مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 208974
تحميل: 8617

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208974 / تحميل: 8617
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

الإمام عليه‌السلام وعلى الآخرين من وجهاء الأمّة وأعلامها، غير أنّ أمره كان أظهر من أن يخفى على ذي فطنة كابن عباس مثلاً، فما بالك بالإمام عليه‌السلام ؟!

يروي الطبري، أنّ ابن الزبير أتى الإمام الحسينعليه‌السلام - بعد خروج ابن عباسرضي‌الله‌عنه من عند الإمامعليه‌السلام ! - فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم؟! خبّرني ما تُريد أن تصنع؟

فقال الحسينعليه‌السلام :( واللّه، لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليَّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله ) .

فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلتُ بها!

ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثمّ أردتَ هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إن شاء الله!

ثمّ قام فخرج من عنده.

فقال الحسينعليه‌السلام :( ها إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لم يعدلوه بي؛ فودَّ أنّي خرجت منها لتخلو له ) (١) .

ويروي ابن عساكر عن معمر، عن رجل أنّه سمع الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام يقول لابن الزبير: ( أتتني بيعة أربعين ألفاً يحلفون لي بالطلاق والعتاق

____________________

(١) تأريخ الطبري،٣:٢٩٥، وانظر: الكامل في التأريخ،٢:٥٤٦، والبداية والنهاية،٨:١٧٢، وشرح الأخبار،٣:١٤٥.

وقال المزي في تهذيب الكمال،٤:٤٨٩: ( وكان ابن الزبير يغدو ويروح إلى الحسين ويُشير عليه أن يقدم العراق، ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك! ).

٢٨١

من أهل الكوفة - أو قال من أهل العراق - ).

فقال له عبد الله بن الزبير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟! »(١) .

ويروي الطبري أيضاً، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعّل الأسديين أنّهما رأيا - يوم التروية! - فيما بين الحجر وباب الكعبة كُلاًّ من الإمام الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى، وسمعا ابن الزبير يقول للإمامعليه‌السلام :

« إنْ شئت أن تُقيم أقمتَ فَوُلِّيتَ هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك!

فقال له الحسينعليه‌السلام :( إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حُرمتها! فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش! ) .

فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولا تُعصى!

فقالعليه‌السلام :( وما أريد هذا أيضاً! ) (٢) .

أمّا الدينوري فيروي قائلاً: « وبلغ عبد الله بن الزبير ما يَهمُّ به الحسين، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له: لو أقمت بهذا الحرم، وبثثت رُسُلك في البلدان، وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيتُ عمّال يزيد عن هذا

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر ( ترجمة الإمام الحسين / تحقيق المحمودي ): ١٩٤، رقم ٢٤٩.

(٢) تأريخ الطبري،٣:٢٩٥. والملفت للانتباه في هذه الرواية أيضاً، أنّ هذين الراويين الأسديين في ختام هذه الرواية قالا: ( ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما دوننا، فمازالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين مُتوجّهين إلى منى عند الظهر، فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ من مشعره، وحلّ من عمرته، ثمّ توجّه نحو الكوفة، وتوجّهنا نحو الناس إلى منى! ).وهذا خلاف المشهور في أنّ الإمام عليه‌السلام خرج من مكّة أوائل الصبح يوم التروية، وخلاف قول الإمام الحسين نفسه عليه‌السلام : (... فإنّي راحل مصبحاً... ) فتأمّل!

٢٨٢

البلد، وعليَّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملتَ بمشورتي طلبتَ هذا الأمر بالحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يُعدمك بإذن الله إدراك ما تُريد، ورجوتُ أن تناله! »(١) .

وفي رواية أُخرى، عن أبي مخنف، عن أبي سعيد عقيصا(٢) ، عن بعض أصحابه، قال سمعت الحسين بن عليّ وهو بمكّة وهو واقف مع عبد الله بن الزبير فقال له ابن الزبير: « إليَّ يا بن فاطمة!

فأصغى إليه، فسارّه، ثمّ التفت إلينا الحسينعليه‌السلام

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٤٤.

(٢) وهو دينار، وكُنيته أبو سعيد، ولقّب بعقيصا لشعر قاله، وعدّه جماعة من علماء الرجال الشيعة في أصحاب عليّ عليه‌السلام وأصحاب الحسين عليه‌السلام (راجع: مُعجم رجال الحديث،٧:١٤٧ رقم ٤٤٦١، وتنقيح المقال،١:٤١٩، ومُستدركات علم الرجال، ٣: ٣٧٥) وقد روى الصدوق (ره) بإسناده عنه، عن الحسين عليه‌السلام رواية شريفة عظيمة في الفضائل (راجع: البحار، ٣٩: ٢٣٩)، وروى عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ردَّه على مَن لامه على صُلحه مع معاوية، ردّاً حوى بيانات مُهمّة في الإمامة وفي القائم عليه‌السلام (راجع: كمال الدين:١:٣١٥، باب ٢٩، رقم ٢)، وفي ذلك دلالات على حسن أبي سعيد عقيصا وكماله. قال المامقاني في ثنايا ترجمته لعقيصا: (... وظاهره كونه إمامياً... لكن لم يرد فيه مدحٌ يُدرجه في الحسان، فهو إماميٌّ مجهول الحال ) (تنقيح المقال، ١: ٤١٩).وقد عنونه الخطيب البغدادي بلفظ عقيصا، وروى عنه خبر العين في طريق صِفِّين، وأنّ الراهب قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ( لا يستخرجها إلاّ نبيٌّ أو وصيّ )، ونقل البغدادي عن يحيى بن معين أنّه ذكر رشيد الهجري، وحبّة العرني، والأصبغ بن نباتة بسوء المذهب!! وقال: عقيصا شرٌّ منهم!! (تاريخ بغداد: ١٢: ٣٠٥).

قال التُّستري - تعليقاً على كلام ابن معين -: ( ذنبهم عند يحيى تشيُّعهم ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (قاموس الرجال، ٤: ٢٩٨).

أقول: غاية ما وصل إلينا عنه أنّه شيعيٌّ، وأمّا عدالته، وسرّ عدم التحاقه بالإمام الحسين عليه‌السلام فالتأريخ ساكت عنه، ولم يُعرف عنه شيء!

٢٨٣

فقال:( أتدرون ما يقول ابن الزبير؟! ) .

فقلنا: لا ندري، جُعلنا فداك!

فقال:( قال: أَقِمْ في هذا المسجد أجمعُ لك الناس! ) .

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام :( والله، لئن أُقتل خارجاً منها بشِبر أحبُّ إليَّ من أن أُقتل داخلاً منها بشِبر! وأيمُ الله، لو كنت في جُحر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم! والله، ليعتدُنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت! ) (١) .

أمّا ابن قولويه (ره) فيروي «بسند» عن سعيد عقيصا قال:

سمعت الحسين بن عليّعليهما‌السلام وخلا به عبد الله بن الزبير فناجاه طويلاً، ثمَّ أقبل الحسينعليه‌السلام بوجهه إليهم وقال:( إنّ هذا يقول لي: كن حَماماً من حَمام الحرم، ولإن أُقتل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبّ إليَّ من أن أُقتل وبيني وبينه شبر، ولإن أُقتل بالطفّ أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بالحرم ) (٢) .

ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

( قال عبد الله بن الزبير للحسين عليه‌السلام : ولو جئت إلى مكّة فكنتَ بالحرم! (٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري،٣:٢٩٥، والكامل في التاريخ،٢:٥٤٦.

(٢) كامل الزيارات: ٧٢ وعنه البحار،٤٥:٨٥، رقم ١٦.

(٣) قد يُستفاد من قول ابن الزبير: ( ولو جئت إلى مكّة )، أنّ هذه المحاورة ليست من وقائع مكّة، غير أنّ من المحتمل أيضاً، أن يكون ابن الزبير قد شيّع الإمام عليه‌السلام إلى أطراف مكّة، ثمّ قال له هذا القول فيكون معناه (لو عُدتَ إلى مكّة)، وهذا ما تُشعر به الرواية التي بعد هذه.

٢٨٤

فقال الحسين عليه‌السلام : لا نَستحلُّها، ولاتُستحلُّ بنا، ولإن أُقتل على تلّ أعفر (١) أحبّ إليَّ من أن أُقتل بها ) (٢) .

ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً، عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام :( أنّ ابن الزبير شيّع الإمام الحسين عليه‌السلام :

فقال: يا أبا عبد الله، قد حضر الحجُّ وتدَعه وتأتي العراق؟! فقال: يا بن الزبير، لإن أُدفن بشاطئ الفرات أحبُّ إليَّ من أن أُدفن بفناء الكعبة! ) (٣) .

وروى السيّد ابن طاووس (ره) أنّ عبد الله بن العبّاسرضي‌الله‌عنه وعبد الله بن الزبير جاءا إلى الإمامعليه‌السلام فأشارا عليه بالإمساك، فقال لهما:( إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه! ) (٤) .

ويبدو أنّ ابن الزبير - من جملة مُحاوراته مع الإمامعليه‌السلام ، ومن مجموع الإخبارات المتناقلة آنذاك عن مصرع الإمامعليه‌السلام - كان يعلم أنّ الإمامعليه‌السلام سوف يُقتل في سفره هذا إلى العراق لا محالة، وأنّ ذلك آخر العهد بهعليه‌السلام ، فحرص في اللحظات الأخيرة على الاستفادة من علم الإمامعليه‌السلام ، فسأله قائلاً: « يا بن رسول الله، لعلّنا لا نلتقي بعد اليوم، فأخبرني متى يرث المولود ويورَث؟ وعن جوائز السلطان، هل تحلّ أم لا؟ ».

فأجابهعليه‌السلام :( أمّا المولود، فإذا استهلّ صارخاً.. وأمّا جوائز السلطان فحلال ما لم يغصب الأموال ) (٥) .

____________________

(١) تلّ أعفر: موضع من بلاد ربيعة (راجع: البحار: ٤٥: ٨٦).

(٢) كامل الزيارات: ٧٣ وعنه البحار:٤٥:٨٥ - ٨٦، رقم ١٧.

(٣) كامل الزيارات: ٧٣ وعنه البحار:٤٥:٨٦، رقم ١٨.

(٤) اللهوف: ١٠١.

(٥) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام ٣:٥٢ عن مرآة الزمان في تواريخ الأعيان.

٢٨٥

تأمُّل ومُلاحظات:

١) - في مُحاوراته مع الإمامعليه‌السلام كان ابن الزبير يُناقض نفسه في نصائحه ومشوراته، فمرّة يستظهر خلاف ما يستبطن، فيُشير على الإمامعليه‌السلام بالبقاء في مكّة! وأُخرى يغفل عن تصنّعه، فتظهر أُمنية قلبه في فلتات لسانه فيحثّ الإمامعليه‌السلام على الخروج إلى العراق!

وقد يُعارض نفسه في المحاورة الواحدة، فيُشير في أوّلها بالخروج، ثمّ يستدرك فيُشير بالبقاء؛ خوفاً من أن يُتّهم بما يُكنُّ في نفسه! وقد ينسى نفسه وما حوله، فيطلب من الإمامعليه‌السلام أن يوليّه الأمر!!

٢) - ويُلاحظ على ابن الزبير أيضاً أنّ « حُبّ الرئاسة » قد طغى على قلبه، وهيمن على تفكيره، إلى درجة أنساه عندها حتى الفرق الهائل بين قعر الوهدة وذروة القمّة، حين تعامى عن الفرق الكبير بينه وبين الإمامعليه‌السلام ! فعدَّ نفسه - كما الإمامعليه‌السلام ! - من ولاة الأمر وأصحاب الحقّ بالخلافة؛ حيث يقول: « ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم! »، بل يغلب حبُّ الرئاسة على عقله إلى درجة يفقد عندها توازنه، فيعمى عن حقائق الأشياء وموازينها - فيما يمكن وما لا يمكن - فلا يرى مانعاً من أن يكون هو الخليفة، حتّى مع وجود الإمامعليه‌السلام حيث يُخاطبه قائلاً: « فأَقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر..!! ».

٣) - ويُلاحظ المتأمّل في جميع هذه المحاورات، الأدب الجمَّ والخُلق السامي، الذي تعامل به الإمامعليه‌السلام مع عبد الله بن الزبير، مع معرفته التامّة بما انطوى عليه ابن الزبير، من بُغض لأهل البيتعليهم‌السلام ، فكان صلوات الله عليه يُسارّه كما يُسارّ الودود المخلص في وداده، ويُحاوره كما يُحاور الناصح الصادق في نُصحه، ومع كلّ هذا الخُلق العظيم، فقد حرص الإمامعليه‌السلام في مُحاوراته مع ابن الزبير على أمرين هما:

٢٨٦

الأوّل: التأكيد على حُرمة استحلال البيت وانتهاك حُرمته؛( إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها! فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش! ) . و( والله، لئن أُقتل خارجاً منها بشبر، أحبّ إليَّ من أن أُقتل داخلاً منها بشبر! ) . و( لأَن أُقتل وبيني وبين الحرم باعٌ، أحبُّ إليَّ من أن أُقتل وبيني وبينه شبر! ) . و( لا نستحلُّها ولا تُستحلُّ بنا، ولأن أُقتل على تلّ أعفر أحبّ إليَّ من أن أُقتل بها! ). ولا يخفى على المتأمّل، أنّ الإمامعليه‌السلام أراد من خلال هذا التأكيد أيضاً، نهي ابن الزبير ألاّ يكون هو أيضاً ذلك الكبش القتيل إقامة للحجّة عليه، مع علمهعليه‌السلام بأنّ ابن الزبير هو ذلك المستحِلُّ لحرمة البيت الحرام!

الثاني: تأكيد الإمامعليه‌السلام على نفي أيّ ارتباط بينه وبين ابن الزبير، ويظهر حرص الإمامعليه‌السلام على ذلك كلّما أحسّ أنّ هناك مَن يراهما أثناء التحاور ويُنصت لهما، حيث يكشف الإمامعليه‌السلام لأولئك المراقبين عن ما يُسرّه إليه ابن الزبير، كمثل قولهعليه‌السلام :( إنّ هذا يقول لي: كن حَماماً من حمام الحرم... ) . وقولهعليه‌السلام كاشفاً عن أمنية ابن الزبير:( ها إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج إلى العراق... ) .

٤) - ويُلاحظ أيضاً أنّ الإمامعليه‌السلام أكّد لابن الزبير ولسامعيه الآخرين، أنّه لا محالة مقتول، حيث قالعليه‌السلام :( وأيمُ الله، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم! والله، ليعتدُنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت! ) ، كما أشارعليه‌السلام تلميحاً إلى مكان مصرعه في قوله:( ولأن أُقتل بالطفّ، أحبّ إليّ من أن أُقتل بالحرم! ) ، و( يا بن الزبير، لأَن أُدفن بشاطئ الفرات، أحبّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة! ) ، ولعلّ الإمامعليه‌السلام أراد بذلك إلقاء الحجّة على ابن الزبير وعلى مَن كان يسمع تحاورهما بوجوب الخروج معه

٢٨٧

لنُصرته والجهاد بين يديه.

٥) - ممّا لا يخفى - على مَن له أدنى اطّلاع على تأريخ النهضة الحسينية - أنّ مشورات ونصائح ابن الزبير المتعارضة - وإن استمع إليها الإمامعليه‌السلام بأدبه السامي العظيم - لم يكن لها أيّ تأثير على الإمامعليه‌السلام ، الذي كان عارفاً بحقيقة ما يستبطنه ابن الزبير من عداوة وبغضاء لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكذب ما يستظهره من نُصح ومودّة لهم؛ ولذلك فلم يكن لرأي ابن الزبير أيّ أثر على حركة أحداث النهضة الحسينية، لا من قريب ولا من بعيد.

من هنا؛ حقَّ للمتأمّل أن يُعجب كثيراً من سخيف ما ذهب إليه ابن أبي الحديد، من أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام خرج إلى العراق؛ عملاً بنصيحة ابن الزبير له بذلك، فغشّه!

يقول ابن أبي الحديد: « واستشار الحسينعليه‌السلام ، عبد الله بن الزبير وهما بمكّة في الخروج عنها، وقصد العراق ظانّاً أنّه ينصحه، فغشّه، وقال له: لا تُقمْ بمكّة، فليس بها مَن يُبايعك، ولكن دونك العراق، فإنّهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحداً، فخرج إلى العراق حتى كان من أمره ما كان! »(١) .

وأسخف من قول ابن أبي الحديد، قول محمّد الغزالي، في الدفاع عن ابن الزبير، واستبعاده أن يكون ابن الزبير قد أشار على الإمامعليه‌السلام بالخروج إلى العراق ليستريح منه، قائلاً: « فعبد الله بن الزبير أتقى للّه وأعرق في الإسلام من أن يقترف مثل هذه الدنيّة! »(٢) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:١٦:١٠٢.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام : ٢:٣١١.

٢٨٨

عبد الله بن عمر.. والمشورة المريبة!

تميّز عبد الله بن عمر(١) عن جميع وجهاء الأمّة وأعلامها من الرجال الذين

____________________

(١) عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ القرشيّ: وأمّه زينب بنت مظعون الجمحيّة، وقيل: إنّه ولِد سنة ثلاث من المبعث النبوي، ومات وله سبع وثمانون سنة، (راجع: الإصابة في معرفة الصحابة: ٢: ٣٣٨ رقم ٤٨٣٤)، وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أنّه قال فيه:(... لقد كان صغيراً وهو سيّئ الخلُق، وهو في كبره أسوأ خُلقاً! ) (راجع: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد:٤:٩ و ١٠)، وكان شبقاً في شهوته الجنسية، فكان له وطئ على كلّ إفطار، وكان يفخر بذلك (راجع: سير أعلام النبلاء: ٣: ٢٢٣)، وكان أبوه يعرف هذا التهالك على الجنس فيه، حتى قال له - حين أستأذنه في الجهاد -: أي بُنيّ، إنّي أخاف عليك الزنا! (راجع: الغدير:١٠:٣٧ عن سيرة عمر بن الخطّاب لابن الجوزي: ١١٥ أو ١٣٨)، وكان يأكل الدجاج والفراخ والخبيص، ويلبس المطرف الخزّ ثمنه خمسمئة درهم (راجع: سير أعلام النبلاء: ٣: ٢٣٩ و ٢١٢).

وكان ابن عمر يُكثر الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويُكثر في الفُتيا، ويُخطئ في كليهما أخطاءً فاحشة، تكشف عن بلادة ذهنه وقلّة عقله وفقهه، وقد كشفت عائشة عن كثير من اشتباهاته في الرواية والفُتيا (راجع: الغدير: ١٠: ٣٧ - ٥٨ / أخبار ابن عمر ونوادره)، ومن طريف ما يُروى في هذا، ما أخرجه الطبراني من طريق موسى بن طلحة، قال: بلغ عائشة أنّ ابن عمر يقول: إنّ موت الفجأة سخط على المؤمنين!فقالت: يغفر الله لابن عمر! إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( موت الفجأة تخفيف على المؤمنين وسخط على الكافرين ) . (الغدير:١٠:٤٢ عن الإجابة للزركشي: ١١٩). وروى ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ الميّت يُعذَّب ببكاء أهله عليه! ). فقضت عائشة عليه بأنّه لم يأخذ الحديث على وجهه: مرَّ رسول الله على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنهم يبكون عليها، وإنّها تُعذَّب في قبرها ) . وظنّ ابن عمر العذاب معلولاً للبكاء!

وظنّ الحُكم عامّاً على كلّ ميّت! (راجع: الغدير:١٠: ٤٣ عن كتاب الإنصاف لشاه صاحب ).

ويكفي ابن عمر جهلاً، أنّه ما كان يُحسن طلاق زوجته، وقد عجر واستحمق (كما في صحيح مسلم ٣: ٢٧٣ ح٧ كتاب الطلاق)، ولم يكُ يعلم أنّه لا يقع إلاّ في طهر لم يواقعها فيه! وفي لفظ مسلم=

٢٨٩

____________________

= أنّه طلّق امرأته ثلاثاً وهي حائض (مسلم: ٣: ٢٧٣)؛ ولذلك لم يره أبوه أهلاً للخلافة بعدما كبر وبلغ مُنتهى الكهولة! إذ قال عمر - ردّاً على رجل اقترح عليه أن يستخلف عبد الله بن عمر -: قاتلك الله! واللّه، ما أردت اللّه بها! أستخلفُ مَن لم يُحسن أن يطلّق امرأته؟! (راجع: تأريخ الطبرى ٤: ٢٢٨ والكامل لابن الأثير: ٢: ٢١٩)، وكان ابن عمر يقول: لا أُقاتل في الفتنة وأُصلّي وراء مَن غلب! (راجع: الطبقات الكبرى: ٤: ١٤٩)،

فهو يرى شرعيّة الغالب بالقوّة، وإن كان فاسقاً فاجراً عدوّاً لله ولرسوله، كيزيد والحجّاج وأمثالهما! من المؤسف، أنّ الفقه السنّي - الذي يعتبر ابن عمر فقيه الأمّة! - قد تبنّى هذه النظرة الخاطئة، وكان ولا يزال مُتأثّراً بها إلى يومنا هذا.

وقال ابن حجر في (فتح الباري: ١٣: ٤٧): ( كان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة، ولو ظهر أنّ إحدى الطائفتين مُحقّة والأُخرى مُبطلة! )، وهذا مُخالف لصريح القرآن في وجوب قتال الفئة التي تبغي! وقال ابن كثير في (تأريخه: ٩:٨ / حوادث سنة ٧٤): ( كان - أي ابن عمر - في مدّة الفتنة لا يأتي أميراً إلاّ صلّى خلفه! وأدّى إليه زكاة ماله! ).فهو مع الأمير دائماً وإن كان ظالماً فاجراً!

لكنّ ابن عمر لم يلتزم بما ادّعى الالتزام به من تلك المتبنيّات في موقفه من الأمير الحقّ عليّ عليه‌السلام ؛ إذ لم يرَ شرعيّته حتى بعد انتصاره في موقعة الجمل! ولم يُبايعه وقعد عنه! ولما ( دخل عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، والمغيرة بن شعبة مع أُناس معهم، وكانوا قد تخلّفوا عن عليّ، فدخلوا عليه فسألوه أن يُعطيهم عطاءهم - وقد كانوا تخلّفوا عن عليّ حين خرج إلى صِفيّن والجَمل - فقال لهم عليّ: ( ما خلّفكم عنّي؟! ) . قالوا: قُتل عثمان، ولا ندري أحَلّ دمه أم لا؟ وقد كان أحدث أحداثاً ثمّ استتبتموه فتاب، ثمّ دخلتم في قتله حين قُتل، فلسنا ندري أصبتم أم أخطأتم؟ مع أنّا عارفون بفضلك يا أمير المؤمنين وسابقتك وهجرتك!فقال عليّ: ( ألستم تعلمون أنّ اللّه عزّ وجلّ قد أمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، فقال: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ... ) ؟! ) . قال سعد: يا عليّ، اعطني سيفاً يعرف الكافر من المؤمن! أخاف أن أقتل مؤمناً فأدخل النار! فقال لهم عليّ:( ألستم تعلمون أنَّ عثمان كان إماماً بايعتموه على السمع والطاعة؟! فعلامَ خذلتموه إن كان محسناً؟! وكيف لم تُقاتلوه إذ كان مسيئاً؟! فإن كان عثمان أصاب بما صنع فقد ظلمتم إذ لم تنصروا إمامكم، وإن كان مُسيئاً فقد =

٢٩٠

=ظلمتم إذ لم تُعينوا مَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقد ظلمتم إذ لم تقوموا بيننا وبين عدّونا بما أمركم الله به، فإنّه قال: ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ... ) ) . فردّهم ولم يُعطهم شيئاً ) ( وقعة صِفِّين: ٥٥١).

ومن المضحك قول ابن عبد البرّ في ابن عمر: ( وكان رضي الله عنه لورعه قد أُشكلت عليه حروب عليّ رضي الله عنه وقعد عنه! ) (الاستيعاب ٣: ٨١). فإنّ ابن عمر الورع التقيّ هذا كان قد رفض أن يُعطي أمير المؤمنين عليّاً عليه‌السلام حتى كفيلاً على شرطهِ ومدّعاه؛ إذ لما ( أمر أمير المؤمنين بإحضار عبد الله بن عمر فقال له:( بايع ) . قال: لا أُبايع حتى يُبايع جميع الناس!!

فقال له عليه‌السلام :( فأعطني حميلاً حتى تبرح! ) . قال: ولا أُعطيك حميلاً! فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، أَمِنَ هذا سوطك وسيفك فدعني أضرب عنقه!فقال: ( لست أُريد ذلك منه على كُره، خلّوا سبيله ) . فلمّا انصرف قال أمير المؤمنين: ( لقد كان صغيراً وهو سيّئ الخلُق، وهو في كِبَره أسوأ خُلقاً! ) (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ٤: ٩)، ويتمادى ابن عمر في تمرّده وتطاوله، حين يأمَن سطوة أهل الحق؛ إذ ( لما بايع الناس عليّاً، وتخلّف عبد الله بن عمر، وكلّمه في البيعة، أتاه في اليوم الثاني فقال: إنّي لك ناصح! إنّ بيعتك لم يرضَ بها كلُّهم، فلو نظرت لدينك ورددت الأمر شورى بين المسلمين!فقال عليّ: ( ويحك! وهل كان عن طلب منّي؟! ألم يبلغك صنيعهم؟! قمْ عنّي يا أحمق! ما أنت وهذا الكلام؟! ) (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:٤:١٠). ويُروى أنّ ابن عمر أظهر في أواخر عمره ندمه، على عدم نُصرته لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في حروبه!! فكان يقول: ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا، إلاّ أنّي لم أُقاتل مع عليٍّ الفئة الباغية!! وفي لفظ آخر: ما آسى على شيء، إلاّ ترْكي قتال الفئة الباغية مع عليّ رضي الله عنه!! (راجع: الطبقات الكبرى: ٤: ١٨٧، والاستيعاب: ٣: ٨٣، وأُسد الغابة: ٣: ٣٤٢، والرياض النضرة: ٣: ٢٠١).

ولو صحّ هذا الندم، فلابدّ أنّ حصوله كان لما حضرت ابن عمر الوفاة حيث يندم المجرمون ولاتَ ساعة مندم؛ ذلك لأنّه كان يُصلّي أواخر عمره خلْف الحجّاج في مكّة، وخطباء الحجّاج لعنه الله ولعنهم كانوا يسبّون عليّاً عليه‌السلام ويلعنونه! بل كان ابن عمر يُصلّي أيضاً خلف نجدة بن عامر الخارجيّ! (راجع: الطبقات الكبرى: ٤: ١٤٩، والمحلّى: ٤: ٢١٣). =

٢٩١

التقوا مع الإمام الحسين عليه‌السلام في مكّة المكرّمة، وعرضوا عليه نصائحهم ومشوراتهم بموقفه الرافض لأصل القيام والنهضة! وبدعوته الإمام عليه‌السلام إلى الدخول في ما دخل فيه الناس! وإلى مُبايعة يزيد! والصبر عليه كما صبر لمعاوية من قبل!

وكان هذا النهي عن القيام والخروج، والدعوة إلى مُبايعة يزيد، والدخول في ما دخل فيه الناس، خطّاً ثابتاً لابن عمر في لقاءاته الثلاثة(١) مع الإمام الحسينعليه‌السلام منذ ابتداء قيامه المبارك.

ولم يُسجّل لنا التأريخ - في الأيّام المكّيّة من عُمر النهضة الحسينية - شيئاً عن موقف ابن عمر من قيام الإمامعليه‌السلام ، سوى آرائه ومشوراته، التي أبداها في المحاورة الثُّلاثية بينه وبين الإمامعليه‌السلام وبين ابن عباسرضي‌الله‌عنه .

وقد نقلنا هذه المحاورة في حديثنا، عن تحرّك ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه مُركِّزين

____________________

= وقد أذلّ الله ابن عمر وأذاقه وبال أمره - بامتناعه عن مُبايعة عليّ عليه‌السلام - إذ لما أراد أن يُبايع لطاغية زمانه على يد ممثّله الحجّاج، مدَّ إليه هذا المتجبّر رجْله بدلاً من يده؛ احتقاراً له، ثمّ سلّطه الله عليه فقتله وصلّى عليه! (راجع: الاستيعاب: ٣: ٨٢، وأُسد الغابة: ٣: ٢٣٠، وانساب الأشراف ١٠: ٤٤٧ و ٤٥٢).

(١) روى التاريخ ثلاثة لقاءات لعبد الله بن عمر مع الإمام عليه‌السلام ، منذ رفض الإمام عليه‌السلام البيعة ليزيد، اللقاء الأوّل في الأبواء بين المدينة ومكّة، بين ابن عمر وابن عبّاس (أو ابن عيّاش) من جهة وبين ابن الزبير والإمام عليه‌السلام من جهة (راجع: تأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام / تحقيق المحمودي: ٢٠٠ رقم ٢٥٤).

وقد مرَّ في الجزء الأول من هذه الدراسة، أنّ هذا اللقاء لم يقع؛ لأنّ الإمام عليه‌السلام وابن الزبير لم يجتمعا في الطريق بين المدينة ومكّة. أمّا اللقاء الثاني فهو في مكّة، وأمّا الثالث فهو بعد خروجه من مكّة، كما في (تاريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام / تحقيق المحمودي: ١٩٢ - ١٩٣ رقم ٢٤٦).

٢٩٢

على نصوص التحاور بين الإمام عليه‌السلام وبين ابن عباسرضي‌الله‌عنه ، وننقلها هنا مُركِّزين على نصوص التحاور بين الإمام عليه‌السلام وبين عبد الله بن عمر...

تقول الرواية التاريخية: « وأقام الحسينعليه‌السلام بمكّة باقي شهر شعبان ورمضان، وشوّال وذي القعدة، وبمكّة يومئذ عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، فأقبلا جميعاً حتى دخلا على الحسينعليه‌السلام وقد عزما على أن ينصرفا إلى المدينة...

فقال له ابن عمر: أبا عبد الله، رحمك الله اتّق الله الذي إليه معادك! فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إيّاكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية! ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء، فيقتلونك ويهلك فيك بشرٌ كثير؛ فإنّي قد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول:( حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة )، وأنا أُشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين!

فقال له الحسينعليه‌السلام :

( أبا عبد الرحمن! أنا أُبايع يزيد وأدخل في صُلحه وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أبيه ما قال؟! ).

وهنا يتدخّل ابن عبّاس في الحوار؛ ليُصدّق قول الإمامعليه‌السلام ، ويروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:( ما لي وليزيد! لا بارك الله في يزيد! وإنّه ليقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه‌السلام ، والذي نفسي بيده، لا يُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه؛ إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم ).

ثمّ يبكي ابن عبّاس، ويبكي معه الإمامعليه‌السلام ويسأله: أليس يعلم أنّه ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فيشهد ابن عبّاس بذلك ويؤكّد

٢٩٣

أنّ نصرة الإمام عليه‌السلام فرض على هذه الأمّة كالصلاة والزكاة!

ثمّ يسأله الإمامعليه‌السلام عن رأيه في الأُمويّين، الذين أخرجوه عن حرم جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأرادوا سفك دمه بلا جُرم كان قد اجترحه.

فيُجيبه ابن عبّاس: بأنّ هؤلاء قوم كفروا بالله ورسوله، وعلى مثلهم تنزل البطشة الكبرى، ثمّ يشهد ابن عبّاس أنّ مَن طمع في مُحاربة الإمامعليه‌السلام والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فماله من خَلاق! وهنا يقول الإمامعليه‌السلام :( اللّهمّ، اشهد! ) ، فيُدرك ابن عباسرضي‌الله‌عنه أنّ الإمامعليه‌السلام قصده وابن عمر بطلب النُّصرة! فيُبادر ابن عباس ويُظهر استعداده لنُصرة الإمامعليه‌السلام والجهاد بين يديه، ويقول: إنّه لا يوفِّي بذلك عُشر العُشر من حقّهعليه‌السلام !

وهنا يُحرج ابن عمر؛ لأنّه مقصود أيضاً بالخطاب! فيتدخّل ليحرف مسير الحوار عن الاتّجاه الذي أراده الإمامعليه‌السلام ، فيقول لابن عباس: مَهْلاً! ذرنا من هذا يا بن عبّاس!

ثمّ أقبل ابن عمر على الحسينعليه‌السلام فقال: أبا عبد الله، مهلاً عمّا قد عزمت عليه! وارجع من هنا إلى المدينة، وادخل في صلح القوم! ولا تغِبْ عن وطنك وحرم جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلاً، وإن أحببت أن لا تُبايع فأنت متروك حتى ترى برأيك، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلاّ قليلاً، فيكفيك اللّه أمره!

فقال الحسينعليه‌السلام :

( أُفٍّ لهذا الكلام أبداً مادامت السماوات والأرض! أسألك بالله يا عبد الله! أنا عندك على خطأ من أمري هذا؟! فإن كنتُ عندك على خطأ فردّني فإنِّي أخضع وأسمع وأُطيع! ) .

فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ،

٢٩٤

وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على مثل يزيد بن معاوية باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يُضرب وجهك هذا الحَسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأمّة ما لا تُحبّ، فارجع معنا إلى المدينة، وإن لم تُحبَّ أن تُبايع فلا تُبايع أبداً واقعد في منزل!

فقال الحسينعليه‌السلام :

( هيهات يا بن عمر! إنّ القوم لا يتركوني، إن أصابوني وإن لم يُصيبوني، فلا يزالون حتى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني! أما تعلم يا عبد الله أنّ من هوان هذه الدنيا على الله تعالى أنّه أُتي برأس يحيى بن زكريّا عليه‌السلام إلى بغيّة من بغايا بني إسرائيل والرأس ينطق بالحجّة عليهم؟! أما تعلم أباعبدالرحمن أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلّهم، كأنّهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يُعجّل الله عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مُقتدر! اتّقِ الله أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نُصرتي! واذكرني في صلاتك! يا بن عمر، فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنّ لي الدُعاء في دُبر كلّ صلاة، واجلس عن القوم، ولا تُعجِّل بالبيعة لهم حتى تعلم إلى ما تؤول الأمور! ) .

ثمّ أقبل الإمامعليه‌السلام على ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه فأثنى عليه، ورخّصه بالمضيّ إلى المدينة وأوصاه بمواصلته بأخباره، وأظهرعليه‌السلام أنّه مُستوطن الحرم ما رأى أهله يُحبّونه وينصرونه، وأنّه يستعصم بالكلمة التي قالها إبراهيمعليه‌السلام يوم أُلقي في النار:( حسبي الله ونِعْمَ الوكيل ) ، فكانت النار عليه برداً وسلاماً.

٢٩٥

فبكى ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه وابن عمر بكاءً شديداً، وشاركهما الإمامعليه‌السلام بكاءهما ساعة، ثمّ ودّعهما وصارا إلى المدينة(١) .

تأمُّل ومُلاحظات:

١) - سبق أن قلنا(٢) : إنّ ابن أعثم الكوفي كان قد تفرّد برواية نصّ هذه المحاورة المفصّلة في كتابه الفتوح، ونقلها عنه الخوارزمي في كتابه مقتل الحسينعليه‌السلام .

والملفت للانتباه، أنّ هذا النص قد احتوى على عبارات مُتعارضة، وأُخرى لا تنسجم مع نظرة أهل البيتعليهم‌السلام إلى بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سواء في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعد رحلته.

ومثال على المتعارضات قولهعليه‌السلام لابن عمر:( اتّق اللّه أبا عبد الرحمان، ولا تدعنّ نُصرتي! ) وقوله بعد ذلك:( فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل فأنت في أوسع العُذر! ) .

ومثال على الأُخرى قوله:( فو الذي بعث جدّي محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيراً ونذيراً لو أنّ أباك! ) ، وقوله:( واذكرني في صلاتك! ) ، وقوله:( ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دُبر كُلّ صلاة! ) .

والظنّ قويٌّ: أنّ العبارة التي تُرخِّص لابن عمر في عدم نُصرة الإمامعليه‌السلام وتجعله في أوسع العذر! والعبارة التي تُثني على بعض الصحابة بما لم يفعله ( والوثائق التاريخية تؤكِّد خلاف ذلك! )، والعبارة التي تدّعي عناية الإمامعليه‌السلام بصلاة ابن عمر أو بدعائه - على فرض صحّة رواية هذه المحاورة أصلاً - قد

____________________

(١) راجع: الفتوح: ٥: ٢٦ - ٢٧، ومقتل الحسين عليه‌السلام / للخوارزمي: ١: ٢٧٨ - ٢٨١، وقد روى بعضها السيد ابن طاووس (ره) في اللهوف: ١٠٢.

(٢) راجع حاشية آخر هذه الرواية في عنوان (تحرّك عبد الله بن عباس) في أوائل هذا الفصل، ص٢٣١.

٢٩٦

أُدخلت على أصل النصّ، وأُقحمت عليه إقحاماً من قِبل بعض الرواة أو النُّسَّاخ من أجل تحسين صورة البعض على لسان الإمام عليه‌السلام !!

٢) - اعترف ابن عمر بأنّ نُصرة الإمام الحسينعليه‌السلام والانضمام إليه واجب شرعيّ؛ حين قال: إنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:( حسينٌ مقتول! ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله يوم القيامة! ) .

ويتأكّد لابن عمر هذا الواجب الشرعيّ المقدّس، حين يسمع من ابن عباس أيضاً أنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:

( ما لي وليزيد؟! لا بارك الله في يزيد! وإنّه ليقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه‌السلام ! والذي نفسي بيده، لا يُقتل ولدي بين ظهرانيّ قوم فلا يمنعونه، إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! ) .

ويُلقي الإمامعليه‌السلام الحجّة صريحة بالغة تامّة على ابن عمر؛ حيث يقول له:( اتّقِ الله أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نُصرتي! ) .

ومع كلّ هذا، نرى عبد الله بن عمر يقعد ويتخلّف عن نُصرة الإمام الحسينعليه‌السلام عامداً بلا عُذر! ولا يكتفي بذلك، بل يُلحُّ بإصرار على الإمامعليه‌السلام ليترك القيام، ويرجع إلى المدينة، ويدخل في صلح القوم! ويصبر على يزيد!

٣) - ونُلاحظ ابن عمر أيضاً يُحاول - وكأنّه ناطق رسميّ أُمويّ! - أن يوهِم الإمامعليه‌السلام بأنّ المتاركة بينه وبين يزيد أمرٌ مُمكن، وأنّه لا بأس على الإمامعليه‌السلام إنْ ترك القيام حتى وإن لم يُبايع! فيقول له: « وإن أحببت أن لا تُبايع فأنت متروك حتّى ترى برأيك! »، ويقول: « وإن لم تُحبّ أن تُبايع فلا تُبايع أبداً واقعد في منزل! ».

تُرى، هل كان ابن عمر مؤمناً حقّاً بإمكان هذه المتاركة؟!

٢٩٧

كيف يكون مؤمناً بها، وقد روى هو نفسه أنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:( حسين مقتول!... ) ؟! ويسمع ابن عباس أيضاً يروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بأنّ يزيد قاتل الحسينعليه‌السلام ؟!

وإذا لم يكن مؤمناً بإمكان هذه المتاركة! فلماذا كان يُصرّ على دعوى إمكانها، وكأنّه ينطق عن لسان الحُكم الأُمويّ؟!

هل كان ابن عمر يُريد - بلسان المشورة والنصيحة - أن يوقِع الإمامعليه‌السلام في شِباك صيد يزيد، بعد نزع فتيل الثورة قبل اندلاعها؟!

وهل يستبعد المتأمّل أن يصدر هذا من ابن عمر؟!

لعلّ التأمّل في أبعاد الملاحظة التالية يكشف لنا عن الجواب!

٤) - أكّد ابن عمر في هذه المحاورة، اعترافه بعداوة الأُمويين لأهل البيتعليهم‌السلام وبظلمهم إيّاهم! وبأنّ الأُمويين - وعلى رأسهم يزيد هم - « القوم الظالمون »! وأنّهم « لا خَلاق لهم » عند الله! وأكّد على خوفه من أن يميل الناس إليهم؛ طمعاً في ما عندهم من الذهب والفضة « الصفراء والبيضاء »!

لكنّنا نجد أنّ ابن عمر هذا، كان ممّن تسلّم هذه الصفراء والبيضاء من معاوية رشوة، أيّام تمهيده ليزيد بولاية العهد من بعده! حيث أرسل إليه معاوية مئة ألف درهم فقَبِلها!(١)

ونجد ابن عمر قد بادر إلى بيعة يزيد! مع أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد طلب إليه في

____________________

(١) يقول ابن كثير: ( وبعث إليه معاوية بمئة ألف، لما أراد أن يُبايع ليزيد... ) (البداية والنهاية: ٨: ٨٣).

ويقول ابن الأثير: ( عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد، فأرسل إلى عبد الله بن عمر مئة ألف درهم فقبلها... ) (الكامل في التأريخ: ٢: ٥٠٩).

٢٩٨

هذه المحاورة - على الأقلّ! - ألاّ يُعجِّل بالبيعة ليزيد، حتّى يعلم ما تؤول إليه الأمور! هذا مع اعتراف ابن عمر بأنّ يزيد رجل ظالم ولا خَلاق له عند الله!

ثمّ نجد ابن عمر - وقد انتفضّت الأمّة في المدينة على يزيد وخلعته لفسقه وفجوره - يُصرُّ على التمسُّك ببيعة يزيد؛ مدّعياً أنّها كانت بيعة للّه ولرسوله!! وينهى أهله عن التنكّر لهذه البيعة، معلناً براءته ممّن تنكّر لها منهم!

يقول التأريخ: لما خلع أهل المدينة بيعة يزيد « جمع ابن عمر بنيه وأهله ثمَّ تشهَّد، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله! وإنّي سمعت رسول الله يقول: ( إنّ الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، يقال: هذا غدر فلان )، فإنّ من أعظم الغدر - إلاّ أن يكون الشِرك بالله - أن يُبايع رجل رجلاً على بيعة الله ورسوله ثمّ ينكث بيعته! فلا يخلعنّ أحدٌ منكم يزيد! ولا يُسرفنّ أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه - رواه مسلم، وقال الترمذي: صحيح »(١) .

فهل يُعقل أن تكون البيعة لرجل ظالم فاسق لا خَلاق له عند الله تعالى بيعة لله ولرسوله؟!

أوَ ليسَ ممّا أجمعت الأمّة عليه أنّ العدالة من شروط الإمامة؟!(٢)

ومَن هو الغادر الذي يُنصب له لواء يوم القيامة! الذي بايع الفاسق مع علمه بفسقه منذ البدء - كما فعل ابن عمر! - أم أهل المدينة الذين انتفضوا على يزيد بعد أن تيقّنوا من فسقه وخلعوا بيعته؟!

ثمّ لماذا لا يرى ابن عمر كُلاًّ من طلحة والزبير ومَن معهما غادرين تُنصب لهم ألوية غدر يوم القيامة! حيث نكثوا بيعتهم لرمز العدالة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؟! أم

____________________

(١) سُنن الترمذي: ٤: ١٤٤.

(٢) راجع: الجامع لأحكام القرآن: ١: ١٨٧ / الشرط الحادي عشر من شروط الإمامة.

٢٩٩

يتوقّف ابن عمر في هذا الأمر، فيبتدع مُغالطة أُخرى من مُغالطاته الكبيرة الكثيرة؟!

لقد كان عبد الله بن عمر لساناً من الألسنة التي خدمت الحُكم الأُمويّ، بل كان بوقاً أُمويّاً حرص على عزف النغمة النشاز في أنشودة المعارضة! وسعى إلى تحطيم المعارضة من داخلها، ولا يُعبأ بما صوّره به بعض المؤرّخين من أنّه كان رمزاً من رموزها؛ لأنّ المتأمّل المتدبّر لا يجد لابن عمر هذا أيّ حضور في أيّ موقف مُعارض جادٍّ! بل يراه غائباً تماماً عن كلّ ساحة صدق في المعارضة! وإذا تأمّل المحقّق مليّاً وجد عبد الله بن عمر ينتمي انتماءً تامّاً - عن إصرار وعناد - إلى حركة النفاق، التي قادها حزب السلطة منذ البدء، ثمّ لم يزل يخدم فيها حتى في الأيّام التي آلت قيادتها فيها إلى الحزب الأُموي بقيادة معاوية ثمّ يزيد!

هذه هي حقيقة ابن عمر، وإن تكلّف علاقات حَسنة في الظاهر مع وجوه المعارضة عامّة، ومع الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة.

وحقيقة ابن عمر هذه، يكشف عنها معاوية لابنه يزيد في وصيّته إليه بلا رتوش نفاقية، حيث يقول له: «... فأمّا ابن عمر فهو معك! فالزمه ولا تدعه! »(١) .

الأوزاعي.. والنهي عن المسير إلى العراق!

روى ابن رُستم الطبري، في كتابه «دلائل الإمامة» قائلاً:

« حدّثنا يزيد بن مسروق، قال: حدّثنا عبد الله بن مكحول، عن الأوزاعي، قال: بلغني خروج الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام إلى العراق، فقصدتُ مكّة فصادفته بها، فلمّا رآني رحَّب بي وقال:« مرحباً بك يا أوزاعي، جئت تنهاني عن المسير،

____________________

(١) أمالي الصدوق:٢١٥ / المجلس الثلاثون، حديث رقم ١.

٣٠٠