مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 208966
تحميل: 8617

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208966 / تحميل: 8617
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

( خبّراني: مَن اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليّ معكما؟ ) .

فقالا : يا بن رسول الله، شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج، ومحمّد بن عمير بن عطارد! »(١) .

لكنّ الشيخ المفيد (ره) ذكر أنّ هؤلاء - المنافقين - كتبوا إلى الإمامعليه‌السلام رسالة مُستقلّة عن رسائل غيرهم، فقال: « ثمّ كتب شبث بن ربعي(٢) ، وحجّار بن أبجر(٣) ،

____________________

(١) اللهوف: ١٠٧ / وفي نقل الطبري: يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم، وفيه أيضاً: عزرة بن قيس بدلاً من عروة بن قيس (تأريخ الطبري ٣: ٢٧٨ / طبعة دار الكتب العلمية - بيروت).

أمّا في كتاب الإرشاد:٢٠٣ ففيه: يزيد بن الحارث بن رويم.

(٢) شبث بن ربعي التميمي: كان مؤذّن سجاح التي أدّعت النبّوة (الطبري ٢: ٢٦٨)، ثمّ أسلم، وكان فيمَن أعان على عثمان، ثمّ صار مع عليّ فهدم بأمره دار حنظلة بن الربيع، وله موقف من معاوية، ثمّ صار من الخوارج ثمّ تاب، ثمّ حضر قتل الحسين، ثمّ كان ممّن يطلب دم الحسين مع المختار!! وكان على شرطته!! ثمّ حضر قتل المختار، ومات بالكوفة حدود الثمانين. (راجع: تقريب التهذيب ١: ٣٤٤).

وما زعمه العسقلاني، من أنّ شبث بن ربعي ممّن طلب دم الحسين مع المختار، وكان على شرطته شاذٌّ وغريب جدّاً، وقد تفرّد بهذا الزعم الذي لم يقل به غيره! والمعروف المشهور، أنّ المختار (ره) لم يستعن بأحد ممّن شارك في قتل الحسين عليه‌السلام ، بل طاردهم جميعاً، فلم ينجُ من سيفه وعذابه إلاّ أقلّ القليل. نعم، لقد استعان بقياداتهم عبد الله بن الزبير! ولذا استغرب الرجاليُّ المحقّق التُّستري من زعم العسقلاني فقال: ( وما عن التقريب، في كونه ممّن أعان على عثمان، وفي شرطة المختار لم أتحقّقه! ) (قاموس الرجال: ٣٩٠).

وشبث من أصحاب المساجد الأربعة الملعونة، التي جُدّدت بالكوفة فرحاً واستبشاراً بقتل الحسين عليه‌السلام ، مع أنّه كان قد حضر صِفِّين في صفِّ عليّ عليه‌السلام (راجع: قاموس الرجال ٥: ٣٨٨ والكافي ٣: ٤٩٠ والتهذيب ٣: ٢٥٠ وتاريخ خليفة بن خياط:١١٥ وسير أعلام النبلاء ٤: ١٥٠ ووقعة صِفِّين: =

٣٤١

ويزيد بن الحارث بن رويم(٤) ، وعروة بن قيس(٥) ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي(٦) ،

____________________

= ١٩٩ - ٢٠٥). والغريب أنّ ابن حبّان أورده في كتابه (الثقات ٤: ٣٧١) وقال: ويُخطئ! وأورده المزّي في كتابه (تهذيب الكمال ٨: ٢٦٦) ولم يطعن فيه!

(٣) حجّار بن أبجر: أو بن أبحر العجلي السلمي، وهو ممّن كتب إلى الحسين عليه‌السلام ، ثمّ صار إلى ابن زياد، فبعثه ليُخذّل الناس عن مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، ثمّ انضمّ إلى الجيش الأُموي بقيادة ابن سعد لقتال الحسين عليه‌السلام ، ثمَّ صار من جند عبد الله بن مطيع العدوي لقتال المختار، وكان أبوه نصرانيّاً! وكان هو ممّن شهد على حِجر بن عديرضي‌الله‌عنه ، ورفع راية الأمان لابنه يوم خروج مسلم، وأنكر كتابه للإمام يوم عاشوراء، ثمّ حارب المختار، ثمّ حارب عبد الله بن الحرّ لمصعب فانهزم أمامه، فشتمه مصعب وردّه، ثمّ كان فيمَن كتب إليهم عبد الملك بن مروان من أهل الكوفة، فشرطوا عليه ولاية اصبهان، فأنعم بها لهم كلّهم! ولكنّه كان قد خرج مع مصعب مُتظاهراً بقتال عبد الملك... وكان حيّاً إلى سنة ٧١ هـ، ثمّ لم يُعلم أثره (راجع: مُستدركات علم الرجال ٢: ٣١٠ ووقعة الطفّ ٩٤).

(٤) يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم: أبو حوشب الشيباني، أنكر كتابه يوم عاشوراء، فلمّا هلك يزيد، وخلّف عبيد الله بن زياد على الكوفة عمرو بن حُريث، فدعا إلى بيعة ابن زياد، قام يزيد بن الحارث هذا فقال: الحمدُ لله الذي أراحنا من ابن سميّة، لا ولا كرامة! فأمر به عمرو بن حريث أن يُسجن فحالت بنو بكر دون ذلك، ثمّ صار من أصحاب الخطمي الأنصاري لابن الزبير، فكان يحثّه على قتال سليمان بن صرد وأصحابه قبل خروجهم! ثمّ كان يحثّه على حبس المختار! ثمّ بعثه ابن مطيع إلى جبّانة مراد لقتال المختار، ووضع رامية على أفواه السكك فوق البيوت، فمنع المختار من دخول الكوفة، ثُمَّ ثار على المختار في إمارته ببني ربيعة فانهزم بأصحابه... ثمّ أمَّره مصعب على المدائن، ثمّ ولي الريّ لعبد الملك بن مروان، فقتله الخوارج (راجع: الطبري ٣: ٤٤٣ وو٥٠٦ ووقعة الطف: ٩٤).

(٥) عزرة بن قيس الأحمسي: كان من الشهود على حِجر، ولهذا كتب إلى الإمام عليه‌السلام ليُكفِّر عن ذلك، ولقد استحيى أن يأتي الإمام عليه‌السلام من قِبَل عمر بن سعد ليسأله ما الذي جاء به! ولقد أجابه زهير بن القين عشيّة التاسع من المحرّم يُعرّض به: أما والله، ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلتُ إليه رسولاً قطّ، ولا وعدته نُصرتي قطّ. =

= مُستدركات علم الرجال ٦: ٣٢).

٣٤٢

- - -

____________________

= وكان عزرة عثمانياً، وجعله ابن سعد على الخيل يوم عاشوراء، وكان يحرسهم بالليل، وكان فيمَن حمل الرؤوس إلى ابن زياد. (راجع: وقعة صِفِّين: ٩٥).

وقد ورد ذكره في (الإرشاد: ٢٠٣)، وفي (الفتوح ٥: ٣٤) باسم عروة بدلاً من عزرة، لكنّ (تأريخ الطبري ٣: ٢٧٨) ذكره باسم عزرة، وكذلك (أنساب الأشراف ٣: ١٥٨)، وكذلك أورده ابن عدي في (الضعفاء ٥: ٣٧٧)، والذهبي في (ميزان الاعتدال ٣: ٦٥)، والمزيّ في (تهذيب الكمال ١٣: ٣٤). فالظاهر أنّ اسم هذا الرجل هو عزرة، ولعلّ عروة تصحيف لذلك الاسم.

(٦) عمرو بن الحجّاج الزبيدي: وهو من الذين شهدوا زوراً وكذباً على حُجر بن عديرضي‌الله‌عنه بالكفر بالله، وهو ممّن كتبوا إلى الإمام عليه‌السلام يدعونه إلى القدوم إلى الكوفة، وهو الذي هدّأ حركة قبيلة مذحج بأسلوب مُريب، وأرجعهم عن قصر ابن زياد حينما أتوا لاستنقاذ هاني بن عروة، وهو الذي بعثه عمر بن سعد في خمسمئة فارس على المشرعة، وحالوا بين الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه وعيالاته وبين الماء، وكان مع ابن مُطيع ضدّ المختار، ولما غلب المختار هرب عمرو فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم يُعلم له أثر بعد ذلك. (راجع: تأريخ الطبري ٣: ٢٧٧ و٢٧٨ و٢٨٦ و٣١١ و٤٤٥ و ٤٥٩). وكان على ميمنة ابن سعد يوم عاشوراء، وحمل على ميمنة أصحاب الإمام عليه‌السلام بمَن معه، وهو الذي اقترح أن يُرمى الإمام عليه‌السلام وأنصاره بالحجارة بدل المبارزة! وهو الذي كان يُحرّض عساكر أهل الكوفة على الإمام عليه‌السلام وأنصاره قائلاً: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام!!فقال الحسين عليه‌السلام : ( يا بن الحجّاج، أعليَّ تُحرّض الناس؟! أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتُّم عليه؟! والله، لتعلمنّ أيُّنا المارق من الدين، ومَن هو أولى بصِليِّ النار! ) . وكان عمرو ممّن حمل الرؤوس من كربلاء إلى الكوفة. (راجع: البحار ٤٥: ١٣ و١٩ و ١٠٧).

وكانت رويحة بنت عمرو بن الحجّاج هذا زوجة لهاني بن عروةرضي‌الله‌عنه وهي أمّ يحيى بن هاني، وكان هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه قد انقطع عن زيارة قصر ابن زياد وحضور مجلسه - بعد أن نزل مسلم بن عقيل عليه‌السلام عنده - بدعوى أنّه مريض، فأرسل ابن زياد إليه عمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمد بن الأشعث وأسماء بن خارجه ليأتوا به إليه. (راجع: الإرشاد ٢٠٨).

وذكر النمازي، أنّ عمرو هذا من مجاهيل الصحابة، وذكره باسم عمر بدلاً من عمرو (راجع:

٣٤٣

ومحمّد بن عمرو التيمي(١) : أمّا بعدُ، فقد اخضرَّ الجناب، وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبِل على جنُد لك مُجنّدة »(٢) .

التعاطُف الكبير مع سفير الحسينعليهما‌السلام :

بعد أن عمّت الفرحة الكوفة، وشاع أريجُ الابتهاج فيها لموت معاوية بن أبي سفيان، كان همُّ أكثر أهل الكوفة - بعد أن علموا بامتناع الإمام الحسينعليه‌السلام عن مُبايعة يزيد وارتحاله إلى مكّة المكرّمة - استنهاض الإمامعليه‌السلام للقيام ودعوته إلى التوجّه إليهم، فكانت رسائلهم الكثيرة إليه.

ولم تزل قلوبهم وأعينهم ترقب الأنباء القادمة إليهم من مكّة؛ إذ لعلّ طالعاً بالخير يحمل إليهم نبأ البُشرى بقدوم الإمامعليه‌السلام ، أو قدوم نائب عنه يسبقه إليهم، فلمّا أفاقوا ذات يوم على خبر مجيء مسلم بن عقيلعليه‌السلام إليهم، ونزوله دار المختار بين ظهرانيهم سفيراً عن الحسينعليه‌السلام ، هبّوا للقائه ولتقديم البيعة

____________________

(١) محمد بن عمرو التيمي، أو محمد بن عمير بن عطارد (كما في اللهوف: ١٠٧)، أو محمد بن عمير التميمي (كما في تاريخ الطبري ٣: ٢٧٨): وكان أحد أُمراء الجند في صِفّين مع عليّ عليه‌السلام ! (راجع: لسان الميزان ٥: ٣٢٨)، وهو ممّن سعى في دم عمرو بن الحمق الخزاعيرضي‌الله‌عنه عند زياد حتى لامه على ذلك عمرو بن حريث وزياد (راجع: تاريخ الطبري ٣: ٢٢٥)، وكان ممّن شهد على حِجر بن عديرضي‌الله‌عنه ، وكان على مضر في مُحاربة المختار، ثمّ بايع المختار فبعثه والياً على آذربيجان، وكان مع الحارث بن أبي ربيعة والي الكوفة لابن الزبير في قتال الخوارج، وكان ممّن كاتبه عبد الملك بن مروان من أهل الكوفة، ثمّ ولاّه همدان، ثمّ رجع إلى الكوفة، فكان بها في ولاية الحجّاج عام ٧٥ هـ، ثمّ لم يُعلم أثره (راجع: وقعة الطفّ: ٩٥).

(٢) الإرشاد: ٢٠٣.

٣٤٤

للإمام عليه‌السلام على يديه، وكان أقلّ عدد ذكره المؤرّخون لمن بايع مسلماً عليه‌السلام منهم اثني عشر ألفاً.

قال ابن عساكر: « كان مسير الحسين بن علي من مكّة إلى العراق، بعد أن بايع له من أهل الكوفة اثنا عشر ألفاً على يدي مسلم بن عقيل، وكتبوا إليه في القدوم عليهم... »(١) .

وقال المحقّق المقرّم (ره): « وأقبلت الشيعة يُبايعونه، حتى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفاً، وقيل: بلغ خمسة وعشرين ألفاً »(٢) .

وعن ابن نما (ره): « إنّ أهل الكوفة كتبوا إليه: إنّا معك مئة ألف! وعن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: بايع الحسينعليه‌السلام أربعون ألفاً من أهل الكوفة على أن يُحاربوا مَن حارب ويُسالموا مَن سالم »(٣) .

ولا شكّ، أنّ هذا العدد - سواء في أقلّ تقدير له أم أعلى تقدير - حاكٍ عن انتفاضة شعبية، وتحرّك جماهيريّ واسع النطاق؛ تأييداً للإمامعليه‌السلام ، ورفضاً للحُكم الأُمويّ، بل يُستفاد من رسالة مسلم بن عقيلعليه‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام أنّ الكوفة كلّها كانت مع الإمامعليه‌السلام ! فإنَّ نصّ الكتاب:( أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لا يَكْذِب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ النّاس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولا هوى، والسلام ) (٤) .

____________________

(١) تاريخ دمشق ٧: ١٤٤.

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / للمقرّم: ١٤٨ وانظر: مناقب آل أبي طالب ٤: ٩١.

(٣) مُثير الأحزان: ٢٦.

(٤) تاريخ الطبري ٣:٢٩٠.

٣٤٥

الاجتماع الأوّل مع سفير الإمام عليه‌السلام :

روى الطبري يقول: « ثمّ أقبل مسلم حتّى دخل الكوفة(١) ، فنزل دار المختار بن أبي عُبيد، وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمعت إليه جماعة منهم، قرأ عليهم كتاب حسين، فأخذوا يبكون! فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري(٢) ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّي لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! واللّهِ، أُحدّثك عمّا أنا موطِّن نفسي عليه، واللّه، لأُجيبنَّكم إذا دعوتم، ولأُقاتلنَّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أُريد بذلك إلاّ ما عند اللّه!

فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي، فقال: رحمك الله، قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك! ثمّ قال: وأنا - والله الذي لا إله إلاّ هو - على مثل ما هذا عليه! ثمّ قال الحنفيّ مثل ذلك! »(٣) .

إشارة:

لهذه الرواية تتمّة، تتحدّث عن جوّ آخر غير الجوّ الحماسيّ الحسيني، الذي تجلّى في مقالات ومواقف رجال مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أمثال عابس بن أبي شبيب الشاكري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

جوّ آخر يُخفي نفسه - على استحياء - في الأجواء الحماسية فلا يُبيِّن! وإن

____________________

(١) ومعه أصحابه الثلاثة: قيس بن مُسهَّر الصيداوي، وعمارة بن عبيد السلولي، وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبي (وقعة الطفّ: ٩٩).

(٢) تأتي ترجمة عابس بن أبي شبيب الشاكري (قدّس سرّه) في الملتحقين بالإمام عليه‌السلام في مكّة المكرّمة ص٣٨٢.

(٣) تاريخ الطبري ٣: ٢٧٩ / والمراد بالحنفي هنا هو سعيد بن عبد اللهرضي‌الله‌عنه .

٣٤٦

كان تأثيره هو التأثير الأقوى والفاعل، في تحديد ورسم مواقف أكثر الناس من أهل الكوفة يومذاك، إنّه جوّ الشلل النفسي، الذي تفشّى في أكثر الناس آنذاك وطغى عليهم، حتى تنكّروا لبصائرهم، فاستحبّوا العَمى على الهدى، وخالفت أيديهم قلوبهم، فأطاعت سيوفهم مَن كرهوا! فقتلت أعزَّ مَن أحبّوا! وما ذاك إلاّ للوهن الذي أصابهم، حين كرهوا الموت وأحبّوا الحياة الدنيا، فصاروا من خوف الموت في ذلّ! فازدوجوا وتناقض الظاهر مع الباطن فيهم، وكذلك يستحوذ الشيطان على مَن يؤثر الدنيا على الآخرة!

يقول الحجّاج بن عليّ - الذي يروي عنه أبو مخنف قصّة هذا الاجتماع -: فقلت لمحمّد بن بشر - الهمداني الذي كان حاضراً هذا الاجتماع وروى قصّته -: فهل كان منك أنت قول؟

فقال: إنّي كنتُ لأُحبُّ أن يُعِزّ الله أصحابي بالظفر، وما كنت لأُحبّ أن أُقتلَ، وكرهتُ أن أكذب!!(١) .

الكوفة بانتظار الحسين عليه‌السلام :

في غمرة التفافها حول مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وعدم مُبالاتها بواليها يومذاك النعمان بن بشير، الذي ضعف قبال موجة انتفاضة الأُمّة أو كان يتضعّف! كانت أعيُن أهالي الكوفة ترقب طريق القوافل القادمة من الحجاز، وقلوبهم بأيديهم بانتظار لحظات القدوم المبارك، قدوم الإمام الحسينعليه‌السلام ، ليفرشوا تلك القلوب زرابيَّ مبثوثة على تراب طريق مقدم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) تأريخ الطبري ٣: ٢٧٩.

٣٤٧

وذات يوم، أبصرت أعيُن أهل الكوفة رجلاً مُتلثّماً، مُعتمَّاً بعمامة سوداء، وعليه ثياب يمانيّة، قادماً وحده، راجلاً مُمسكاً بزمام بغلته! فظنّوا أنّه الإمام الحسينعليه‌السلام ! - ويا لسذاجة هذا الظنّ! - « فقالت امرأة: اللّه أكبر! ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وربِّ الكعبة! فتصايح الناس، وقالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً! وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذنب دابّته، وظنّهم أنّه الحسينعليه‌السلام ... »(١) .

فكان لا يمرّ على جماعة من الناس إلاّ سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك - يا بن رسول اللّه -! قدمتَ خير مقدم!، وجعل يمرّ بالمحارس، فكلّما نظروا إليه لم يشكّوا أنّه الإمام الحسينعليه‌السلام ! فيقولون: مرحباً بك يا بن رسول الله! وهو لا يُكلّمهم! وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم! يسايرونه طريقه إلى قصر الإمارة، وهو لا يُحيِّيهم ولا يُكلّمهم!

وسمع النعمان بن البشير بالصخب القادم على الطريق، فأغلق عليه وعلى خاصته القصر! وهو لا يشكُّ - أيضاً - أنّ هذا القادم هو الحسينعليه‌السلام ومعه الخلق يضجّون! مُلتفّين حوله، فلمّا انتهى إليه قال له النعمان: أنشدك اللّه إلاّ تنحيّت! فما أنا بمسلّم إليك أمانتي! وما لي في قتالك من أرب!

والقادم لا يُكلّمه! حتى دنا وتدلّى النعمان بين شرفتين قريباً جدّاً منه، فقال هذا القادم: افتح لا فتحتَ! فقد طال ليلك! فسمعها إنسان كوفيّ خلفه، فانكفأ إلى الناس وقد أخذته الدهشة وهو يقول: أي قوم! ابن مرجانة! والذي لا إله غيره! فاندهش الناس، وقالوا - وهم يتشبّثون بظنّهم الساذج -: ويحَك! إنّما هو الحسين!(٢) وفي رواية ابن نما (ره): «... فحسر اللثام وقال: أنا عبيد الله! فتساقط القوم، ووطئ

____________________

(١) مثير الأحزان: ٣٠.

(٢) راجع: تأريخ الطبري ٣: ٢١٨.

٣٤٨

بعضهم بعضاً، ودخل دار الإمارة... »(١) .

فالقادم - إذن - لم يكن الإمامعليه‌السلام ، بل كان عبيد الله بن زياد وابن مرجانة لعنهم الله، الوالي الذي أرسلته السلطة الأُموية المركزية في الشام، بمشورة من سرجون النصرانيّ إلى الكوفة، للسيطرة على طوارئ حركة الأمّة فيها؛ لما له من معرفة بخصائص النفسية الكوفية، وخبرة إدارية شيطانية، وقدرة على الظُّلم والغشم.

أهل الكوفة.. والمبادرة المطلوبة:

هناك مجموعة من العوامل والشرائط اللازمة، لنجاح أيّ تحرُّك ثوري يهدف إلى تغيير الأوضاع السياسية في بلد ما من البُلدان، ينبغي لقيادة هذا التحرّك الانتباه إليها، والعمل على تحقيقها لضمان نجاح هذا التحرّك في الوصول إلى أهدافه المنشودة.

والمتأمّل في تحرّك أهل الكوفة بعد موت معاوية - في رفضهم خلافة يزيد بن معاوية، ومكاتبتهم الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة، باذلين له الطاعة، وطالبين منه القدوم إليهم - يرى أنّ هناك مجموعة من الشرائط اللازمة لنجاح هذا التحرّك، كان ينبغي لوجهاء وأشراف أهل الكوفة الذين تصدّوا لهذا العمل أن يسعوا إلى تحقيقها وتوفيرها، حتّى يُوفَّقَ هذا التحرُّك وهذه الانتفاضة في بلوغ الأهداف المنشودة.

ومن أهمِّ وأوّل الأمور، التي كان ينبغي للعقل الكوفي المعارض أنْ يُعدِّ العدّة لتحقيقه، ويستبق الأيّام للقيام به، المبادرة إلى السيطرة على الأوضاع في الكوفة قبل

____________________

(١) مُثير الأحزان: ٣٠.

٣٤٩

مجيء الإمام عليه‌السلام إليها، وذلك مثلاً باعتقال الوالي الأُمويّ، وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومن عُرف من عيونه وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلاّ بإذن خاص، وذلك لحجب أخبار ما يجري فيها عن مسامع السلطة الأُموية أطول مدّة مُمكنة؛ من أجل تأخير تحرّكها لمواجهة الانتفاضة في الكوفة قبل وصول الإمام عليه‌السلام ، حتّى يصل الإمام عليه‌السلام ، فيُمسك بزمام الأمور، ويقود الثورة إلى حيث كامل الأهداف.

والاهتداء إلى ضرورة القيام بمثل هذه المبادرة ليس بدعاً من الأمر، أو من الأفكار التي لا يهتدي إليها إلاّ الأوحديّ من الناس، بل هو من إدراكات الأذهان العامة، ها هو عبد الله بن العبّاسرضي‌الله‌عنه يتحدّث عن ضرورة القيام بهذه المبادرة قائلاً للإمامعليه‌السلام : « فإن كان أهل العراق يُريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ أقدم عليهم »(١) ، وهذا عمر بن عبد الرحمان المخزومي يقول للإمامعليه‌السلام أيضاً: « إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يُقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يُقاتلك معه »(٢) ، وهذا عمرو بن لوذان يُخاطب الإمامعليه‌السلام قائلاً: « وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال، ووطّأوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكر، فإنّي لا أرى لك أن تفعل! »(٣) .

والإمامعليه‌السلام لا يُخطِّئ مقولات هؤلاء، بل يُقرِّرعليه‌السلام أنّ ذلك من النصح والعقل والرأي! فهو يقول لابن عبّاس:( يا بن عمّ، إنّي - واللّه - لأعلم أنّك ناصح

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢٩٥.

(٢) تاريخ الطبري ٣: ٢٩٤.

(٣) الإرشاد: ٢٢٣; والكامل في التأريخ ٢: ٥٤٩.

٣٥٠

مُشفق! ) (١) ، ويقول للمخزومي:( فقد - واللّه - علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل! ) (٢) ، ويقول لعمرو بن لوذان:( يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي! ) (٣) .

ومن الملفت للانتباه أيضاً: أنّه ليس في رسائل الإمامعليه‌السلام إلى أهل الكوفة، ولا في وصاياه لمسلم بن عقيلعليه‌السلام ما يمنع أهل الكوفة من القيام بهذه المبادرة التي أقرَّ الإمامعليه‌السلام أنّها من العقل والرأي! بل لقد دعاهمعليه‌السلام إلى القيام مع مسلمعليه‌السلام ؛ حيث قالعليه‌السلام في رسالته الأُولى إليهم - على رواية ابن أعثم -:( فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه! ) (٤) .

وفي رسالته الثانية، التي بعثها إليهم بيد قيس بن مُسهَّر الصيداويرضي‌الله‌عنه - والتي لم تصل إليهم؛ لأنّ ابن زياد كان قد قبض على الرسول - دعاهم الإمامعليه‌السلام إلى السرعة والعزم على الأمر والجدّ فيه، حيث قالعليه‌السلام فيها:( فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا! ) (٥) ؛ إذ الكمْشُ في الأمر هو العزم عليه والسرعة فيه!(٦) .

إذن؛ ما هي علّة عدم مُبادرة الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها؟! مع أنّ فيهم عدداً يُعتدُّ به من رجال ذوي خبرات عريقة في المجالات

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢٩٥.

(٢) تاريخ الطبري ٣: ٢٩٤.

(٣) الكامل في التاريخ ٢: ٥٤٩.

(٤) الفتوح ٥: ٣٦.

(٥) تأريخ الطبري ٣: ٣٠١.

(٦) لسان العرب ٦: ٣٤٣ / وفيه: الكمش: الرجل السريع الماضي. رجل كمش وكميش: عزوم ماض سريع في أموره. وفي الحديث: واكمش في فراغك قبل أن يقصد قصدك..) أيّ شمِّر وجدّ في الطلب..) (مجمع البحرين ٤: ١٥٣).

٣٥١

العسكرية والسياسية والإجتماعية! ولا شكّ أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة قد طرأ على أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعلّ الإجابة على هذا السؤال من أصعب ما يواجه المتأمّل في حركة أحداث النهضة الحسينية المقدّسة، ومع هذا فإنّ من الممكن هنا أن نتحدّث باختصار في أهمّ الأسباب التي أدّت إلى عدم مبادرة الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجيء الإمامعليه‌السلام إليها، وهي:

١) - لم يكن للشيعة في الكوفة - وهم من قبائل شتّى - خصوصاً في فترة ما بعد الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام عميد من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملمّاتهم، ويصدرون فيها عن رأيه وقراره وأمره.

نعم، هناك وجهاء وأشراف متعدّدون من الشيعة في الكوفة، لكلّ منهم تأثيره في قبيلته، لكنهم لا تصدر مواقفهم إزاء الأحداث الكبرى المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقد ترسّخت هذه الحالة في شيعة الكوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية - بتركيز خاص على الكوفة خلال عشرين من السنوات العجاف الحالكة - في خلق الفرقة والتناحر بين القبائل، والإرهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الأنفاس، والاضطهاد المرير والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الأمر الذي زرع بين الناس على مدى تلك السنين العشرين العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الاطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلاً على كلّ ما أشرنا إليه من التعددية والتشتّت نفس المنحى الذي تمّت فيه مكاتبة أهل الكوفة الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة، فلو لا التعددية في مراكز

٣٥٢

الوجاهة والزعامة لما تعدّدت الرسائل والرُسل منهم إلى الإمام عليه‌السلام .

فلو كان لهم زعيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفى الإمامعليه‌السلام منهم رسالة واحدة تأتي من زعيمهم، لا اثنا عشر ألف رسالة!، ولما احتاج الإمامعليه‌السلام إلى أن يسال آخر الرُسل: «خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كتب به إليّ معكما؟ ».(١)

كما يكفي دليلاً على ضعف الثقة والاطمئنان، والفردية في اتّخاذ الموقف والقرار، قول الشهيد الفذّ عابس بن أبي شبيب الشاكريرضي‌الله‌عنه بين يدي مسلم بن عقيلعليه‌السلام : «أمّا بعد، فإنّي لا أخبرك عن النّاس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! والله أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله ».(٢)

٢) - هناك ظاهرة عمّت القبائل العربية التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة انقسام الولاء في أفرادها، ففي كلّ قبيلة إذا وجدت من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيتعليهم‌السلام ، فإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ الموالين للحكم الأموي في جلّ هذه القبائل أكثر من المعارضين له عامة والموالين لأهل البيتعليهم‌السلام خاصة.

وهذه المشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يثوّروا قبائلهم ضد الحكم الأمويّ علانية، وينهضوا بهم للقيام بمثل تلك المبادرة المطلوبة؛ ذلك لأنّ أفراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن

____________________

(١) اللهوف: ١٠٧.

(٢) تأريخ الطبري: ٣: ٢٧٩.

٣٥٣

يخدمون في أجهزة الأمويين ويوالونهم سيسارعون إلى أخبار السلطة الأموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشيعيّ، فيُقضى على ذلك العمل قبل البدء فيه، كما يُقضى على الزعيم الشيعيّ وعلى أنصاره أيضاً، ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلاً، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مثل هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه تجد إزاءه أيضاً زعيماً آخر - أو أكثر - مثل عمرو بن الحجّاج الزبيدي، يتفانى في خدمة الأمويين إلى درجة أن يؤثِر مصلحة الأمويين حتى على مصلحة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لإطلاق سراح هانيرضي‌الله‌عنه ، فردّهم عن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم، بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهذه الظاهرة تجدها في بني تميم، وبني أسد، وكندة، وهمدان، والأزد، وغيرها من قبائل أهل الكوفة.

إذن فقد كان من العسير عملياً على أيّ زعيم كوفي شيعي أن يقود جموع قبيلته في عمل ما ضدّ الحكم الأمويّ؛ وذلك لوجود زعماء آخرين من نفس القبيلة موالين للحكم الأمويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالاستعانة بالسلطة الأموية نفسها.

٣) - يضاف إلى السببين الأوّل والثاني - وهما أهمّ الأسباب - سبب ثالث وهو تفشيّ مرض الشلل النفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثّل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جلّ أهل الكوفة آنذاك خاصة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما عبّر به محمّد بن بشر الهمداني - الذي روى تفاصيل اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم بن عقيلعليه‌السلام في دار المختار، وروى مقالة عابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عبد الله الحنفي رضوان الله عليهم، في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الإمامعليه‌السلام - حينما سأله الحجّاج بن عليّ

٣٥٤

قائلاً: فهل كان منك أنت قول؟

أجاب قائلاً: إنّي كنت لأحبّ أن يعزّ الله أصحابي بالظفر، وما كنت لأحبّ أن أقتل، وكرهت أن أكذب!(١)

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أيضاً، قول عبيد الله بن الحرّ الجعفي مخاطباً الإمامعليه‌السلام : «والله إني لأعلمّ أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك ولم أخلّف لك بالكوفة ناصراً!؟ فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت! ».(٢)

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة انتشار هذا المرض، وتفطّنوا لأثره السيّئ على كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية ألف حساب، نلاحظ ذلك مثلاً في قول سليمان بن صرد الخزاعي في اجتماع الشيعة الأوّل: «فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفضل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!».(٣)

ونلمح أيضاً هذا الإدراك والمعرفة بتفشّي هذا المرض في قول عابس الشاكريرضي‌الله‌عنه وهو يخاطب مسلماًعليه‌السلام : «فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم!... ».(٤)

وبعد: فلعلّ هذه الأسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكلّ إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجيء الإمامعليه‌السلام .

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري ٣: ٢٧٩.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٥١.

(٣) تاريخ الطبري ٣: ٢٧٧.

(٤) تاريخ الطبري ٣: ٢٧٩.

٣٥٥

حركة الأمّة في البصرة

كان ظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في البصرة سنة ستين للهجرة، يوحي بأنّ عبيد الله بن زياد كان قد هيمن هيمنة سياسية وإدارية كاملة على مجاري أمورها وعلى حركة الأحداث فيها؛ لما اتّصف به من قدرة على الغشم والظلم والجور، وبراعة شيطانية في التفريق بين القبائل، وخلق الكراهية بين الوجهاء والأشراف فيها، وما سوى ذلك من فنون المكر والخداع لمواصلة إخضاع وإذلال الأمّة التي عرفت فساد الطغاة الأمويين وولاتهم.

ويساعد على هذا الإيحاء في الظاهر أيضاً، وجود مجموعة كبيرة من أشراف ووجهاء البصرة ورؤساء الأخماس(١) فيها ممن لهم علاقات ودّية حميمة مع الحكّام الأمويين عامة، وعبيد الله بن زياد خاصة.

أمّا باطن الحياة السياسية والاجتماعية في البصرة آنذاك فكان يشهد أمراً آخر؛ إذ كان في البصرة أشراف ووجهاء ورؤساء أخماس آخرون - وإن كانوا قلّة - يعرفون حقائق الأمور ويحبّون الحقّ وأهله! كما كان في عمق الحياة البصرية نشاط سريّ لمعارضة شيعيّة، لها منتدياتها واجتماعاتها في الخفاء، تتداول فيها الأخبار ومستجدّات الأحداث، ولها نوع من الارتباط والعلم بأنشطة المعارضة الشيعية في الحجاز وفي الكوفة، وكان عبيد الله بن زياد على علم إجمالي بوجود هذه المعارضة الشيعية في البصرة، وكان يتوجّس منها ويحذرها.

ويمكننا هنا أن نتابع حركة الأمة في البصرة من خلال:

____________________

(١) مرّ بنا من قبل معنى الأخماس في الفصل الأول ص ٢٨ فراجع.

٣٥٦

ردّ رؤوس الأخماس والأشراف على رسالة الإمام عليه‌السلام

١) - ردّ الأحنف بن قيس: كتب الأحنف بن قيس ردّاً على النسخة التي وصلته من كتاب الإمام الحسينعليه‌السلام إلى رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها قائلاً: «أمّا بعد: فاصبر إنّ وعد الله حقّ ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون»،(١) ولم يزد على الآية(٢) شيئاً! فكأنّ الأحنف قد رأى أنه أدّى واجبه وتكليفه إزاء دعوة الإمامعليه‌السلام للنهضة؛ لإحياء سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو يكتفي بأن يوصي الإمامعليه‌السلام بالصبر! وأن لا يستخفّه الذين لا يوقنون!

ولا يخفى على العارف بسيرة الأحنف بن قيس أنّ هذا الرجل كان من أوضح مصاديق (الذين لا يوقنون)، فموقفه هذا في جوابه هذا كاشف عن تردّده عن نصرة الإمامعليه‌السلام مع علمه بأحقيّة الإمامعليه‌السلام بالخلافة وقيادة الأمّة، وموقفه الآخر من قبل في البصرة أيضاً في فتنة عبد الله بن عامر الحضرمي الذي دعا أهل البصرة - بعد صِفّين - إلى نكث بيعة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام مرّة أخرى، حيث قال الأحنف ردّاً على ما دعا إليه الحضرمي رسول معاوية: «أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جَمل! »،(٣) بدلاً من أن يهبّ للدفاع عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويدعو أهل البصرة في المقابل إلى الثبات على البيعة والسمع والطاعة!، وله موقف آخر من قبل ذلك أيضاً نمّ عن تردّده وضعف يقينه؛ إذ بعث إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: «إنّي مقيم على طاعتك في قومي فإن شئت أتيتك في مئتين من أهل بيتي فعلت، وإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد!. فبعث إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام :بل

____________________

(١) مثير الأحزان: ٢٧.

(٢) الآية رقم ٦٠ من سورة الروم.

(٣) الغارات ٢: ٣٨٤ / وراجع: ترجمة الأحنف بن قيس في الفصل الأول: ص ٣٢ - ٣٤ / الحاشية.

٣٥٧

احبِس وكفّ.. »(١) .

٢) - خيانة المنذر بن الجارود: وكان هذا أيضاً من البصريين الذين كتب إليهم الإمامعليه‌السلام ، فلمّا أتاه رسول الإمامعليه‌السلام سليمان بن رزينرضي‌الله‌عنه بالكتاب قرأه، ثم أخذ الكتاب والرسول إلى عبيد الله بن زياد؛ زاعماً(٢) أنه خشي أن يكون الكتاب دسيسة من ابن زياد!، فقتل ابن زياد الرسول! ثمّ صعد المنبر فخطب وتوعّد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف!(٣)

كان عبيد الله بن زياد صهراً للمنذر بن الجارود؛ إذ كانت بحرية بنت المنذر «أو أخته»(٤) زوجة له، وقد كافأ ابن زياد، المنذر على جريمته النكراء هذه مكافئة كان يصبو إليها المنذر، الذي كشف تماماً في هذه الواقعة عن سوء عنصره وحقارته، حيث ولاّه السند من بلاد الهند، لكنّه لم يهنأ طويلاً بجائزته على خيانته تلك، إذ هلك في السند سنة ٦٢ هـ.(٥)

ودعوى ابن الجارود أنه خشي أن يكون الكتاب دسيسة من ابن زياد دعوى كاذبة، إذ لم يكن طريق معرفة حقيقة الأمر منحصراً بتسليم الرسول والكتاب إلى ابن زياد!، لقد كان بإمكان المنذر بن الجارود - لو كان صادقاً - أن يعرف صدق الرسول بأبسط تحقيق معه، لا بتسليمه ليقتل!.

٣) - يزيد بن مسعود النهشلي.. والموقف المحمود: ما إن وصلت إلى يد يزيد بن

____________________

(١) كتاب الجمل والنصرة لسيّد العترة: ٢٩٥ / في الجزء الأول من موسوعة مصنّفات الشيخ المفيد.

(٢) راجع: تأريخ الطبري ٣: ٢٨٠.

(٣) راجع: اللهوف: ١١٤؛ والبحار ٤٤: ٣٣٧.

(٤) راجع: إبصار العين: ٤٠.

(٥) راجع: الإصابة ٣: ٤٨٠.

٣٥٨

مسعود النهشليّ نسخته من رسالة الإمام الحسين عليه‌السلام فقرأها حتى جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم؟

فقالوا: بخّ بخّ! أنت والله فقرة الظهر، ورأس الفخر، حللت في الشرف وسطاً، وتقدّمت فيه فرطاً!

قال: فإني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.

فقالوا: والله إنّا نمنحك النصيحة، ونجهد لك الرأي، فقل نسمع.

فقال: إنّ معاوية قد مات، فأهوِن به والله هالكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر باب الجَور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً وظنّ أنه قد أحكمه، وهيهات والذي أراد!، اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنه يزيد، شارب الخمور، ورأس الفجور، يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضا منهم، مع قصر حِلم، وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمه.

فأُقسم بالله قسماً مبروراً، لَجهاده على الدّين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ، ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر؛ لسابقته وسِنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعيّة وإمام قوم وجبت لله به الحجّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكّعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجَمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرته، والله لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا قد لبست للحرب

٣٥٩

لامَتها، وادّرعتُ لها بدرعها، من لم يقتل يمت، ومن يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب.

فتكلّمت بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبْل كنانتك، وفرسان عشيرتك، إن رميت بنا أصبت، وإن غزوت بنا فتحت، لا تخوض والله غمرة إلاّ خضناها، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها، ننصرك والله بأسيافنا، ونقيك بأبداننا فانهض لما شئت.

وتكلّمت بنو سعد بن زيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك، وقد كان صخر بن قيس(١) أمرَنا بترْك القتال، فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا! فأمهلنا نراجع المشورة ونأتك برأينا.

وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إن غضبت، ولا نقطن إن ظعنت، والأمر إليك، فادْعُنا نجبك، ومُرنا نطعك، والأمر إليك إذ شئت.

فقال: والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا يرفع الله السيف عنكم أبداً، ولا يزال سيفكم فيكم!

ثمّ كتب إلى الحسينعليه‌السلام : بسم الله الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد: فقل وصل إليّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له، من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لا يُخلي الأرض من عامل عليها بخير، أو دليل على سبيل النجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وأنتم فرعها، فاقدِم سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلت لك أعناق

____________________

(١) والمراد به الأحنف بن قيس / راجع: سير أعلام النبلاء ٤: ٨٥، وأسد الغابة ١: ٥٥.

٣٦٠