مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عزت الله المولائي والشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 477
المشاهدات: 249556
تحميل: 8428

توضيحات:

الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 249556 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 4

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الختام إذاً قتلاً في سبيل الله، وهذا هو البِرُّ الذي ليس فوقه بِرٌّ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولهذا فليعمل العاملون!

وأقوى الظنّ: أنّ هذا المعنى الذي أراد أن يوصله الإمامعليه‌السلام في رسالته هذه - التي كتبها من كربلاء أرض المصرع المختار وبقعة الفتح إلى محمد بن الحنفية، وبقية بني هاشم في المدينة المنوّرة وإلى كافّة الأجيال إلى قيام الساعة - متمّم ومكمّل لمعنى رسالته القصيرة الأولى التي بعثهاعليه‌السلام إليهم من مكّة المكرّمة والتي جاء فيها:(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبَله من بني هاشم: أمّا بعدُ، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح، والسلام) (١) فتأمّل.

خطبةٌ للإمامعليه‌السلام في أصحابه

روى ابن عساكر يقول: (لما نزل عمر بن سعد بحسين، وأيقن أنّهم قاتلوه قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:(قد نزل بنا ما ترون من الأمر، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حتّى لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما) (٢) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٧٦، باب ٢٣، رقم ١٥.

(٢) تاريخ ابن عساكر؛ ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، تحقيق المحمودي: ٣١٤ - ٣١٥، رقم ٢٧١، ورواها الطبراني أيضاً في المعجم الكبير، ٣: ١١٤، رقم ٢٨٤٢، ورواه أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء: ٢: ٣٩، ورواه الخوارزمي بسنده عن أبي نعيم، في المقتل، ٢: ٧، رقم ٧ ورواه المتقي =

١٠١

إشارة:

مرَّ بنا قبل ذلك - في وقائع وأحداث منازل الطريق بين مكّة وكربلاء - كما في رواية الطبري(١) : أنّ الإمامعليه‌السلام خطب هذه الخطبة في منطقة ذي حُسَم، وكان قد تمَّ التعليق على هذه الخطب - هناك - بعدّة ملاحظات، فراجعها(٢) وقد أوردناها أيضاً هنا لاحتمال وقوعها أصلاً في كربلاء، أو لاحتمال أنَّ الإمامعليه‌السلام كان قد كرّر مخاطبة أصحابه بهذا الكلام في الموضعين.

حبيبُ بن مظاهر (رض) (٣) يستنفر حيّاً من بني أسد لنصرة الإمام عليه‌السلام

في المقتل للخوارزمي قال: (والتأمت العساكر عند عمر لستّة أيّام مضين من محرّم، فلمّا رأى ذلك حبيب بن مظاهر الأسدي جاء إلى الحسين فقال له: يا بن رسول الله، إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد قريباً منّا، أفتأذن لي بالمصير إليهم الليلة أدعوهم إلى نصرتك، فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره؟

فقال له الحسين:(قد أذنتُ لك).

فخرج إليهم حبيب من معسكر الحسين في جوف الليل متنكّراً، حتى صار إليه فحيّاهم وحيّوه وعرفوه.

فقالوا له: ما حاجتك يا بن عمّ؟

____________________

= الهندي في مجمع الزوائد، ٩: ١٩٢ عن الطبراني.

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣٠٥، وانظر: اللهوف: ٣٤.

(٢) راجعها في وقايع منطقة (ذي حُسم): ص٢٥٤ - ٢٥٧.

(٣) حبيب بن مظهّر (مظاهر)، أبو القاسم الأسديّ الفقعسي: مضت له ترجمة موجزة في الجزء الثاني: ٣٣٣؛ وستأتي له ترجمة مفصّلة في آخر هذا الفصل.

١٠٢

قال: حاجتي إليكم أنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم قط، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم، فإنّه في عصابة من المؤمنين، الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عين تَطرِف، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به في اثنين وعشرين ألفاً، وأنتم قَومي وعشيرتي وقد أتيتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم تنالوا شرف الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإنّي أُقسم بالله لا يُقتل منكم رجل مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً، إلاّ كان رفيق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلى علّيين.

فقام رجلٌ من بني أسد يُقال له عبد الله بن بشر فقال: أنا أوّل مَن يجيب إلى هذه الدعوة، ثمّ جعل يرتجز ويقول:

قد علِمَ القوم إذا تناكلوا

وأحجم الفرسان إذ تناضلوا

أنّي الشجاع البطل المقاتل

كأنّني ليثُ عرينٍ باسلُ

ثمّ بادر رجال الحيّ إلى حبيب وأجابوه، فالتأم منهم تسعون رجلاً وجاءوا مع حبيب يريدون الحسين، فخرج رجل من الحيّ، يُقال: فلان بن عمرو حتّى صار إلى عمر بن سعد في جوف الليل، فأخبره بذلك، فدعا عمر برجلٍ من أصحابه يقال له (الأزرق بن الحرث الصدائي) فضمّ إليه أربعمئة فارس، ووجّه به إلى حيّ بني أسد مع ذلك الذي جاء بالخبر، فبينا أولئك القوم من بني أسد قد أقبلوا في جوف الليل مع حبيب يريدون عسكر الحسين، إذ استقبلتهم خيل ابن سعد على شاطئ الفرات، وكان بينهم وبين معسكر الحسين اليسير، فتناوش الفريقان واقتتلوا، فصاح حبيب بالأزرق بن الحرث: ما لك ولنا؟! انصرف عنّا، يا ويلك دعنا واشقَ بغيرنا.

فأبى الأزرق، وعَلمت بنو أسد أن لا طاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيّهم، ثمَّ تحمّلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يكبسهم،

١٠٣

ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره، فقال:لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم) (١) .

من غرائب ما تفرّد به البلاذري!

وكان البلاذري ممّن روى قصة استنفار حبيب بن مظاهر (رض) حيّاً من بني أسد لنصرة الإمام الحسينعليه‌السلام - وقد أوردنا روايته في الحاشية - لكنّ البلاذري قال في ذيل روايته لهذه القصة:

(وكان فراس بن جعدة بن هبيرة المخزومي مع الحسين، وهو يرى أنّه لا يخاف، فلمّا رأى الأمر وصعوبته هاله ذلك، فأذِن له الحسين في الانصراف، فانصرف ليلاً)(٢) .

ونقول:

أوّلاً: لم يُعرف في كتب التواريخ وكتب الرجال أنَّ لجعدة بن هبيرة

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٥ - ٣٤٦ عن الفتوح، ٥: ١٥٩ - ١٦٢ بتفاوت، وقد اخترنا نصّ الخوارزمي؛ لأنّه خال من الاضطراب، وفي الفتوح: (واقتتلوا قتالاً شديداً)، وانظر: البحار، ٤٤: ٣٨٧ في نقله عن كتاب السيّد محمّد بن أبي طالب.

وروى البلاذري هذه الواقعة أيضاً في كتابه الأشراف، ٣: ٣٨٨، ونصه: (وقال حبيب بن مظهر للحسين: إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد أعراباً ينزلون النهرين، وليس بيننا وبينهم إلاّ رَوْحَة، أفتأذن لي في إتيانهم ودعائهم لعلّ الله أن يجرّ بهم إليك نفعاً أو يدفع عنك مكروهاً، فأذِن له في ذلك، فأتاهم فقال لهم: إنّي أدعوكم إلى شرف الآخرة وفضلها وجسيم ثوابها، أنا أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيّكم فقد أصبح مظلوماً، دعاه أهل الكوفة لينصروه فلمّا أتاهم خذلوه وعدوا عليه ليقتلوه، فخرج معه منهم سبعون، وأتى عمر بن سعد رجل ممّن هناك يُقال له (جبلة بن عمرو) فأخبره خبرهم، فوجّه أزرق بن الحارث الصيداوي، في خيل فحالوا بينهم وبين الحسين، ورجع ابن مظهر إلى الحسين فأخبره الخبر فقال:(الحمدُ لله كثيراً) ).

(٢) أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٨.

١٠٤

المخزومي ولداً اسمه فراس (كما ذكر البلاذري)، بل إنّ له ولَدين معروفين: أحدهما يحيى، وله رواية عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو من رواة الغدير، وعبد الله (وهو الذي فتح القهندر وكثيراً من خراسان)، وقيل: إنّ له ولداً آخر اسمه عمر(١) .

ولو فرضنا - جدلاً - أنّ لجعدة بن هبيرة المخزومي ولداً اسمه فراس - كما زعم البلاذري -، فإنَّ ما نَسبه البلاذري لهذا الولد من تخلّيه عن الإمام الحسينعليه‌السلام في الشدّة أمرٌ مستبعدٌ جدّاً؛ ذلك لأنّ جعدة بن هبيرة هو ابن أمّ هاني بنت أبي طالبعليه‌السلام ، فجعدة ابن عمّة الإمامعليه‌السلام ، ففراس (المزعوم) هذا - وهو ابن جعدة - يكون ذا قرابة قريبة من الإمامعليه‌السلام .

هذا فضلاً عن أنّ التاريخ - بل البلاذري نفسه - حدّثنا عن: أنّ بني جعدة كانوا من أهل المعرفة بأهل البيتعليهم‌السلام ومن شيعتهم(٢) ، وهذا - أيضاً - فضلاً عن أنّ جعدة وأبناءه قد عُرفوا بالشجاعة والبأس والشدّة في الحرب والكريهة، ولم يُعرف لهم موقف متخاذل، أو أخزاهم خوف من الأعداء، هذا جعدة وقد عُرفت عنه الشدّة في الحرب، يقول له عتبة بن أبي سفيان: إنّما لك هذه الشدّة في الحرب من قِبَل خالك - يعني عليّاً، فيقول له جعدة: لو كان لك خال مثل خالي لنسيتَ أباك(٣) .

فهل يُتصور أنَّ ولداً من أولاد جعدة الشجاع هذا، يُعرّض نفسه وشرفه لعار الجبن على صفحة التاريخ إلى قيام الساعة، فيتخلّى ساعة الشدّة عن رجل محتاج

____________________

(١) راجع: مستدركات علم رجال الحديث، ٢: ١٣١ و٨: ١٩٣، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ١٨: ٣٠٨.

(٢) أنساب الأشراف، ٣: ٣٦٦.

(٣) مستدركات علم رجال الحديث، ٢: ١٣٠، رقم ٢٤٨٩، ومعجم رجال الحديث، ٤: ٤٣، رقم ٢٠٩٧.

١٠٥

إليه وذي رحِم ماسّة به كانت الأعداء قد أحاطت به من كلّ جانب؟! فما بالك إذا كان هذا المحتاج إليه ابن رسول الله وابن خال أبيه وهو الحسينعليه‌السلام ؟!

هذا ما لو تأمّل البلاذريّ نفسه فيه لمَا تجرّأ على الإتيان به.

وممّا يؤسف له أنّ بعض المتتبّعين أخذ هذا عن البلاذري أخذ المسلّمات، ولم يكلّف نفسه مناقشة تلك الدعوى(١) .

وقائعُ اليوم السابع من المحرّم

بعد أن روى الخوارزمي في مقتله قصة المواجهة بين جماعة بني أسد، الذين استجابوا لدعوة حبيب بن مظاهر (رض)، وبين خيل عمر بن سعد (أربعمئة فارس) بقيادة الأزرق بن الحرث الصدائي، وكيف انهزمت مجموعة بني أسد بعد قتال شديد، ورجوعهم إلى حيّهم، ثمّ ارتحالهم عنه في جوف الليل خوفاً من بأس جيش ابن سعد، وعودة حبيب (رض) إلى معسكر الإمامعليه‌السلام .

يتابع الخوارزمي سرد بقيّة قصة كربلاء فيقول: (ورَجَعت تلك الخيل حتّى نَزلت على الفرات، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فأضرّ العطش بالحسين وبمَن معه، فأخذ الحسينعليه‌السلام فأساً، وجاء إلى وراء خيمة النساء، فخطا على الأرض تسع عشرة خطوة نحو القِبلة، ثمّ احتفر هنالك فنبعت له هناك عين من الماء العذب، فشربَ الحسين وشرب النّاس بأجمعهم، وملأوا أسقيتهم، ثمّ غارت العين فلم يُرَ لها أثر.

وبلغ ذلك إلى عبيد الله فكتب إلى عمر بن سعد: بلغني أنَّ الحسين يحفر

____________________

(١) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ٣: ١٧١.

١٠٦

الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت، وضيّق عليهم ولا تدعهم أن يذوقوا من الماء قطرة، وافعل بهم كما فعلوا بالزكيِّ عثمان! والسلام)(١) .

(فلمّا ورد على عمر بن سعد ذلك، أمرَ عمرو بن الحجّاج أن يسير في خمسمئة راكب، فينيخ على الشريعة، ويحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وذلك قبل مقتله بثلاثة أيّام، فمكث أصحاب الحسين عطاشى)(٢) .

(وناداه عبد الله بن أبي حصين الأزدي (عبد الله بن حصين الأزدي)(٣) فقال: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشاً! فقال حسين:(اللّهمّ اقتلهُ عطشاً ولا تغفر له أبداً)، قال حميد بن مسلم(٤) : والله

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١: ٣٤٦ عن كتاب الفتوح، ٥: ١٦٢، ولكنّ كتاب الفتوح - النسخة التي عندنا - ليس فيها قصة كيف حفر الإمامعليه‌السلام بئراً خلف خيمة النساء، وانظر: تاريخ الطبري: ٤: ٣١١ - ٣١٢، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٨٩.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٥٥.

(٣) كما في رواية أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٩.

(٤) حميد بن مسلم الأزدي الكوفي: هو في الاصطلاح الرجالي من أصحاب الإمام السجادعليه‌السلام ، ومن المجاهيل. (راجع: معجم رجال الحديث، ٦: ٢٩٧، رقم ٤٠٩٠، ومستدركات علم رجال الحديث، ٣: ٢٨٩، رقم ٥١١٩).

وقد حضر حميد بن مسلم هذا واقعة عاشوراء، ونقل جملة من قضاياها فيما يشبه دور المراسل الصحفي، لكنَّ نفس نقله لهذه الوقائع دليل تام على أنّه كان في صفّ أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، بل كان له أكثر من دور في خدمة جيش ابن سعد لعنه الله، فقد روى الطبري في تاريخه، ٤: ٣٤٨، ونقل أيضاً العلاّمة المجلسي (ره) عن كتاب السيّد محمد بن أبي طالب (ره): أنّ عمر بن سعد سرّح برأس الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء مع خولّي بن يزيد الأصبحي وحميد بن =

١٠٧

لعُدْتُه بعد ذلك في مرضه، فو الله الذي لا إله إلاّ هو لقد رأيته يشرب حتى يبغر(١) ! ثمّ يقيء ثمّ يعود فيشرب حتّى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غُصَّته - يعني نفسه -)(٢) .

ويواصل الطبري قصة منع الماء يوم السابع من المحرّم قائلاً: (ولمّا اشتدّ على الحسين وأصحابه العطش دعا العبّاس بن عليّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم بعشرين قِربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلاً، واستقدمَ أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: مَن الرجل؟ فَجِيءْ، ما جاء بك؟!

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه.

قال: فاشرب هنيئاً.

قال: لا والله، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومَن ترى من أصحابه، فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وضِعنا بهذا المكان لنمنعه الماء.

فلمّا دنا منه - أي نافع - أصحابه قال لرجاله: املأوا قِرَبِكم.

فشدَّ الرجّالة فملأوا قِرَبِهم، وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ ونافع بن هلال فكفّوهم، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم فقالوا:

____________________

= مسلم إلى ابن زياد (راجع البحار، ٤٥: ٦٢)، وقد نقل العلاّمة المجلسي (ره) عن السيّد محمد بن أبي طالب (ره) أيضاً: أنّ حميد بن مسلم هذا حضر أيضاً واقعة (عين الوردة) مع جيش التوّابين، بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي في قتالهم طلائع جيش الشام الذي كان أميره العام عبيد الله بن زياد. (راجع: البحار، ٤٥: ٣٦٠ - ٣٦١).

(١) بغر: شربَ فلم يروَ، فأخذهُ داء من الشرب.

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢.

١٠٨

إمضوا! ووقفوا دونهم، فعطف عليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، واطّردوا قليلاً، ثمّ إنّ رجلاً من صُدَاء طُعِن، من أصحاب عمرو بن الحجّاج، طعنه نافع بن هلال، فظنّ أنّها ليست بشيء، ثمّ إنّها انتقضت بعد ذلك فمات منها، وجاء أصحاب الحسين بالقِرَب فأدخلوها عليه)(١) .

وفي رواية ابن أعثم الكوفي: (... فاقتتلوا على الماء قتالاً عظيماً، فكان قوم يقتتلون وقوم يملأون القِرب حتّى مَلأوها، فقُتل من أصحاب عمرو جماعة ولم يُقتل من أصحاب الحسين أحد، ثُمَّ رجع القوم إلى معسكرهم وشرب الحسين من القِرب ومَن كان معه)(٢) .

وفي رواية البلاذري: (ويُقال: إنّهم حالوا بينهم وبين ملئها، فانصرفوا بشيء يسير من الماء، ونادى المهاجر بن أوس التميمي: يا حسين ألا ترى إلى الماء يلوح كأنّه بطون الحيَّات، والله لا تذوقه أو تموت! فقال:(إنّي لأرجو أن يُوردنيه الله ويَحلأكم عنه).

ويُقال: إنّ عمرو بن الحجّاج قال: يا حسين، إنّ هذا الفرات تلغ فيه الكلاب وتشرب منه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم!)(٣) .

أمّا الدينوري يصف واقعة الشريعة يوم السابع وصفاً مختصراً ودقيقاً حيث يقول: (فمضى العبّاس نحو الماء، وأمامهم نافع بن هلال، حتّى دنوا من الشريعة، فمنعهم عمرو بن الحجّاج، فجالدهم العبّاس على الشريعة بمَن معه حتّى أزالوهم

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢، وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٩، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٣.

(٢) الفتوح، ٥: ١٦٤، وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٦ - ٣٤٦، بتفاوت يسير.

(٣) أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٠.

١٠٩

عنها، واقتحم رجّالة الحسين الماء فملأوا قِرَبهم، ووقف العبّاس في أصحابه يذبّون عنهم حتّى أوصلوا الماء إلى عسكر الحسين)(١) .

مَن هو أبو الفضل العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام ؟

مولانا أبو الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين عليّعليهما‌السلام ، وأمّه أمّ البنين فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّ صلوات الله عليها، وهو أكبر أولادها، ولَدَته في الرابع من شعبان سنة ستّ وعشرين من الهجرة، وكان عمره الشريف عند شهادته أربعاً وثلاثين سنة(٢) .

والحديث حول هذه الشخصيّة الإسلاميّة المقدّسة الفذّة يستدعي بالضرورة أنْ يُفرد له كتاب مستقل(٣) ، وحيث لا يسعنا ذلك في إطار هذه الدراسة (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة)، فإنّنا هنا - لكي لا نُحرَم من توفيق أداء بعض حقّه العظيم علينا - نُقدّم تبرّكاً باقة من النصوص الواردة في حقّهعليه‌السلام ، الكاشفة عن عظمته وسموّ منزلته:

قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :

(رحمَ الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه، فأبدلهُ الله عزّ وجلّ بها جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٥٥.

(٢) راجع: مستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٣٥٠، رقم ٧٤٤٨.

(٣) وبالفعل فهناك دراسات وكتب قيّمة حول شخصيّة مولانا أبي الفضل العبّاسعليهما‌السلام ، منها على سبيل المثال: كتاب (العبّاس بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهما‌السلام ) للمحقّق المرحوم السيّد عبد الرزاق المقرّم، وكتاب (بطل العلقمي) للشيخ المرحوم عبد الواحد المظفّر.

١١٠

لجعفر بن أبي طالب، وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة) (١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام :(كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة، صُلب الإيمان، جاهدَ مع أبي عبد الله عليه‌السلام ، وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً..) (٢) .

وفي زيارته الواردة عن الإمام الصادقعليه‌السلام من العبائر العجيبة الكاشفة عن جلالة رتبة مولانا أبي الفضلعليه‌السلام ، وعظمة منزلته ما يحيّر الألباب! فلنقرأ معاً: (قال الصادقعليه‌السلام :(إذا أردتَ زيارة قبر العبّاس بن عليّ، وهو على شطّ الفرات بحذاء الحائر، فقف على باب السقيفة وقل:

سلامُ الله، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح، عليك يا بن أمير المؤمنين، أشهدُ لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله المُرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالِم، والوصيّ المبلّغ، والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم، أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت وأعنتَ، فنِعمَ عُقبى الدار، لعن الله مَن قتلك، ولعن الله مَن جهل حقّك واستخفّ بحرمتك، ولعن الله مَن حال بينك وبين ماء الفُرات، أَشهدُ أنّك قُتلت مظلوماً، وأنّ الله منجزٌ لكم ما وعدكم.

جئتك يا بن أمير المؤمنين وافداً إليكم، وقلبي مُسلّم لكم، وأنا لكم تابع، ونُصرتي لكم مُعدَّة حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، فمعكم معكم لا مع عدوّكم، إنّي بكم وبإيابكم من

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٣٧٣ - ٣٧٤، المجلس السبعون حديث رقم ١٠، ورواه أيضاً في كتاب الخصال، ١: ٦٨ باب الاثنين حديث رقم ١٠١.

(٢) قاموس الرجال، ٦: ٢٩، رقم ٣٩٠٣ عن عمدة الطالب: ٣٥٦.

١١١

المؤمنين، وبمَن خالفكم وقتلكم من الكافرين، قتلَ الله أمّة قتلتكم بالأيدي والألسُن .

ثمَّ ادخل وانكبّ على القبر وقُلْ:

السّلام عليك أيها العبدُ الصالح، المطيع لله، ولرسوله، ولأمير المؤمنين، والحسن، والحسينعليهم‌السلام ، السلام عليك ورحمة الله وبركاته ورضوانه، وعلى روحك وبدنك، وأُشهدُ الله أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون، المجاهدون في سبيل الله المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه، فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره.

أشهدُ أنّك قد بالغتَ في النصيحة، وأعطيتَ غاية المجهود، فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح الشهداء (السعداء) (١) ، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في عليّين، وحشرك مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً، أَشهدُ أنّك لم تَهِنْ ولم تنكُل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيين، فجمع الله بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين، فإنّه أرحم الراحمين) (٢) .

وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة:(السلام على أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمْسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتله يزيد (٣) بن الرُقّاد الجُهَنيّ، وحكيم بن الطُّفيل الطّائي) (٤) .

وكان مولانا أبو الفضلعليه‌السلام قد قدّم إخوته لأمّه وأبيه وهم: عبد الله، وجعفر،

____________________

(١) في البحار، ١٠١: ٢٧٨، باب ٣٠، حديث رقم ١، السعداء بدل الشهداء.

(٢) كامل الزيارات: ٢٦٩ - ٢٧، باب ٨٥، حديث رقم ١.

(٣) زيد بن رقاد الجهني، كما في مقاتل الطالبيين: ٥٦، وتاريخ الطبري، ٤: ٣٥٨.

(٤) البحار، ٤٥: ٦٦.

١١٢

وعثمان إلى القتال يوم عاشوراء؛ ليستشهدوا قبله فيحتسبهم عند الله تعالى، فقد قال لأوّلهم:(تقدّم بين يديّ حتى أراك واحتسبك فإنّه لا ولدَ لك) (١) .

(وكان العبّاس رجلاً وسيما جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم، وكان لواء الحسين بن عليعليه‌السلام معه يوم قُتل)(٢) .

وفي اليوم العاشر (لمّا نَشبت الحرب بين الفريقين تقدّم عمرو بن خالد الصيداوي، ومولاه سعد، ومجمع بن عبد الله، وجنادة بن الحرث، فشدّوا مُقدمين بأسيافهم على الناس، فلمّا وغلوا فيهم عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم، فندب الحسينعليه‌السلام لهم أخاه العبّاس، فحمل على القوم وحده، فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه وخلَص إليهم فسلّموا عليه، فأتى بهم، ولكنّهم كانوا جرحى فأبوا عليه أن يستنقذهم سالمين، فعاودوا القتال وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا في مكان واحد، فعاد العباس إلى أخيه وأخبره خبرهم)(٣) .

وكان صلوات الله عليه يُلقّب بالسقّاء(٤) ، وهو حامل لواء الحسينعليه‌السلام (٥) .

وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يحبّ أخاه العبّاس حبّاً خاصاً فائقاً، حتّى كانعليه‌السلام

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٥٤.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٥٦.

(٣) إبصار العين: ٦١، وانظر تاريخ الطبري، ٤: ٣٤٠.

(٤) راجع: إبصار العين: ٦٢، وانظر مقاتل الطالبيين: ٥٥، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٧ و ٢: ٣٤.

(٥) راجع: الأخبار الطوال: ٢٥٦، والإرشاد: ٢٦٠.

١١٣

يُفدّي أبا الفضلعليه‌السلام بنفسه القدسيّة.

روى الطبري: أنّ عمر بن سعد (لعنه الله) لمّا زحف يوم الخميس التاسع من المحرّم بعد صلاة العصر بجيوشه نحو معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، قال الإمامعليه‌السلام لأخيه أبي الفضلعليه‌السلام :(يا عبّاس، اركب بنفسي أنتَ يا أخي حتّى تلْقاهم فتقول لهم مالَكم وما بدالكم، وتسألهم عمّا جاء بهم؟!) (١) .

ولقد نجح أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في جميع الاختبارات الإلهية الصعبة التي تعرّض لها، حتّى استُشهد صلوات الله عليه، لكنّ أسمى وأروع تلك الاختبارات في مراقي الكمال والفداء والإيثار، كان يوم العاشر بعد أن قُتل أنصار الإمامعليه‌السلام من أهل بيته وصحبه الكرام، وضاق صدر أبي الفضلعليه‌السلام بالبقاء في دار الفناء وسئم الحياة، فجاء إلى الإمام الحسين يستأذنه في قتال القوم، فقال له الحسينعليه‌السلام :(إنْ عزمتَ فاستقِ لنا ماءً) (٢) ، فأخذَ قِربته وحملَ على آلاف الأعداء حتّى كشفهم عن الشريعة، ثمَّ ملأ القربة، واغترف من الماء غرفة ليشرب وقلبه كما الجمر من العطش، لكنّه ذكر عطش الحسينعليه‌السلام ومَن معه فرمى بالماء من يده وقال:

يا نفس مِنْ بعدِ الحسين هوني

وبعده لا كُنـتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المـنون

وتشربيـن باردَ المعين

تالله ما هذا فعال ديني (٣)

ولمّا صُرع أبو الفضل وخرّ إلى الأرض - بلا يدين - نادى بأعلى صوته:أدركني يا أخي، فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر، فرآهُ مقطوع اليمين واليسار، مرضوخ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥.

(٢) راجع: إبصار العين: ٦٢.

(٣) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٦٨.

١١٤

الجبين، مشكوك العين بسهم، مرتثّاً بالجراحة، فوقف عليه منحنياً، وجلسَ عند رأسه يبكي حتى فاضت نفسه المقدّسة، ثمّ حمل الإمامعليه‌السلام على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً، فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المِعزى إذا شدَّ فيها الذئب، وهو يقول:(أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟! أين تفرّون وقد فَتتُّم عضُدي؟!) ثمّ عاد إلى موقفه منفرداً(١) .

ولمّا قُتل العباس قال الحسينعليه‌السلام :(الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي) (٢) .

ولقد تركه الإمام الحسينعليه‌السلام في المكان الذي صُرع فيه، ولم يحمله إلى خيمة الشهداء كما فعل بمَن سبقه منهم.

ولقد أجاد المحقّق المرحوم السيّد المقرّم حيث قال: (وتركهُ في مكانه لسرٍّ مكنون أظهرته الأيّام، وهو أن يُدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء؛ ليكون له مشهدٌ يُقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها النّاس، وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبّته التي ضاهت السماء رفعة وسناءً، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الأمّة مكانته السامية، ومنزلته عند الله تعالى، فتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكد والزيارات المتواصلة، ويكونعليه‌السلام حلقة الوصل فيما بينهم وبين الله تعالى، فشاء حُجّة الوقت أبو عبد اللهعليه‌السلام ، كما شاء المهيمن سبحانه أن تكون منزلة (أبي الفضل) الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الأُخروية، فكان كما شاءا وأَحبّا)(٣) .

والسلام على مولانا أبي الفضل العباس ما دام الليل والنهار!

____________________

(١) راجع: إبصار العين: ٦٢ - ٦٣.

(٢) راجع البحار، ٤٥: ٤٢، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ٣٤.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٧٠.

١١٥

المحاورةُ بين الإمامعليه‌السلام وبين عمر بن سعد لعنه الله

قال ابن أعثم الكوفي: (ثمَّ أرسل(١) الحسينرحمه‌الله إلى عمر بن سعد:(إنّي أُريد أنْ أُكلّمك، فالقِني الليلة بين عسكري وعسكرك) .

قال: فخرجَ إليه عمر بن سعد في عشرين فارساً، وأقبل الحسين في مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين أصحابه فتنحّوا عنه، وبقيَ معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبررضي‌الله‌عنهم ، وأمرَ عمر بن سعد أصحابه فتنحّوا، وبقيَ معه حفص ابنه وغلامٍ له يُقال له لاحق.

فقال له الحسينرضي‌الله‌عنه :

(ويحكَ يا بن سعد، أما تتّقي الله الذي إليه معادك أن تقاتلني، وأنا ابن مَن علمتَ يا هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فاترك هؤلاء وكنْ معي، فإنّي أُقرّبك إلى الله عزّ وجلّ.

فقال له عمر بن سعد: أبا عبد الله، أخاف أن تُهدَم داري!

فقال له الحسينرضي‌الله‌عنه :أنا أبنيها لك.

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي!

فقال الحسين:أنا أُخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.

فقال: لي عيال أخاف عليهم!

فقال:أنا أضمن سلامتهم (٢) .

قال: فلم يُجب عمر إلى شيء من ذلك، فانصرف عنه الحسينرضي‌الله‌عنه

____________________

(١) في رواية الطبري: أنّ الإمامعليه‌السلام أرسل عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري (رض) إلى عمر بن سعد (تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢).

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٧.

١١٦

وهو يقول:ما لكَ؟! ذبحكَ الله (من) (١) على فراشك سريعاً عاجلاً، ولا غفر الله لك يوم حشرك ونشرك، فو الله إنّي لأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً) (٢) .

(فقال له عمر: يا أبا عبد الله، في الشعير عوض عن البُرّ! ثمّ رجع عمر إلى معسكره)(٣) .

ولقد روى الطبري هذا اللقاء بين الإمامعليه‌السلام وبين عمر بن سعد، من طريق أحد مجرمي جيش ابن سعد وهو (هانئ بن ثبيت الحضرميّ)، وفي روايته: (... فلمّا التقوا أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا عنه، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك، قال: فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما، فتكلّما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيغٌ، ثمّ انصرف كلّ واحد منهما إلى عسكره بأصحابه..)(٤) .

وهنا يُقحم الظنّ الآثم ليختلط بالحق.

يقول الطبري بعد هذا: (وتحدّث النّاس فيما بينهما ظنّاً يظنونه أنّ حسيناً قال لعمر بن سعد: أُخرج معي إلى يزيد بن معاوية، ونَدَع العسكرين! قال عمر: إذاً تُهدم داري! قال: أنا أبنيها لك، قال: إذاً تؤخذ ضياعي! قال: إذاً أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز، قال فتكرّه ذلك عمر، قال: فتحدّث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئاً ولا علموه)(٥) .

____________________

(١) ليست في مقتل الخوارزمي.

(٢) الفتوح، ٥: ١٦٤ - ١٦٦.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٧.

(٤) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢ - ٣١٣.

(٥) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢ - ٣١٣.

١١٧

ثُمَّ يُزيد الطبري الطين بَلَّة!

حيث يقول بعد ذلك: (وأمّا ما حَدّثنا به الماجد بن سعيد، والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدّثين، فهو ما عليه جماعة المحدّثين، قالا: إنّه قال: (اختاروا مني خصالاً ثلاثاً، إمّا أن أرجع إلى المكان الذي أقبلتُ منه، وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإمّا أن تُسيّروني إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلاً من أهله، لي ما لهم وعليَّ ما عليهم)(١) .

لكنَّ شاهد عيان يروي الحقيقة فيقول:

وممّا يخفّف الغمَّ والهمَّ عن قلب طالب الحقيقة التاريخية: أنّ الطبري مع روايته لتلك المظنونات الكاذبة الآثمة، روى أيضاً حقيقة القضيّة عن لسان عقبة بن سمعان (رض) مولى الرباب زوج الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان ممّن صحب الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى كربلاء، وكان في خدمة الإمامعليه‌السلام فلم يغِب عن شيء ممّا خاطب الإمامعليه‌السلام به الناس.

قال الطبري: (قال أبو مخنف: فأمّا عبد الرحمان بن جندب فحدّثني عن عقبة بن سمعان(٢) قال: صحبتُ حسيناً، فخرجت معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أفارقه حتّى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في الطريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلاّ وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر النّاس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنّه قال:(دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر النّاس..) )(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٣، وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٠، وفيه: (ويقال: إنّه لم يسأله إلاّ أن يشخص إلى المدينة فقط).

(٢) عقبة بن سمعان: مضت ترجمته في الجزء الأوّل: ٤١٠ - ٤١١.

(٣) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٣.

١١٨

أُكذوبة عمر بن سعد التي افتراها على الإمامعليه‌السلام

ويروي الطبري: أنّ عمر بن سعد بعد لقائه مع الإمامعليه‌السلام كان قد كتب إلى ابن زياد كتاباً نصّه: (أمّا بعدُ، فإنَّ الله قد أطفأ النائرة، وجمعَ الكلمة، وأصلحَ أمر الأمّة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلاً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضاً وللأمّة صلاح!)(١) .

إشارة:

يلفت انتباه المتتبع: أنّ رواية هذا الكتاب والرواية التي ذكرت المطالب الثلاثة المفتراة على الإمامعليه‌السلام ، قد رواهما الطبري عن أبي مخنف، عن مجالد بن سعيد(٢) الهمداني، والصقعب بن زهير(٣) ، فإن كان خبر هذه الرسالة صادقاً، وقد علم هذان الراويان بمحتواها، فالظنّ قويّ بأنّ خبر المطالب الثلاثة المفتراة على الإمامعليه‌السلام

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٣.

(٢) مجالد بن سعيد الهمداني: لم نعثر عليه في كتب الرجال الشيعيّة، وأمّا عند علماء الرجال السُنّة، فقد ذكرهُ الذهبي قائلاً: (ولِد في أيّام جماعة من الصحابة ولكن لا شي له عنهم، ويُدرج في عداد صغار التابعين، وفي حديثه لين.

قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يُضعّفه، وكان عبد الرحمان بن مهدي لا يروي له شيئاً، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئاً، يقول ليس بشيء، وقال ابن معين: لا يُحتجّ به، وقال مرّةً: ضعيف) (راجع: سير أعلام النبلاء، ٦: ٢٨٥، دار الرسالة بيروت).

(٣) الصقعب بن زهير: لم نعثر عليه في كتاب الرجال - حسب متابعتنا - إلاّ ما وجدناه عند النمازي حيث يقول: (لم يذكروه، روى نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عنه قضايا صِفّين، كتاب صفّين ص١١ وص٥١٩) (مستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٢٦٨، رقم ٧١١٨).

١١٩

قد نُسِجَ عن محتوى هذه الرسالة، وإنْ لم يكن حتّى خبر هذه الرسالة صادقاً؛ فإنَّ الخبر الأوّل والثاني كليهما قد صدرا عن منبع واحد كاذب.

وعلى فرض صحة خبر هذه الرسالة، فما هو الداعي الذي دفع عمر بن سعد إلى أن يفتري على الإمامعليه‌السلام هذه الفِرية؟!

لا شكَّ أنّ عمر بن سعد - كغيره من مجرمي جيش ابن زياد - كان يعلم عِلماً يقيناً بأحقيّة الإمامعليه‌السلام بهذا الأمر، كما كان يعلم بما لا يرتاب فيه بالعار العظيم وبالسقوط الفظيع الذي سيلحقه مدى الدهر، إذا ما قتلَ الإمامعليه‌السلام في هذه المواجهة التي صار هو فيها على رأس الجيش الأموي، ولكنّه كان في باطنه أيضاً أسير رغبته الجامحة في ولاية الريّ ونعمائها، من هنا فقد سعى إلى أن يجد المخرج من هذه الورطة فيُعافى من ارتكاب جريمة قتل الإمامعليه‌السلام ، ولا يخسر أُمنيَته في ولاية الري.

وفي صفوف جيش ابن زياد أفراد كثيرون من نوع عمر بن سعد يتمنّون بقاء مواقعهم ومنافعهم الدنيوية، مع العافية من الاشتراك في جريمة قتل الإمامعليه‌السلام ، كشبث بن ربعي وغيره كثير، لكنّ هؤلاء قد غَلبت عليهم شقوتهم - إذ سلبهم الشلل النفسي والروحي كلّ قدرة على اتخاذ الموقف الصحيح - فاستحوذَ عليهم الشيطان، فدفعهم إلى ارتكاب أفحش وأفجع الجرائم وهم يتوهمون نوال ما يتمنّونه من هذه الدنيا الفانية، أو بقاء ما في أيديهم - الخالية - منها.

شمرُ بن ذي الجوشن يُحبط خطّة عمر بن سعد

ويواصل الطبري رواية مجرى هذا الحدث فيقول: (فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه! نعم، قد قبلتُ!

١٢٠