عبد الله بن يقطر، فإذا فيه: ( للحسين بن علي: أمّا بعدُ، فإنِّي أُخبرك أنّه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي هذا فالعَجل العَجل؛ فإنّ الناس معك، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى ) فأمر ابن زياد بقتله »(١) .

أمّا الرواية الثانية: وهي رواية محمّد بن أبي طالب في كتابه «تسلية المجالس»، فتُفصّل القصّة هكذا: أنّه بينما كان عبيد الله يتكلّم مع أصحابه في شأن عيادة هاني: «إذ دخل عليه رجل من أصحابه يُقال له: مالك بن يربوع التميمي.

فقال: أصلح الله الأمير، إنِّي كنت خارج الكوفة أجول على فرَسي، إذ نظرتُ إلى رجل خرج من الكوفة مُسرعاً إلى البادية، فأنكرته. ثمّ إنّي لحقته، وسألته عن حاله فذكر أنّه من أهل المدينة! ثمّ نزلت عن فرسي ففتّشته فأصبت معه هذا الكتاب.

فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه: ( بسم اللّه الرحمن الرحيم: إلى الحسين بن علي: أمّا بعدُ، فإنّي أُخبرك أنّه بايعك من أهل الكوفة نيِّفاً على عشرين ألف رجل،

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب، ٤: ٩٤، وعنه البحار، ٤٤: ٣٤٣.

١٦٧

فإذا أتاك كتابي فالعَجل العَجل؛ فإنّ الناس كلّهم معك، وليس لهم في يزيد هوى... ).

فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الذي أصبت معه الكتاب؟

قال: هو بالباب. فقال: ائتوني به. فلمّا وقف بين يديه قال: ما اسمُك؟

قال: عبد اللّه بن يقطين.

قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال: دفعته إليَّ امرأة لا أعرفها!

فضحك ابن زياد وقال: اخْتَر أحد اثنين، إمّا أن تُخبرني مَن دفع إليك الكتاب أو القتل! فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أُخبرك، وأمّا القتل فإنّي لا أكرهه؛ لأنّي لا أعلم قتيلاً عند الله أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك!

قال فأمر به، فضربت عنقه »(١) .

فهذا الشهيدرضي‌الله‌عنه في هاتين الروايتين - وخلافاً للمشهور - هو رسول من مسلمعليه‌السلام إلى الإمام الحسينعليه‌السلام (٢) ، وهو في رواية «تسلية المجالس» ابن يقطين

____________________

(١) تسلية المجالس، ٢:١٨٢.

(٢) وقال بهذا أيضاً ابن قتيبة وابن مسكويه، أي: أنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مُسهّر.. وأنّ عبد اللّه بن يقطر بعثه الحسين عليه‌السلام مع مسلم، فلمّا رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ما تمَّ، بعث عبد اللّه إلى الحسين يُخبره بالأمر الذي انتهى، فقبض عليه الحصين وصار ما صار من الأمر عليه. =

١٦٨

وليس ابن يقطر أو بقطر.

وهنا قد ينقدح في الذهن احتمال أنّ عبد الله بن يقطر هو غير عبد الله بن يقطين هذا، بقرينة:

اختلاف اسم الأب أوّلاً.

وثانياً: اختلاف اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطر، وهو حسب المشهور الحصين بن نمير «أو ابن تميم» عن اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطين هذا، وهو مالك بن يربوع التميمي.

وثالثاً: أنّ الأوّل أُلقيَ عليه القبض خارج الكوفة.

ورابعاً: أنّ الأوّل كما هو مشهور قُتل برميهِ من فوق القصر، بينما الثاني ضُربت عنقه.

ويُمكن أن يُردّ على هذه المرتكزات التي يقوم عليها هذا الاحتمال:

أولاً: أنّ هناك ظنّاً قوياً في أن يكون اسم يقطين تصحيفاً لاسم يقطر، خصوصاً في الكُتب المخطوطة قديماً، ويقوّي هذا الظنّ أنّ اسم يقطين لم يرد إلاّ في كتاب تسلية المجالس، كما أنّ اسم الأب في رواية ابن شهر آشوب المشابِهة لهذة الرواية هو يقطر(١) وليس يقطين،

هذا فضلاً عن أنّ رواية كتاب تسلية المجالس نفسها تذكر أنّ عبد الله هذا رجل من أهل المدينة، والتأريخ لم يذكر لنا رجلاً من شهداء النهضة الحسينية من أهل المدينة بهذا الاسم «من غير بني هاشم» سوى عبد الله بن يقطر.

وثانياً: أنّه لا يمنع من وحدة الشخص أنّ الأوّل ألقى القبض عليه الحصين بن

____________________

= (راجع: إبصار العين: ٩٤).

(١) ويُستفاد من كلام السيد الخوئي أنّه يرى عبد الله بن يقطر شخصاً واحداً في روايات القصّة المشهورة، وفي رواية ابن شهر آشوب الشاذّة عن المشهور، حيث يقول: ( وقد ذكر قصّة قتله غير واحد من الأعلام، إلاّ أنّ ابن شهر آشوب ذكر أنّه كان رسول مسلم إلى الحسين عليه‌السلام وأنّ مالك بن يربوع أخذ الكتاب منه ). (مُعجم رجال الحديث، ١٠: ٣٨٤).

١٦٩

نمير (أو تميم) وأنّ الثاني ألقى القبض عليه مالك بن يربوع التميمي؛ إذ قد يكون مالك بن يربوع أحد مأموري الحصين، فتصحّ عندئذ نسبة إلقاء القبض إلى كليهما.

وثالثاً: أنّ قول مالك بن يربوع كما في رواية تسلية المجالس: « كنت خارج الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرت إلى رجل خرج من الكوفة مُسرعاً يُريد البادية... ». قد يعني أنّه نظر إلى رجل أقبل من ناحية الكوفة مُسرعاً يُريد البادية، ولا يُنافي ذلك أنّه نظر إليه في القادسية أو قريباً منها (من ناحية الكوفة)، حيث تنتشر قوّات الرصد الأُموي على اتِّساع تلك المنطقة.

ورابعاً: أنّه لا مُنافاة في الإخبار عن قتله: بأنّه ضُربت عنقه. في حين أنّ ابن يقطررضي‌الله‌عنه رُمي به من فوق القصر فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ثمَّ ذبحه اللخمي كما هو مشهور؛ ذلك لأنّ هذا التفاوت في التعبير عن القتل غير مُستغرب في الاستعمال العرفي، وهو ليس في مستوى دقّة التعبير الفقهي أو الرياضي كما نعلم، ثمّ إنّ رواية ابن شهر آشوب ذكرت فقط أنّ ابن زياد أمر بقتله، ولم تتعرّض لطريقة القتل.

مَن هو عبد الله بن يقطر الحميري؟

« كانت أمّه حاضنة للحسينعليه‌السلام ، كأمّ قيس بن ذريح للحسنعليه‌السلام ، ولم يكن رضع عندها، ولكنّه يُسمَّى رضيعاً له لحضانة أمّه له.

وأمُّ الفضل بن العبّاس لبابة كانت مربِّية للحسينعليه‌السلام ولم تُرضعه أيضاً، كما صحّ في الأخبار أنّه لم يرضع من غير ثدي أمّه فاطمة صلوات الله عليها، وإبهام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تارة، وريقه تارة أُخرى »(١) .

____________________

(١) إبصار العين: ٩٣ لكنّ هناك روايات تذكر أنّه عليه‌السلام لم يرتضع حتى من ثدي أمّه فاطمةعليها‌السلام :منها =

١٧٠

وذكر ابن حجر في الإصابة: أنّ عبد الله بن يقطر كان صحابياً؛ لأنّه لِدَةٌ للحسينعليه‌السلام (١) .

وكان عبد الله بن يقطر رضوان الله تعالى عليه من أهل اليقين والشجاعة الفائقة؛ إذ لما أمره ابن مرجانة قائلاً: « اصعد القصر والعن الكذّاب ابن الكذّاب، ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي »(٢) . صعد هذا البطل القصر « فلمّا أشرف على الناس قال: أيُّها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ ابن الدعيّ! »(٣) .

والظاهر أنّ عبد الله بن يقطر رضوان الله تعالى عليه، قُتل قبل قيس بن مُسهّر الصيداوي رضوان الله تعالى عليه، الذي قُتل بعد قتل مسلمعليه‌السلام ، بدليل أنّ خبر مقتل عبد الله ورد إلى الإمامعليه‌السلام بـ (زُبالة) في الطريق إلى العراق في نفس خبر مقتل مسلمعليه‌السلام وهاني رضوان الله تعالى عليه، فنعاهم الإمامعليه‌السلام قائلاً:( أمّا بعدُ، فقد أتانا خبر فظيع، قُتِل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا

____________________

= عن الإمام الصادق عليه‌السلام : (... ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها‌السلام ولا من أُنثى، كان يُؤتى به النبيّ فيضع إبهامه في فيه فيمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين عليه‌السلام من لحم رسول الله ودمه ) . (الكافي، ١: ٤٦٥، الحديث رقم ٤).

وعن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام :( أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يؤتى به الحسين فيُلقمه لسانه، فيمصّه فيجتزئ به، ولم يرتضع من أُنثى ) (الكافي، ١: ٤٦٥).

لكنّ العلامة المجلسي رمى هاتين الروايتين بالإرسال. (مرآة العقول، ٥: ٣٦٥)، وللسيد عبد الحسين شرف الدين فيهما نظر (راجع: أجوبة موسى جار الله).

(١) إبصار العين: ٩٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

١٧١

شيعتنا... ) .(١)

وبذلك يكون عبد الله بن يقطر رضوان الله تعالى عليه ثاني رُسُل الإمام الحسينعليه‌السلام الذين استُشهدوا أثناء أداء مُهمّة الرسالة، بعد شهيد النهضة الحسينية الأوّل سليمان بن رزين رضوان الله تعالى عليه، رسول الإمامعليه‌السلام إلى أشراف البصرة، بل إنّ عبد الله بن يقطر هو الشهيد الثاني في النهضة الحسينية المباركة، إذا ثبت تاريخياً أنّه قُتِل قبل قيام انتفاضة مسلمعليه‌السلام في الكوفة.

اضطهاد رجال المعارضة وحبْسهم وقتْلهم:

« إنّ ابن زياد لما اطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسينعليه‌السلام حبس أربعة آلاف وخمسمئة رجل من التوّابين، من أصحاب أمير المؤمنين وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان بن صرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر و... وفيهم أبطال وشُجعان، ولم يكن له سبيل إلى نصر الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّهم كانوا مُقيّدين مغلولين، وكانوا يوماً يُطعَمون ويوماً لا يُطعمون »(٢) .

وينقل المحقّق الشيخ باقر شريف القرشي، عن كتاب «المختار مرآة العصر الأُموي»: أنّ عدد الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة اثنا عشر ألفاً، كما ينقل عن كتاب «الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء» أنّ من بين أولئك المعتقلين سليمان بن صرد الخزاعي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وأربعمئة من الوجوه والأعيان(٣) .

____________________

(١) نفس المصدر: ٩٤.

(٢) تنقيح المقال، ٢: ٦٣، وانظر: قاموس الرجال، ٥: ٢٨٠.

(٣) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٤١٦، وقال المحقِّق القرشي: ( وقد أثارت هذه الإجراءات عاصفة من الفزع والهلع، لا في الكوفة فحسب، وإنّما في جميع أنحاء العراق، وقد ابتعد الكوفيُّون عن التدخُّل في أيّة مشكلة سياسية، ولم تَبْدُ منهم أيّة حركة من حركات المعارضة، وأيقنوا =

١٧٢

وذكر الطبري: أنّ ابن زياد « أمر أن يُطلب المختار وعبد الله بن الحارث(١) ، وجعل فيهما جُعلاً، فأُتي بهما فحبسا »(٢) .

وقال البلاذري: « أمر ابن زياد بحبسهما - المختار وابن الحارث - بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين »(٣) .

« ثمّ إنّ الحصين(٤) - صاحب شرطة ابن زياد - وضع الحرس على أفواه

____________________

= أنّ لا قدرة لهم على الإطاحة بالعرش الأمويّ، وظلّوا قابعين تحت وطأة سياطه القاسية ) (نفس المصدر، ٢: ٤١٦).

ولنا تأمّل في هذا القول، ولعلّنا نُناقشه في فصل حركة الأُمّة من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.

(١) عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: وهو الذي أنفذه الحسن عليه‌السلام إلى معاوية، وله رواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل فاطمة، وهو الذي حبسه ابن زياد مع المختار وميثم. (مُستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٥٠٨).

ولِد في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واجتمع أهل البصرة عند موت يزيد على تأميره عليهم، وقال الزبير بن بكّار: هو ابن أخت معاوية بن أبي سفيان، واسمها هند، اصطلح عليه أهل البصرة فأمّروه عند هروب عبيد الله بن زياد، وكتبوا إلى ابن الزبير بالبيعة له فأقرّه عليهم، خرج هارباً من البصرة إلى عمان خوفاً من الحجّاج عند فتنة عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فمات بها عام ٨٤هـ، (راجع: سير أعلام النبلاء، ١: ٢٠٠) ; وكان من سادة بني هاشم. (نفس المصدر، ٣: ٥٣١).

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤.

(٣) أنساب الأشراف، ٥: ٢١٥; عنه مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٥٧.

(٤) الحصين بن نمير: ( ملعون خبيث، من رؤساء جُند ابن زياد، وكان من أتباع معاوية ) (الغدير، ١٠: ٢٩٥)، وكان مأموراً من قِبل يزيد لقتال ابن الزبير بمكّة. (البحار، ٣٨: ١٩٣ ومُستدركات علم رجال الحديث، ٣: ٢٢١).

١٧٣

السكك، وتتبّع الأشراف الناهضين مع مسلم، فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي(١) ، وعمارة بن صلخب الأزدي(٢) فحبسهما، ثمّ قتلهما، وحُبس جماعة من

____________________

(١) عبد الأعلى بن يزيد الكلبي: فارس شجاع من الشيعة بالكوفة، بايع مسلماً وكان يأخذ البيعة له وللحسين عليه‌السلام ، فلمّا قُتل مسلم حبسه ابن زياد، وأمر بقتله فقُتل. (مُستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٣٦٦).

قال الطبري: ( ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي، الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فأُتي به فقال له: أخبرني بأمرك. فقال: أصلحك الله، خرجت لأنظر ما يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب. فقال له: فعليك وعليك من الأيمان المغلّظة إن كان أخرجك إلاَّ ما زعمت. فأبى أن يحلف! فقال عبيد الله: انطلقوا بهذا إلى جبّانة السبع فاضربوا عُنقه. قال: فانطلقوا به، فضُربت عنقه ). (تاريخ الطبري ٣: ٢٩٢).

وفي رواية أُخرى للطبري عن أبي مخنف قال: ( حدّثني أبو جناب الكلبي: أنّ كثيراً ألفى رجلاً من كلب يُقال له: عبد الأعلى بن يزيد. قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان، فأخذه حتى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره، فقال لابن زياد: إنّما أردتك. قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك! فأمر به فحُبس ). (تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧).

(٢) عمارة بن صلخب الأزدي: ذكر أهل السير أنّه كان فارساً شجاعاً، من الشيعة الذين بايعوا مسلماً، وكان يأخذ البيعة للحسين عليه‌السلام ، فلمّا تخاذل الناس عن مسلم أمر ابن زياد بقبضه وحبسه، ثمّ بعد شهادته أمر بضرب عُنقه فضرب رضوان الله عليه. (تنقيح المقال، ٢: ٣٢٣).

وقال الطبري: ( وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يُريد ابن عقيل، عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه ). (تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٢).

ثمّ إنّ عبيد الله - بعد قتل مسلم وهاني - ( أخرج عمارة بن صلخب الأزدي، وكان ممَّن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنُّصرة لينصره، فأُتيَ به أيضاً عبيد الله، فقال له: ممَّن أنت؟ قال: من الأزد. قال: انطلقوا به إلى قومه. فضُربت عُنقه فيهم ). (تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٢).

١٧٤

الوجوه استيحاشاً منهم، وفيهم الأصبغ بن نُباتة(١) ، والحارث الأعور الهمداني(٢) »(٣) .

حبس ميثم التمّار:

يُستفاد من ظاهر بعض المتون، التي تروي قصّة مقتل الشهيد الفذّ ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه ، أنّ قتله كان في أواخر شهر ذي الحجّة سنة ستِّين للهجرة، كقول الشيخ المفيد (ره): « وحجّ في السنة التي قُتل فيها »(٤) ، وتُصرّح بعض المتون أنّهرضي‌الله‌عنه قُتل قبل وصول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق: « وكان مقتل ميثم قبل

____________________

(١) الأصبغ بن نباتة: مشكور، من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين والحسنينعليهم‌السلام ، وروى عنه عهد الأشتر ووصيّته إلى ابنه محمد بن الحنفية، وهو من شَرطة الخميس، الذين ضمنوا له الذبح وضمن لهم الفتح. وعدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام من ثقاته العشرة، وهو الذي أعانه على غُسل سلمان الفارسي، وممّن حمل سرير سلمان لما أراد أن يُكلّم الموتى. وكان الأصبغ يوم صِفِّين على شَرطة الخميس وقال لعلي عليه‌السلام : قدّمني في البقية من الناس؛ فإنّك لا تفقد لي اليوم صبراً ولا نصراً. قال عليه‌السلام :( تقدّم باسم الله والبركة ) . فتقدّم وأخذ رايته وسيفه، فمضى بالراية مُرتجزاً، فرجع وقد خضّب سيفه ورمحه دماً، وكان شيخاً ناسكاً عابداً، وكان إذا لقي القوم لا يَغمد سيفه، وكان من ذخائر علي، ممّن قد بايعه على الموت، وكان من فرسان العراق، وهو الذي يقول: حفظت مئة فصل من مواعظ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحفظت من خطاباته كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة وكثرة. (مُستدركات علم رجال الحديث، ١: ٦٩٢).

(٢) الحارث الأعور الهمداني: كان من أولياء أمير المؤمنين، وعدّه عليّ عليه‌السلام من ثقاته العشرة، وعن ابن أبي الحديد: وكان أحد الفقهاء. توفِّي عام ٦٥ هـ. ق (مُستدركات علم رجال الحديث، ٢: ٢٦٠).

( وعن الطبري: كان من مُقدّمي أصحاب عليّ في الفقه والعلم بالفرائض والحساب ) (قاموس الرجال، ٣: ١٤).

وثّقهُ العامّة ومدحوه، ونقلوا الروايات عنه في الصحاح وغيرها. (الغدير، ١١: ٢٢٢).

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٥٧.

(٤) الإرشاد: ١٧٠.

١٧٥

قدوم الحسين بن عليعليهما‌السلام إلى العراق بعشرة أيّام »(١) ، بل تُصرّح أُخرى قائلة: « وشهادته قبل يوم عاشوراء بعشرين يوماً أو عشرة أيام »(٢) .

وعلى أيٍّ من هذه الأقوال؛ يكون ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه قد قُتل فيما بعد خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة، وفي أثناء أيّام الرحلة إلى العراق.

أمّا حبسهرضي‌الله‌عنه في سجن ابن زياد، فهناك إشارة تاريخية، يُمكن الاستفادة منها أنه حُبس مع المختار في وقت معاً، كما في قول الشيخ المفيد (ره): « فحبسه وحبس معه المختار... »(٣) ، أي قبل مقتل مسلمعليه‌السلام ، وعلى هذا؛ يكون حبسهرضي‌الله‌عنه في الفترة التي كان فيها الإمامعليه‌السلام بمكّة المكرّمة.

ميثم التمّار رضوان الله تعالى عليه:

يندُر أن ترى كتاباً يتناول تأريخ النهضة الحسينية وفاجعة عاشوراء، يذكر ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه في جُملة شهداء فترة تأريخ تلك النهضة المقدّسة، مع أنّهرضي‌الله‌عنه من طليعة الأبرار وخواصّ الأولياء، الذين استُشهدوا في تلك الفترة؛ لولائهم لأهل البيتعليهم‌السلام وعدائهم للحُكم الأمويّ، ولشهادته نفسها خصوصية تجعلها في العلياء من روائع تأريخ وقائع الاستشهاد في سبيل الله تعالى، وفي القمّة من نوادره.

هو ميثم بن يحيى - أو عبد الله - التمّار الأسديّ الكوفي، وهو من حواريّ أمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم، والروايات في مدحه وجلالته، وعظم شأنه وعلمه بالمغيّبات كثيرة لا تحتاج إلى البيان، ولو كان بين

____________________

(١) إعلام الورى: ١٧٤، وعنه تنقيح المقال، ٣: ٢٦٢، وانظر أيضاً: الإرشاد: ١٧١.

(٢) مُستدركات علم رجال الحديث، ٨: ٤٤.

(٣) الإرشاد: ١٧١.

١٧٦

العصمة والعدالة مرتبة وواسطة لأطلقناها عليه(١) .

كان ميثمرضي‌الله‌عنه لمنزلته الخاصة عند الله تبارك وتعالى وعند أهل البيتعليهم‌السلام قد رُزِق علم المنايا والبلايا، وقد شاعت عنه إخباراته بمُغيّبات كثيرة، ومنها أنّه أخبر حبيب بن مظاهر باستشهاده في نُصرة الحسينعليه‌السلام ، وأنّه يُجال برأسه في الكوفة، كما أخبر المختار بأنّه ينجو من سجن ابن زياد، ويخرج ثائراً مُطالباً بدم الحسينعليه‌السلام فيقتل ابن زياد ويطأ بقدميه على وجْنتَيه(٢) ، بل أخبر ابن زياد نفسه بأنّه يقتله، وبالطريقة التي يقتله بها، وأنّه أوّل مَن يُلجَم في الإسلام(٣) .

روي « أنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنينعليه‌السلام منها فأعتقه، فقال له:( ما اسمك؟ ) .

فقال: سالم.

فقال:( أخبرني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ اسمك الذي سمّاك به أبواك في العَجم ميثم ) .

قال: صدق اللّه ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله، إنّه لاسمي!

قال:( فارجع إلى اسمك الذي سمّاك به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعْ سالماً ) .

فرجع إلى ميثم واكتنى بأبي سالم.

فقال له عليّعليه‌السلام ذات يوم:( إنك تُؤخذ بعدي فتُصلب وتُطعن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً يُخضّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، فتُصلب على باب

____________________

(١) راجع: مُستدركات علم رجال الحديث، ٨: ٤٤، وانظر: تنقيح المقال، ٣: ٢٦٢، فقد قال المامقاني أيضاً: ( بل لو كانت بين العصمة والعدالة مرتبة واسطة لأطلقناها عليه ).

(٢) راجع: بحار الأنوار، ٤٥: ٣٥٣.

(٣) كما سيأتي في نفس رواية الإرشاد الآتية.

١٧٧

عمرو بن حُريث عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهّرة، وامضِ حتى أُريك النخلة التي تُصلَب على جذعها ) .

فأراه إيّاها. وكان ميثم يأتيها فيُصلّي عندها ويقول: بوركتِ من نخلة! لكِ خُلِقتُ، ولي غُذِيتِ، ولم يزل يتعاهدها حتى قُطعت، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليها(١) بالكوفة.

قال: وكان يلقى عمرو بن حُريث فيقول له: إنّي مُجاورك فأحسن جواري!

فيقول له عمرو: أُتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟

وهو لا يعلم ما يريد.

وحجّ في السنة التي قُتل فيها، فدخل على أمّ سلمة رضي اللّه عنها.

فقالت: مَن أنت؟

قال: أنا ميثم.

قالت: واللّه، لربّما سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يذكرك ويوصي بك عليّاً في جوف الليل.

فسألها عن الحسينعليه‌السلام ، فقالت: هو في حايط له.

قال: أخبريه أنّني قد أحببت السلام عليه، ونحن مُلتقون عند ربّ العالمين إن شاء اللّه تعالى(٢) .

____________________

(١) هكذا في الأصل، والصحيح (عليه).

(٢) في قول الشيخ المفيد (قدّس سرّه): ( وحجّ في السنة التي قُتِل فيها )، وفي قوله: ( فسألها عن الحسين عليه‌السلام ، فقالت: هو في حايط له.

قال: أخبريه أنّني قد أحببت السلام عليه، ونحن مُلتقون عند ربّ العالمين... ) مُدعاة للاستغراب والتأمّل! =

١٧٨

فدعت أمّ سلمة بطيب وطيّبت لحيته، وقالت له: أما إنّها ستُخضّب بدم!

فقدم الكوفة، فأخذه عبيد اللّه بن زياد لعنه الله، فأُدخل عليه

فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند عليّ!

قال: ويحكم! هذا الأعجميّ!

قيل له: نعم!

قال له عبيد اللّه: أين ربّك؟!

قال: لبالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحد الظلمة!

قال: إنّك على عُجمتك لتبلغ الذي تريد! ما أخبرك صاحبك أنّي فاعل بك؟!

قال: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهّرة.

قال: لنُخالفنّه.

____________________

= تُرى كيف يكون قد حجّ في تلك السنة، ولم يكن قد رأى أو التقى الإمام عليه‌السلام في مكّة المكرّمة طيلة المدّة الطويلة التي كان الإمام عليه‌السلام فيها بمكة؟!

الراجح أنّ مراد الشيخ المفيد (قدس سره) من قوله: ( وحجّ ) أصل زيارة بيت اللّه الحرام، وإن كانت هذه الزيارة عُمرة، ولدينا في رواية أُخرى تصريح من ابنه وهو حمزة بن ميثم ( يصف أحداث نفس هذه الزيارة ) يقول فيه: ( خرج أبي إلى العمرة... ) (بحار الأنوار، ٤٢: ١٢٩). فهذه الزيارة كانت عمرة. والراجح أيضاً، أنّ وصوله إلى المدينة المنوّرة كان قبل شهر رجب سنة ستّين أو فيه، فيما قبل وصول نبأ موت معاوية إلى المدينة، أي قبل مُطالبة السلطة الأُموية الإمام الحسين عليه‌السلام بالبيعة ليزيد؛ ذلك لأنّ الظاهر من تأريخ ما بعد ذلك إلى خروج الإمام عليه‌السلام من المدينة هو أنّ الإمام عليه‌السلام لم يخرج إلى حائط له خارج المدينة.

١٧٩

قال: كيف تخالفه؟! فوالله، ما أخبرني إلاّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟! ولقد عرفت الموضع الذي أُصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق اللّه أُلجم في الإسلام!

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة، قال له ميثم: إنّك تفلِت وتخرج ثائراً بدم الحسينعليه‌السلام فتقتل هذا الذي يقتلنا.

فلمّا دعا عبيد اللّه بالمختار ليقتله، طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله، يأمره بتخلية سبيله فخلاّ عنه(١) ، وأمر بميثم أن يُصلب، فأُخرج.

فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟!

فتبسّم وقال - وهو يومي إلى النخلة -: لها خُلِقتُ، ولي غُذِّيتْ!

فلمّا رُفع على الخشبة، اجتمع النّاس حوله على باب عمرو بن حُريث. قال عمرو: قد كان واللّه، يقول: إنّي مُجاورك! فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره، فجعل ميثم يُحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد! فقال: ألْجِموه. وكان أوّل خلق الله أُلجم في الإسلام، وكان قَتْلُ ميثم رحمة الله قبل قدوم الحسين بن عليعليه‌السلام بعشرة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحرْبة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً »(٢) .

____________________

(١) إنّ المتأمّل في دلالة هذا، يستنتج أنّ المختار كان طليقاً قبل وصول الإمام عليه‌السلام إلى العراق - لأنّ ميثم قُتل قبل وصول الإمام عليه‌السلام إلى العراق - وهذا خلاف المشهور؛ وعليه يُمكن القول: لعلّ المختار (ره) كان تحت رقابة شديدة أو إقامة جبرية منعته من الالتحاق بالإمام عليه‌السلام ، والله العالم.

(٢) الإرشاد: ١٧١.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421