مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 208959
تحميل: 8617

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208959 / تحميل: 8617
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

ابن الحنفية، ولكنّ الرواية لم تُحدّد مَن همْ أفراد هذه الجماعة الهاشمية(١) .

وقال الذهبي: « بعث الحسينعليه‌السلام إلى المدينة، فقدم عليه مَن خفَّ معه من بني عبد المطّلب، وهم تسعة عشر رجلاً، ونساء... »(٢) .

ومفاد ذلك، أنّ هؤلاء لم يرافقوا الحسينعليه‌السلام حين خروجه من المدينة، بل التحقوا به بعد الدعوة التي حملتها تلك الرسالة إلى المدينة.

لكنّ المصادر التاريخية الشيعية، روت أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام بعث من مكّة إلى أخيه محمد بن الحنفية، ومن قِبله مِن بني هاشم في المدينة رسالة موجزة العبارة، عظيمة الدلالة، هي من روائع رسائلهعليه‌السلام .

ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام : « أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كتب هذه الرسالة من مكّة ونصّها:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ، إلى محمّد بن عليّ، ومِن قِبله من بني هاشم.

أمّا بعدُ: فإنّ مَن لَحِق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح، والسلام (٣) .

كما رويت رواية هذه الرسالة بتفاوت يسير عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، وظاهرها

____________________

(١) راجع تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام / تحقيق المحمودي: ٢٩٨ ح ٢٥٦)، والبداية والنهاية ٨: ١٧٨.

(٢) تأريخ الإسلام: حوادث سنة ٦١ ص٩.

(٣) كامل الزيارات: ٧٥ باب ٢٤ حديث رقم ١٥، ومُثير الأحزان: ٣٩ بتفاوت يسير.

٦١

أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كتبها بعد خروجه من مكّة(١) .

معنى مُحتوى الرسالة:

قال المجلسي « قدّس سرّه » في تعليقة له على هذه الرسالة: «( لم يبلغ الفتح ). أي: لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتّع بها، وظاهر هذا الجواب ذمّه. ويُحتمل أن يكون المعنى: أنّهعليه‌السلام خيّرهم في ذلك؛ فلا إثمَ على مَن تخلّف »(٢) .

فالمجلسي (قدّس سرّه) فسَّر الفتح بالمكاسب والفتوح الدنيوية والتمتّع بها، كما احتمل أن يكون المعنى أنّ الإمامعليه‌السلام خيّر بني هاشم في مسألة الالتحاق به؛ فلا إثم على مَن تخلّف عنه ولم يلتحق به!!

لكنّ القرشيّ فسّره بفتح من نوع آخر، لم يكن ولا يكون لغير الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام مدى العصور وإلى قيام الساعة، فقال:

« لقد أخبر الأسرة النبوية: بأنّ مَن لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة، ومَن لم يلحق به فإنّه لا ينال الفتح، فأيُّ فتح هذا الذي عناه الإمام؟ إنّه الفتح الذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التأريخ، فقد انتصرت مبادئه وانتصرت قيمه، وتألّقت الدنيا بتضحيته، وأصبح اسمه رمزاً للحق والعدل، وأصبحت شخصيته العظيمة ليست ملكاً لأمّة دون أمّة ولا لطائفة دون أُخرى، وإنّما هي ملك للإنسانية الفذَّة في كلّ زمان ومكان، فأيّ فتح أعظم من هذا الفتح؟! وأيّ نصر أسمى من هذا النصر؟! »(٣) .

وقد يُفسّر هذا الفتح بتفسير آخر: وهو أنّ المراد بهذا الفتح هو التحوُّلات

____________________

(١) بصائر الدرجات: ٤٨١ حديث رقم ٥، كما رواها عن الإمام الصادق عليه‌السلام محمد بن يعقوب الكليني (ره) في كتاب الرسائل (راجع بحار الأنوار ٤٤: ٣٣٠، و٤٥: ٨٤).

(٢) بحار الأنوار ٤٢: ٨١ - مثله القمّي في سفينة البحار ٧:٤٢٩.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٣: ٤٥.

٦٢

والتغيرات الحاسمة لصالح الإسلام، الناشئة عن شهادته عليه‌السلام في عصره وفي العصور المتعاقبة إلى قيام الطالب بدمه الإمام المهدي عليه‌السلام ، الذي يُمثِّل قيامه الفصل الأخير من نهضة جدّه الحسين عليه‌السلام ، والذي يُمثّل ظهوره على كلّ الأرض ظهور الدين المحمديّ على الدين كلّه، وذلك هو الثمرة الأخيرة لنهضة عاشوراء(١) .

ولعلّ المرحوم السيّد المقرّم ذهب إلى بعض أبعاد هذا المعنى بقوله: « كان الحسينعليه‌السلام يعتقد في نهضته أنّه فاتح منصور؛ لما في شهادته من إحياء دين رسول الله، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأمّة أنّهم أحقّ بالخلافة من غيرهم، وإليه يُشير في كتابه إلى بني هاشم:( مَن لحِقَ بنا منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح ) .

فإنّه لم يرد بالفتح إلاّ ما يترتّب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الأمّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدينعليه‌السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، لما قال له - حين رجوعه إلى المدينة -: مَن الغالب؟! فقال السجّادعليه‌السلام :

( إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقِم تعرف الغالب! ) (٢) .

فإنّه يُشير إلى تحقُّق الغاية التي ضحّى سيد الشهداء نفسه القدسية لأجلها، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور الله، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة الشهادة له بالرسالة بعد أن كان الواجب على الأمّة في

____________________

(١) راجع: الجزء الأول من هذه الدراسة: مقالة (بين يدي الشهيد الفاتح).

(٢) انظر: أمالي الشيخ الطوسي: ٦٧٧، ح١٤٣٢، وبحار الأنوار ٤٥: ١٧٧.

٦٣

الأوقات الخمس الإعلان بالشهادة لنبيّ الإسلام... »(١) .

وقد راجعنا موارد كلمة الفتح في القرآن الكريم، فوجدناها اثني عشر هي:

١ -( ... فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ... ) (٢) .

٢ -( ... فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ... ) (٣) .

٣ - ( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ... ) (٤) .

٤ -( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (٥) .

٥ -( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ... ) (٦) .

٦ -( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِينًا ) (٧) .

٧ -( ... فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) (٨) .

٨ -( فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) (٩) .

____________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام / للمقرّم: ٦٦.

(٢) سورة النساء، الآية ١٤١.

(٣) سورة المائدة، الآية ٥٢.

(٤) سورة الأنفال، الآية ١٩.

(٥) سورة السجدة، الآية ٢٨.

(٦) سورة السجدة، الآية ٢٩.

(٧) سورة الفتح، الآية ١.

(٨) سورة الفتح، الآية ١٨.

(٩) سورة الفتح، الآية ٢٧.

٦٤

٩ -( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

١٠ -( ... لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) (٢) .

١١ -( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ... ) (٣) .

١٢ -( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) (٤) .

ومعنى الفتح في هذه الموارد: إمّا فتح مكّة، أو فتح بلاد المشركين، أو فتح الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع خلقه، أو بمعنى نصر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو النصر بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بمعنى القضاء والحُكم، أو القضاء بعذاب المشركين في الدنيا، أو الحكم بالثواب والعقاب يوم القيامة(٥) .

وورد في تفسير القمّي في( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ... ) ، يعني: في الدنيا بفتح القائم.

وأيضاً قال: فتح مكّة(٦) .

وورد في كتاب تأويل الآيات، عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (٧) ، أنّه قال:

( يوم الفتح يوم تُفتح الدنيا على القائم، لا ينفع أحداً تقرُّبٌ بالإيمان، ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند الله

____________________

(١) سورة الشعراء، الآية ١١٨.

(٢) سورة الحديد، الآية ١٠.

(٣) سورة الصفّ، الآية ١٣.

(٤) سورة النصر، الآية ١.

(٥) انظر مجمع البيان ٣: ٢٠٧ و ٤: ٥٣١، و٨: ٣٣٢، و٩: ٢٣٣، و١٠: ٥٥٤.

(٦) تفسير القمّي، ٢:٣٦٦، تفسير الصافى، ٥:١٧١، نور الثقلين، ٥:٣١٨، البحار، ٥١:٤٩.

(٧) سورة السجدة، الآية ٢٩.

٦٥

قدره وشأنه، وتزخرف له يوم البعث جنانه، وتُحجب عنه نيرانه، وهذا أجر الموالين لأمير المؤمنين وذرّيته الطيّبين صلوات الله عليهم أجمعين ) (١) .

والمتأمِّل يجد أنّ الفتح في رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام - بأيّ معنىً كان من معانيه القرآنية - لا ينسجم مع ما ذهب إليه العلاّمة المجلسي (قدّس سرّه)، في أنّ المراد به في هذه الرسالة هو ما يُتمنّى من فتوح الدنيا والتمتّع بها!

رسالة أُخرى من الإمام الحسين عليه‌السلام :

روى صاحب الفتوح: أنّ يزيد بن معاوية كتب من الشام كتاباً إلى أهل المدينة من قريش وبني هاشم، وأرفق مع كتابه أبياتاً من الشعر، يُخاطب فيها الإمام الحسينعليه‌السلام أساساً، ويُفهم من سياق رواية ابن أعثم الكوفي، أنّ الرسالة وصلت إلى المدينة والإمامعليه‌السلام في مكّة، كما يقوِّي هذا الظنَّ قول ابن أعثم بعد ذكره الأبيات الشعرية: « فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات، ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّعليهما‌السلام ».

والأبيات هي:

( يا أيُّها الراكبُ الغادي لطيَّته

على عذافرة في سيره(٢) قحمُ

أبلغ قريشاً على نأي المزار بها

بيني وبين الحسين اللهُ والرحمُ

ومـوقف بـفناء البيت ينشده

عـهد الإله وما توفي به الذممُ

غـنَّيتم قـومكم فـخراً بأمِّكمُ

أمٌّ لـعمْري حـصان برَّة كرمُ

____________________

(١) نفس المصدر ٥: ٣٤٥ رقم ١٧٨٢.

(٢) هكذا في الأصل، والصحيح هو: ( في سيرها )؛ لأنّ العذافر الجَمل الشديد الصلب، والعذافرة هي الأنثى (الناقة).. (راجع لسان العرب: مادّة عذفر).

٦٦

هـي الـتي لا يُـداني فضلها أحدٌ

بنت الرسول وخير الناس قد علموا

وفـضلها لـكم فـضلٌ وغـيركم

مـن يـومكم لـهم في فضلها قسمُ

إنِّـي لأعـلم حـقَّاً غير ما كذبٍ

والـطرف يـصدقُ أحياناً ويقتصمُ

أن سـوف يُـدرككم ما تدَّعون بها

قـتلى تـهاداكم الـعُقبان والرخمُ

يا قومنا لا تشبُّوا الحرب إذ سكنتْ

تـمسَّكوا بحبال الخير واعتصموا

قد غرَّت الحرب مَن قد كان قبلكم

مـن الـقرون وقد بادت بها الأُممُ

فـأنصِفوا قـومكم لا تُهلكوا بذخاً

فرُبَّ ذي بذخ زلَّت به قدم ) (١) .

وتقول الرواية: إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لما نظر في الكتاب، علم أنّه كتاب يزيد بن معاوية، فكتبعليه‌السلام الجواب:

« بسم الله الرحمن الرحيم: ( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، والسّلام » (٣) .

ومن ظاهر هذه الرواية، لا يُمكن القطع بأنّ الإمام كتب الجواب ليزيد أو أرسله إليه، وإن كان المخاطَب فيها هو يزيد؛ إذ قد يكون الإمامعليه‌السلام بعث بالجواب إلى أهل المدينة، الذين وجّهوا بالكتاب وبالأبيات إليه، ثمّ هُمْ بعد ذلك يوصلونه أو ينقلون مُحتوى الجواب إلى يزيد.

ولم تذكر هذه الرواية مَن هُمْ أهل المدينة من قريش وبني هاشم، الذين أرسل إليهم يزيد الكتاب، لكنَّ ابن عساكر قال: كتبه يزيد إلى عبد الله بن العباس، وذكر

____________________

(١) الفتوح ٥: ٧٦.

(٢) سورة يونس: ٤١.

(٣) الفتوح ٥: ٧٦.

٦٧

الأبيات الشعرية بتفاوت(١) .

والمتأمّل في أبيات يزيد وفي جواب الإمامعليه‌السلام يرى سُنن الله تُكرَّر نفسها في المواجهات بين الربّانيين والطواغيت، فهذا يزيد بمنطق الطاغوت في أبياته، يُهدّد الإمامعليه‌السلام بالاضطهاد والقتل في الدنيا! وذلك قُصارى ما يستطيعه الطغاة، أمّا الإمامعليه‌السلام فبمنطق الرَّبانيّين، فيصرّح بانفصام الآصرة بين عمل المهتدين وعمل الضالِّين وبالبراءة بينهم، تصريحاً يستبطن التهديد بالجزاء الأُخروي وبعذاب الله الذي لا فتور فيه ولا انقطاع.

وفي متن الجواب ازدراء كامل بيزيد؛ إذ لم يذكر الإمامعليه‌السلام اسمه ولم يُلقّبه بلقب، ولم يُسلّم عليه؛ ممّا يُفهم منه أنّ يزيد «لعنه الله» مصداق تامٌّ للمكذّب بالدين وبالرُّسل والأوصياءعليهم‌السلام .

إرساله عليه‌السلام قيس بن مُسهَّر إلى الكوفة مرَّة ثانية:

يظهر من النصوص التاريخية، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام بعث قيس بن مُسهَّر الصيداوي إلى الكوفة مرّتين؛ إذ كان قد بعثه في المرّة الأُولى مع مسلم بن عقيلعليه‌السلام فدخل الكوفة(٢) ، ثمّ بعثه مسلمعليه‌السلام سفيراً عنه إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، ثمّ بعثه الإمام الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة مرَّة ثانية، ليستعلم خبر مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، فاعُتقل في الطريق وجرى عليه ما جرى.

ففي التذكرة: « ثمّ دعا مسلم بن عقيل فبعثه مع قيس بن مُسهَّر الصيداوي... »(٣) . وفيها أيضاً: « كان الحسينعليه‌السلام قد بعث قيس بن مُسهَّر إلى مسلم بن عقيل؛ ليستعلم

____________________

(١) انظر: تأريخ ابن عساكر ١٤: ٢١٠.

(٢) انظر: مروج الذهب ٢: ٨٦، ووقعة الطف: ٩٩.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٢٠.

٦٨

خبره قبل أن يصل إليه، فأخذه ابن زياد وقال له: قمْ في الناس واشتم الكذّاب ابن الكذّاب - يعني الحسين عليه‌السلام -!

فقام على المنبر وقال: أيُّها الناس، إنّي تركت الحسين بالحاجز، وأنا رسوله إليكم لتنصروه، فلعن الله الكذّاب بن الكذّاب ابن زياد. فطُرح من القصر فمات »(١) .

مَن هو قيس بن مُسهَّر الصيداوي؟

لم نعثر على ترجمة وافية لهذا البطل الفذّ، رغم التتبع والاستقصاء! فجميع مَن ترجموا له اكتفوا بأنّه حمل كتاباً من أهل الكوفة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأنّه رجع مع مسلم إلى الكوفة،

ثمّ إنّه حمل كتاباً من مسلم إلى الإمامعليهما‌السلام في الطريق إلى الكوفة، ثمَّ إنّه حمل كتاباً من الإمامعليه‌السلام إلى أهل الكوفة، وتعرّض أثناء الطريق إليها إلى الاعتقال في القادسية، ثمّ كان منه ذلك الموقف الصلب الذي عبّر عن شجاعته وولائه وعظمته.

إنّه: « قيس بن مُسَهَّر بن خالد بن جندب... الأسديّ الصيداوي، وصيدا بطن من أسد.

كان قيس رجلاً شريفاً في بني الصيدا شجاعاً، مُخلصاً في محبّة أهل البيتعليهم‌السلام .

قال أبو مخنف: اجتمعت الشيعة بعد موت معاوية في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فكتبوا للحسين بن عليعليهما‌السلام كُتباً يدعونه فيها للبيعة، وسرّحوها إليه مع عبد الله بن سبع وعبد الله بن وال، ثمّ لبثوا يومين فكتبوا إليه مع قيس بن مُسهَّر الصيداوي وعبد الرحمان بن عبد الله الأرحبي، ثمّ لبثوا يومين فكتبوا إليه مع سعيد

____________________

(١) نفس المصدر: ٢٢١.

٦٩

ابن عبد الله وهاني بن هاني...

فدعا الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيل وأرسله إلى الكوفة، وأرسل معه قيس بن مُسهّر وعبد الرحمان الأرحبي، فلمّا وصلوا إلى المضيق من بطن خبت - كما قدّمنا - جار دليلاهم فضلّوا وعطشوا، ثمّ سقطوا على الأرض، فبعث مسلم قيساً بكتاب إلى الحسينعليه‌السلام يُخبره بما كان، فلمّا وصل قيس إلى الحسين بالكتاب أعاد الجواب لمسلم مع قيس وسار معه إلى الكوفة(١) .

قال: ولما رأى مسلم اجتماع الناس على البيعة في الكوفة للحسين، كتب إلى الحسينعليه‌السلام بذلك، وسرّح الكتاب مع قيس وأصحبه عابس الشاكري وشوذباً مولاهم، فأتوه إلى مكّة ولازموه، ثمّ جاءوا معه.

قال أبو مخنف: ثمّ إنّ الحسين لما وصل إلى الحاجر من بطن الرمّة، كتب كتاباً إلى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة وبعثه مع قيس، فقبض عليه الحُصين بن تميم، وكان ذلك بعد قتل مسلم، وكان عبيد الله نظَّم الخيل ما بين خفّان إلى القادسيّة وإلى القطقطانة(٢) وإلى لعلع(٣) وجعل عليها الحُصين، وكانت صورة الكتاب:

( من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم. فإنِّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعدُ: فإنّ كتاب مسلم جاءني يُخبرني

____________________

(١) فيما مضى من هذا الكتاب كنّا قد ناقشنا صحّة أصل وقوع هذه القصّة وتفاصيلها. ويبدو أنّ صاحب (إبصار العين) يرى هنا صحّة أصل القصّة، ولا يرى صحّة أنّ مسلماً طلب من الإمام عليه‌السلام أن يعفيه، أو أنّ الإمام عليه‌السلام اتّهم مسلماً بالجُبن (حاشاهما).

(٢) بضم القاف وسكون الطاء موضع فوق القادسية، في طريق مَن يُريد الشام من الكوفة. (إبصار العين: ١١٤)؛ وعن الحموي: إنَّه قُرب الكوفة من جهة البرية بالطف، به كان سجن النعمان بن المنذر (معجم البلدان ٤: ٣٧٤).

(٣) بفتح اللام وسكون العين، جبل فوق الكوفة. (إبصار العين: ١١٤) ; وانظر معجم البلدان، ٥: ١٨.

٧٠

فيه بحُسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحُسن لنا الصنع، وأن يُثيبكم على ذلك أحسن الأجر، وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء، لثمانٍ مضين من ذي الحجَّة يوم التروية، فإذا قدم رسولي عليكم فانكمشوا في أمركم وجدّوا، فإنِّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) .

قال: فلمّا قبض الحُصين على قيس بعث به إلى عبيد الله، فسأله عبيد الله عن الكتاب، فقال: خرَّقته.

قال: ولم؟!

قال: لئلا تعلم ما فيه!

قال: إلى مَن؟

قال: إلى قوم لا أعرف أسماءهم.

قال: إنْ لم تُخبرني فاصعد المنبر وسبّ الكذّاب ابن الكذّاب. يعني: به الحسينعليه‌السلام . فصعد المنبر فقال:

أيُّها الناس، إنّ الحسين بن عليّ خير خلق الله، وابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه.

ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، وصلّى على أمير المؤمنين، فأمر به ابن زياد، فأُصعد القصر، ورُمي به من أعلاه، فتقطّع ومات.

وقال الطبري: لما بلغ الحسينعليه‌السلام إلى عذيب الهجانات، في ممانعة الحرّ

٧١

جاءه أربعة نفر ومعهم دليلهم الطرمّاح(١) بن عديّ الطّائي، وهم يجنبون فرس نافع المرادي، فسألهم الحسين عليه‌السلام عن الناس وعن رسوله، فأجابوه عن الناس، وقالوا له: رسولك مَن هو؟

قال: ( قيس! ).

فقال مجمع العائذي:

أخذه الحُصين، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره أن يلعنك وأباك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعانا إلى نصرتك، وأخبرنا بقدومك، فأمر به ابن زياد، فأُلقي من طمار القصر، فمات رضي الله عنه.

فترقرقت عينا الحسينعليه‌السلام وقال:

( ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ... ) ، اللّهمَّ، اجعل لنا ولهم الجنّة منزلاً، واجمع بيننا وبينهم في مُستقرّ رحمتك ورغائب مذخور ثوابك ) (٢) .

____________________

(١) عدَّة الشيخ الطوسي في رجاله، في أصحاب علي عليه‌السلام قائلاً: رسوله عليه‌السلام إلى معاوية، وفي أصحاب الحسين عليه‌السلام وكان الطرمّاح مع الحسين عليه‌السلام حتى سقط بين القتلى، فحمله قومه وبه رمق، وداووه، فبرئ.

ولكنَّ التستري يرى خلاف ذلك؛ حيث قال: بل لحقه عليه‌السلام في الطريق واستأذنه للرواح إلى أهله ثم رجع، فأذن عليه‌السلام له فرجع فسمع نعيه - عليه‌السلام - في الطريق (قاموس الرجال، ٥: ٥٦٠ عن الطبري، ٥: ٤٠٤).

وعن النمازي: ( من أصحاب أمير المؤمنين والحسين صلوات الله عليهم، في غاية الجلالة والنبالة، وهو رسول أمير المؤمنين إلى معاوية. وله كلمات شريفة ظريفة، فصيحة بليغة مع معاوية، بحيث أظلم الدنيا في عينيه... وذكر شهادته يوم الطف في الناسخ، ويظهر من المامقاني أنّه سقط جريحاً، فأخذه قومه وحملوه وداووه، فبرئ وعوفي » ( مُستدركات علم الرجال، ٤: ٢٩٤) و(انظر: مُعجم رجال الحديث، ٩: ٢٦١).

(٢) إبصار العين: ١١٢ - ١١٤.

٧٢

فهو رضوان الله تعالى عليه من شهداء الثورة الحسينيّة في الكوفة، وليس من شهداء الطف، لكنّه شريكهم في الأجر والشرف؛ ولذا خُصَّ بالسلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة والرجبية(١) .

وليس صحيحاً ما ورد في المناقب: أنّه كان حاملاً رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام من كربلاء إلى سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وآخرين.

وذلك؛ لأنّ قيساً قُتل قبل ورود الإمامعليه‌السلام كربلاء(٢) .

نعم، لقد كان قيس بن مُسهّر رضوان الله تعالى عليه رسولاً أساسيّاً بين مكّة والكوفة، أو على وجه الدقّة بين الإمام الحسين ومسلمعليهما‌السلام ، فقد بعثه الإمامعليه‌السلام مع مسلم في النصف من شهر رمضان، وعلى فرض صحّة أصل وقوع حادثة المضيق من بطن الخبت، فقد أرسله مسلم إلى الإمامعليه‌السلام ، ثمّ حمل جواب الإمامعليه‌السلام إلى مسلم. ثمَّ « لما رأى مسلم اجتماع الناس على البيعة في الكوفة للحسين كتب إلى الحسينعليه‌السلام بذلك، وسرّح الكتاب مع قيس وأصحَبه عابساً الشاكري وشوذباً مولاهم، فأتوه إلى مكّة ولازموه، ثمّ جاؤوا معه »(٣) ، ثمّ بعثه الإمامعليه‌السلام من بطن الرمّة في الثامن من ذي الحجّة أو بعده.

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام عليه‌السلام :

روى الطبري: أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام كان قد كتب إلى الإمامعليه‌السلام من الكوفة قبل أن يُقتَل لسبع وعشرين ليلة:

____________________

(١) انظر: تنقيح المقال ٢: ٣٤.

(٢) انظر: قاموس الرجال ٨: ٥٥٠، والبحار ٤٤: ٣٨١ - ٣٨٢.

(٣) تاريخ الطبري ٣: ٢٧٧، وإبصار العين: ١١٢.

٧٣

( أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لا يُكذب أهله، إنّ جمعَ أهل الكوفة معك، فأقبِل حين تقرأ كتابي، والسلام عليك ) (١) .

وفي رواية ابن نما:

( أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لا يُكذب أهله، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاتُه ) (٢) .

وفي رواية الدينوري:

«... فأقدم، فإنّ جميع الناس معك، ولا رأي لهم في آل أبي سفيان » (٣) .

وتقول الرواية التاريخية: إنّ قيس بن مُسهّر الصيداوي حمل هذه الرسالة إلى الإمامعليه‌السلام في مكّة، وأصحَبه مسلم عابسَ الشاكري وشوذباً مولاه(٤) .

وقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام قد علّق عزمه في التوجّه إلى الكوفة، على تقرير مسلم عن حال أهل الكوفة، وقد صرّحعليه‌السلام لأهل الكوفة في رسالته الأُولى إليهم بذلك حيث قال:

(... فإن كتب إليَّ أنَّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحِجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رُسلكم وقرأتُ في كتبكم، فإنِّي أُقدم إليكم وشيكاً إن

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢٩٠.

(٢) مثير الأحزان: ٣٢.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٤٣.

(٤) إبصار العين: ١١٢.

٧٤

شاء الله... ) (١) .

وعلى ضوء رسالة مسلمعليه‌السلام عقد الإمام الحسينعليه‌السلام عزمه على التوجّه إلى الكوفة، وكتب رسالته الثانية إلى أهلها(٢) في الحاجر من بطن الرمّة(٣) ، وحملها قيس بن مُسهَّر إلى الكوفة، لكنّه قُبض عليه أثناء هذه السفارة في الطريق، فمزّق الرسالة كي لا تقع في أيدي الأعداء.

خُطَبُ الإمام عليه‌السلام في مكّة المكرّمة:

من المؤسف، أنّ التأريخ لم يُسجّل لنا طيلة مكث الإمامعليه‌السلام في مكّة المكرَّمة إلاَّ خُطبته المشهورة، التي ورد فيها قولهعليه‌السلام :( خُطّ الموت على وِلد آدم مَخطَّ القِلادة على جِيد الفتاة ) ، وهي الخُطبة التي خطبها قبل خروجه من مكّة، وخُطبة أُخرى قصيرة، تضمّنت باقة من قصار الحِكم!!

ويصعب على المتأمِّل، أن يقتنع بأنّ الإمامعليه‌السلام طيلة ما يُقارب مئة وخمسة وعشرين يوماً في مكّة، وفي أيّام موسم الحجّ آنذاك، لم يخطب في محافل مكّة إلاّ هاتين الخُطبتين، مع ما حدّثنا به التأريخ، أنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويلتفُّون حوله، ويأخذون عنه، ويضبطون ما يسمعونه منه!

فهل يُعقل أنّ الإمامعليه‌السلام لم يستثمر تلك الأجواء الدينية القدسية في بيت الله الحرام، للتبليغ بالحقّ، والتعريف به، وبنهضته المقدّسة؟!

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٤.

(٢) أوردناها في ترجمة قيس بن مُسهَّر الصيداوي، فراجع.

(٣) ويضبطها بعضهم (الحاجز)، وبطن الرمّة: منزل يجمع طريق البصرة والكوفة إلى المدينة المنوَّرة. (راجع: إبصار العين: ٢٨).

٧٥

إنَّها ثغرة من ثغرات التأريخ المبهمة، وعثرة من عثراته المؤلمة!

الخُطبة الأُولى:

قال المحقّق المتتبّع الشيخ السماوي (قدس سره): « ولما جاء كتاب مسلم إلى الحسين عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من ذي الحجّة فخطبهم... »(١) .

غير أنّ السيد ابن طاووس (قدس سره) لم يذكر أنّه خطبها في أصحابه، بل قال: « ورُوي أنّهعليه‌السلام لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً... »(٢) .

وقال ابن نما (قدس سره): « ثمّ قام خطيباً... »(٣) .

وقد يُستفاد من نصّ ابن طاووس وابن نما: أنّ الإمامعليه‌السلام خطب هذه الخُطبة في الناس في مكّة لا في خصوص أصحابه.

والخطبة هي:

( الحمد لله، ما شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله، وصلّى الله على رسوله، خُطّ الموت على ولْد آدم مَخطَّ القلادة على جِيد الفتاة، وما أولَهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقِيه، كأنِّي بأوصالي تُقطِّعها عُسلان الفلَوات بين النواويس وكربلا، فيملأن منِّي أكرُشاً جُوفاً وأجرِبة سُغباً، لا مَحيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفِّينا أجر الصابرين، لن تشذَّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لُحْمته، وهي مجموعة له في حظيرة القُدس، تقرُّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، مَن كان باذلاً فينا مُهجته

____________________

(١) إبصار العين: ٢٧.

(٢) اللهوف: ١٢٦.

(٣) مُثير الأحزان: ٤١.

٧٦

وموطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإنِّني راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى ) (١) .

____________________

(١) اللهوف: ٢٦، ومُثير الأحزان: ٤١، وكشف الغمّة ٢: ٢٩.

قال الشيخ السماوي:

( مَخطّ القلادة ): يعني موضع خطّ القلادة، وهي في الحقيقة الجِلْد المستدير من الجِيد، فكما أنّ ذلك الجِلد لازم على الرقبة، كذلك الموت على ولْد آدم! هذا إذا قلنا: إنّ مخطّ اسم مكان، وإن قلنا: إنَّه اسم مصدر. بمعنى خطٌّ، فيعني به: أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم من وسطها، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجِيد منها في حال تقلّده.

( ما أولهني ): - يعني ما أشدَّ شوقي، والولَه شدّة الشوق.

( خِيرَ لي ): - يعني خار الله لي مصرعاً، أي اختاره. ويمضي على بعض الألسنة وفي بعض الكتب ( خُيِّر ) بالتشديد وهو غلط فاحش.

( عُسلان الفلوات ): بضم العين وسكون السين، جمع عاسل، وهو المهتزّ والمضطرب، يُقال للرمح وللذئب وأمثالهما، والمراد هنا المعنى الثاني.

لا يُقال: إنّ العُسلان لا تتسلّط على أوصال صفوة الله، لطفاً من الله وإيثاراً له.

لأنّا نقول: إنّ الكلام جرى على القواعد العربية والأساليب الفصيحة، كما يقول قائلهم: عندي جفنة يقعد فيها الخمسة، يعني: لو كانت ممّا يُفعل به ذلك لقعد فيها خمسة رجال.

فيكون معنى الكلام: لو جاز ذلك على أوصالي لفُعِل بها. وهذا كناية عن قتله وتركه بالعراء.

( النواويس ): - جمع ناوس في الأصل، وهو القبر للنصراني، والمراد به هنا القرية التي كانت عند كربلاء.

( جُوفاً ): - بضم الجيم وسكون الواو، جمع جوفاء، وهي الواسعة، ويجري على بعض الألسن تحريك الواو أو تشديدها وهو غلط.

( أجرِبة سُغُباً ): أجرِبة جمع جراب، كأغلمة وغلام، والمراد به البطن مجازاً، وسُغباً: جمع سغبى من السَغَب وهو الجوع. ورأيت في نسخة ( أحوية )، فكأنّه جمع لـ حوية البطن وهي أمعاؤها، والمعروف حوايا، فإن وردت أحوية فما أحسبها إلاّ خيراً من أجربة. =

٧٧

مُلاحظات مُستفادة من هذه الخُطبة الشريفة:

١- شبَّه الإمامعليه‌السلام حتميّة عدم انفلات الإنسان من طوق قهرية الموت، بعدم انفلات عنق الفتاة من طوق القلاد المحكَم، وتشبيه الموت بالقلادة على جيد الفتاة وهي زينة لها، إلفاتة رائعة، إلى أنّ الموت خطوة تكاملية في مسار حركة الإنسان التكوينية، وهو زينة للمؤمن خاصة في مسار حركة المصير؛ لكونه معبراً للمؤمن من دار العناء والتزاحم والابتلاء والشدائد إلى دار النعيم والجزاء الأوفى والسعادة الأبدية، ولا شكَّ أنّ الشهادة - وهي أفضل وأشرف الموت - أحرى بحقيقة الزينة من مطلق الموت، ولا يؤتاها إلاّ ذو حظّ عظيم.

٢- في قولهعليه‌السلام :( خِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ) ، إشارة إلى أنّ هذا المصرع اختيار إلهي، لا على نحو القهر والجبر طبعاً، بل على نحو التشريف بكرامة التكليف، في الظروف الصعبة الخاصة المؤدّية إلى أنْ يتحرّك الإمامعليه‌السلام نحو هذا المصرع؛ تعبّداً وامتثالاً لأمر الله تعالى في أداء هذا التكليف في مثل تلك الظروف. كما أنّ في قوله هذا إشارة إلى علمه بمصيره ومآل أمره.

٣- في قولهعليه‌السلام :( لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ) ، إشارة جليَّة إلى حتميّة وقوع هذا المصرع، وتحقّق ذلك المصير قضاء من الله تعالى، لا على نحو القهر والجبر كذلك، بل على نحو أنّ حركة الأحداث في علم الله تبارك وتعالى، ستؤول في النهاية بمشيئة الله تعالى إلى تحقّق هذا المصرع، وبالكيفيّة التي وقع بها.

٤- في هذه الخطبة ركّز الإمامعليه‌السلام على أنّ مصيره في التوجّه إلى العراق هو القتل، وأشار إلى بشاعة القتلة، بأنّ أوصاله تُقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس

____________________

= ( لن تشذّ ): - لن تنفرد وتتفرّق.

لُحمته: - بضمّ اللام وهي القرابة. (إبصار العين: ٤٢ - ٤٣).

٧٨

وكربلاء، ولعلّ في قوله عليه‌السلام :( بين النواويس وكربلاء ) ، إشارة إلى امتداد الجيش الأُموي وكثافته الشديدة على امتداد ما بين هاتين المنطقتين..

وشرط على مَن يلتحق به أن يكون باذلاً في موالاة أهل البيتعليهم‌السلام مُهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، أي لا مصير إلاّ القتل والصبر على السيوف والأسنّة!

فماذا أراد الإمامعليه‌السلام من وراء ذلك..؟ ولماذا؟

إنّ القائد الرباني في حركته نحو تحقيق أهدافه، يسعى كغيره من القادة إلى تهيأة العدّة والعدد، ويتوسّل إلى ذلك بالأسباب الظاهرة المألوفة، ولكنّه يختلف عن القادة الساعين إلى تحقيق النصر الظاهري فقط، في أنّه لا يبتغي الأعوان كيفما كانوا، بل القائد الربّاني يبتغي أعواناً ربّانين من نوعه، هدفهم الأساس في كلّ ما هم ساعون إليه مرضاة الربّ تبارك وتعالى، أعواناً هادين مهديِّين، مُصرِّين على المضيّ في طريق ذات الشوكة مع علمهم بمصيرهم.

ومن أولئك تتشكَّل العدّة الحقيقية للقائد الربّاني، التي يرسم بحسبها خطَّة الفعل ونوع المواجهة، فهو لا يعتمد في رسم خُطط ونوع المواجهة على كلّ مَن التحق به، وكثير منهم الطامعون وأهل الريبة والعصيان، فلابدّ من تمحيصهم، ولابدّ من تنقية الركب الحسينيّ من كلّ أولئك، قبل الوصول إلى ساحة المواجهة؛ ولذا كان لابدّ من أن يختبر حقيقة النيّات والعزائم، بالإعلام والتأكيد على أنّ المصير هو القتل والصبر على السيوف والأسنّة، وأنّ ذلك لا يقوى عليه إلاّ باذل في حقيقة الموالاة مُهجته، موطِّن على لقاء الله نفسه!! وهذا الاختبار من سُنن منهج القيادة الربانيّة.

وقد حدّثنا القرآن الحكيم عن هذه السنَّة في اختبار النهر على يد طالوتعليه‌السلام :

( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ

٧٩

مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

يُضاف إلى ذلك، أنّ القائد الربّاني حينما يُطلِع أنصاره على ما سوف يلقى ويلقونه من مصير، وما سوف يواجهونه من شدائد ومكاره، يكون بذلك قد فتح لهم باب علِّو الدرجة وسمّو المنزلة، والمثوبة العُليا عند الله تبارك وتعالى في حال إصرارهم على المضيّ على طريق الجهاد في سبيل الله.

والمتأمِّل في تفاصيل حركة الإمام الحسينعليه‌السلام يرى أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد دأب على الإخبار بمصرعه منذ أن كان في المدينة، وفي الطريق إلى مكّة، وفي مكّة، وفي منازل الطريق منها إلى العراق، مُغربلاً بذلك الركب الحسيني من جميع مَن أرادوا الدنيا من وراء الالتحاق به، ولم يكتفِ بذلك، بل عرّض حتى الصفوة الخالصة من أنصاره لهذا الاختبار، لتعلو بثباتهم درجاتهم الرفيعة عند الله تبارك وتعالى، وهكذا كان، حتى رأوا منازلهم في الجنّة عياناً تلكم العشيّة، ثمّ في الغد الرهيب نراهعليه‌السلام قد رسم خُطّته الحربية على أساس قوّته الحقيقية، المؤلّفة من تلكُم الصفوة القليلة الخالصة من كل شائبة!

٥ - في قولهعليه‌السلام :( لن تشذَّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لُحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القُدس، تقرُّ بهم عينه، وينجز بهم وعده... )، إشارة إلى أنّ مسار أهل البيتعليهم‌السلام امتداد لمسار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهمْ معه في درجته ومنزلته، وتقرُّ عين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما

____________________

(١) سورة البقرة: ٢٤٩.

٨٠