مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 208960
تحميل: 8617

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208960 / تحميل: 8617
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

معاً وهو يقول:( أوه أوه، ما لي ولآل أبي سفيان؟! ما لي ولآل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر؟! صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم ) (١) .

وكان ابن عباسرضي‌الله‌عنه يقول: « ما كُنّا نشكُّ، وأهل البيت مُتوافرون، أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ! »(٢) .

إذن، لِمَ لم يلتحق ابن عباسرضي‌الله‌عنه بالركب الحسيني؛ ليفوز بشرف نُصرة سيد المظلومينعليه‌السلام وبشرف الشهادة بين يديه؟! هل اثَّاقل إلى الأرض وآثر الدنيا على الآخرة، بعد عمر شريف عامر بالجهاد ونصرة الحق؟! إنّ العارف بسيرة ابن عباسرضي‌الله‌عنه قد يرفض حتى التفكير في مثل هذا السؤال! أوليس ابن عباس هو القائل في مُحاورته الأُولى مع الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة في شعبان سنة ٦٠ للهجرة: « جُعلت فداك، يا بن بنت رسول الله، كأنَّك تُريدني إلى نفسك، وتُريد منّي أن أنصرك! والله الذي لا إله إلاّ هو، أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممَّن أُوفِّي من حقّك عُشر العُشر! وها أنا بين يديك مُرْني بأمرك »؟

إذن، هل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرة على النصرة؟!

إذا علمنا أنّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه توفِّي سنة ٦٨ للهجرة أو ٦٩ وله من العمر سبعون عاماً أو واحد وسبعون(٣) ، أدركنا أنّ عمره سنة ٦٠ للهجرة كان اثنين وستِّين

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٤٧٨، المجلس ٨٧، حديث رقم ٥.

(٢) مُستدرك الحاكم، ٣:١٧٩.

(٣) راجع: اختيار معرفة الرجال (رجال الكشِّي)، ١:٢٧٢، وأُسد الغابة، ٣:١٩٥.

٢٤١

عاماً أو ثلاثة وستّين عاماً، فهو أكبر من الإمام الحسين عليه‌السلام بحوالي خمسة أعوام، إذن؛ فقد كان قادراً على الجهاد مع الإمام عليه‌السلام من حيث السلامة البدنية، خصوصاً وأنّه لم يُروَ أنّ ابن عباس كان مريضاً آنذاك، كما روي بصدد محمّد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه مثلاً.

فما هي علّة تخلّفه إذن؟!

لعلّ المتأمّل في موضوع علّة عدم التحاق ابن عباسرضي‌الله‌عنه بالإمامعليه‌السلام في نهضته المقدّسة، يلاحظ - قبل الوصول إلى الجواب - نقطتين مُهمّتين تُساعدان على الاطمئنان أنّه كان معذوراً، وهما:

١- في جميع ما روي من لقاءات ومُحاورات ابن عباس مع الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة سنة ستّين للهجرة، لا يجد المتتبّع أنّ الإمامعليه‌السلام قد دعا ابن عباس دعوة مُباشرة إلى نُصرته، كما صنع مثلاً مع ابن عمر، وحتى حينما قال الإمامعليه‌السلام في مُحاورته الأُولى مع ابن عباس وابن عمر:( اللّهمّ اشهد ) (١) أدرك ابن عباس مغزى قول الإمامعليه‌السلام ، وبادر إلى إظهار استعداده للنُّصرة والجهاد بين يدي الإمامعليه‌السلام ، وعدا هذا لا يجد المتتبِّع أيّة إشارة من قريب أو بعيد، مؤدّاها أنّ الإمامعليه‌السلام قد دعا ابن عباس إلى نُصرته.

٢- لم نعثر - حسب تتبُّعنا - على نصّ تأريخيّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، يُفيد أنّ ابن عباس كان مُقصِّراً وملوماً ومُداناً على عدم التحاقه بالإمام الحسينعليه‌السلام ، بل لم نعثر على نصّ تأريخي عام يُشير إلى إدانته(٢) ، سوى هذا النصّ الذي نقله ابن

____________________

(١) راجع نصّ المحاوُرة الأُولى لفهم المراد في جوّ المحاورة نفسها، في صفحة ٢١٣ - ٢١٧.

(٢) بل ورد عن الصادق عليه‌السلام أنّ الإمام الباقر كان يُحبّه حُبّاً شديداً. انظر: اختيار معرفة الرجال: ٥٧، الرقم ١٠٧.

٢٤٢

شهر آشوب مُرسلاً: ( وعُنِّفَ ابن عباس على ترْكه الحسين، فقال: إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم! )(١) ، ويظهر من هذا النصّ، أنّ ابن عباس لم يكن معذوراً في تركه الإمام عليه‌السلام ، لكنّ إرسال هذا الخبر، ومجهوليّة المعنِّف، ومعلوميّة ولاء ابن عباسرضي‌الله‌عنه لأهل البيتعليهم‌السلام ، كلّ ذلك يفرض عدم الاطمئنان إلى صدر هذا الخبر، أي ( وعُنِّف ابن عباس! ).

بعد هذا، ينبغي أن نُذكّر بأنّ ابن عباس قد كُفَّ بصرُه آخر عمره، وهذا متّفقٌ عليه عند المؤرّخين، وأنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كُفَّ بصره(٢) ، وتعبير: ( كُفَّ بصره ) مُشعرٌ بأنّ الضعف كان قد دبّ إلى بصره حتى استفحل عليه فكفّه عن رؤية الأشياء، ولعلَّ هذا الضعف كان قد دبّ إلى بصره منذ أيّام معاوية ( ويحتمل أنّ بصر ابن عباس قد كُفَّ أواخر سنين معاوية )، هذا ما يُشعر به قول ابن قتيبة في المعارف، حيث يقول: « ثلاثة مكافيف في نسق: عبد الله بن عباس، وأبوه العباس بن عبد المطلّب، وأبوه عبد المطلب بن هاشم. قال: ولذلك قال

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب،٤:٥٣ / ولعلّ ابن شهر آشوب نقل هذا عن كتاب التخريج، الذي نقل عنه رواية قبل هذه الرواية.

(٢) ( إنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كُفّ بصره» (تنقيح المقال، ٢: ١٩١).

وقال الذهبي: ( إنّما أخَّر الناس عن بيعة ابن عباس - أن لو شاء الخلافة - ذهاب بصره ). (سير أعلام النبلاء، ٣: ٣٥٦). و( خطب ابن الزبير بمكّة على المنبر وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر، فقال: إنّ ها هنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره... فقال ابن عباس لقائده سعيد بن جبير: استقبل بي وجه ابن الزبير، وارفع من صدري، وكان ابن عباس قد كُفَّ بصره... ) ( انظر: قاموس الرجال، ٦:٤٧٠ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ٢٠: ١٣٠ و١٣٤، وسير أعلام النبلاء، ٣:٣٥٤، ومُنتهى المقال، ٤: ٢٠١).

٢٤٣

معاوية لابن عباس: أنتم - يا بني هاشم - تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أميّة تُصابون في بصائركم! »(١) ، فلولا أنّ بصر ابن عباسرضي‌الله‌عنه كان قد ضعف جدّاً، أو قد كُفَّ بصره آنذاك لما كان لقول معاوية مُناسبة ولا داع.

ويقول مسروق: « كنتُ إذا رأيت عبد الله بن عباس قلتُ: أجمل الناس. فإذا تكلّم قلتُ: أفصح الناس. فإذا تحدَّث قلتُ: أعلم الناس. وكان عمر بن الخطّاب يُقرّبه ويُدنيه ويُشاوره مع جلّة الصحابة، وكُفَّ بصره في آخر عمره »(٢) .

فإذا علمنا أنّ مسروقاً هذا قد مات سنة ٦٢ أو ٦٣ للهجرة(٣) ، أمكن لنا أن نقول: إنّ ابن عباس كان مكفوفاً قبل سنة ٦٢ أو ٦٣ على الأظهر، هذا على فرض أنّ عبارة ( وكُفّ بصره في آخر عمره ) من قول مسروق أيضاً.

وهناك رواية يمكن أن يُستفاد من ظاهرها، أنّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه كان ضعيف البصر جدَّاً أو مكفوفاً أوائل سنة إحدى وستِّين للهجرة، في الأيّام التي لم يكن خبر مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام قد وصل بعد إلى أهل المدينة المنوّرة.

هذه الرواية يرويها الشيخ الطوسي (ره) في أماليه، بسند إلى سعيد بن جبير ( وهو الذي كان يقود ابن عباس بعد أن كُفَّ بصره )، عن عبد الله بن عباس قال: « بينا أنا راقدٌ في منزلي، إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها! وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلت: يا أمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟! فلم تُجبْني، وأقبلتْ على النسوة الهاشميات وقالت: يا بنات عبد المطلّب، أسعدنني

____________________

(١) المعارف: ٥٨٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال،١:٢٧٢; وتنقيح المقال،٢:١٩١.

(٣) سير أعلام النبلاء،٤:٦٨.

٢٤٤

وابكين معي، فقد - واللّهِ - قُتل سيّدكُنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد - واللّه - قُتل سبط رسول اللّه وريحانته الحسين.

فقيل: يا أُمَّ المؤمنين، ومن أين علمتِ ذلك؟!

قالت: رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام الساعة شَعثاً مَذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: ( قُتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم ).

قالت: فقمتُ حتّى دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل! فنظرتُ فإذا بتُربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء - فقال:( إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنك! ) ، وأعطانيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

فقال:( اجعلي هذه التربة في زجاجة - أو قال: في قارورة -ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين ) - فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور.

قال: وأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطَّخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسينعليه‌السلام ، فجاءت الركبان بخبره، وأنّه قد قُتل في ذلك اليوم... »(١) .

فقول ابن عباسرضي‌الله‌عنه : ( فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها ) كاشف - على الأقوى - عن مكفوفيّة بصره آنذاك (أو عن ضعف شديد جدّاً في بصره)؛ لحاجته إلى قائد يقوده هو، وليس إلى قائد يقود دابّته - كما قد يُحتمل - وذلك لقُرب المسافة؛ بدليل أنّه سمع الصراخ بأُذنيه، وشخّص أنّ الصراخ كان ينبعث من بيت أمِّ سلمةرضي‌الله‌عنه .

مما مضى؛ نكاد نطمئنّ إلى أنّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه كان يُعاني من ضعف شديد

____________________

(١) أمالي الطوسى: ٣١٤ - ٣١٥، المجلس ١١، الحديث ٦٤٠/٨٧.

٢٤٥

في بصره، أو كان مكفوفاً بصره أواخر سنة ستّين للهجرة - وبالذات في الأيّام التي كان فيها الإمام الحسين عليه‌السلام في مكّة المكرّمة - الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الالتحاق بالإمام عليه‌السلام والجهاد بين يديه، فكانرضي‌الله‌عنه معذوراً. ولعلّ هذا هو السرُّ في عدم دعوة الإمام عليه‌السلام إيّاه للانضمام إليه، وترخيصه إيّاه في العودة إلى المدينة ليرصد له أخبار السلطة الأموية والناس فيها حيث يقول عليه‌السلام :( يا بن عباس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنتَ مع والدي تُشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتُشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شيءٌ من أخبارك... ) (١) .

ولا يقدح بما نطمئنّ إليه، ما أورده المسعودي في مروج الذهب، حيث يقول في ابن عباسرضي‌الله‌عنه : « وكان قد ذهب بصره لبكائه على عليٍّ والحسن والحسين...»(٢) ؛ إذ لا يُستفاد من هذا النصّ بالضرورة أنّه صار مكفوفاً بعد مقتل الحسينعليه‌السلام ، بل الظاهر من هذا النصّ، أنّ الذي سبّب ذهاب بصره هو كثرة بكائه المتواصل لفقد أمير المؤمنين عليّ(٣) والحسن والحسينعليهما‌السلام ، ومؤدّى ذلك، أنّ الضعف قد دبّ إلى بصره لكثرة بكائه منذ أيّام فقده لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثمّ لفقده الحسنعليه‌السلام (٤) ، ثمّ الحسينعليه‌السلام ، ولا يخفى أنّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه كان يبكي بكاءً

____________________

(١) الفتوح،٥:٢٧; ومقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي،١:٢٨١.

(٢) مروج الذهب،٣:١٠٨.

(٣) ورد في بعض المتون أنّ ذهاب بصره في آخر عمره، كان بسبب البكاء على أمير المؤمنين علي عليه‌السلام (انظر سفينة البحار،٦:١٢٨ عن حديقة الحكمة).

(٤) ولعلّ هذا الضعف الذي دبّ إلى بصره بسبب هذا البكاء المتواصل منذ فقده أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كان قد اشتدّ واستفحل بعد فقده الإمام الحسن عليه‌السلام ، فكان ابن عباس قريباً من العَمى أواخر عهد معاوية - فيما بعد شهادة الإمام الحسن عليه‌السلام - فلمّا التقى معاوية في تلك الأيّام، كان ضعف بصره =

٢٤٦

شديداً للحسين عليه‌السلام وهو بعدُ لم يخرج ولم يُستشهَد؛ لعلمه بما سيُصيب الإمام عليه‌السلام من شديد المحنة ولعلمه بمصيره، والدلائل التاريخية على ذلك كثيرة مُتوافرة.

رسائل ابن عباسرضي‌الله‌عنه إلى يزيد:

تروي لنا بعض كُتب التأريخ، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لما نزل مكّة، كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس رسالة(١) طلب إليه فيها أن يتوسّط في الأمر؛ ليثني الإمام الحسينعليه‌السلام عن عزمه على القيام والخروج على الحُكم الأمويّ، وعرض فيها يزيد من الإغراءات الدنيوية ما يتناسب وضعف نفسيّته هو! - أي يزيد - وتقول هذه المصادر التاريخية: « فكتب إليه ابن عباس: أمّا بعدُ: فقد ورد كتابُك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة، فأمّا ابن الزبير، فرجل مُنقطع عنّا برأيه وهواه، يُكاتمنا مع ذلك أضغاناً يُسرُّها في صدره، يورِي علينا وري الزناد، لا فكَّ اللّه أسيرها، فآرأ في أمره ما أنت رائه.

وأمّا الحسين، فإنه لما نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه، سألته عن مقدمه، فأخبرني أنّ عُمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مُستجيراً به، وسألقاه فيما أشرت إليه، ولن أدَع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويُطفئ به النائرة، ويُخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمّة، فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر له مَهواة، فكم من حافر لغيره حفْراً وقع فيه! وكم من مؤمّل أملاً لم يُؤتَ

____________________

= الشديد هذا هو الذي دفع معاوية إلى القول - ساخراً -: ( أنتم - يا بني هاشم - تُصابون في أبصاركم! ).

(١) راجع متن الرسالة كاملاً في فصل حركة السلطة الأُموية (ضمن عنوان حركة السلطة المركزية).

٢٤٧

أمله! وخُذ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السُنّة! وعليك بالصيام والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها؛ فإنّ كلَّ ما شُغلتَ به عن اللّه يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام »(١) .

وقد روى المزّي جواب ابن عباس مُختصراً هكذا: « فكتب إليه عبد الله بن عباس: إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدَعُ النصيحة له في كلّ ما يجمع الله به الألفة ويُطفئ به الثائرة »(٢) .

ويبدو من نصّ هذه الرسالة - جواب ابن عباس - على فرض صحّة الرواية، أنّ هذه الرسالة كانت بعد لقاء ابن عباس مع الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة لقاءه الأوّل، الذي عاد بعده إلى المدينة (بعد الفراغ من العمرة )، كما يُستفاد من نصّها، أنّ ابن عباس قَبِل القيام بدور الوساطة بين الإمامعليه‌السلام وبين يزيد! كما يظهر من نصّها أيضاً، أنّ ابن عباس اعتمد أسلوب الملاينة دون التقريع، حتى في نهيه عن ارتكاب الظلم واجتراح المآثم!

والعارف بعبد الله بن العباسرضي‌الله‌عنه ، وبولائه لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وبجرأته في الذَوْدِ عنهم، وبشدّته وقاطعيّته في المحاماة عنهم في مُحاوراته مع رجال بني أميّة، لا يستبعد أن يكون نصّ هذه الرسالة - جواب ابن عباس - من إنشاء الواقدي نفسه الذي يرويها(٣) ، (ونقلها عنه سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص)،

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢١٦.

(٢) تهذيب الكمال،٤:٤٩٢.

(٣) الواقدي: وهو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، وقد اتّهمه جُلُّ رجاليّي العامة بالكذب والافتراء، وأنّه متروك الرواية، وقد فصلّنا القول في هذا (راجع: الفصل الثاني: الملاحظة الرابعة من الملاحظات حول رسالة يزيد إلى عبد الله بن عباس ص ١٥٠).

٢٤٨

ذلك؛ لأنّ نَفَسَ هذا الجواب مُغايرٌ تماماً لنَفَسِ ابن عباس في مواقفه قِبال بني أميّة.

ها هو ابن عباسرضي‌الله‌عنه في بلاط معاوية يُخرس مُحاوريه: معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحَكم، وعتبة بن أبي سفيان، وزياد بن سميّة، وعبد الرحمان بن أمّ الحَكم، والمغيرة بن شعبة، بعد أن دحض ادّعاءاتهم وبَهَرهم بالحجّة الدامغة، ويقول ليزيد بن معاوية نفسه في قصر أبيه: « مهلاً يزيد! فو اللّه، ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبّة إليكم مُذْ نأت بالبغضاء عنكم، لا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمسِ من أفعالكم، وإن تَدُلْ الأيّام نستقض ما سُدَّ عنّا، ونسترجع ما ابتُزَّ منّا، كيلاً بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأُخرى فكفى بالله وليّاً لنا، ووكيلاً على المعتدين علينا »(١) .

وها هو ابن عباسرضي‌الله‌عنه يُجيب يزيد -(٢) بقارعة أُخرى من قوارعه - في رسالة كتبها إليه قائلاً: « من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعدُ، فقد بلغني كتابُك بذكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى نفسه، وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ٦:٣٠٢.

(٢) ( أخذ ابن الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أنّ عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسرّه ذلك، وكتب إلى ابن عباس: أمّا بعدُ، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته؛ لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، وطاعة للّه فيما عرّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم، فإنّي ما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناس برّك وحُسن جزائك وتعجيل صلتك بالذي أنت منّي أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر - رحمك الله - فيمن قِبَلَك من قومك، ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممّن يسحره الملحدُ بلسانه وزُخرف قوله، فأعلِمهم حُسن رأيك في طاعتي والتمسّك ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمحلّ الملحد، والسلام. فكتب إليه عبد الله بن عباس... ). (تاريخ اليعقوبي، ٢: ٢٤٧ - ٢٤٨).

٢٤٩

بيعته، فإنْ يكُ ذلك كما بلغك فلستُ حمَدك أردتُ ولا وُدَّكَ، ولكنّ الله بالذي أنوي عليم، وزعمتَ أنّك لستَ بناسٍ ودّي، فلعمري، ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلاّ القليل، وإنّك لتحبس عنّا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحثّ الناسَ عليك وأُخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ! بفيك الكُثْكُث(١) ! ولك الأثلب(٢) ! إنّك إنْ تُمنِّك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهوّر.

لا تحسبني - لا أباً لك! - نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلّب، مصابيح الدُّجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مُصرّعين في صعيد، مُرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفَّنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتُنشي بهم عُرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي - والله - وبهم عززتَ وجلستَ مجلسك الذي جلست يا يزيد.

وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر(٣) ابن العاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأمّاً، الذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلاّ العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأُولى، وفي الممات والمحيا؛ إنّ نبيّ الله قال:( الولد للفراش وللعاهر الحجَر ) . فألحقه بأبيه كما يُلحَقُ بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد! وقد أمات أبوك السُنّة جهلاً! وأحيى البِدَع والأحداث المظلّة عمداً!

وما أنسى من الأشياء، فلستُ بناس اطّرادك الحسين بن عليّ من حَرم رسول

____________________

(١) بفيك الكُثْكُث: أي بفمك التراب والحجارة. (راجع: لسان العرب، ٢: ١٧٩).

(٢) ولك الأثلب: كناية عن الخيبة، والأثلب أيضاً معناه التراب والحجارة. (راجع: لسان العرب، ١: ٢٤٢).

(٣) يعني به عبيد الله بن زياد ابن أبيه.

٢٥٠

الله إلى حَرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله، فأكْبِر من ذلك ما لم تُكبر؛ حيث دسست إليه الرجال فيها ليُقاتَل في الحرم، وما لم يُكبَر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرّضه للعائر وأراقل العالم.

وأنت! لأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لا شكّ فيه، أنّك للمحرِّف العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهٍ، فلمّا رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

ثمّ إنّك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمُعاجلته، وترك مُطاولته والإلحاح عليه، حتى يقتله ومَن معه من بني عبد المطلّب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا، فنحن أولئك، لسنا كآبائك الأجلاف الجُفاة الأكباد الحمير.

ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة وسألهم الرجعة(١) ، فاغتنمتم قلّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيت من التُّرْك والكُفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري! وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أخْذ ثأري، فإن يشأ لا يُطلّ لديك دمي ولا

____________________

(١) لعلّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه يُشير بهذا إلى - ما روي من - قول الإمام الحسين عليه‌السلام :( دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس ) (تاريخ الطبري، ٣: ٣١٢).

أو( أيّها الناس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض ) (تاريخ الطبري، ٣: ٣١٨).

٢٥١

تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قُتِل النبيّون وآل النبيّين، وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين مُنتقماً، فلا يُعجبنّك أن ظفرت بنا اليوم! فو الله، لنظفرنّ بك يوماً.

فأمّا ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقّي، فإن يكُ ذلك كذلك، فقد - والله - بايعتُ أباك(١) ، وإنّي لأعلم أنّ ابنَي عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنّكم - معاشر قريش - كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على مَن يجترئ على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولّى الأمر دوننا! فبُعداً لهم كما بعُدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مَدْين، ومُكذّبو المرسلين.

ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهرُ العجيبَ، حمْلك بنات عبد المطلّب، وغُلمة صغاراً من ولْده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمر علينا، ولعمري، لئن كنت تُصبح وتُمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي فلا يستقرّ بك الجدل، ولا يُمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلاّ قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيُخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فَعِشْ - لا أباً لك - فقد والله، أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على مَن أطاع الله »(٢) .

____________________

(١) وفي هذا إشارة إلى أنّه لم يُبايع يزيد، بل كان قد بايع معاوية بعد الصُّلح، لكنّ نصّ هذه الرسالة المرويّ بتفاوت كثير في بحار الأنوار:٤٥:٣٢٣ عن (بعض كتب المناقب القديمة) فيه: ( فقد - والله - بايعتك ومَن قبلك... )، وهذا كما هو ظاهر لا يتلائم مع نفس متن الرسالة الطافح بالتبرّي من يزيد وفعلته.

(٢) تأريخ اليعقوبي،٢:٢٤٨ - ٢٥٠; وانظر: بحار الأنوار، ٤٥: ٣٢٣.

٢٥٢

تحرُّك محمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه :

يشترك محمد بن الحنفية(١) مع عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما في

____________________

(١) هو محمّد بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، كُنيته أبو القاسم، وقد اشتهر بلقب أمّه خولة الحنفية: (ابن الحنفية)، وقيل: إنّها من سبي اليمامة (الذين سُبوا لولايتهم لعليّ عليه‌السلام بذريعة امتناعهم عن أداء الزكاة)، فأرادوا بيعها، فصارت إلى عليّ عليه‌السلام فتزوّجها. (راجع: تنقيح المقال، ٣:١١٤; والخرايج والجرائح،٢:٥٨٩; وقاموس الرجال،٩:٢٤٦; والبحار،٤٢:٨٤، رقم ١٤; وانظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ١: ٢٤٣). قيل: إنّها كانت أمَة لبني حنيفة، ولم تكن من أنفسهم (راجع: المعارف: ٢١١).

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقذفه في لهوات حروبه ولا يسمح في ذلك بالحسنينعليهما‌السلام ، وكان يقول:( هو ولدي وهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وتوفِّي محمد بن الحنفية سنة ثمانين أو إحدى وثمانين (راجع: تنقيح المقال، ٣:١١١ - ١١٢)، أو سنة أربع وثمانين (على ما في كمال الدين وتمام النعمة، ١: ٣٦). والملفت للانتباه، أنّنا لم نجد في ما أُثر عن الإمام علي عليه‌السلام - حسب تتبُّعنا - أنّه لقّب ولده محمداً بـ (ابن الحنفية)، كما أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لم يذكره بهذا اللقب إلاَّ في موضعين: الأوّل:في وصيّته إليه، وفيها: ( إلى أخيه المعروف بابن الحنفية ) (الفتوح، ٥: ٢٣ والبحار، ٤٤: ٣٢٩). والثاني:في ذكره عليه‌السلام لحادثة كان فيها محمد، حيث يقول عليه‌السلام : ( وأخي محمّد بن الحنفية ) (البحار ٦٢: ١٩٣)، كما ورد لقبه هذا على لسان سلمان الفارسي أيضاً (البحار، ٢٧: ٣٣). لكنّ هذا اللقب تركّز على لسان الأصحاب والشيعة. نعم، أكثر مَن استعمل هذا اللقب من الأئمةعليهم‌السلام في ذكر محمد بن الحنفية هو الإمام الباقر عليه‌السلام ، ثمّ الصادق عليه‌السلام .

ولعلّ السرّ في تلقيبه بهذا اللقب منذ حياة أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى صار معروفاً به في زمن الإمام الحسين عليه‌السلام ، هو معرفة أهل بيت العصمةعليهم‌السلام بأنّ أُناساً من هذه الأمّة سوف يدّعون المهدوية والغيبة لابن الحنفية، وأنّه هو المهديّ الموعود، سيّما وأنّ اسمه محمّد، وكُنيته أبو القاسم على ما سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا كان تأكيدهمعليهم‌السلام ( خصوصاً الباقر والصادقعليهما‌السلام اللذين اقترن زمانهما بتلك الدعوى ) من أجل دفع هذه الشبهة؛ لأنّ المهديّ عليه‌السلام من ولْد فاطمةعليها‌السلام - كما هو الثابت المشهور في الروايات المأثورة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيتعليهم‌السلام -، ومحمّد هذا وإن اشترك مع المهديّ عليه‌السلام بالاسم، إلاّ أنّه ليس من ولْد فاطمةعليها‌السلام .

٢٥٣

الموقف من قيام الإمام الحسين عليه‌السلام بنفس المحورين الرئيسين، اللذين هما:

١- تأييد قيام الإمامعليه‌السلام .

٢- الاعتراض على خروج الإمامعليه‌السلام إلى الكوفة، وترجيح اليمن كقاعدة لانطلاق الثورة الحسينية إلى جميع البلاد الإسلامية.

كما يشتركان أيضاً، في أنّ نظرتهما التي انبعثت منها اقتراحاتهما ومشوراتهما، كانت ترتكز على حسابات النصر الظاهري وشرائطه ولوازمه، وتتجلّى هذه الحقيقة للمتأمّل إذا نظر في مُحاورات الإمامعليه‌السلام مع كلّ منهما.

وكان محمّد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه قد قدّم رأيه بين يدي الإمامعليه‌السلام في المدينة المنوّرة قائلاً: « يا أخي، أنت أحبّ الناس إليَّ، وأعزّهم عليَّ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحد من الخَلق إلاّ لك، وأنت أحقّ بها، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رُسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لن يُنقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا تذهب بذلك مروّتك ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، وأُخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمّة كلّها نفساً وأباً وأمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً!! »(١) .

وقال له أيضاً: « انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن نبتْ بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد، حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه، فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً »(٢) .

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠١ - ٢٠٢.

(٢) المصدر السابق.

٢٥٤

وفي رواية الفتوح: « اُخْرُجْ إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الذي تُحبّ وأُحبّ، وإن تكن الأُخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، وأوسع الناس بلاداً، وأرجحهم عقولاً، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلاّ لحقت بالرمال وشعوف الجبال، وصرت من بلد إلى بلد، لتنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين »(١) .

ثمّ تحرّك محمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه من المدينة إلى مكّة للقاء الإمام الحسينعليه‌السلام قبل خروجه إلى العراق(٢) .

ويُحدّثنا التأريخ عن لقاء تمَّ بينهما في مكّة، في الليلة الأخيرة التي خرج الإمامعليه‌السلام في صبيحتها عن مكّة.

يقول السيّد ابن طاووس (ره): « رويتُ من كتاب أصل لأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل أنَّه كان لمحمّد بن داود القمّي، بالإسناد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:( سار محمّد بن الحنفية إلى الحسين عليه‌السلام في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال مَن مضى، فإن رأيت أن تُقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه.

فقال عليه‌السلام : يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون

____________________

(١) الفتوح، ٥:٢٠ - ٢١.

(٢) تقول بعض المصادر التاريخية: إنّ تحرّك محمد بن الحنفية من المدينة إلى مكّة للقاء الإمام الحسين عليه‌السلام كان على أثر الرسالة التي بعث بها الإمام عليه‌السلام إلى المدينة، والتي خفَّ إليه على أثرها جماعة من بني هاشم وتبعهم محمد بن الحنفية (راجع: البداية والنهاية،٨:١٦٧ وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، تحقيق المحمودي): ٢٠٤، رقم ٢٥٦); وإن حاول بعض المعاصرين إنكار ذلك، وأنّه لم يتمّ لابن الحنفية أيّ لقاء مع الحسين في غير المدينة.

٢٥٥

الذي يُستباح به حرمة هذا البيت .

فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك، فَسِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البّر؛ فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك أحد!

فقال عليه‌السلام : أنظرُ فيما قلتَ. ولما كان السحر ارتحل الحسين عليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعِدني النظر فيما سألتك؟!

قال عليه‌السلام : بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟!

فقال عليه‌السلام : أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين، اخْرُج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً!

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!

فقال عليه‌السلام له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا! وسلّم عليه ومضى ) (١) .

إشارة:

كنّا في آخر الفصل الأول - تحت عنوان «لماذا حمل الإمامعليه‌السلام النساء والأطفال معه؟ » - قد تناولنا بعض ملامح الحكمة في قول الإمامعليه‌السلام عن لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً! ) و( إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا! ) ،

____________________

(١) اللهوف: ١٢٧.

٢٥٦

ونودُّ أن نُشير هنا إلى:

١) - أنّ من أبعاد خشية الإمامعليه‌السلام من اغتيال السلطة الأُمويّة إيّاه في مكّة المكرّمة - إضافة إلى جميع الأبعاد التي مرَّ ذكرها فيما مضى في ثنايا هذا الكتاب - هو أنّ هناك روايات مأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تُندِّد بالمقتول القرشيّ في مكّة، الذي تُنتهك وتُستباح به حُرمة البيت الحرام، وأنّ ذنوب هذا الرجل لو وزنت بذنوب الثقلين لوزنتها، وأنّ عليه نصف عذاب العالم(١) ، ومعلوم أنّ السلطة الأُمويّة سوف تُطبّق هذه الروايات على الإمام الحسينعليه‌السلام لتستفيد منها إعلامياً في تنفير الناس من الإمامعليه‌السلام فيما لو تمكّنت من قتله في مكّة المكرّمة.

٢) - لم يُحدّد الإمامعليه‌السلام في قوله:( أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك )، نوع هذا المجيء، هل كان في يقظة أو في منام؟ وإنْ كانت النتيجة واحدة؛ لأنّ رؤية الإمامعليه‌السلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام كرؤيته في اليقظة، ومستوى التكليف الذي يوجّهه واحد - سواء في يقظة أم في منام - ولا ينحصر هذا في رؤية الإمامعليه‌السلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يشمل رؤية المؤمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً؛ إذ قد أُثر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:( مَن رآني في منامه فقد رآني، فإنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي، ولا في صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبّوة ) (٢) .

فلا يبقى مجال - إذن - للتشكيك بأنّ الثورة الحسينية وخروج الإمامعليه‌السلام ، كانا قد

____________________

(١) راجع: سير أعلام النبلاء،٣:٣٧٧; وانظر: قاموس الرجال،٦:٣٥٤.

(٢) البحار،٥٨:١٧٦; ولا يخفى أنّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد شمل حتى رؤية المؤمن أحداً من أوصيائهعليهم‌السلام ، أو أحداً من شيعتهم رضوان الله تعالى عليهم، وقد عقد العلاّمة المجلسي (ره) باباً ( في رؤية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه وسائر الأنبياء في المنام )، وفيه بيانات وتعاليق مهمّة، فراجع: البحار، ٥٨: ٢٣٤.

٢٥٧

ارتكزا على رؤيا منام لا اعتبار لها! كما تُسطِّر ذلك بعض الأقلام المأجورة والعقول الضعيفة(١) .

لماذا تخلّف محمّد بن الحنفية عن الإمام عليه‌السلام ؟!

لم نعثر - حسب تتبُّعنا - على مأثور عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، بصدد علّة تخلّف محمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه عن الالتحاق بالإمام الحسينعليه‌السلام ، سوى هذه الرواية، التي يرويها ابن فروخ صاحب « بصائر الدرجات »، بسند عن حمزة بن حمران، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، يقول حمزة: « ذكرنا خروج الحسين وتخلُّف ابن الحنفية عنه.

قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( يا حمزة، إنّي سأُحدّثك في هذا الحديث ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لما فصل مُتوجّهاً دعا بقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم:

من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعدُ، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهِد معي، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام ) (٢) .

وقد علّق العلاّمة المجلسي (ره) على هذه الرواية تعليقتين قائلاً:

في الأُولى: « قولهعليه‌السلام :(... لم يبلغ الفتح... ) ، أي لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتُّع

____________________

(١) انظر: كتاب شهيد آگاه: ١٧٤.

(٢) بصائر الدرجات،١٠:٤٨١، باب ٩، حديث٥، وقد رواها ابن قولويه (ره) في كامل الزيارات: ٧٥، باب ٢٤، حديث ١٥ بسند عن زرارة، عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال:( كتب الحسين بن علي من مكّة إلى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسين بن علي، إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبَله من بني هاشم، أمّا بعدُ، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح، والسلام ) .وقد رويت أيضاً عن كتاب الرسائل للكليني، بسند آخر عن حمزة بن حمران، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، وفيها: ( يا حمزة، إنّي سأُخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا... ) (البحار،٤٤:٣٣٠ باب ٣٧).

٢٥٨

بها، وظاهر الجواب ذمُّه، ويُحتمل أن يكون المعنى أنّهعليه‌السلام خيّرهم في ذلك، فلا إثم على مَن تخلّف! »(١) .

وفي الثانية: (... ومَن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح... ) ، أي لا يتيسّر له فتح وفلاح في الدنيا أو في الآخرة، أو الأعمّ، وهذا إمّا تعليل بأنّ ابن الحنفية إنّما لم يلحق؛ لأنّه علم أنّة يُقتل إن ذهب بإخبارهعليه‌السلام ، أو بيان لحرمانه عن تلك السعادة، أو لأنّه لا عُذر له في ذلك لأنّه أعلمه وأمثاله بذلك! »(٢) .

ونقول: إنّ نصّ هذه الرسالة الشريفة - بغضّ النظر عن حقيقة المراد بالفتح(٣) فيها - يُقرّر بلا شكّ أنّ مَن لم يلتحق بالإمامعليه‌السلام محروم من مبلغ الفتح هذا، سواء كان معذوراً أم غير معذور، فلا دليل من نفس النصّ على أنّ كلّ مَن تخلّف غيرُ معذور ويُذمُّ، كما هو المستفاد من ظاهر تعليقتَي العلاّمة المجلسيّ (ره)(٤) ، من أنّ كلّ مَن بلغته هذه الرسالة ليس بمعذور؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام أعلمه فيها بالمصير!(٥) . هذا

____________________

(١) بحار الأنوار، ٤٢:٨١، باب ١٢٠، حديث ١٢.

(٢) نفس المصدر،٤٤:٣٦٠، باب ٣٧.

(٣) لقد مضى القول بالتفصيل في معنى هذا الفتح، في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في مقالة (بين يدي الشهيد الفاتح)، كما تعرّضنا له في هذا الجزء أيضاً في الفصل الأوّل منه، عند ذكرنا لهذه الرسالة من ( رسائل الإمام عليه‌السلام ) وتعليقتنا عليها.

(٤) لا يخفى على المتأمِّل في تعليقة العلاّمة المجلسي الثانية ما فيها من قسوة - نراها غير مقصودة - بحقّ ابن الحنفية، ذلك البطل الذي كان أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يُلقيه في لهوات حروبه، فما يرهب الموت والقتل، وكان مُعتقداً بإمامة الحسنينعليهما‌السلام وإمامة السجّاد عليه‌السلام ، عارفاً بحقّهم، وقد أجمع علماء الرجال الشيعة على مدحه والثناء عليه.

(٥) يبدو أنّ التغليب هو المراد بقوله عليه‌السلام :(... مَن لحق بي استُشهد... ) ؛ إذ إنّ أفراداً هناك ممّن التحقوا به عليه‌السلام لم يُستشهدوا وسلموا من القتل كالحسن المثنّى وغيره، هذا إذا كان المراد هنا من الاستشهاد: =

٢٥٩

فضلاً عن المناقشة الموجودة في سند هذه الرواية(١) .

ولعلّ الإمام الصادقعليه‌السلام أراد أن يصرف اهتمام المتذاكرين في سبب تخلّف ابن الحنفية إلى ما هو أهمّ من أن يكون المتخلّف معذوراً أو غير معذور، وهذا الأهمّ هو أصل الحرمان من بلوغ منزلة « أنصار الحسينعليه‌السلام » الذين لم يسبقهم

____________________

= القتل في سبيل الله، والله العالم.

(١) فالرواية على فرض دلالتها على توبيخ المتخلّف، سيّما ابن الحنفيةرضي‌الله‌عنه - كما استفاد منها العلاّمة المجلسي (ره) والوحيد البهبهاني (ره) - فهي مورد نقاش في السند؛ لأنّ في سندها مروان بن إسماعيل وهو مهمل؛ إذ لم يرد له ذكر في الكتب الرجالية أصلاً، وفيه أيضاً حمزة بن حمران الشيباني، الذي لم يرد فيه توثيق إلاّ أنّه من مشايخ ابن أبي عمير وصفوان من أصحاب الإجماع، وقيل: إنّ هذا مشعرٌ بوثاقته (كما عن تنقيح المقال، ١: ٣٧٤)، لكنّ هذا المبنى مورد للنقاش والردّ (كما عن مُعجم رجال الحديث، ٦: ٢٦٦)، والتجأ البعض إلى طُرق أُخرى لتوثيقه، وهي أيضاً مخدوشة (انظر: قاموس الرجال، ٤: ٢٨)، كما أنّ السيد محمد بن أبي طالب صاحب كتاب (تسلية المجالس) نقلها عن كتاب الرسائل للكليني، ولا يُعلم طريقه إليه.

ومن الجدير بالذكر، أنّ المامقاني يتبنّى رأي الوحيد البهبهاني، في أنّ نفس الذمّ الذي قد يُستفاد من هذه الرواية بحق ابن الحنفية، قد يكون مقصوداً لمصلحة ما كان الإمام عليه‌السلام ناظراً إليها، يقول المامقاني: ( وأمّا تخلّفه عن الحسين عليه‌السلام فلعلّه كان لعذر أو مصلحة، والرواية الواردة في ذمّة (ولعلّه يقصد نفس هذه الرواية) إن كانت صحيحة، فلعلّه أيضاً كانت لمصلحة، كما نبّه على ذلك المولى الوحيد(قدّس سرّه ) ) (تنقيح المقال، ٣: ١١٥).

ويرى المامقاني أيضاً، بعد عرضه لجواب العلاّمة الحلّي عن سؤال السيد مهنّا، أنّ مرض ابن الحنفية - إن صحّ - فهو عند رجوع أهل البيت إلى المدينة لا عند ذهاب الحسين عليه‌السلام ، ويُعلّق تعليقة طويلة (هي مورد تأمُّل ونقاش تحقيقي مُفصّل! )، ومن الجدير بالذكر أنّه (ره) ضمن تعليقته هذه يرى صحّة هذه الرواية (راجع: تنقيح المقال، ٣: ١١٢).

٢٦٠