الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ

الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ0%

الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ISBN: 978-600-5213-37-9
الصفحات: 233

الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ

مؤلف: علي موسى الكعبي
تصنيف:

ISBN: 978-600-5213-37-9
الصفحات: 233
المشاهدات: 138698
تحميل: 7182

توضيحات:

الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138698 / تحميل: 7182
الحجم الحجم الحجم
الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ

الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ

مؤلف:
ISBN: 978-600-5213-37-9
العربية

قلب المتكبر الجبار ، لأن الله جعل التواضع آلة العقل ، وجعل التكبّر من  آلة الجهل ، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجّه ، ومن خفض  رأسه استظل تحته وأكنّه؟ وكذلك من لم يتواضع للهخفضه الله ، ومن  تواضع للهرفعه »(١) .

وكانعليه‌السلام يتأسّى بسيرة الأنبياء وسلفه الصالحين ، فيفلح أرضه ويحرثها بيديه ، قال علي بن أبي حمزة :«رأيت أبا الحسنعليه‌السلام يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت : جعلت فداك ، أين الرجال؟ فقال :يا علي ،  قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي فقلت : ومن هو؟ فقال :رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم ،  وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين »(٢) .

وفي تعاملهعليه‌السلام مع سائر الناس يجسد أخلاق جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبيه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حيث يقول :«الناس صنفان : إما أخ لك في الدين ، وإما  نظير لك في الخلق »(٣) .

قال الحرّاني في تحف العقول :«روي أنهعليه‌السلام مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر ، فسلّم عليه ، ونزل عنده ، وحادثه طويلاً ، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له ، فقيل له : يا بن رسول الله ، أتنزل إلى هذا ، ثم تسأله عن حوائجه ، وهو إليك أحوج؟!. فقالعليه‌السلام :عبد من عبيد الله ، وأخ في كتاب الله ،  وجار في بلاد الله ، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم عليه‌السلام ، وأفضل الأديان الإسلام ،  ولعل الدهر يرد من حاجاتنا إليه ، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين

___

(١) تحف العقول : ٣٨٣ ـ ٤٠٢ ، الكافي ١ : ١٠ ـ ١٥.

(٢) الكافي ٥ : ٧٥ / ١٠ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٢ / ٣٥٩٣.

(٣) نهج البلاغة / شرح محمد عبده ٣ : ٨٤ / ٥٣.

١٤١

يديه. ثم قالعليه‌السلام :

نواصل من لا يستحق وصالنا

مخافة أن نبقى بغير صديق»(١)

سادساً ـ الكرم والمروءة :

عرف الإمام الكاظمعليه‌السلام بأنه واسع العطاء ، عظيم الفضل ، كثير البذل والإحسان إلى الناس ورعاية اُمورهم ، وهي خصال بارزة في سيرته وسيرة آبائه المعصومين ، ووصفعليه‌السلام بأنه أسخى أهل زمانه كفاً ، وأكرمهم نفساً ، وأسمحهم يداً ، وأوصل الناس لأهله ورحمه ، ومن أكابر العلماء الأسخياء.

وكان لهعليه‌السلام دور بارز في تحمّل الديون عن ذوي الفاقة ورعاية الفقراء والإنفاق والبذل لسدّ حاجاتهم ورفع خصاصتهم ، ومن صفات معروفه إلى الناس أنه كان يبذل بداعي التقرب إلى الله تعالى ، فلا يطلب شهرة ولا يبتغي من أحد جزاءً ولا شكوراً ، وكان في صدقاته وبرّه يتوخّى الكتمان لئلاّ تبدو على الفقير ذلة الحاجة ، ملتمساً بذلك وجه الله ورضاه.

وقد اشتهر في الناس أنه كان يتفقّد فقراء المدينة والأيتام والأرامل وسائر ذوي الحاجة ، فيخرج في الليل ويحمل إليهم في كمّه صرراً من الدراهم والدنانير ، كما يحمل النفقات والهبات من العين والورق والأدقة والتمور ، وكانوا لا يعلمون من أي جهة هي.

وذكر جماعة من أهل العلم أنه يصل بالمائتي دينار إلى الثلاثمائة والأربعمائة ، وكان مثل صرر موسى بن جعفرعليهما‌السلام إذا جاءت الإنسان الصرّة فقد استغنى. وكان أهله يقولون : عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا

___

(١) تحف العقول : ٤١٣.

١٤٢

القلّة(١) .

وروى المؤرخون بوادر كثيرة من مظاهر سيرة الإمامعليه‌السلام في الكرم والسخاء ، وصوراً فريدة من الجود والإحسان وإسداء المعروف ، قلّما يوجد نظير لها إلاّ عند آبائه الكرامعليهم‌السلام .

ومن تلك الصور أن محمد بن عبد الله البكري قدم المدينة يطلب بها ديناً فأعياه ، فأتى الإمامعليه‌السلام في ضيعته ، فخرج إليه فأكل معه ، ثم سأله عن حاجته ، فذكر له قصته ، ثم مدّ يده إليه فدفع إليه صرّة فيها ثلاثمائة دينار(٢) .

وحين خروجه إلى ضياعه بساية مع محمد ابنه ، أهدى له بعض العبيد عصيدة ، فاشترى العبد والضيعة التي فيها ذلك العبد بألف دينار ، وأعتقه ووهبها له(٣) .

وكان لعيسى بن محمد بن مغيث القرظي زرع في موضع بالجوانية على بئر يقال لها أُم العظام ، فلما قرب الخير واستوى الزرع ، بغته الجراد فأتى على الزرع كله ، فبينما هو جالس إذ طلع عليه الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام فسأله عن حاله ، فقال : أصبحت كالصريم ، بغتني الجراد فأكل زرعي ، وكان قد غرم فيه مائة وعشرين ديناراً مع ثمن جملين ، فأمر الإمامعليه‌السلام غلامه عرفة فوزن لعيسى مائة

___

(١) راجع : الإرشاد ٢ : ٢٣١ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣٣ ، ألقاب الرسول وعترته : ٦٥ ، مقاتل الطالبيين : ٣٣٢ و ٣٦٢ ، المجدي في أنساب الطالبيين / العمري : ١٠٦ ، صفة الصفوة ٢ : ١٨٤ ، تذكرة الخواص : ٣٤٨ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٨ ، عمدة الطالب : ١٩٦ ، الفصول المهمة : ٢٣٧ ، إسعاف الراغبين / الصبان : ٢٤٦ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٣ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٩٠ ، عيون التواريخ / ابن شاكر الشافعي ٦ : ١٦٥ ، مرآة الجنان ١ : ٤٠٥.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩ ، الإرشاد ٢ : ٢٣١ ، روضة الواعظين : ٢١٥.

(٣) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩ ، المنتظم في تاريخ الملوك والاُمم ٩ : ٨٧.

١٤٣

وخمسين ديناراً ، ثم دخلعليه‌السلام الضيعة ودعا له ، وحدثه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال :«تمسكوا ببقايا المصائب »، قال : فجعل الله فيها البركة وزكت ، فبعت منها بعشرة آلاف(١) .

وأولم أبو الحسن موسىعليه‌السلام على بعض ولده ، فأطعم أهل المدينة ثلاثة أيام الفالوذجات(٢) في الجفان في المساجد والأزقة(٣) .

 ***

___

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٠.

(٢) الفالوذج : حلوى تعمل من الدقيق والعسل والماء.

(٣) الكافى ٦ : ٢٨١ / ١.

١٤٤



الفصل السادس

إسهاماته العلمية

أولى أئمة أهل البيتعليهم‌السلام العلم والعلماء أهمية خاصة ، واهتموا ضمن هذا الاطار ببناء الإنسان فكراً وعقيدة وسلوكاً ، لذلك ركز الأئمةعليهم‌السلام جهودهم في مجال التعلّم والتعليم والتوعية ، بينما جعل الحاكم جهوده ضمن إطار دنيوي ضيق لا يتعدى الحفاظ على عرشه وبذخه مما يستدرّه من قوت الملايين الجائعة ، يتضح ذلك من وصية الإمام الكاظمعليه‌السلام لهشام بن الحكم :«يا هشام ،  كما تركوا لكم الحكمة ، فاتركوا لهم الدنيا »(١) .

وضمن هذا التوجّه سجل الإمام الكاظمعليه‌السلام رصيداً معرفياً واسعاً في أوساط الأُمّة ، حيث تواصل مع نشاط رواد مدرسة أبيه الصادقعليه‌السلام في حدود هامش الحرية المتاح له من وفاة المنصور سنة (١٥٨ ه‍ )ـإلى إلقاء القبض عليه من قبل الرشيد سنة (١٧٩ ه‍ ) ، وكان له دور كبير في إغناء تلك المدرسة إطاراً ومحتوى ومادة ، وترك كثيراً من الآثار في هذا الاتجاه منها المسائل الشرعية والبحوث الكلامية ، والمواعظ والوصايا البليغة والحكم الرائعة والأقوال الجامعة التي توجه بها إلى تهذيب النفس والسلوك ، وإرشاداته التي تنضوي تحت علم الطب ، فضلاً عن سعة الرواية عنه في كافة أبواب شرائع الإسلام ، وأسهم في إعداد جيل من الرواة والمحدثين والمؤلفين الثقات الذين أوصلوا نتاج تلك المدرسة إلى قاعدة عريضة تؤمن بمرجعية الإمامعليه‌السلام ، وأسهم في تشخيص

___

(١) الكافي ١ : ١٠ ـ ١٥ / ١٢ ، تحف العقول : ٣٨٣ ـ ٤٠٢.

١٤٥

بعض حالات الضلال والانحراف ، ليصححها ويقومها في الاتجاه الصحيح.

وفيما يلي نقف عند أهم تلك الإسهامات ضمن أربعة مباحث :

المبحث الأول

دورهعليه‌السلام في ترسيخ مبادئ العقيدة

روي عن الإمام الكاظمعليه‌السلام المزيد من الأخبار المتعلقة بالبحوث والمناظرات الكلامية ، دافع فيها عن أصول الاعتقاد السامية ، وردّ على أهل البدع والأهواء ، وناظر أهل الديانات ، وسوف نسلط الضوء على بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الكاظمعليه‌السلام في شؤون العقيدة والكلام ، وما يتصل بذلك من ردود على بعض الفرق الضالة والأفكار المنحرفة ، وكما يلي :

كلمة جامعة :

جعل الإمام الكاظمعليه‌السلام من الدعاء وسيلة لتلقين أصول العقيدة والانفتاح على جميع مفرداتها ، كي يجعل من الداعي يستحضر في وعيه توحيد الخالق وصفاته ومشيئته وإرادته وعلمه وقضاءه وقدره ، ويعمّق علاقته الروحية بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعزّز فهمه لأبعاد شخصيته ومكارم أخلاقه ، ووصيّته بالإمامة لمن بعده باعتبارها الامتداد الطبيعي للنبوة ، وبيان مهمتها في إقامة مبادئ الدين والكتاب الكريم ، والحفاظ على السُنّة المباركة ، وبيان صفات الإمام ومكارم أخلاقه وفضائله ودلائله.

وقد وردت عن الإمام الكاظمعليه‌السلام المزيد من الأدعية التي تنطوي على تلك المضامين ، ومنها دعاء الاعتقاد :«...اللهمّ إنّي أقرُّ وأشهدُ ، وأعترفُ  ولا أجحدُ ، وأُسرُّ وأُظهرُ ، وأعلنُ وأبطنُ ، بأنّك أنت الله فلا إله إلاّ أنت وحدك  لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأنّ عليّا أمير المؤمنين ، وسيّد  الوصيين ، ووارث علم النبيين... إمامي ومحجّتي ، ومن لا أثق بالأعمال

١٤٦

وإن زكت ، ولا أراها منجيةً لي وإن صلحت إلاّ بولايته والائتمام به والإقرار  بفضائله... اللهمّ وأقرُّ بأوصيائه من أبنائه أئمةً وحججا وأدّلةً وسُرجاً ،  وأعلاماً ومناراً ، وسادة وأبرار... اللهمّ فادعني يوم حشري وحين نشري  بإمامتهم ، واحشرني في زمرتهم ، واكتبني في أصحابهم ، واجعلني من  اخوانهم ، وانقذني بهم يا مولاي من حرِّ النيران... »(١) .

كلماته في التوحيد والصفات :

في باب التوحيد لم يدع الإمامعليه‌السلام مناسبة دون أن يعلم أصحابه التوحيد الخالص بكلمات منتزعة من ألفاظ الكتاب الكريم وسنة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويحذرهم من رواسب الشرك ومقولات أهل البدع والأوهام الباطلة المستندة إلى تقديرات العقول ، ومن ذلك ما رواه محمد بن أبي عمير ، قال :«دخلت على سيدي موسى بن جعفرعليهما‌السلام فقلت له : يا بن رسول الله ، علمني التوحيد. فقالعليه‌السلام :يا أبا أحمد ، لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في  كتابه فتهلك ، واعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد ، لم يلد فيورث ، ولم  يولد فيشارك ، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً ، وأنه الحي الذي  لا يموت ، والقادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا يغلب ، والحليم الذي  لا يعجل ، والدائم الذي لا يبيد ، والباقي الذي لا يفنى ، والثابت الذي  لا يزول ، والغني الذي لا يفتقر ، والعزيز الذي لا يذل ، والعالم الذي  لا يجهل ، والعدل الذي لا يجور ، والجواد الذي لا يبخل ، وأنه لا تقدره  العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا يحويه مكان ،  ولا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، وليس كمثله  شيء ، وهو السميع البصير ، ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا

___

(١) مهج الدعوات : ٢٣٣.

١٤٧

كَانُوا ) (١) ،وهو الأول الذي لا شيء قبله ، والآخر الذي لا شيء بعده ، وهو  القديم وما سواه مخلوق محدث ، تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً »(٢) .

وعن محمد بن حكيم ، قال :«كتب أبو الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام إلى أبي :إن الله أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به  نفسه ، وكفوا عما سوى ذلك »(٣) .

ففي هذين الحديثين نجد أن الإمامعليه‌السلام يريد أن يؤكد حقيقة عدم قدرة البشر على معرفة الله في صفاته إلاّ من خلاله ، وأنه لا يعرف الله إلاّ هو ، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد سواه إلاّ من خلاله ، لأن الله سبحانه هو المطلق الذي لا حدود لأية صفة من صفاته ، وعلى هذا الأساس فإن المحدود مهما كانت عظمته لا يستطيع أن يدرك كنه الخالق ، وإذا أراد أن يعرف الله في صفاته فعليه أن لا يتجاوز ما وصف به نفسه ، فإن ما وصف به نفسه هو الذي يمكن لنا أن نطل من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله ، وإلاّ فقد يصفه من خلال ما يتوهمه ويتخيله فيقول ما لا يرضي الله.

نفي التشبيه والتجسيم :

كان الجدل يدور في صفات الله تعالى بين المعطلة والمشبهة ، فيذهب المعطلة إلى استحالة معرفة الله تعالى على العقول ، بينما ينسب المشبهة أو المجسمة الصفات البشرية إلى الذات الإلهية ، ويتطاولون إلى حدّ القول بأن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على حمار بصورة شاب أمرد تقدّس وتعالى عن ذلك ، الأمر الذي نفاه الإمام الكاظمعليه‌السلام بشدة على ما سيأتي ، إذ ان منهج الأئمةعليهم‌السلام

___

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٧.

(٢) التوحيد : ٧٦ / ٣٢.

(٣) الكافي ١ : ١٠٢ / ٦.

١٤٨

يقوم على أساس التحدّث بلغة القرآن وأخذ العناوين الكبرى في العقيدة منه لا من غيره ، من هنا فهمعليهم‌السلام ينفون التشبيه والتجسيم والتعطيل جميعاً ، ويقولون إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين : حد التعطيل ، وحد التشبيه ، وانه ليس بجسم ولا صورة ، ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ومصور الصور وخالق الأعراض والجواهر ، رب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه.

وفيما يلي نستعرض بعض الروايات الواردة عن الإمام الكاظمعليه‌السلام وهي تؤكد هذه المضامين :

عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيمعليه‌السلام ، قال :«ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا.

فقالعليه‌السلام :إن الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل ، إنما منظره (١) في  القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج  إلى شيء ، بل يُحتاج إليه ، وهو ذو الطول لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم. أما  قول الواصفين انه ينزل تبارك وتعالى ، فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى  نقص أو زيادة (٢) ، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به ، فمن  ظن باللهالظنون هلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد  تحدونه بنقص أو زيادة ، أو تحريك أو تحرّك ، أو زوال أو استنزال ، أو نهوض  أو قعود ، فإن الله جلّ وعزّ عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وتوهم  المتوهمين ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *

___

(١) أي مراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة.

(٢) لأن الحاجة إلى النزول والصعود إنما تكون في الممكن الذي ينقص فيحتاج إلى أن يكمل نقصه ، ويزيد فيحتاج إلى أن يستزيد.

١٤٩

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (١) »(٢) .

نلاحظ هنا كيف يرصد الإمامعليه‌السلام الانحراف في تصور الخالق سبحانه ، وكيف يضع المسألة في نصابها التوحيدي ، بتجريد الذات الإلهية عن كل صفات الممكن ، وتوجيه الناس إلى عدم الخوض في صفاته بما لا يملكون كنهه وعمقه ، وأن يصفوه بما وصف به نفسه ، فإنه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها.

وعن يونس بن عبد الرحمن ، قال :«قلت لأبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام : لأي علة عرج الله بنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء ، ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وخاطبه وناجاه هناك ، واللهلا يُوصف بمكان؟ فقالعليه‌السلام :إن الله تبارك وتعالى لا يُوصف بمكان ، ولا يجري عليه زمان ،  ولكنه عز وجل أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته ، ويكرمهم  بمشاهدته ، ويريه عجائب عظمته ، ما يخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك  على ما يقول المشبهون ، سبحان الله وتعالى عما يشركون »(٣) .

وعن الشيخ المفيد ، قال :«قال يونس بن عبد الرحمن يوماً لموسى بن جعفرعليهما‌السلام : أين كان ربك حين لا سماء مبنية ولا أرضاً مدحية؟ قالعليه‌السلام :كان  نوراً على نور ، خلق من ذلك النور ماء منكدراً ، فخلق من ذلك الماء ظلمة ،  فكان عرشه على تلك الظلمة . قال : إنما سألتك عن المكان! قال : قالعليه‌السلام :كلما قلت : أين ، فأين هو المكان . قال : وصفت فأجدت ، إنما سألتك عن المكان الموجود المعروف! قال :كان في علمه لعلمه ، فقصر علم العلماء عند  علمه »(٤) .

___

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٧ ـ ٢١٩.

(٢) الكافي ١ : ١٢٥ / ١ ، الاحتجاج ٢ : ١٥٦ ، التوحيد : ١٨٣ / ١٨.

(٣) علل الشرائع ١ : ١٢٦ ، التوحيد : ١٧٥ / ٥.

(٤) الاختصاص : ٦٠.

١٥٠

ونهى الإمام الكاظمعليه‌السلام أصحابه عن مجالسة كل من يصف الله تعالى بالصفات البشرية ، أو يحده بالمكان والزمان والحركة والانتقال ، ولو كان من أولي القربى ، وحثّهم على مقاطعتهم وحذّرهم غضب الله وانتقامه إن لم ينتهوا عن ذلك.

عن سليمان بن جعفر الجعفري ، قال :«سمعت أبا الحسنعليه‌السلام يقول لأبي : ما لي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ قال : إنه خالي. فقال له أبو الحسنعليه‌السلام :إنه يقول في الله قولاً عظيماً ، يصف الله تعالى ويحده ، واللهلا يُوصف ، فإما  جلست معه وتركتنا ، وإما جلست معنا وتركته . فقال : إن هو يقول ما شاء ، أي شيء علي منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال له أبو الحسن :أما تخافن أن تنزل  به نقمة فتصيبكم جميعاً؟ أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى عليه‌السلام ،  وكان أبوه من أصحاب فرعون ، فلما لحقت خيل فرعون موسى عليه‌السلام تخلف  عنه ليعظه ، وأدركه موسى ، وأبوه يراغمه حتى بلغا طرف البحر فغرقا  جميعاً ، فأتى موسى عليه‌السلام الخبر ، فسأل جبرئيل عليه‌السلام عن حاله ، فقال له : غرق  رحمه الله ، ولم يكن على رأي أبيه ، لكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن  قارب المذنب دفاع »(١) .

الإرادة والمشيئة :

خلاصة ما أثبته الإمام الكاظمعليه‌السلام بخصوص الإرادة في مقابل مقالات القدرية الباطلة أن الإرادة هي الفعل لا غير ، وأن إرادته تعالى هي أن يقول للشيء كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ، لأنها من صفات المخلوق المنفية ، وإن الله سبحانه إذا شاء شيئاً أراده ، فإذا أراده قدره ، وإذا قدره قضاه ، وإذا قضاه أمضاه ، ولا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.

عن صفوان بن يحيى ، قال :«قلت لأبي الحسنعليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة

___

(١) أمالي المفيد : ١١٢ / ٣.

١٥١

من الله ومن المخلوق. فقالعليه‌السلام :الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد  ذلك من الفعل ، وأما من الله عزّ وجلّ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا  يروّي ولا يهم ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي من صفات  الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون ، بلا لفظ  ولا نطق بلسان ، ولا همة ولا تفكر ، ولا كيف لذلك كما أنه بلا كيف »(١) .

وعن محمد بن إسحاق ، قال :«قال أبو الحسنعليه‌السلام ليونس مولى علي بن يقطين :يا يونس ، لا تتكلم بالقدر . قال : إني لا أتكلم بالقدر ، ولكني أقول : لا يكون إلاّ ما أراد الله وشاء وقضى وقدر. فقالعليه‌السلام :ليس هكذا أقول ، ولكني  أقول : لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى .

ثم قال :أتدري ما المشيئة؟ فقال : لا ، فقال :همه بالشيء ، أو تدري ما  أراد؟ قال : لا ، قال :إتمامه على المشيئة . فقال :أو تدري ما قدر؟ قال : لا ، قال :هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. ثم قال :إن الله إذا شاء شيئاً  أراده ، فإذا أراده قدره ، وإذا قدره قضاه ، وإذا قضاه أمضاه .

يا يونس ، إن القدرية لم يقولوا بقول الله : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ) (٢) ولا قالوا بقول أهل الجنة : ( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (٣) ولا قالوا بقول أهل النار : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) (٤) ولا قالوا بقول إبليس : ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) (٥) ولا قالوا بقول نوح: ( وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ

___

(١) التوحيد : ١٤٧ / ١٧.

(٢) سورة الإنسان : ٧٦ / ٣٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٤٣.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٦.

(٥) سورة الحجر : ١٥ / ٣٩.

١٥٢

لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١)

ثم قال :قال الله : يا بن آدم ، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي  أديت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، وجعلتك سميعاً بصيراً  قوياً ، فما أصابك من حسنة فمني ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ،  وذلك لأني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. ثم قال :قد نظمت لك كل شيء  تريده »(٢) .

وروى داود بن قبيصة عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنه قال :«سأل رجل أبي عليه‌السلام :  هل منع الله عما أمر به ، وهل نهى عما أراد ، وهل أعان على ما لم يرد؟  فقال عليه‌السلام : أما قولك هل منع عما أمر به ، فلا يجوز ذلك عليه ، ولو جاز ذلك  لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم ، ولو منعه لعذره ولم يلعنه. وأما  قولك هل نهى عما أراد ، فلا يجوز ذلك ، ولو جاز ذلك لكان حيث نهى  آدم عليه‌السلام عن أكل الشجرة أراد منه أكلها ، ولو أراد منه أكلها ، لما نادى عليه  صبيان الكتاتيب ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٣) واللهتعالى لا يجوز عليه  أن يأمر بشيء ويريد غيره. وأما قولك : هل أعان على ما لم يرد ، فلا يجوز  ذلك عليه ، وتعالى الله عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكفيرهم ، وقتل  الحسين بن علي عليهما‌السلام والفضلاء من ولده ، وكيف يعين على ما لم يرد وقد  أعدّ جهنم لمخالفيه ، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته وارتكابهم  لمخالفته؟ ولو جاز أن يعين على ما لم يرد ، لكان أعان فرعون على كفره  وادعائه أنه رب العالمين ، أفترى أنه أراد من فرعون أن يدعي الربوبية؟

___

(١) سورة هود : ١١ / ٣٤.

(٢) المحاسن : ٢٤٤ / ٢٣٨.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.

١٥٣

ومضى الإمام عليه‌السلام يقول : يُستتاب قائل هذا القول ، فإن تاب من كذبه على الله وإلاّ ضربت عنقه »(١) .

علمه تعالى :

إنّ الله تعالى عالم بمصير الأشياء كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، وعلمه هذا أزلي قديم لا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل. عن أيوب بن نوح :«أنه كتب إلى أبي الحسنعليه‌السلام يسأله عن الله عزّ وجلّ ، أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عندما خلق ، وما كوّن عندما كوّن؟ فوقع بخطه :لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعدما  خلق الأشياء »(٢) .

وعن الكاهلي ، قال :«كتبت إلى أبي الحسنعليه‌السلام في دعاء : الحمد للهمنتهى علمه. فكتب إليّ :لا تقولن منتهى علمه ، ولكن قل منتهى رضاه »(٣) .

إن الدعاء الذي يجري على اللسان قد يكون عرضةً للوهم والخطأ الذي لا يشعر به الإنسان حال اشتغاله بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه ، فلا يستحضر معانيه ودلالاته ، وهنا يمارس الإمامعليه‌السلام عملية تصحيح للدعاء ، وكأنه يريد أن يشير إلى حقيقة جديرة بالاهتمام ، وهي ضرورة اخضاع التراث للدراسة العلمية حتى لا ينفذ إلى تراثنا مفهوم غير إسلامي ، فلعلنا ندعو فنقول : الحمد لله منتهى علمه ، من حيث لا نشعر أن ذلك يجعل علم الله محدوداً بين البداية والنهاية ، والحال أن علم الله ليس له نهاية ولا تحدّه حدود ، من هنا علينا أن

___

(١) الاحتجاج : ٣٨٧ ، بحار الأنوار ٥ : ٢٤ / ٣١.

(٢) الكافي ١ : ١٠٧ / ٣.

(٣) الكافي ١ : ١٠٧ / ٤ ، التوحيد : ١٣٤.

١٥٤

نقول : منتهى رضاه ، لأن رضاه يتصل بعمل المخلوقين في درجات تتحرك حتى تبلغ منتهاها ، ولا يتعلق ذلك في ذاته وفي صفته.

السعادة والشقاوة :

اختلفت مقولات أهل الكلام اختلافاً شديداً في تفسير الآيات والآثار التي تسند الشقاء والسعادة إلى الله تعالى ، فأخذ بعضهم بظاهرها ، وحكموا بحتميّة الشقاء والسعادة في حياة الإنسان من جانب الله تعالى ، ونفوا دور الإنسان في اختيار الهداية والضلالة.

وفصّل أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المطلب ، بأنّ علم الله المعبّر عنه بأُمِّ الكتاب ، لا يتطرق إليه التغيير والتبديل ، وعلمه تعالى في أُمِّ الكتاب محيط بكل شيء ، ومنها سعادة الإنسان وشقائه ، وعلمه تعالى بالشيء لا يعني نسبة فعله إليه. أما علمه تعالى المعبّر عنه بلوح المحو والاثبات ، فإن للهتعالى فيه المشيئة يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، وهو موقوف على أعمال العباد ، فأعمال البر تحوّل شقاء الإنسان إلى سعادة ، واقتراف الذنوب وارتكاب السيئات تحوّل مصير الإنسان من السعادة إلى الشقاء. وعليه فإنّ الله تعالى هو مصدر السعادة والهداية في حياة الإنسان ، وأمّا الشقاء والضلالة فمن الإنسان نفسه ، وكلا الأمران يجريان باختياره وقراره.

ويدلّ على هذا المعنى ما رواه محمد بن أبي عمير ، قال :«سألت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام عن معنى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :الشقيّ من شقي في بطن  اُمه ، والسعيد من سعد في بطن اُمه. فقال :الشقي من علم الله وهو في بطن  اُمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن اُمه أنه  سيعمل أعمال السعداء.

قلت له : فما معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :اعملوا فكل ميسّر لما خلق الله؟ فقال : إن

١٥٥

اللهعزوجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ، ولم يخلقهم ليعصوه ، وذلك قوله  عزوجل : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) ،فيسّر كلاًّ لما خلق  له ، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى »(٢) .

الكفر والشرك :

وسأل أبو أحمد الخراساني الإمام الكاظمعليه‌السلام :«الكفر أقدم أم الشرك؟ فقالعليه‌السلام له :ما لك ولهذا ، ما عهدي بك تكلّم الناس! قال : أمرني هشام بن الحكم أن أسألك. فقال :قل له الكفر أقدم ، أول من كفر إبليس ( أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (٣) والكفر شيء واحد ، والشرك يثبت واحد  ويشرك معه غيره »(٤) .

كلماته في النبوة والإمامة :

للإمام موسى الكاظمعليه‌السلام مناظرات وأقوال ووصايا تعرض فيها لمسألة الإمامة باعتبارها من أكثر القضايا التي شغلت حيزاً واسعاً من جهود العلماء وكثر الرأي فيها ، وللإمام الكاظمعليه‌السلام ومن قبله آباؤه الميامينعليهم‌السلام كلمتهم في هذا الإطار ، وهي أن الإمامة منصب إلهي ، والإمام يشترك مع النبي باعتبارهما حجة ظاهرة على الناس ، ويفترق عنه بالوحي فهو لا يُوحى إليه ، وأن الأرض لا تخلو من حجة منذ خلق الله تعالى آدم ، وأن الأئمة من آل البيت هم ورثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأولاده وأفضل من خلّف بعده في أُمته ، وأنهم أولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم على خلقه باعتبارهم قادة الرسالة المعصومين ، وأن ولاء

___

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦.

(٢) التوحيد : ٣٥٦ / ٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٣٤.

(٤) تحف العقول : ٤١٢.

١٥٦

جميع الخلائق يجب أن يكون لهم ، وأن لهم حقوقاً جعلها الله لهم واجبة في أعناق من يدينون لهم بالولاء منها الخمس والمودة ، وأن منهم القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله ، وله غيبة يطول أمدها ، يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون ، وإنما هي ابتلاء من الله عزّ وجلّ ابتلى بها خلقه ، حتى يظهر ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً ، وهو الخامس من ولد الإمام الكاظمعليه‌السلام ، والثاني عشر من أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام .

وكان لأصحاب الإمام الكاظمعليه‌السلام دور فاعل في التدليل على فكرة الإمامة وأطروحتها ، وذلك من خلال مناظراتهم واحتجاجاتهم مع أصحاب المذاهب والفرق الإسلامية ، كهشام بن سالم الجواليقي ، ومحمد بن علي بن النعمان المعروف بمؤمن الطاق ، وهشام بن الحكم ، وكان ممن فتق الكلام في الإمامة ، حاذقاً بصناعة الكلام ، وغير هؤلاء كثير ، الأمر الذي أدى إلى انتشار فكر أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وذيوع منهجهم بين المسلمين بفضل براهينهم الساطعة ومناظراتهم التي تميزت بقوة الحجة وسرعة البديهة والجرأة ، وفيما يلي نذكر أهم كلمات الإمامعليه‌السلام في هذا الإطار :

الحجّة الظاهرة :

قال الإمام الكاظمعليه‌السلام في وصيته لهشام بن الحكم :«يا هشام ، إن للهعلى  الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء  والأئمة عليهم‌السلام ، وأما الباطنة فالعقول »(١) .

لا تخلو الأرض من حجّة :

عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن الأولعليه‌السلام ، قال :«ما ترك الله

___

(١) الكافي ١ : ١٠ ـ ١٥ / ١٢ ، تحف العقول : ٣٨٣ ـ ٤٠٢.

١٥٧

عزّوجلّ الأرض بغير إمام قطّ منذ قبض آدم عليه‌السلام ، يهتدي به إلى الله عزّوجلّ ،  وهو الحجة على العباد ، من تركه ضلّ ، ومن لزمه نجا حقّاً على الله  عزّوجلّ »(١) .

ولاية أهل البيتعليهم‌السلام :

عن عمرو بن سعيد ، قال :«سألت أبا الحسنعليه‌السلام عن قوله :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٢) ،قال : علي بن أبي طالب  والأوصياء من بعده »(٣) .

مودة أهل البيتعليهم‌السلام :

روى الخطيب البغدادي بالإسناد عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بيد حسن وحسين قال : من أحبني وأحب هذين  وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة »(٤) .

حقوق أهل البيتعليهم‌السلام :

عن التلعكبري ، بإسناده عن الكاظمعليه‌السلام ، قال :«قال لي هارون :  أتقولون : إن الخمس لكم؟ قلت : نعم. قال : إنه لكثير. قال : قلت : إن الذي  أعطاناه علم أنه لنا غير كثير »(٥) .

الغيبة :

عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، قال :«إذا فقد

___

(١) إكمال الدين / الشيخ الصدوق : ٢٢٠ / ٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٥٣ / ١٧٦.

(٤) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٨٩.

(٥) بحار الأنوار ٤٨ : ١٥٨ / ٣٣.

١٥٨

الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم لا يزيلنكم أحد عنها. يا بني ،  انه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان  يقول به ، إنما هي محنة من الله عزّ وجلّ امتحن بها خلقه ، ولو علم آباؤكم  وأجدادكم ديناً أصحّ من هذه لاتبعوه »(١) .

وعن العباس بن عامر القصباني ، قال :«سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام يقول :صاحب هذا الأمر من يقول الناس : لم يولد بعد »(٢) .

عن داود بن كثير الرقي ، قال :«سألت أبا الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن صاحب هذا الأمر ، قال :هو الطريد الوحيد الغريب الغائب عن أهله ، الموتور  بأبيه عليه‌السلام »(٣) .

وعن يونس بن عبد الرحمن ، قال :«دخلت على موسى بن جعفرعليهما‌السلام فقلت له : يا ابن رسول الله ، أنت القائم بالحق؟ فقال :أنا القائم بالحق ، ولكن  القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله عزّ وجلّ ، ويملأها عدلاً كما مُلئت  جوراً وظلماً ، هو الخامس من ولدي ، له غيبة يطول أمدها ، خوفاً على  نفسه ، يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون.

ثم قال :طوبى لشيعتنا ، المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا ، الثابتين  على موالاتنا والبراءة من أعدائنا ، أولئك منا ونحن منهم ، قد رضوا بنا  أئمة ، ورضينا بهم شيعة ، فطوبى لهم ، ثم طوبى لهم ، وهم واللهمعنا في  درجاتنا يوم القيامة »(٤) .

___

(١) إكمال الدين : ٣٥٩ / ١.

(٢) إكمال الدين : ٣٦٠ / ٢.

(٣) إكمال الدين : ٣٦١ / ٤.

(٤) إكمال الدين : ٣٦١ / ٥.

١٥٩

عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي ، أنه قال للإمام الكاظمعليه‌السلام :«يكون في الأئمة من يغيب؟ فقالعليه‌السلام :نعم يغيب عن أبصار الناس شخصه ، ولا يغيب  عن قلوب المؤمنين ذكره ، وهو الثاني عشر منا ، يسهّل الله له كل عسير ،  ويذلل له كل صعب ، ويظهر له كنوز الأرض ، ويقرب له كل بعيد ، ويبير به كل  جبار عنيد ، ويهلك على يده كل شيطان مريد ، ذلك ابن سيدة الإماء الذي  تخفى على الناس ولادته ، ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره الله عزّ وجلّ ،  فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً »(١) .

مناظرات في الإمامة :

دافع الإمام الكاظمعليه‌السلام من خلال عدّة مناظرات ذكرنا بعضها في الفصل الثاني(٢) عن الاُسس التي تقوم عليها الإمامة وعن أهم قواعدها ، كما ردّ على المزيد من الشبهات المثارة حولها ، نقتصر هنا على ذكر بعض ما جاء منها مع هارون في موضوعين مهمين بالنسبة إلى خلفاء بني العباس ، هما تفضيل آل أبي طالب على آل العباس ، وسبب وراثتهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دون بني العباس.

عن أبي أحمد هاني بن محمد بن محمود العبدي ، عن أبيه ، بإسناده عن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ـفي حديثـقال :«قال الرشيد : أخبرني لِمَ فضّلتم  علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة ، وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد ،  وإنا بنو العباس ، وأنتم ولد أبي طالب ، وهما عمّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرابتهما  منه سواء؟ فقلت : نحن أقرب. قال : وكيف ذلك؟! قلت : لأن عبد الله

___

(١) إكمال الدين : ٣٦٨ / ٦.

(٢) في موقفهعليه‌السلام من الرشيد أجابه عن سبب نسبة أهل البيتعليهم‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أن المرء يُنسب إلى أبيه ، وكيف قيل لهمعليهم‌السلام ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أن العقب للذكر ، وهمعليهم‌السلام أولاد البنت.

١٦٠