مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 208889
تحميل: 8617

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208889 / تحميل: 8617
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

وأبى اللّه عزّ وجلّ إلاّ ذلك، إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)! » .

فسهدتُ في عدّ الأيّام، فكان كما قال! »(١) .

تُرى مَن هو هذا الأوزاعيّ، الذي أهمّه أمر الإمام الحسينعليه‌السلام ، حتى قصد مكّة لينهاه عن المسير إلى العراق؟ وما هو دافعه في ذلك؟ وما معنى قول الإمامعليه‌السلام :« إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!» ؟

أمّا مَن هو هذا الأوزاعي؟ فانّ هناك جماعة من الرجال عُرِفوا بهذا اللقب(٢) لكنّ الاحتمال الأقوى هو أنّ المراد بهذا الأوزاعيّ: أبو أيّوب، مغيث بن سمي

____________________

(١) دلائل الإمامة: ١٨٤: رقم ١٠٢ / ٣.

(٢) فمن هؤلاء: عبد الرحمان بن عمرو بن يُحمَد: أبو عمرو الشامي، وهذا الأوزاعي وُلِد عام ٨٨ هـ ق يعني بعد سبع وعشرين سنة من استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام ، وتوفِّي عام ١٥٧ هـ، وقد سكن الأوزاع بدمشق، والمعروف عنه أنّه قال: ( ما أخذنا العطاء حتى شهدنا على عليّ عليه‌السلام بالنفاق وتبرّأنا منه، وأُخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق ) (راجع: سير أعلام النبلاء: ٧: ١٠٩).

وعليه؛ فهذا الأوزاعيّ لم يُدرك الإمام الحسين عليه‌السلام .

وقد ظنّ المامقاني، أنّ لقب الأوزاعي مُنحصر في عبد الرحمان هذا، حيث قال: ( إنّ هذا اللقب مُنحصر في عبد الرحمان المعروف بالأوزاعي ولم نَرَ غيره قطُّ ) (تنقيح المقال: ٣: ٤٦).

والأمر ليس كذلك؛ إذ منهم أيضاً: مُغيث بن سُمّي الأوزاعي، أبو أيّوب (راجع: الأنساب للسمعاني: ١: ٢٢٧).

وقد أوردنا ذكره في المتن؛ لأنّنا نُرجّح أنّه هو المراد بالأوزاعي في هذه الرواية.

ومنهم أيضاً: نهيك بن يريم الأوزاعي، وهو من الطبقة الرابعة، ويروي عن الأوزاعي المعروف - عبد الرحمان بن عمرو - (راجع: تهذيب الكمال:١٨: ٢٩٤).

وعليه؛ فلا يمكن أن يكون هذا مُعاصراً للإمام الحسين عليه‌السلام .

ومنهم أيضاً: أبو بكر، عمرو بن سعيد الأوزاعي، ولم نعثر له على ترجمة. وقال السمعاني في (الأنساب: ١: ٢٢٧): ( هذه النسبة إلى الأوزاع وهي قرى مُتفرّقة فيما أظنّ بالشام فجُمعت وقيل لها: الأوزاع. وقيل: إنّها قرية على باب دمشق، يقال لها: الأوزاع. وهو الصحيح ). (وانظر: معجم البلدان: ١: ٢٨٠).

٣٠١

الأوزاعي: الذي يُقال: إنّه أدرك زهاء ألف من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وقد روى عن ابن الزبير وابن عمر، وابن مسعود، وكعب الأحبار، وأبي هريرة، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقد وثّقه ابن حبّان، وأبو داود، ويعقوب بن سفيان(٢) . ولكن لم يرد له ذكر في كُتبنا الرجاليّة على ما حقّقنا.

أمّا ما هو دافعه في التحرُّك، حتى قصد مكّة لينهى الإمامعليه‌السلام عن المسير إلى العراق، فذلك ممّا لا نستطيع أن نُحدّده من متن الرواية - ومن عدم معرفتنا بتأريخ هذا الرجل وسيرته - إلاّ أنّ ترحيب الإمامعليه‌السلام به، قد يكشف عن أنّ هذا الأوزاعي كان مُشفقاً على الإمامعليه‌السلام من القتل في مسيره إلى العراق، وإن كان ظاهر النصّ صريحاً في أنّه كان ناهياً لا ناصحاً!

وأمّا ما هو المراد من قولهعليه‌السلام :« إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!» . فلا يخفى على المتأمّل أنّ فيه غموضاً وتشابهاً! فهل أراد الإمامعليه‌السلام أن يقول للأوزاعي: إنّ لك أن تعدَّ مِن هذه الساعة إلى يوم الإثنين الذي أُقتلُ فيه؟! ولذا يقول الأوزاعي: فسهدتُ «أي سهرتُ» في عدّ الأيّام، فكان كما قال! وعلى هذا؛ يكون الإمامعليه‌السلام قد قُتل في يوم الإثنين! وهذا ما لا يتّفق مع المأثور أنّ يوم عاشوراء كان يوم الجمعة أو يوم السبت(٣) .

____________________

(١) الأنساب / للسمعاني: ١: ٢٢٧.

(٢) تهذيب الكمال: ١٨: ٢٩٤.

(٣) ومن هذا المأثور: - على سبيل المثال لا الحصر -١- قول الإمام الحسين عليه‌السلام لمؤمني الجنّ: ( ولكن تحضرون يوم السبت وهو يوم عاشورا - في غير هذه الرواية يوم الجمعة - الذي في آخره أُقتلُ... ) (اللهوف: ٢٩ /المطبعة الحيدرية - النجف ).

٢- قول أبي جعفر عليه‌السلام :( يخرج القائم عليه‌السلام يوم السبت، يوم عاشوراء الذي قُتل فيه الحسين عليه‌السلام ) . (كمال الدين: ٢: ٦٥٣ باب ٥٧ حديث ١٩).

٣٠٢

أم أنّ الإمامعليه‌السلام أراد أن يقول للأوزاعي: إننّي باقٍ في مكّة إلى يوم الإثنين، وبعده (أي يوم الثلاثاء) يكون مبعثي إلى العراق، أي سفري إليه؟!

ونرى أنّ هذا هو الأقوى احتمالاً؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام قد خرج من مكّة بالفعل يوم الثلاثاء، بدليل قول الإمامعليه‌السلام نفسه في رسالته الأخيرة، التي بعثها إلى أهل الكوفة مع قيس بن مُسهَّر الصيداويرضي‌الله‌عنه ، حيث يقول فيها:(... وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء، لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية... ) (١) .

وعلى أساس هذا التقويم؛ يكون يوم عاشوراء الجمعة إذا كان ذو الحجّة تسعة وعشرين يوماً، أو السبت إذا كان ثلاثين يوماً، وهذا ما يتّفق مع المأثور بصدد يوم عاشوراء.

عمر بن عبد الرحمن المخزومي.. والنصيحة الصائبة!

روى الطبري، عن عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام المخزومي، أنّه قال: « لما تهيّأ الحسينعليه‌السلام للمسير إلى العراق أتيته، فدخلت عليه، فحمدت الله وأثنيتُ عليه، ثمّ قلت: أمّا بعدُ، فإنّي أتيتك يا بن عم لحاجة أُريد ذكرها نصيحة، فإن كُنتَ ترى أنّك تستنصحني وإلاّ كففتُ عمّا أُريد أن أقول!

فقال الحسينعليه‌السلام :

( قلْ، فو الله، ما أظنّك بسيّئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل! ).

فقال: إنّه قد بلغني أنّك تُريد المسير إلى العراق، وإنّي مُشفق عليك من مسيرك، إنّك تأتي بلداً فيه عُمَّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد

____________________

(١) تأريخ الطبري: ٣: ٣٠١، والارشاد: ٢٢٠

٣٠٣

لهذا الدرهم والدينار! ولا آمن عليك أن يُقاتلك مَن وعدك نَصره، ومَن أنت أحبُّ إليه ممَّن يُقاتلك معه!!

فقال الحسينعليه‌السلام :( جزاك الله خيراً يا بن عمّ، فقد - والله - علمتُ أنّك مشيتَ بنصح وتكلَّمت بعقل، ومهما يُقضَ من أمر يكنْ، أخذتُ برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مُشير وأنصح ناصح! ) (١) .

تأمّل ومُلاحظات:

١) - هذه المحاورة كاشفة عن منزلة حَسنة جدّاً لعمر بن عبد الرحمان المخزومي عند الإمامعليه‌السلام ؛ حيث أثنى عليه ثناءً رائعاً في قولهعليه‌السلام :( قُلْ، فو الله، ما أظنّك بسيّئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل! ) ، وفي تعبير آخر:( ما أنت ممّن يُستغشُّ ولايُتَّهم، فقلْ ) (٢) ، وفي تعبير آخر:( قُلْ، فو الله ما أستغشُّك، وما أظنّك بشيء من الهوى! ) (٣) ، وقال له في ختام هذه المحاورة:( فأنت عندي أحمدُ مُشير وأنصح ناصح! ) ، وفي تعبير آخر:( ولم تنطق عن هوى! ) (٤) ، وجميع ذلك كاشف عن متانة هذا المخزومي وصدقه وحبّه للإمام الحسينعليه‌السلام .

ولم يرد لعمر بن عبد الرحمان المخزومي هذا ذكر في كُتبنا الرجالية، لكنّه معدود من رجال الصحاح الستّة، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وحدّث عن عمّار بن ياسر، وأمّ سلمة، وعائشة، وأبي هريرة، ومروان... وقد استصغر يوم الجَمل فرُدَّ، وعن ابن سعد: أنّه ولد في خلافة عمر، ومات سنة الفقهاء، وقيل: سنة خمس

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٢٩٤:٣، والفتوح: ٥: ٧١.

(٢) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام / تحقيق المحمودي): ٢٠٢ رقم ٢٥٤.

(٣) الكامل في التأريخ: ٢: ٥٤٥.

(٤) الفصول المهمّة / لابن الصبّاغ: ١٨٥.

٣٠٤

وتسعين(١) ، وكان يُقال له: راهب قريش؛ لكثرة صلاته، وكان مكفوفاً، وهو من سادات قريش(٢) .

٢) - إنّ المشورة التي قدّمها عمر بن عبد الرحمان المخزومي، تُشبه تماماً في مبناها مشورة لابن عبّاسرضي‌الله‌عنه (٣) ، وأُخرى لعمرو بن لوذان في هذا الصدد(٤) ، ويتلخّص مبنى هذا المشورات الثلاث، في أنّ الصحيح أن يتحرّك أهل الكوفة عملياً قبل توجّه الإمامعليه‌السلام إليهم، فيثوروا على السلطة في الكوفة، وينفوا عمّال يزيد وأتباعه، ويُسيطروا على الأوضاع فيها، وعندها يتوجّه الإمامعليه‌السلام إليهم، وهذا هو الرأي الصواب عندهم! ولكن على أساس منطق الفتح القريب والنصر الظاهري وتسلّم الحُكم.

ومن هنا؛ نجد الإمامعليه‌السلام لا يُخطّي هذه المشورات، بل نراه يُثني على أصحابها، ومع هذا يُخالفها ولا يعمل بها؛ لأنّه كان يتحرّك على أساس منطق آخر هو منطق (الفتح بالشهادة)! الفتح المبين العميق الشامل الدائم، الذي يحفظ الإسلام المحمديّ الخالص، نقيّاً من كلّ الشوائب إلى قيام الساعة.

٣) - ربّما يُقال: إنّ ما ورد في متن هذا الخبر من قول المخزومي: « لما تهيّأ الحسينعليه‌السلام للمسير إلى العراق... ». لا يدلّ بالضرورة على أنّ هذا اللقاء قد تمَّ في مكّة؛ لأنّ هناك روايات لبعض اللقاءات مع الإمامعليه‌السلام حملت مثل هذه الإشارات، مع أنَّ المؤكَّد أنَّها تمَّت في المدينة، كلقائهعليه‌السلام مع أمّ سلمةرضي‌الله‌عنه ، فهل ثَمَّ دليل آخر على أنّ لقاءهعليه‌السلام مع المخزوميّ تمّ في مكّة؟

____________________

(١) راجع: سير أعلام النبلاء: ٤: ٤١٨.

(٢) راجع: تهذيب التهذيب: ٢: ٣٠.

(٣) تأريخ الطبري: ٣: ٢٩٥.

(٤) الإرشاد: ٢٤٨.

٣٠٥

فنقول: لم ينتشر خبر عزم الإمامعليه‌السلام على السفر إلى العراق، إلاّ في أواخر أيّام مكثه في مكّة المكرّمة، وحينما كان الإمامعليه‌السلام في المدينة المنوّرة، لم يكن قد أطلع أحدٌ على نيّته في التوجّه إلى العراق سوى خاصة الخاصة، كمثل محمّد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه وأمّ سلمةرضي‌الله‌عنه ، وأمّا غير هؤلاء الخواصّ، فإنّ الإمامعليه‌السلام غالباً ما كان يُشير إليهم أنّه متوجّه إلى مكّة في أيّامه تلك، ثمّ يستخير الله في أمره.

وعليه؛ فإنّ أمثال عمر المخزوميّ هذا لم يكونوا على علم بنيّة الإمامعليه‌السلام في التوجّه إلى العراق منذ البدء.

هذا فضلاً عن أنّ لهذا الخبر تتمّة - في رواية الطبري - على لسان المخزومي أنّه « قال: فانصرفت من عنده، فدخلت على الحارث بن خالد بن العاص(١) - والي مكّة - فسألني: هل لقيتَ حسيناً؟ فقلت له: نعم.

فقال: فما قال لك، وما قلت له؟ قال: فقلت له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا. فقال: نصحته وربّ المروة الشهباء! أما وربّ البنيّة، إنّ الرأي لما رأيته، قَبِلَه أو تركه... »(٢) ، وفي هذا دلالة كافية، على أنّ هذا اللقاء كان قد حصل في مكّة المكرّمة.

لقاء جابر بن عبد الله الأنصاريرضي‌الله‌عنه مع الإمام عليه‌السلام :

روى ابن كثير خبراً مُرسلاً، أنّ جابر بن عبد الله الأنصاريرضي‌الله‌عنه (٣) ، كان قد

____________________

(١) لم يذكره الرجاليون، والقول: بأنّه كان والي مكّة آنذاك قول نادر وضعيف؛ إذ إنّ المشهور الأقوى أنّ والي مكّة آنذاك هو عمرو بن سعيد الأشدق.

(٢) تأريخ الطبري: ٣: ٢٩٤ ومروج الذهب: ٣: ٧٠.

(٣) جابر بن عبد الله الأنصاريرضي‌الله‌عنه : من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين والحسن والحسين والسجّادعليهم‌السلام . وقد شهد بدراً وثماني عشرة غزوة من غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو من شرطة =

٣٠٦

التقى الإمام عليه‌السلام وكلّمه ليردّه عن القيام والخروج على يزيد: « قال جابر بن عبد الله: كلّمتُ حسيناً، فقلت: اتّق الله! ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فو الله ما حمدتم ما صنعتم. فعصاني! ».

____________________

= الخميس، وكان مع عليّ عليه‌السلام في الجمل وصِفِّين، وهو من النُّقباء الاثني عشر، انتخبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر جبرئيل عليه‌السلام ، وعدّه الإمام الصادق عليه‌السلام من الذين لم يُغيّروا ولم يُبدّلوا بعد نبيّهم وتجب ولايتهم، ومن الذين وفُّوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أخذ عليهم من مودّة ذي القُربى. وهو الذي ألقى نفسه على أيدي الحسنينعليهما‌السلام وأرجلهما يُقبّلها، ويُبيِّن فضائلهما. وهو الراوي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أسماء الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم، وفضائلهم ومناقبهم، وأنّ مَن أطاعهم فقد أطاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومَن عصاهم فقد عصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ بهم يُمسِك الله السماء أن تقع على الأرض، وهو الذي ضمن الإمام الباقر عليه‌السلام له الشفاعة يوم القيامة (راجع: مُستدركات علم الرجال:٢: ١٠١).وهو أوّل زائر لقبر الحسين عليه‌السلام ، وصاحب الزيارة المعروفة التي من نصّها: ( أشهد أنّك ابن النبيّين وابن سيّد الوصيّين، وابن حليف التقوى، وسليل الهُدى، وخامس أصحاب الكسا، وابن سيّد النُّقباء، وابن فاطمة سيّدة النساء، ومالك لا تكون هكذا وقد غذَّتك كفّ سيّد المرسلين، ورُبيت في حِجر المتّقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفُطمت بالإسلام؟! فطبت حيّاً، وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة لفراقك، ولا شاكّة في حياتك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا... ) (راجع: بشارة المصطفى: ٧٤)، وقد أثنى عليه علماؤنا، ووثّقوه في أعلى مراتب الوثاقة، فعلى سبيل المثال:

١) - قال المجلسي (ره): ( ثقة، وجلالته أجلُّ من أن يحتاج إلى بيان ) (رجال المجلسي: ١٧٣).

٢) - وقال المامقاني (ره): ( فالرجل من أجلاّء الثقات بلا مرية... وقال الوحيد: لا يخفى أنّه من الجلالة بمكان لا يحتاج إلى التوثيق ) (تنقيح المقال: ١: ١٩٩).

٣) - وقال الخوئي (ره): ( إنّه من الأربعة الذين انتهى إليهم علم الأئمة! ) (مُعجم رجال الحديث: ٤: ١٥).

٣٠٧

ولا يخفى على ذي أدنى معرفة بجابر بن عبد الله الأنصاريرضي‌الله‌عنه ، أنّ أصل اللقاء هذا إذا كان مُحتملاً، فلا سبيل إلى احتمال محتواه! لأنّه بعيد كلّ البُعد أن تصدر مثل هذه الجسارة على الإمامعليه‌السلام ومثل سوء الأدب هذا، عن هذا الصحابي الجليل القدر، العارف بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام !

والظنّ قويّ جدّاً، في أن يكون محتوى هذا الخبر من مُفتعلات مُرتزقة الإعلام الأُموي؛ من أجل الإساءة إلى النهضة الحسينية وتخطئتها!

وممّا يؤيِّد كون هذا الخبر من الموضوعات؛ أنّ ابن كثير أورده مُرسلاً دون أن يذكر له طريقاً.

نعم، روى عماد الدين أبو جعفر محمد بن عليّ الطوسي(١) المعروف بابن حمزة في كتابه « الثاقب في المناقب » لقاءً لجابر الأنصاريرضي‌الله‌عنه مع الإمامعليه‌السلام يفوح منه عطر حُسن الأدب في مُخاطبة الإمامعليه‌السلام ، والمعرفة بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، والصدق في موالاتهم ومحبّتهم والتشيّع لهم:

« عن جابر بن عبد اللهرضي‌الله‌عنه قال: لما عزم الحسين بن عليّعليهما‌السلام على الخروج إلى العراق، أتيته فقلت له: أنت ولَد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحد سبطيه، لا أرى إلاّ أنّك تُصالح كما صالح أخوك الحسنعليه‌السلام ، فإنّه كان موفّقاً راشداً.

فقال ليعليه‌السلام :

( يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّي أيضاً أفعل

____________________

(١) هو الشيخ الفقيه العالم الواعظ: أبو جعفر محمد بن عليّ بن حمزة الطوسي المشهدي، من أعلام القرن السادس، له تصانيف منها: الوسيلة، الواسطة، الرايع في الشرايع، المعجزات - واسمه الآخر الثاقب في المناقب - مسائل في الفقه. (أنظر: مُعجم المؤلّفين:١١:٤ وأمل الآمل: ٢: ٢٨٥ وتنقيح المقال: ٣: ١٥٥ ومُعجم رجال الحديث:١٦: ٣٢٦).

٣٠٨

بأمر الله تعالى ورسوله، أتُريد أن أستشهِد لك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّاً وأخي الحسن عليهما‌السلام بذلك الآن! ) .

ثمّ نظرتُ، فإذا السماء قد انفتح بابها، وإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ والحسنعليهما‌السلام وحمزة وجعفر وزيد(١) ، نازلين عنها حتّى استقرّوا على الأرض، فوثبت فزعاً

____________________

(١) الواضح من المتن أنّ زيداً هذا من سادات الشهداء أولي المنزلة الرفيعة جدّاً، بقرينة أنّه في الرواية كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ والحسن وحمزة وجعفرعليهم‌السلام ! ولا نعلم شهيداً ذا منزلة رفيعة جدّاً باسم ( زيد ) حتى ذلك الحين سوى اثنين، هما:

الأول: زيد بن حارثة، الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أنت أخونا ومولانا ) ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اشتراه بمال خديجة، فلمّا أظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدعوة أسلم زيدٌ، فاستوهبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من خديجة ليُعتقه، فوهبته له وأعتقه، وبعد أن رفض زيدٌ الالتحاق بأبيه، تبرّأ أبوه منه، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا معاشر قريش، زيدٌ ابني وأنا أبوه ) . فاشتهر في أوساط قريش بزيد بن محمّد، على عادة قريش في تسمية الأدعياء إلى نزول الآية، التي أمرت بأن يُدعى الأدعياء إلى آبائهم. وهو الذي خرج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الطائف، وقد استخلفه الرسول على المدينة في بعض غزواته، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه:( خير أُمراء السرايا زيد بن حارثة ) . وقد رأى النبيّ ليلة المعراج جارية تنغمس في أنهار الجنّة، فقال لها:( لِمَن أنتِ يا جارية؟ ) . فقالت: لزيد بن حارثة. فبشّرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بها في الصباح، وهو الذي أمّره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على جيش المسلمين في غزوة مؤتة، وقد استُشهد فيها، فخرج من فمه نورٌ ساطع أضوأ من الشمس الطالعة، حتى صار الليل المظلم كالنهار! (راجع: البحار: ٢٠: ٣٧٢ و١١٥ / ١٩: ٢٢ و ١٧٤)، وابنه أسامة بن زيد، الذي أمّره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الجيش الإسلامى، الذي بعثه إلى الشام، فتكلّم المنافقون في إمارته وقالوا: أمّر غلاماً جلّة المهاجرين والأنصار. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنّه لخليق للإمارة وكان أبوه خليقاً لها ) (راجع: الكامل في التأريخ: ٢: ٢١٥). والمشهور الثابت، أنّ أبا بكر وعمر ممّن تخلّفوا عن جيش أُسامة، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( جهّزوا جيش أُسامة، لعن الله المتخلّف عن جيش أُسامة! ) (نهج الحق وكشف الصدق: ٢٦٣). =

٣٠٩

مذعوراً!

فقال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( يا جابر، ألم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين، لا تكون مؤمناً حتّى تكون لأئمتّك مُسلّماً ولا تكون مُعترضاً؟! أتُريد أن ترى مقعد معاوية، ومقعد الحسين ابني، ومقعد يزيد قاتله لعنه اللّه؟! ) .

قلت: بلى يا رسول الله!

فضرب برجله الأرض فانشقّت، وظهر بحر فانفلق، ثمّ ضرب فانشقّت هكذا حتى انشقّت سبع أرضين، وانفلقت سبعة أبحُر، فرأيتُ من تحت ذلك كلّه النار فيها سلسلة قُرن فيها الوليد بن المغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردة الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً.

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( ارفع رأسك! ) .

فرفعتُ فإذا أبواب السماء مُفتّحة، وإذا الجنّة أعلاها! ثمّ صعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه إلى السماء، فلمّا صار في الهواء صاح بالحسين:( يا بُنيّ، الحقْني ) .

فلحقه الحسين وصعدوا حتى رأيتهم دخلوا الجنّة من أعلاها!

____________________

=والثاني: هو زيد بن صوحان العبدي، أخو صعصعة، كان من الأبدال، وقُتل يوم الجَمل، وقيل: إنّ عائشة قد استرجعت يوم قُتل! وعن الإمام الصادق عليه‌السلام :( لما صُرع زيدٌ يوم الجَمل جاءه أمير المؤمنين حتى جلس عند رأسه فقال: رحمك الله يا زيد! قد كنت خفيف المؤونة عظيم المعونة! ) . وذكر النبيّ زيد بن صوحان فقال:( زيد وما زيد! يسبق منه عضو إلى الجنّة ) (راجع: سفينة البحار: ٣: ٥٦٥).وعن النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ( مَن سرّه أن ينظر إلى رجل يسبقه بعض أعضائه إلى الجنّة، فلينظر إلى زيد بن صوحان ) (تاريخ بغداد: ٨: ٤٤٠)، وكان قد قُطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله (البحار: ١٨: ١١٢).

٣١٠

ثمّ نظر إليَّ من هناك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقبض على يد الحسينعليه‌السلام وقال:( يا جابر، هذا ولدي معي ها هنا، فسلّم له أمره ولا تشكَّ لتكون مؤمناً ) .

قال جابر: فعميت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قُلت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجْر لقاتلتهم بهؤلاء!

روى ابن رستم الطبري (ره) قائلاً: « حدّثنا أبو محمّد سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن الأعمش، قال: قال لي أبو محمّد الواقدي وزرارة بن جلح: لقينا الحسين بن عليّعليهما‌السلام قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليال، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة، وأنَّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه! فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحت أبواب السماء، ونزل من الملائكة عدد لا يُحصيهم إلاّ الله، وقال:

( لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلم علماً أنّ من هناك مصعدي، وهناك مصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلاّ ولَدي عليٌّ! ) (٢) .

تأمُّلٌ ومُلاحظات:

١) - مَن هو هذا الواقدي في سند هذه الرواية؟ ومَن هو زرارة هذا؟

أمّا الواقدي، فإن كان هو محمّد بن عمر بن واقد، أبو عبد الله الأسلمي المدني

____________________

(١) الثاقب في المناقب: ٣٢٣ حديث ٢٦٦، ومدينة المعاجز:٣: ٤٨٨، ونفس المهموم: ٧٧.

(٢) دلائل الإمامة: ١٨٢ حديث رقم ٩٨/٣، وعنه السيد ابن طاووس (ره) في اللهوف: ١٢٥، وفيه ( وزرارة بن خلج )، وفيه أيضاً: ( قبل أن يخرج إلى العراق فأخبرناه... ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي... )، وبحار الأنوار:٤٤: ٣٦٤ عن اللهوف، وفيه ( زرارة بن صالح ).

٣١١

الواقدي، فولادته سنة عشرين بعد المئة، فهو لم يُدرك عصر الحسين عليه‌السلام !(١) .

وإن كان هو واقد بن عبد الله التميمي الحنظلي، فقد توفِّي أيّام عمر بن الخطاب(٢) ، فهو لم يُدرك أيضاً أيّام النهضة الحسينية عام ستّين للهجرة!

وأمّا زرارة، فهو مُهمل، سواء كان ابن خلج او حلح «كما في دلائل الإمامة» أو صالح!

وعن النمازي في مُستدركات علم الرجال: أنّ ابن خلج من أصحاب الحسينعليه‌السلام ورأى مُعجزته وإخباره إيّاه بشهادته وشهادة أصحابه.

وأمّا ابن صالح، فقد تشرّف بلقاء الحسينعليه‌السلام قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيّام!(٣) لكنّ النمازي (ره) لم يأتِ بأكثر ممّا في رواية الطبري، ولم يخرج زرارة هذا عن الجهالة والإهمال! وربَّما كان في السند حذف وإرسال، وكان اللذان التقيا بالإمامعليه‌السلام هما غير الواقدي وزرارة، وقد حُذف اسماهما، والله العالم.

٢) في متن هذه الرواية صورة من صور الإرادة والقدرة التكوينية، التي يتمتّع بها الإمام المعصومعليه‌السلام ، وهذا من صُلب اعتقاداتنا، فالإمامعليه‌السلام إذا أشار إلى جبل لزال من مكانه، كما في الحديث الوارد عن الإمام الصادقعليه‌السلام (٤) ، وأنّ الكون -

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٤٥٤.

(٢) مُستدركات علم الرجال ٨: ٩٨.

(٣) مُستدركات علم الرجال ٣: ٤٢٥ وراجع: تهذيب الكمال ٦: ٢٩٧ و١٩: ٣٦٣.

(٤) عن الحسن بن عطية، قال: كان أبو عبد الله عليه‌السلام واقفاً على الصفا، فقال له عبّاد البصري: حديث يُروى عنك؟ قال: ( وما هو؟ ). قال: قلتَ: ( حُرمة المؤمن أعظم من حُرمة هذه البنيَّة ). قال: ( قد قلت ذلك، إنَّ المؤمن مَن لو قال لهذه الجبال: أقْبِلي. أقبلت ). قال: فنظرت إلى الجبال قد أقبلت! فقال لها: ( على =

٣١٢

أعمّ من العالم العلويّ والسُّفلي - تحت تصرُّف الإمام عليه‌السلام تفضُّلاً من الله تبارك وتعالى، والأئمّةعليهم‌السلام مُختلف الملائكة، تتنزّل عليهم وتطوف بهم، وأمّا في نهضة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام فقد نزلت إليه أفواج من الملائكة في طريقه من المدينة إلى مكّة، وعرضت عليه استعدادها لنُصرته والقتال بين يديه(١) !

أمّا ما هو مراده صلوات الله عليه في قوله:( لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر )؟ فلعلّ من مرادهعليه‌السلام في ( تقارب الأشياء )، أنّه لو توسّل في تحقيق أهدافه بالخوارق والمعاجز، دون الأسباب الطبيعية، لتحقّق له ذلك عاجلاً وعلى أحسن وجه - والله غالب على أمره - لكنّ ذلك خلاف للإرادة الإلهية في امتحان الخلق وابتلائهم في مجاري الأسباب والاقتضاءات والعلل الطبيعية العادية، ليهلك مَن هلك عن بيّنة ويحيى مَن حيَّ عن بيّنة؛ ولتكون الحجّة البالغة للّه على خلقه.

هذا فضلاً عن أنّ الأعمال والإنجازات العظيمة، التي يُمكن للناس جميعاً أن يتأسّوا بها هي الأعمال والبطولات، التي تتمّ في إطار السنن الطبيعية والمجاري العادية المألوفة، لا الخوارق والمعاجز - التي لا يُلجأُ إليها إلاّ إذا دعت الضرورة إليها - ذلك لأنّ استخدام المعاجز وخوارق العادة ليس ميسوراً لجميع الناس، وامتحان الخلق - في إطار التأسيّ بالقادة الربّانيين - إنّما يصحُّ إذا كان الاختبار والتكليف بما يستطيعونه لا بما يعجزون عنه.

ويؤيِّد هذا قولهعليه‌السلام لمؤمني الجنّ الذين عرضوا عليه نُصرتهم قائلين:

( يا مولانا، نحن شيعتك وأنصارك، فمُرْنا بما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوّ

____________________

= رسلِك، إنّي لم أُرِدْك ). (الاختصاص: ٣٢٥).

(١) راجع: اللهوف: ١٢٩ / الهامش; وعنه البحار ٤٤: ٣٣٠.

٣١٣

لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك! ) (١) .

فجزاهّم خيراً، وقال لهم فيما قال:

(... فإذا أقمتُ في مكاني فبمَ يُمتحن هذا الخلْق المتعوس؟! وبماذا يُختبرون؟! ومَن ذا يكون ساكن حفرتي؟ وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحا الأرض، وجعلها معقلاً لشيعتنا ومُحبِّينا، تُقبل أعمالهم وصلواتهم، ويُجاب دعاؤهم، وتسكن شيعتنا فتكون لهم أماناً في الدنيا وفي الآخرة... ) (٢) .

أمّا مرادهعليه‌السلام من « حبوط الأجر » فلا شكّ أنّ الأجر مرتبط بالنيّة ودرجة المشقّة ومستوى أثر العمل، ولا شكّ أنّ العمل الذي يتمّ بالخوارق والمعاجز، ليس كالعمل المتحقِّق في إطار السنن الطبيعية، من حيث درجة المشقّة فيه! كما أنّ الأثر والفتح المترتِّب على شهادتهعليه‌السلام هو أعظم أثر وفتح متصوَّر، من حيث النتائج والبركات المترتِّبة عليه بالنسبة إلى الإسلام والأمّة الإسلامية، والإنسان المسلم خاصة، والإنسانيّة عامة! ولعلّ هذا من أسرار قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهعليه‌السلام :( يا حسين اُخْرُج! فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً! ) (٣) ، و( وإنّ لك في الجنّة درجات لا تنالها إلاّ بالشهادة! ) (٤) .

____________________

(١) و(٢) اللهوف: ١٢٩ / الهامش.

(٣) اللهوف: ١٢٨ / ونُذكِّر أنّ هذا الاستظهار إنّما هو بحسب فهمنا القاصر، ومن الأكيد أنّ ثمّة معاني ومقاصد فيه هي فوق منال أفهامنا القاصرة.

(٤) أمالي الصدوق: ١٣٠ المجلس ٣٠، حديث رقم ١.وقال العلاّمة المجلسي (ره) في (البحار ٤٥: ٧٤): قوله عليه‌السلام : ( لولا تقارب الأشياء ) أي قرب الآجال، أو إناطة الأشياء بالأسباب بحسب المصالح، أو أنّه يصير سبباً لتقارب الفرج وغلبة أهل الحقّ ولما يأتِ أوانه.

وفي بعض النُسخ لولا تفاوت الأشياء، أي في الفضل والثواب. انتهى.

٣١٤

ولأبي سعيد الخدري مشورة أيضاً:

روى ابن كثير: أنّ أبا سعيد الخدري (ره) لقي الإمام الحسينعليه‌السلام وحذّره من أهل الكوفة، إذ قال: « جاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله، إنِّي لكم ناصح، وإنِّي عليكم مُشفق، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة، يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم! فإنِّي سمعتُ أباك يقول بالكوفة:( والله، لقد مللتهم وأبغضتهم وملّوني وأبغضوني! وما يكون منهم وفاء قطّ! ومَن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله، ما لهم نيّات ولا عزم على أمر، ولا صبرٌ على السيف! ) (١) .

وروى ابن كثير أيضاً نصّاً آخر، عن لسان أبي سعيد الخدري (ره) أنّه قال: « غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: اتّقِ اللّه في نفسك! والزم بيتك ولا تخرج على إمامك!! »(٢) .

تأمّلٌ ومُلاحظات:

١) - هذان النصّان لم يرد أيّ ذكر لهما في التواريخ الشيعية، فهما سُنيّا المنبع، وإذا كان المتأمّل لا يجد بأساً في قبول النصّ الأوّل، مع ما فيه من بعض الهنات، فإنّه يقف ذاهلاً مُتحيِّراً في دهشته إزاء النصّ الثاني؛ لأنّه يُشبه تماماً في محتواه - من حيث الجسارة وسوء الأدب في مُخاطبة الإمامعليه‌السلام - خطابات قتلة الإمامعليه‌السلام الذين تألّبوا وتآزروا على قتله في كربلاء! أمثال شمر وعزرة بن قيس وغيرهم من مسوخ هذه الأمّة! الذين اتّهموا الإمامعليه‌السلام بالخروج على (إمامهم!) يزيد.

____________________

(١) البداية والنهاية ٨: ١٦٣ - وتأريخ الإسلام / حوادث سنة ٦٠، ص٩ - وتهذيب تأريخ دمشق ٨: ١٣٨ / ويظهر من كلامه أنّ هذا اللقاء كان في المدينة وعلى عهد معاوية، لكنّ ابن كثير وغيره ذكروه ضمن حوادث مكّة.

(٢) البداية والنهاية ٨: ١٦٣.

٣١٥

ولذا؛ فالمتأمّل المنصف العارف لا يتردد في - بل يقطع - أنّ النصّ الثاني من مكذوبات مُرتزقة الإعلام الأُمويّ، أعداء أهل البيتعليهم‌السلام ليُزيّنوا للسُذَّج من هذه الأمّة، أنّ جمعاً من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذوي المكانة المرموقة، قد أنكروا على الإمام الحسينعليه‌السلام خروجه وقيامه، واتّهموه بشَقِّ عصا الطاعة وتفريق كلمة الأمّة! فهذا نصّ مُفترى على أبي سعيد الخدري (ره)، ومرّ بنا من قبل هذا نصٌّ مفترىً آخر على جابر بن عبد الله الأنصاري (ره)، والأمثلة كثيرة!

٢) - ولكي يطمئنّ القارئ تماماً، إلى أنّ هذا النصّ مكذوب على أبي سعيد ومُفترىً عليه، يحسن هنا أن نُقدّم صورة مُباركة موجزة عن هذا الصحابي الجليل، العارف بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، المتأدّب في محضر مَن شهد منهم:

إنّه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي، من مشاهير أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونجباء الأنصار وعلمائهم، شهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اثنتي عشرة غزوة أوّلها الخندق، وتوفِّي عام ٦٤ أو ٧٤هـ.(١)

وولاؤه لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام معروف، فهو من السابقين الذين رجعوا إليه، ورواياته في فضائل عليّعليه‌السلام كثيرة، وكذلك رواياته عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضائل وأسماء الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام (٢) .

كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في مدحه أنّه:( رُزِق هذا الأمر، وكان مُستقيماً ) (٣) .

____________________

(١) راجع: سير أعلام النبلاء ٣: ١٧١ وسفينة البحار ٤: ١٦١.

(٢) انظر: بحار الأنوار ٣٩: ٢٨٩ و٤٠:٩ و٢٧: ٢٠١ و٣٦: ٢٩٠، والكافي ٣: ١٢٥ حديث رقم ١ كتاب الجنائز، وكفاية الأثر: ٢٨ - ٣٤.

(٣) رجال الكشّي: ٣٨ رقم ٧٨ وبحار الأنوار: ٨١: ٢٣٧ رقم ١٨.

٣١٦

كما ذكره الإمام الرضاعليه‌السلام ضمن مَن لم يتغيّروا ولم يُبدّلوا(١) ، فهو من الذين تجب ولايتهم، والمستفاد من هذا وثاقته وجلالته.

هذا، وقد مدحه علماء الرجال والتراجم:

فقد قال فيه الشيخ عبّاس القميّ (ره): « كان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين، وكان من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مُستقيماً »(٢) .

وذكر السيّد الخوئي (ره) إطراء الرجاليّين وثناءهم عليه، ولم يذكر أي قدح فيه أو ذمّ له!(٣)

وقد دافع التُّستري عنه - حينما عدّه المسعودي فيمَن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام - قائلاً: « إلاّ أنّه بعد اتّفاق أخبارنا على استقامته، وقوله بإمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام وجب القول: إمّا باستبصاره بعدُ، أو باشتباه المسعودي وأنّه رأى تخلُّف سعد بن مالك - أي سعد بن أبي وقّاص - فتوّهمه الخدري! - فكلٌّ منهما سعد بن مالك - »(٤) .

٢) - قد ينقدح في ذهن المتأمّل سؤال، حول سرّ عدم التحاق أبي سعيد بالإمامعليه‌السلام ، مع ماله من معرفة بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام وولائه لهم؟

وهل يمكن القول: إنّ ذلك لا يضرُّ بحسنه واستقامته؟!

قال النمازي: « ولا نعلم علّة عدم حضوره لنُصرة الحسينعليه‌السلام ، فلا يضرُّ ذلك

____________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢: ١٢٥ باب ٣٥حديث رقم ١.

(٢) سفينة البحار ٤: ١٦٠.

(٣) مُعجم رجال الحديث ٨: ٤٧.

(٤) قاموس الرجال ٥: ١٦.

٣١٧

في حُسنه واستقامته »(١) .

وقال المامقاني: « إنّ بعض الأواخر قد استشكل في حُسن عاقبة الرجل، بكونه لم يشهد مع الحسينعليه‌السلام طفّ كربلاء، مع أنّه ممَّن سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ) . وهذا إشكال واهٍ ضعيف؛ إذ لم يُحرز علمه بخروجهعليه‌السلام إلى كربلاء! ولا عُلِمَ عدم عذره لو كان عالماً، وليس كلّ مُتخلِّف عنهعليه‌السلام هالكاً. نعم، لا ينال تلك الدرجات الرفيعة المعدّة لأصحابه، وقد نبّهنا على ذلك في فوائد المقدّمة »(٢) .

كلام المامقاني (ره) في الفائدة السادسة والعشرين:

ويحسن هنا أن نقرأ ما قاله المامقاني (ره)، في الفائدة السادسة والعشرين:

قال (ره): « إذا ثبت حسنُ حال الرجل أو عدالته وثقته، لم يمكن المناقشة في ذلك بحياته في زمان وقعة الطفّ وتركه الحضور لنُصرة سيّد المظلومينعليه‌السلام ؛ ضرورة أنّ عدم الحضور فعل مُجمل لا يحمل على الفاسد، إلاّ إذا أُحرز فيه جهة الفساد، وسبب الحمل على الصحّة في ذلك واضح لائح؛ ضرورة أنّ الرجل إن كان كوفياً، فإنّ ابن زياد قد حبس أربعمئة وخمسين رجلاً من الشيعة والموالين حتى لا يحضروا النصرة! فلعلّ الرجل كان فيهم.

وأيضاً، فقد صدَّ على الطرق حتى لا يصل أحدٌ إلى كربلاء! ومَن حضر الطفّ: بين مَن كان معه، ومَن خرج في عسكر ابن سعد، ولما بلغ

____________________

(١) مُستدركات علم رجال الحديث ٤: ٢٢.

(٢) تنقيح المقال ٢: ١١.

٣١٨

كربلاء انصرف إلى الحسين عليه‌السلام .

ولعلّ مَن لم يحضر لم يلتفت إلى إمكان هذه المكيدة الحسنة: أعني الخروج بعنوان عسكر ابن سعد واللحوق في كربلاء بالحسينعليه‌السلام ، وإن كان الرجل من غير أهل الكوفة؛ فلأنّه مضافاً إلى رصد الطرق، لم تطل المدَّة ولم يُمهل ابن زياد حتى يبلغهم الخبر، فإنّ أسباب وصول الخبر يومئذ من البريد والبرق لم يكن مُتهيِّئاً، ورصد الطرق أوجب تأخير وصول الخبر؛ ولذا لم يدرِ الأغلب بالوقعة إلاّ بعد وقوعها؛ فعدم الحضور غير قادح في الرجل بعد إحراز وثاقته أو حسن حاله، إلاّ إذا ثبت علمه بالحال وقدرته على الحضور وتخلّفه عنه كما لا يخفى.

وأمّا المتخلّفون عنه عند حركته من المدينة؛ فلأنّ الحسينعليه‌السلام حين حركته وإن كان يدري هو وجمع من المطّلعين على إخبار النبيّ الأمين - بمُقتضى خبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله - أنّه يُستشهد بالعراق، إلاّ أنّه في ظاهر الحال لم يكن ليمضي إلى الحرب حتى يجب على كلّ مكلّف مُتابعته، وإنّما كان يمضي للإمامة بمُقتضى طلب أهل الكوفة، فالمتخلّف عنه غير مؤاخذ بشيء! وإنّما يؤاخذ لترك نُصرته مَن حضر الطفّ، أو كان قريباً منه على وجه يمكنه الوصول إليه ونصرته، ومع ذلك لم يفعل وقصّر في نصرته، فالمتخلّفون بالحجاز لم يكونوا مُكلّفين بالحركة معه حتى يوجب تخلّفهم الفسق؛ ولذا فإنّ جملة من الأخيار الأبدال، الذين لم يكتب الله تعالى لهم نيل هذا الشرف الدائم بقوا في الحجاز، ولم يتأمّل أحدٌ في عدالتهم كابن الحنفية وأضرابه! »(١) .

____________________

(١) تنقيح المقال ١: ٢١٢.

٣١٩

مناقشة كلام المامقاني (ره)

١) - إنّ الإخبارات الكثيرة التي أُثرت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، (ومنها قليلٌ عن الحسنعليه‌السلام )، وعن الحسينعليه‌السلام نفسه، كانت قد شخّصت زمان استشهادهعليه‌السلام ، ومكان الوقعة التي يُستشهد فيها، بل وشخّصت الحاكم الآمر بقتلهعليه‌السلام وهو يزيد، وأمير جيشه عمر بن سعد، بل وشخّصت حتى صفة القاتل المباشر للذبح شمر بن ذي الجوشن، وكانت هذه الإخبارات على كثرتها ووفرة تفصيلاتها، قد انتشرت في أوساط الصحابة خاصة، وفي كثير من أوساط الأمّة عامة؛ فمن البعيد ألاّ يكون المخلصون من الصحابة (فضلاً عن سواهم من الصحابة الذين كانوا يعملون في خطّ حركة النفاق) قد علموا - أو توقّعوا على الأقلّ - أنّ الإمامعليه‌السلام في خروجه من المدينة ثمّ في خروجه من مكّة إلى العراق ماضٍ إلى حرب وقتال!

نعم، قد يُعذر المتخلّفون عنه عند خروجه من المدينة، بأنّهم ربّما لم يعلموا بخروجه؛ لأنّ خروجه من المدينة تمّ بسرعة، ولم يعلم به إلاّ المقرّبون منهعليه‌السلام ؛ أو لأنّهم لم يكونوا آنذاك في المدينة، ولكن ما عذرهم في عدم الالتحاق بهعليه‌السلام في مكّة، وقد أقام فيها ما يقرب من مئة وخمسة وعشرين يوماً؟! خصوصاً وأنّه قد شاع في أواخر تلك الأيّام بين الناس في الحجاز أنّ أهل الكوفة قد كاتبوه، وأنّهعليه‌السلام عازم على التوجّه إلى العراق، بما يكفي لمن يُريد الالتحاق به أن يلتحق به، حتى وإن تحرّك إليه من المدينة.

٢) - من هنا وجب أن نبحث عن عذر كلّ واحد من هؤلاء المخلصين في تخلّفه عن الالتحاق بالإمامعليه‌السلام على حدة، فإن علمنا عذره في عدم التحاقه بالإمامعليه‌السلام فبها ونِعْمَتْ، وإن علمنا بأنّه لا عذر له في تخلّفه وأنّه قصّر عن نصرة الإمامعليه‌السلام وقعد عن الجهاد معه عمداً، فلا يُمكننا حينذاك أن نقول بحسنه وعدالته، وإن لم نعلم بعذره أو عدم عذره استصحبنا حسن حال الرجل أو عدالته

٣٢٠