مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 208996
تحميل: 8617

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208996 / تحميل: 8617
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

جعل الله لهم وخصَّهم به من كرامة الدنيا والآخرة(١) . ولعلَّ في قوله عليه‌السلام :( ويُنجز بهم وعده ) ، إشارة إلى أنّ الوعد الإلهي بإظهار دين الله على الدين كلّه، على كلّ الأرض، سيتحقَّق في النهاية على يد رجل من أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أبناء الحسين عليه‌السلام هو الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام (٢) .

الخُطبة الثانية:

إنّ التأمّل في محتوى الخُطبة الثانية، وعدم ارتباط مضامينها بمضامين الخُطبة الأُولى، يقوّي الظنّ في أنّ مُناسبة الخُطبة الثانية بعيدة عن مُناسبة الخُطبة الأُولى زماناً ومكاناً، غير أنّ الحائري صاحب كتاب معالي السبطين، أورد الخُطبة الأُولى نقلاً عن اللهوف لابن طاووس، ثمّ قال بعدها: « وخطب بعدها هذه الخُطبة... »، وأورد الخُطبة الثانية، علماً بأنّ اللهوف لم يحتوِ لا على هذه الإشارة ولا على الخُطبة الثانية نفسها! والله العالم عن أيّ مصدر أخذ صاحب معالي السبطين هذه الخُطبة وتلكم الإشارة.

ونحن نورد هذه الخُطبة هنا بعد الخُطبة الأُولى؛ لأنّ هذا الفصل يختصّ بكلّ

____________________

(١) عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمدعليهما‌السلام يقولان:( إنّ الله تعالى عوّض الحسين عليه‌السلام من قتله أن جعل الإمامة في ذرِّيته، والشفاء في تُربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تُعدُّ أيّام زائريه جائياً وراجعاً من عمره ) .

قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : هذه الخلال تُنال بالحسين عليه‌السلام ، فماله في نفسه؟ قال: ( إنّ الله تعالى ألحقه بالنبيّ، فكان معه في درجته ومنزلته ) ، ثمّ تلا أبو عبد الله عليه‌السلام :( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... ) الآية ). (البحار ٤٤: ٢٢١).

(٢) والروايات في هذا المعنى كثيرة، يجدها مَن أرادها في الكُتب المؤلّفة في غيبته عليه‌السلام ، كالغيبة للطوسي، والغيبة للنعماني، وكمال الدين للصدوق، ويحتويها بشكل مجموع كتاب مُعجم أحاديث المهدي عليه‌السلام . فراجع.

٨١

ما يرتبط بحركة الإمام عليه‌السلام في مكّة المكرّمة؛ ولأنّ من المحتمل أن يكون الإمام عليه‌السلام قد أشار عقيب الخُطبة الأُولى بالإشارات الأخلاقية، التي تضمَّنتها مقاطع الحِكم القصار، التي احتوتها الخُطبة الثانية.

والخطبة الثانية هي:

( إنّ الحِلم زينة، والوفاء مروَّة، والصِلة نعمة، والاستكبار صلَف، والعَجلة سفَه، والسفه ضعف، والغلوّ ورطة، ومُجالسة أهل الدناءة شرٌّ، ومُجالسة أهل الفِسق ريبة ) (١) .

يوم الخروج من مكّة المكرّمة:

روى الشيخ المفيد (قدس سره)، وكذلك الطبري روى عن أبي مخنف: أنّ يوم خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة مُتّجهاً إلى العراق، كان يوم الثامن من ذي الحجّة: « ثمّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجّة، يوم الثلاثاء، يوم التروية، في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل »(٢) ، وهذا هو المشهور.

لكنّ المزّي وابن عساكر ذكرا أنّ خروجهعليه‌السلام من مكّة كان في يوم الاثنين، في العاشر من ذي الحجّة سنة ستّين: « فخرج مُتوجِّهاً إلى العراق في أهل بيته وستّين شيخاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الاثنين في عشر من ذي الحجّة سنة ستّين »(٣) .

لكنّ السيّد ابن طاووس (قدس سره) قال: « كان قد توجَّه الحسينعليه‌السلام من مكّة يوم

____________________

(١) معالي السبطين ١: ٢٥١، ورواها الشبلنجي في نور الأبصار: ٢٧٧، ولم يذكر قول صاحب معالي السبطين: ( وخطب بعدها هذه الخُطبة )، ورواها الأربلي في كشف الغمّة ٢: ٢٤٢، ووردت في الفصول المهمّة: ١٧٨.

(٢) الإرشاد: ٢١٨، و تاريخ الطبري ٣: ٣٠١ و ٢٩٣.

(٣) تهذيب الكمال ٤: ٤٩٣، وتاريخ دمشق ١٤: ٢١٢.

٨٢

الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجّة »(١) .

وأمّا سبط ابن الجوزي، فقد قال في تذكرة الخواص: « وأمّا الحسينعليه‌السلام ، فإنّه خرج من مكّة سابع ذي الحجّة سنة ستِّين... »(٢) .

ولا يخفى أنّ المشهور هو الصحيح والقول الفصل؛ لأنّه ورد عن لسان الإمامعليه‌السلام نفسه في رسالته الثانية إلى أهل الكوفة، حيث قال فيها:

(... وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء، لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية... ) (٣) .

وروى ابن كثير في تاريخه، عن الزبير بن بكّار، عن محمد بن الضحاك، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لما أراد الخروج من مكّة إلى الكوفة مرّ بباب المسجد الحرام وقال:

( لا ذعرتُ السوام في فَلق الصُّبح

مُغيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم أُعطي مخافة الموت ضيماً

والمنايا يرصدنني أن أحيدا ) (٤)

____________________

(١) الملهوف: ١٢٤.

(٢) تذكرة الخواص: ٢١٧.

(٣) تأريخ الطبري ٣: ٣٠١.

(٤) البداية والنهاية ٨: ١٦٧، وشرح الأخبار ٣: ١٤٤، وتاريخ دمشق ١٤: ٢٠٤. لكن هناك رواية عن أبي سعيد المقبري (أو المنقري) مفادها: أنّ الإمام عليه‌السلام تمثّل بهذين البيتين في المدينة المنوّرة، حين دخل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال أبو سعيد: ( والله، لرأيت الحسين وإنّه ليمشي بين رَجُلين، يعتمد على هذا مرّة، وعلى هذا مرّة، وعلى هذا أُخرى حتى دخل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول من الخفيف - أي وزن الشِعر الذي تمثَّل عليه‌السلام به - فعلمت عند ذلك أن لا يلبث إلاّ قليلاً حتى يخرج، فما لبث أن خرج حتى لحق بمكّة... ). ( مُختصر تاريخ دمشق ٧: ١٣٦ )

٨٣

لماذا أصرَّ الإمام عليه‌السلام على مُغادرة مكّة أيّام الحج؟

في حركة أحداث النهضة الحسينية هناك مجموعة من الوقائع مُلفتة للانتباه

____________________

= أقول: لا مانع من تكرُّر تمثُّله عليه‌السلام بهذين البيتين في الموضعين، كما أشار إلى ذلك القاضي نعمان المصري، بعد شرح مفردات البيتين حيث قال:

( السوام: النعم السائمة، وأكثر ما يقولون هذا الاسم على الإبل خاصة. والسائمة: الراعية التي تسوم الكلأ إذا داومت رعْيه، وهي سوام، والرعاة يسومونها أي يرعونها. وفي رواية أُخرى: تُمثّل بهذين البيتين بالمدينة. وهذان البيتان لابن المفرغ الحميري، تمثّل بهما الحسين عليه‌السلام .. (ثمّ قال:) وقد يكون قال ذلك في الموضعين جميعاً ). (شرح الأخبار ٣: ١٤٥).

وهناك رواية أوردها الشيخ عباس القمِّي هكذا: ( روي ): عن ابن عبّاس قال:( رأيت الحسين عليه‌السلام قبل أن يتوجّه إلى العراق على باب الكعبة وكفّ جبرئيل عليه‌السلام في كفّه، وجبرئيل يُنادي: ( هلمُّوا إلى بيعة الله عزّ وجلّ ) (نفس المهموم: ١٦٣) ).

ولا يخفى على متأمّل، أنّ ما ورد في متن هذه الرواية ليس بعزيز على الإمام عليه‌السلام ولا مُستغرب، وهو زين السماوات والأرض، كما ورد عن لسان جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجبرئيل عليه‌السلام والملأ الأعلى يتشرّفون بخدمته، لكنَّ الملاحظ على هذه الرواية قول ابن عبّاس ( رأيت ) فهل كانرضي‌الله‌عنه مؤهَّلاً لمثل هذه الرؤية ( رؤية جبرئيل عليه‌السلام )؟ أم أنّه رآه بإذن خاص من الإمام عليه‌السلام في تلك الواقعة؟ أم أنّه رآه مُتمثّلاً بشراً سويّاً، ثمّ عرّفه الإمام عليه‌السلام أنّ هذا الذي رآه هو جبرئيل عليه‌السلام ؟ أو أنّ الإمام عليه‌السلام أخبر ابن عباس ثمّ بعد ذلك حكاه ابن عباس للناس.

ومُلاحظة أُخرى: إذا كان ابن عباسرضي‌الله‌عنه قد شاهد هذا الأمر، فهل بايع؟ وإذا كان قد بايع فكيف أطاق التخلُّف عن الالتحاق بركب سيّد الشهداء عليه‌السلام ؟ حتى على فرض معذوريّته في ذلك.

ومُلاحظة أُخرى: هل انكشف أمر هذه الرؤية لابن عبّاسرضي‌الله‌عنه فقط؟ أم أنّ: ( هلمّوا إلى بيعة الله عزّ وجلّ ) كاشفة عن أنّ الخطاب موجّه للناس الآخرين؟ فهل سمعوا النداء؟ وماذا كانت الإجابة؟!

أم أنّ تلكم الرؤية كانت رؤيا منام؟ وهناك تساؤلات أُخرى.

٨٤

ومُثيرة للاستغراب، وداعية إلى التساؤل عن العلّة من ورائها، ومن أبرز هذه الوقائع خروج الإمام الحسين عليه‌السلام من مكّة في يوم التروية، وللمؤرّخين والمحقّقين والفقهاء تعاليق وآراء في صدد هذه الواقعة، نورد منها هنا ثلاثة أقوال: أحدها للعلاّمة المجلسي (ره)، والثاني للشيخ التُّستري (ره)، والثالث للسيّد المرتضى (ره)، ولنا بينها رأي وإيضاح:

تعليقة العلاّمة المجلسي (قدّس سرّه):

قال العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار: « قد مضى في كتاب الإمامة وكتاب الفتن أخبار كثيرة، دالّة على أنّ كلاًّ منهمعليهم‌السلام كان مأموراً بأمور خاصة، مكتوبة في الصُّحف السماوية النازلة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهم كانوا يعملون بها. ولا ينبغي قياس الأحكام المتعلّقة بهم على أحكامنا، وبعد الاطّلاع على أحوال الأنبياءعليهم‌السلام ، وإنّ كثيراً منهم كانوا يُبعثون فرادى على ألوف من الكفرة... ويدعونهم إلى دينهم، ولا يبالون بما ينالهم من المكاره والضرب، والحبس والقتل، والإلقاء في النار وغير ذلك، لا ينبغي الاعتراض على أئمّة الدين في أمثال ذلك، مع أنّه مع ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة لا مجال للاعتراض عليهم، بل يجب التسليم لهم في كلّ ما يصدر عنهم.

على أنّك لو تأملت حقّ التأمّل علمت أنّهعليه‌السلام فدى نفسه المقدسّة دين جدّه، ولم يتزلزل أركان دولة بني أميّة إلاّ بعد شهادته، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلاّ عند فوزه بسعادته. ولو كانعليه‌السلام يُسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم، ويشتبه على الناس أمرهم، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة، وآثار الهداية مندرسة، مع أنّه قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنّهعليه‌السلام هرب من المدينة

٨٥

خوفاً من القتل إلى مكّة، وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنّه أنّهم يريدون غيلته وقتله، حتّى لم يتيسّر له - فداه نفسي وأبي وأمِّي وولدي - أن يُتمّ حَجّه(١) ، فتحلَّل وخرج منها خائفاً يترقَّب، وقد كانوا لعنهم الله ضيّقوا عليه جميع الأقطار، ولم يتركوا له موضعاً للفرار.

ولقد رأيت في بعض الكُتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولاّه أمر الموسم، وأمّره على الحاجّ كلّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسينعليه‌السلام سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلةً، ثمّ إنّه دسَّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسينعليه‌السلام على أيّ حال اتّفق، فلمّا علم الحسينعليه‌السلام بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مُفردة(٢) .

وقد روي بأسانيد، أنّه لما منعهعليه‌السلام محمد بن الحنفية عن الخروج إلى الكوفة قال:

( والله، يا أخي لو كنت في حُجر هامَّة من هوامِّ الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني! ) (٣) .

بل الظاهر أنّه صلوات الله عليه لو كان يُسالمهم ويُبايعهم لا يتركونه؛ لشدّة عداوتهم وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلة، ويدفعونه بكلّ وسيلة، وإنّما كانوا يعرضون البيعة عليه أوّلاً، لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك، ألا ترى إلى مروان لعنه الله كيف كان يُشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه، وكان عبيد الله بن زياد عليه لعائن الله إلى يوم التنادِ يقول: إعرضوا عليه، فلينزل على أمرنا ثمّ نرى فيه رأينا. ألا ترى كيف أمّنوا مسلماً ثمّ قتلوه!!

____________________

(١) و(٢) سيأتي في ص٩٣، أنّ الدليل التاريخي والفقهي يُثبت أنّه عليه‌السلام أحرم منذ البدء لعمرة مفردة لا لعمرة التمتُّع.

(٣) انظر تاريخ الطبري ٣: ٢٩٦ و ٣٠٠.

٨٦

فأمّا معاوية لعنه الله، فإنّه مع شدّة عداوته وبُغضه لأهل البيتعليهم‌السلام كان ذا دهاء ونكراء وحزم، وكان يعلم أنّ قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه، وذهاب مُلكه، وخروج الناس عليه، فكان يُداريهم ظاهراً على أيّ حال؛ ولذا صالحه الحسنعليه‌السلام ولم يتعرَّض له الحسين؛ ولذلك كان يوصي ولده اللعين بعدم التعرّض للحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه كان يعلم أنّ ذلك يصير سبباً لذهاب دولته... »(١) .

تعليل الشيخ جعفر التُّستري (قدّس سرّه):

وللشيخ التُّستري كلام عميق، في تفسير سرّ إصرار الإمام الحسينعليه‌السلام على مُغادرة مكّة أيّام الحجّ والخروج إلى العراق، يقول (قدس سره):

« كان للحسينعليه‌السلام تكليفان واقعي وظاهري:

أمّا الواقعيّ الذي دعاه للإقدام على الموت، وتعريض عياله للأسر وأطفاله للذبح مع علمه بذلك، فالوجه فيه أنّ عتاة بني أُميّة قد اعتقدوا أنّهم على الحق، وأنّ علياً وأولاده وشيعتهم على الباطل(٢) ، حتى جعلوا سبّه من أجزاء صلاة الجمعة، وبلغ الحال ببعضهم أنّه نسي اللعن في خُطبة الجمعة فذكّره وهو في السفر فقضاه! وبنوا مسجداً سمّوه « مسجد الذِكر »، فلو بايع الحسينعليه‌السلام يزيد وسلّم الأمر إليه لم يبقَ من الحقّ أثر، فإنّ كثيراً من الناس يعتقد بأنّ المحالفة لبني أُميّة دليل استصواب رأيهم وحُسن سيرتهم، وأمّا بعد مُحاربة الحسينعليه‌السلام لهم، وتعريض نفسه المقدّسة وعياله وأطفاله للفوادح التي جرت عليهم، فقد تبيّن

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥: ٩٨ - ١٠٠.

(٢) الأمر ليس كما ذهب إليه الشيخ التُّستري (ره)، بل بنو أُميّة عرفوا الحقّ، وأنّ أهله محمد وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم؛ حسداً لأهل البيتعليهم‌السلام لما فضّلهم الله به على الناس أجمعين، فأصرّوا على الصدّ عن الحق بكل ما أوتوا من حيلة وقوّة.

٨٧

لأهل زمانه والأجيال المتعاقبة أحقيّته بالأمر وضلال مَن بغى عليه.

وأمّا التكليف الظاهري ، فلأنّهعليه‌السلام سعى في حفظ نفسه وعياله بكلّ وجه فلم يتيسّر له، وقد ضيّقوا عليه الأقطار، حتى كتب يزيد إلى عامله على المدينة أن يقتله فيها، فخرج منها خائفاً يترقّب، فلاذ بحرم الله الذي هو أمْنُ الخائف وكهف المستجير، فجدّوا في إلقاء القبض عليه، أو قتله غيلةً ولو وجد مُتعلّقاً بأستار الكعبة، فالتزم بأن يجعل إحرامه عمرة مُفردة وترك التمتُّع بالحجّ، فتوجّه إلى الكوفة؛ لأنّهم كاتبوه وبايعوه، وأكّدوا المصير إليهم، لإنقاذهم من شرور الأمويِّين، فألزمه التكليف بحسب الظاهر إلى موافقتهم، إتماماً للحجّة عليهم؛ لئلاَّ يعتذروا يوم الحساب: بأنّهم لجأوا إليه واستغاثوا به من ظُلم الجائرين، فاتَّهمهم بالشقاق ولم يُغثهم.

مع أنّه لو لم يرجع إليهم، فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو معنى قوله لابن الحنفية:( لو دخلتُ في جُحر هامَّة من هذه الهوامِّ لاستخرجوني حتى يقتلوني! ) (١) .

تمام الحق في القول...

وأقول: لا شكّ في دقّة جُلّ المضامين التي طرحها الشيخ التُّستري أعلى الله مقامه، خصوصاً في الإلفات إلى أنّ للإمامعليه‌السلام تكليفين: أحدهما ظاهري، وآخر واقعي، هما في طول بعضهما ولا تنافي بينهما، وقد أجاد (قدس سره) في تفصيل هذه الالتفاتة التي هي من جديد ما قدّمه الشيخ التُّستري في وقته، لكنّ لنا تحفُّظاً على قوله (قدس سره): ( مع أنّه لو لم يرجع إليهم - أي إلى أهل الكوفة - فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت... )؛ ذلك لأنّ هناك أكثر من رواية تاريخية، تُفيد أنّه كان بإمكانهعليه‌السلام أن يتوجّه إلى اليمن مثلاً ومناطق أُخرى غيرها، فهذا محمّد بن

____________________

(١) الخصائص الحسينية: ٨٣.

٨٨

الحنفية يقول له:

« تخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأُخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنّت بك الدار وإلاّ بالرمال وشعوب الجبال، وجزت من بلد إلى بلد، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين » (١) .

وهذا الطرمّاح يقول له:

« فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك، ويستبين لك ما أنت صانع، فسرْ حتى أُنزلك مِناع جبلنا الذي يُدعى (أجأ)، فأسير معك حتى أُنزلك (القُرَيّة) » (٢) .

وفي نصّ آخر: « فإن كنت مُجمعاً على الحرب فانزل «أجأ»؛ فإنّه جبل منيع، والله، ما نالنا فيه ذلٌّ قطّ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم »(٣) .

إذن؛ فالحقّ في هذه النقطة ليس كما ذهب إليه الشيخ التُّستري (قدس سره)، في أنّهعليه‌السلام لم يكن له ملجأ يتوجّه إليه من مكّة إلاّ الكوفة.

ولعلّ الصواب في هذه المسألة - إضافة إلى ما تفضّل به العلاّمة المجلسي(قدس سره) والشيخ التُّستري (قدس سره) هو: أنّ الإمامعليه‌السلام أراد أن «ينجو» من أن يُقتل في المدينة أو

____________________

(١) الفتوح ٥: ٢٢.

(٢) تاريخ الطبري ٣: ٣٠٨.

(٣) مُثير الأحزان: ٣٩ - ٤٠.

٨٩

في مكّة خاصة، قتلةً يُقضى بها على ثورته في مهدها، وتُهتك بها حُرمة البيت:

( يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم؛ فأكون الذي يُستباح به حُرمة هذا البيت ) (١) ، حيث يتمكّن الأُمويون في كلّ ذلك أن يدّعوا أنّهم بريئون ممّا جرى على الإمامعليه‌السلام - سواء في المدينة أم في مكّة أم في الطريق - فيُحافظوا بذلك على الإطار الديني لحكمهم، أو أن تزداد المصيبة سوءاً حين يُطالبون هم بدم الإمامعليه‌السلام ، فيقتلون مَن أمروه هم بقتله! أو يتّهمون بريئاً ليقتلوه! فيخدعون الناس بادعائهم أنّهم أصحاب دمه الآخذون بثأره، فيزداد الناس انخداعاً بهم ومحبّة لهم وتصديقاً بما يستظهرون من التدين والالتزام، فتكون المصيبة على الإسلام والأمَّة الإسلامية أدهى وأمرّ!!... فحيث إن لم يُبايع يُقتل، فقد سعىعليه‌السلام ألاّ يُقتل في ظروف زمانية ومكانية، وبكيفية يختارها ويُخطِّط لها ويعدُّها العدوُّ، وسعىعليه‌السلام بمنطق الشهيد الفاتح أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو، ولا يستطيع العدوّ فيها أن يُعتِّم على مصرعه، فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع، الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمّة، ويُحرّكها بالاتجاه الذي أراده الحسينعليه‌السلام ، كما سعىعليه‌السلام أن تجري وقائع المأساة في وضح النهار، لا في ظلمة الليل ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدوّ من أن يُعتِّم على هذه الوقائع الفجيعة ويُغطّي عليها؛ ولعلّ هذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمامعليه‌السلام عصر تاسوعاء أن يُمهلوه إلى صبيحة عاشوراء! »(٢) . فتأمّل!

____________________

(١) اللهوف: ٢٧.

(٢) راجع الجزء الأوّل من هذا الكتاب: مقالة بين يدي الشهيد الفاتح: ١٥٦.

٩٠

قول السيّد المرتضى ( قدّس سرّه ):

وللسيّد الشريف المرتضى أعلى الله مقامه، في سرّ إصرار الإمامعليه‌السلام على التوجّه إلى الكوفة رأي غريب؛ حيث قال « قدّس سرّه »: « فإن قيل: ما العُذر في خروجه صلوات الله عليه من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة، والمستولي عليها أعداؤه، والمتأمِّر فيها من قِبَل يزيد اللعين، مُنبسط الأمر والنهي؟! وقد رأى صنع أهل الكوفة بأبيه وأخيه صلوات الله عليهما، وأنّهم غادرون خوّانون، وكيف خالف ظنّه ظنّ جميع نصحائه في الخروج، وابن عبّاس رحمه الله يُشير بالعدول عن الخروج! ويقطع على العطب فيه! وابن عمر لما ودَّعهعليه‌السلام يقول له: ( أستودعك الله من قتيل ) إلى غير ذلك...

الجواب: قلنا: قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنِّه أنَّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوِّض إليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك، وإن كان فيه ضرب من المشقّة يُتحمّل مثلها، وسيّدنا أبو عبد اللهعليه‌السلام لم يسرْ طالباً الكوفة إلاَّ بعد توثّق من القوم، وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوهعليه‌السلام طائعين غير مُكرهين، ومُبتدئين غير مُجيبين، وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها، تقدّمت إليه في أيّام معاوية، وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسنعليه‌السلام ، فدفعهم وقال في الجواب ما وجب. ثمّ كاتبوه بعد وفاة الحسنعليه‌السلام ومعاوية باقٍ، فوعدهم ومنّاهم، وكانت أيّام معاوية صعبة لا يُطمَع في مثلها، فلمّا مضى معاوية وأعادوا المكاتبة، وبذلوا الطاعة وكرّروا الطلب والرغبة، ورأىعليه‌السلام من قوّتهم على ما كان يليهم في الحال من قِبل يزيد، وتسلّطهم عليه، وضعفه عنهم ما قوي فيه ظنُّه أنَّ المسير هو الواجب، تعيّن عليه ما فعله من الاجتهاد والتسبُّب، ولم يكن في حسبانهعليه‌السلام أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق ما اتّفق من الأمور الغريبة، فإنّ

٩١

مسلم بن عقيل، لما دخل الكوفة أخذ البيعة على أكثر أهلها!... »(١) .

وواضحٌ أنّ جواب السيد الشريف المرتضى « قدّس سرّه » قائم على مبنى أهل التسنُّن، في أنّ الإمامعليه‌السلام كغيره من الناس، يعمل على أساس ما يؤدّي إليه الظنّ، وهو مأجور على اجتهاده أخطأ أم أصاب، إلاّ أنّ أجره على الصواب أجران! وأنّ الإمام لم يكن يعلم منذ البدء بمصيره! وأنّه إنّما قام بسبب رسائل أهل الكوفة!

ويبدو أنّ الشريف المرتضى « قدّس سرّه » - وهو من أكابر مُتكلّمي الشيعة - قد اعتمد هذا اللون من الإجابة على تلك التساؤلات؛ ليُخاطب به العقل السنّي في بغداد آنذاك، والمتسنّنون آنئذٍ هم الأكثرية فيها..

وإلاّ فإنّ هذا الجواب مُخالف لاعتقاداتنا بالإمامة، وأنّ الأئمّةعليهم‌السلام يعلمون ما كان وما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة، علماً موهبيّاً من الله تبارك وتعالى، هذا فضلاً عن الروايات التأريخية الكثيرة، التي مفادها أنّ الإمامعليه‌السلام كان يعلم بمصيره ومصرعه، وأنّه كان يُخبر عن ذلك حتى في أيّام طفولته.

ثمّ إنّ قيام الإمام الحسينعليه‌السلام ورفضه البيعة ليزيد، لم يكن بسبب رسائل أهل الكوفة إليه بعد موت معاوية؛ ذلك لأنّ الثابت أنّ هذه الرسائل لم تصل إليه إلاّ بعد رفضه البيعة، وقيامه وخروجه من المدينة ووروده مكّة، وهي لم تصل إليه إلاّ بعد حوالي أربعين يوماً من أيّامه في مكّة!

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥: ٩٦ - ٩٨ عن كتاب تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى ( ره).

٩٢

عُمرة التمتُّع أم عُمرة مُفردة؟

هل بدّل الإمام عليه‌السلام إحرامه من عمرة التمتّع إلى العمرة المفردة؟

أم أنّهعليه‌السلام ابتداءً دخل في إحرام العُمرة المفردة؛ لعلمه بأنّ الظالمين سوف يصدّونه عن إتمام حجّه؟

إنّ الذي يظهر من بعض المتون التاريخية(١) ومن صريح أقوال بعض المحدّثين: هو أنّ الإمامعليه‌السلام قد بدّل إحرامه من الحجّ أو من عُمرة التمتُّع إلى العُمرة المفردة.

ولكنّ ظاهر بل صريح بعض النصوص - ومنها نصوص صحيحة - هو أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد دخل في إحرام العُمرة المفردة ابتداءً، ولم يكن ثمّة تبديل في الإحرام، وقد تبنّى هذا القول من الفقهاء السيّد محسن الحكيم « قدّس سرّه » والسيّد

____________________

(١) ( قال الطبرسي: لما أراد الخروج إلى العراق، طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ من إحرامه وجعلها عُمرة؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ؛ مخافة أن يُقبض عليه بمكة... ). ( إعلام الورى:٢٣٠).

( وقال ابن فتّال: وأحلَّ من إحرامه وجعلها عمرة؛ لأنّه لا يتمكّن من إتمام الحج... ). ( روضة الواعظين: ١٧٧).

وظاهرهما أنّ الإمام عليه‌السلام قد بدّل نيّة إحرامه لعُمرة التمتّع إلى المفردة.

ولكنَّ عبارة الشيخ المفيد ( ره ) في ( الإرشاد: ٢١٨): ( لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ ).

لا تُفيد أنّه أحلّ إحرام الحجّ. وقد فرّق بعض المحقّقين المعاصرين بين عبارتي ( تمام ) و ( إتمام )، فذهب إلى أنّ مفاد الإتمام أنّه عليه‌السلام قد تلبّس بإحرام الحج، حيث قال: ( لأنّ كلمة الإتمام تُفيد أنّه عليه‌السلام قد تلبّس بإحرام الحج دون كلمة تمام الحجّ ). ( وقعة الطف: ١٤٩).

٩٣

الخوئي « قدّس سرّه » والسيد السبزواري « قدّس سرّه»، وأشار إليه بعض المؤرّخين(١) .

لقد تعرّض الفقهاء لهذا البحث، في مسألة حكم الخروج من مكّة، لمن أتى بالعُمرة المفردة، فأقام إلى هلال ذي الحجّة، فقد ذهب بعضهم إلى القول: بوجوب أداء الحجّ، فيما لو أدرك يوم التروية، وهو رأي ابن البرّاج(٢) وهو قول نادر.

كما ذهب بعض آخر إلى القول بالاستحباب، خصوصاً إذا أقام إلى هلال ذي الحجّة، ولاسيّما إذا أقام في مكّة إلى يوم التروية وهو اليوم الثامن، وهو قول صاحب الجواهر(٣) .

وبعض الروايات التي مفادها حرمة الخروج حُملت على الكراهة؛ استناداً إلى روايات أُخرى، منها خبر اليماني: في أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام خرج قبل يوم التروية بيوم، وقد كان مُعتمراً.

وفيما يلي النصوص ثمّ كلمات الفقهاء:

١- الكليني: « علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه سُئل عن رجل خرج في أشهُر الحجّ مُعتمراً، ثمّ رجع إلى بلاده؟ قال:( لا بأس، وإن حَجَّ في عامه ذلك وأفرد الحجّ، فليس عليه دم، فإنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام خرج

____________________

(١) قال الشيخ باقر شريف القرشي: ( وهذا - أي التبديل - لا يخلو من تأمّل، فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدْي، حسب ما نصّ عليه الفقهاء، لا بقلب إحرام الحجّ إلى عُمرة، فإنّ هذا لا يوجب الإحلال من إحرام الحج ). ( راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ٣: ٥٠).

(٢) راجع: المهذّب ١: ٢٧٢ ( مَن اعتمر عُمرة - غير متمتّع بها إلى الحج - في شهور الحج، ثمّ أقام بمكّة إلى أن أدرك يوم التروية، كان عليه أن يُحْرم بالحج ويخرج إلى مِنى... ).

(٣) راجع: جواهر الكلام ٢٠: ٤٦١، وانظر: الدروس ١: ٣٣٦.

٩٤

قبل التروية بيوم إلى العراق، وقد كان دخل مُعتمراً ) (١) .

ومفاد هذا الخبر: أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن يوم خروجه من مكّة مُحْرماً حتى بإحرام العُمرة، بل كان قد أحرم للعُمرة يوم وروده مكّة المكرّمة. فتأمّل.

وقد عبّر المجلسي في المرآة عن هذا الحديث بالحسن كالصحيح(٢) .

ولقد روى الشيخ الطوسي هذا الحديث في التهذيب عن الكليني، غير أنّ فيه:( إنّ الحسين خرج يوم التروية ) (٣) .

وعبّر المجلسي عنه أيضاً في ملاذ الأخيار بالحسن الصحيح(٤) .

وقال صاحب الجواهر: « وفي التهذيب: خرج يوم التروية، ولعلّه الأصحّ لصحيح معاوية... »(٥) .

٢- الكليني: « علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرّار، عن يونس، عن معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟

فقال:( إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين بن علي في ذي الحجّة، ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعُمرة في ذي الحجّة لمن لا يُريد الحجّ ) (٦) .

____________________

(١) الكافي ٤: ٥٣٥ حديث رقم ٣ وعنه الوسائل ١٤: ٣١٠ باب ٧ حديث رقم ٢ / و١٠:٢٤٦.

(٢) مرآة العقول ١٨: ٢٣٤.

(٣) التهذيب ٥: ٤٣٦ حديث رقم ١٦٢، والاستبصار ٢: ٣٢٧ رقم ١١٦٠.

(٤) ملاذ الأخيار ٨: ٤٥٩.

(٥) جواهر الكلام: ٢٠:٤٦١.

(٦) الكافي ٤: ٥٣٥ حديث رقم ٤ باب العُمرة المقبولة في أشهر الحجّ. وعنه الوسائل ١٤: ٣١٠ باب ٧ حديث رقم ٣ ( باب أنّه يجوز أن يعتمر في أشهُر الحج عُمرة مُفردة ويذهب حيث شاء، =

٩٥

وعبّر عنها المجلسي في الملاذ: « مجهول » وقال: « قوله: وقد اعتمر: لعلّ المراد أنّ عمرة التمتُّع أيضاً إذا اضطرّ الإنسان يجوز أن يجعلها عُمرة مُفردة، كما فعله الحسينعليه‌السلام ، ويحتمل أن يكونعليه‌السلام ؛ لعلمه بعدم التمكّن من الحجّ نوى الإفراد، ولعلّه من الخبر أظهر »(١) .

إذن فالمجلسي يرى في الحديث احتمالين:

الأوّل: التبديل من عُمرة التمتّع إلى عُمرة مُفردة.

الثاني: أنّهعليه‌السلام منذ البدء قد نوى الإفراد، وليس ثَمّ تبديل.

ويرى المجلسي أنّ الاحتمال الثاني أظهر من الخبر، لكنّه في البحار يُصرّح بالاحتمال الأوّل، حيث يقول: « ولقد رأيت في بعض الكُتب المعتبرة... حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عُمرة مفردة »(٢) .

وقال في نفس الصفحة من كتابه قبل هذا: « وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنِّه أنّهم يُريدون غيلته وقتله، حتى لم يتيسّر له - فداه نفسي وأبي وأمّي وولْدي - أن يُتمّ حجّهُ، فتحلّل وخرج منها خائفاً يترقّب... »(٣) .

كلمات بعض الفقهاء:

١- قال السيد محسن الحكيم في مُستمسك العروة الوثقى: «... وأمّا ما في

____________________

= ويجوز أن يجعلها عُمرة التمتّع إن أدرك الحج ).

(١) ملاذ الأخيار ٨: ٤٦١، وعن التُّستري: ( فالتزم بأن يجعل إحرامه عُمرة مُفردة، وترك التمتّع بالحج ) ( الخصائص الحسينيّة: ٣٢).

(٢) البحار ٤٥: ٩٩.

(٣) نفس المصدر.

٩٦

بعض كُتب المقاتل، من أنّه عليه‌السلام جعل عُمرته عُمرة مُفردة، ممّا يظهر منه أنّها كانت عمرة تمتّع وعدل بها إلى الإفراد. فليس ممّا يصحّ التعويل عليه في مُقابل الأخبار المذكورة، التي رواها أهل البيتعليهم‌السلام »(١) .

٢- ويقول السيد السبزواري « قدّس سرّه » في مهذّب الأحكام: «... كما يسقط بهما - أي رواية اليماني ورواية معاوية بن عمار - ما في بعض المقاتل، من أنّ الحسينعليه‌السلام بدّل حجّة التمتّع إلى العُمرة المفردة، لظهورهما في أنّهعليه‌السلام لم يكن قاصداً للحجّ من أوّل الأمر، بل كان قاصداً للعُمرة المفردة، فلا يبقى موضوع للتبديل حينئذ »(٢) .

٣- وقال السيّد الخوئي في مُعتمد العروة الوثقى: « لا ريب في أنّ المستفاد من الخبرين، أنّ خروج الحسينعليه‌السلام يوم التروية كان على طبق القاعدة لا لأجل الاضطرار(٣) ، ويجوز ذلك لكلّ أحد، وإن لم يكن مُضطرّاً، فيكون الخبران - أي خبر اليماني وخبر معاوية - قرينة على الانقلاب إلى المتعة قهراً والاحتباس بالحجّ إنّما هو فيما إذا أراد الحجّ، وأمّا إذا لم يُرد الحجّ، فلا يحتبس بها للحجّ، ويجوز له الخروج حتى يوم التروية »(٤) .

وممّا يضعّف القول بوقوع التبديل إلى العُمرة المفردة، قول المشهور بعدم جواز التبديل إلى العمرة المفردة.

____________________

(١) مُستمسك العروة الوثقى ١١: ١٩٢.

(٢) مهذّب الأحكام ١٢: ٣٤٩ / ومثله علماء آخرون، انظر: كتاب الحج: تقريرات السيّد الشاهرودي: ٢:٣١٢، وتقريرات الحج للگلبايگاني:١:٥٨، والمحقّق الداماد:كتاب الحج:١:٣٣٣.

(٣) خلافاً لما احتمله المجلسي في مرآة العقول ١٨: ٢٣٤ حيث قال: ( وفي رواية عمر بن يزيد، إذا أهلّ عليه هلال ذي الحجّة، ويُحمل على الندب؛ لأنّ الحسين عليه‌السلام خرج بعد عمرته يوم التروية وقد يُجاب: بأنّه مُضطّر ).

(٤) مُعتمد العروة الوثقى ٢: ٢٣٦.

٩٧

قال الشيخ الوالد « قدّس سرّه»: « المشهور بين الأصحاب رضوان الله عليهم، أنّ مَن دخل مكّة بعمرة التمتّع في أشهُر الحج، لم يجُزْ له أن يجعلها مُفردة، ولا أن يخرج من مكّة حتّى يأتي بالحجّ؛ لأنّها مرتّبة « مرتبطة » بالحجّ.

نعم، عن ابن إدريس القول: بعدم الحرمة، وأنّه مكروه. وفيه أنّه مردود بالأخبار »(١) .

كما يُضعَّف أيضاً القول: بوقوع التبديل إلى العمرة المفردة، هو أنّه لو كان لأجل الصدّ ومنع الظالم. فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي، كما أشار إليه الشهيد الأوّل في الدروس(٢) والشهيد الثاني في المسالك(٣) .

فلابدّ إذن؛ من تأويل العبارات التي ظاهرها التبديل، والمهمّ المعوَّل عليه، هو عبارة الشيخ المفيد « قدّس سرّه » في الإرشاد: « لأنّه لم يتمكّن من تمام الحج ».

وأمّا القول الوارد في بعض الكتب من أنّهعليه‌السلام : « لم يتمكّن من إتمام الحجّ »، فهو ممّا ورد بعد زمان كتاب « الإرشاد » للشيخ المفيد « قدّس سرّه»؛ ولعلّه وقع بسبب تصحيف غير مقصود، أو بسبب تصرّف مقصود، قام على عدم التفريق بين « التمام » و« الإتمام »، والله العالم.

هل خرج الإمام عليه‌السلام من مكّة سرّاً؟

قال المرحوم المحقّق الشيخ السماوي في كتاب « إبصار العين»: « ولما جاء كتاب مسلم إلى الحسين، عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من

____________________

(١) ذخيرة الصالحين ٣: ١٢٤.

(٢) ( قال الشهيد الأول: إذا منع المحرمَ عدوٌّ من إتمام نُسكه كما مرّ في المحصَر، ولا طريق غير موضع العدوّ.. ذبح هدْيه أو نَحَرَه مكان الصدّ بنيّة التحلُّل، فيحلُّ على الإطلاق ) ( الدروس ١: ٤٧٨).

(٣) مسالك الأفهام ٢: ٣٨٨.

٩٨

ذي الحجّة، فخطبهم فقال:... »(١) . ثمّ أورد خُطبته المعروفة بعبارتها الشهيرة:( خُطَّ الموت على وِلْد آدم مخطَّ القلادة على جِيد الفتاة ) . والتي ورد في آخرها قوله عليه‌السلام :( فمَن كان باذلاً فينا مُهجته، موطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنِّني راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى ) .

وقد يُستفاد من قول الشيخ السماوي « قدّس سرّه»: « فجمع أصحابه... »، أنّ هذه الخُطبة التي أعلن فيها الإمامعليه‌السلام عن موعد ارتحاله عن مكّة لم تكن أمام محضر عام، بل كانت في اجتماع خاص، اقتصر على أصحابهعليه‌السلام فقط، فموعد السفر لم يعلم به إلاّ أصحابه، ولم يخرج الموعد - إذن - عن كونه سرَّاً من أسرار حركة الركب الحسيني من مكّة، أي أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد خرج بركْبه من مكّة إلى العراق سرّاً!

لكنّ الملفت للانتباه، أنّ الشيخ السماوي « قدّس سرّه » لم يذكر المصدر الذي أخذ عنه قوله: « فجمع أصحابه... »، كما أنّنا لم نعثر على مصدر من المصادر التاريخية المعروفة والمعتبرة - والتي يُحتمل أنّ الشيخ السماوي « قدّس سرّه » قد أخذ عنها - كان قد ذكر هذه العبارة « فجمع أصحابه... ».

بل إنّ المصادر التي ذكرت هذه الخُطبة بالذات لم تذكر تلكم العبارة.

ففي اللهوف: « وروي أنّهعليه‌السلام لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال:... »(٢) .

وفي مُثير الأحزان: « ثمّ قام خطيباً فقال:... »(٣) .

وفي كشف الغمّة: « ومن كلامهعليه‌السلام لما عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال:... »(٤) .

____________________

(١) إبصار العين: ٢٧.

(٢) اللهوف: ١٢٦.

(٣) مُثير الأحزان: ٤١.

(٤) كشف الغمّة ٢: ٢٤١ / دار الكتاب الإسلامي - بيروت.

٩٩

هذه هي المصادر الأساسية التي نعلم أنَّها ذكرت هذه الخُطبة..

ومع هذا، فإنّ خروج الإمامعليه‌السلام من مكّة لم يكن سرّاً، حتى على فرض أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد خطب هذه الخُطبة في أصحابه فقط؛ ذلك لأنّ الذين كانوا مُلتفّين حول الإمامعليه‌السلام - وهو في مكّة - كثيرون، وفيهم مَن يريد الدنيا وفيهم مَن يريد الآخرة، ولم يُغربَل هذا الجمع الكبير إلاّ في منازل الطريق إلى العراق، منزلاً بعد منزل، حتى لم يبقَ معه إلاّ الصَّفوة التي استُشهدت بين يديه في الطف. فمن البعيد جدَّاً، أن تكون حركة الركب الحسيني من مكّة إلى العراق سرّاً، والمحيطون بالإمامعليه‌السلام في مكّة آنذاك خليط من أُناس نواياهم شتّى، ثمّ هل يُتصوَّر أنّ حركة الركب الحسيني وهو كبير نسبياً في مكّة المكرّمة وهي آنذاك صغيرة نسبياً - بكلّ ما تستلزمه حركة مثل هذا الركب الكبير من مقدّمات واستعدادات - تخفى عن أعين السلطة، الذين كانوا يتحسَّسون الصغيرة والكبيرة من حركة الإمامعليه‌السلام ؟!

يذهب بعض المحقّقين المتتبّعين إلى عكس ما أورده الشيخ السماوي « قدّس سرّه »، حيث يقول: « ولما عزم الإمامعليه‌السلام على مُغادرة الحجاز والتوجّه إلى العراق، أمر بجمع الناس ليُلقي عليهم خطابه التأريخي، وقد اجتمع إليه خَلق كثير في المسجد الحرام من الحجّاج وأهالي مكّة، فقام فيهم خطيباً، فاستهلّ خطابه بقوله... »(١) ، ثمّ أورد تلكم الخُطبة نفسها.

ومن الأدلّة على أنّ خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة لم يكن سرّاً، أنّ والي مكّة يومئذ عمرو بن سعيد بن العاص، أمر صاحب شرطته باعتراض الركب الحسيني عند الخروج، يقول التأريخ: « ولما خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجُند.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ٣: ٤٧.

١٠٠