مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عزت الله المولائي والشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 477
المشاهدات: 249514
تحميل: 8428

توضيحات:

الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 249514 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 4

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إشارة

في زيارة الناحية المقدّسة ورد السلام على بشر بن عمر الحضرميّ والثناء عليه بما قاله للإمام الحسينعليه‌السلام هكذا:(السلام على بِشر بن عمر الحضرمي، شكرَ الله لك قولك للحسين وقد أذِن لك في الانصراف: أكَلَتني إذن السباع حيّاً إنْ فارقتك، وأسأل عنك الركبان؟ وأخذلك مع قلّة الأعوان؟ لا يكون هذا أبداً؟) (١) .

وقال المحقّق السماويّ (ره): (بشر بن عمرو بن الأُحدوث الحضرمي الكندي: كان بشر من حضرموت، وعداده في كندة، وكان تابعياً، وله أولاد معروفون بالمغازي، وكان بشر ممّن جاء إلى الحسينعليه‌السلام أيّام المهادنة، وقال السيّد الداودي: لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ووقع القتال، قيل لبشر وهو في تلك الحال: إنّ ابنك عمراً قد أُسر في ثغر الريِّ، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كُنت أحبّ أن يؤسر وأن أبقى بعده، فسمع الحسينعليه‌السلام مقالته، فقال له:(رحمك الله، أنتَ في حِلّ من بيعتي، فاذهب واعمل في فكاك ابنك) .

فقال له: أكلَتني السباع حيّاً إنْ أنا فارقتك يا أبا عبد الله.

فقال له:فأعطِ ابنك محمّداً - وكان معه -هذه الأثواب البرود يستعين بها في فكاك أخيه) ، وأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار)(٢) .

فالمستفاد ممّا أورده المحقّق السماوي (ره): أنّ هذا الشهيد (رض) اسمه بشر، واسم ابنه الذي كان معه محمّد، واسم ابنه الأسير في ثغر الريّ عمرو.

____________________

= ١٠٠ من ترجمة الإمام الحسين من الطبقات الكبرى، ورواه ابن العديم بسنده إلى ابن عساكر في الحديث ٧٨ من بغية الطلب ص٥١؛ وانظر: العوالم، ١٧: ٢٤٤، وأعيان الشيعة، ١: ٦٠١.

(١) البحار، ٤٥: ٧٠ و ١٠١: ٢٧٢.

(٢) إبصار العين: ١٧٣ - ١٧٤.

١٤١

إذن فاسم هذا الشهيد (رض) - وهو الموافق لِما ورد في زيارة الناحية المقدّسة - بشر بن عمرو (أو عمر) الحضرمي، وليس اسمه محمّد بن بشير الحضرمي كما ورد في تاريخ ابن عساكر واللهوف،هذا أوّلاً .

أمّا ثانياً: فإنّ ما أورده المحقق السماوي (ره) صريح في أنّ هذه الواقعة كانت يوم العاشر وليس ليلة العاشر، كما يُشعر به سياق كتاب اللهوف.

ويؤيّد أنّ هذه الواقعة كانت يوم العاشر: ما ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتابه(مقاتل الطالبيين) مشيراً إلى هذه القصة، حيث يقول: (وجاء رجل حتى دخل عسكر الحسين، فجاء إلى رجل من أصحابه فقال له: إنّ خبر ابنك فلان وافى أنّ الديلم أسروه، فتنصرف معي حتّى نسعى في فدائه؟

فقال: حتّى أصنع ماذا؟ عند الله أحتسبه ونفسي.

فقال له الحسينعليه‌السلام :(انصرف، وأنت في حِلّ من بيعتي، وأنا أعطيك فداء ابنك) .

فقال:هيهات أن أفارقك ثمّ أسأل الركبان عن خبرك؟ لا يكن والله هذا أبداً ولا أُفارقك!

ثمّ حمل على القوم فقاتل حتّى قُتل رحمة الله عليه ورضوانه)(١) .

ولا ندري.. فلعلّ العبارة الأخيرة في خبر أبي الفرج الأصبهاني، كانت هي مستند القول فيما بعد أنّ هذه الواقعة كانت يوم العاشر وليس ليلة العاشر، كما قال به الشيخ السماويّ (ره) نقلاً عن السيّد رضيّ الدين الداودي، والله العالم.

الإمامُعليه‌السلام يُري أنصاره منازلهم في الجنّة

روى القطب الراوندي (ره) عن أبي حمزة الثمالي (ره) قال: قال عليّ بن

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٧٨.

١٤٢

الحسينعليهما‌السلام :(كُنت مع أبي الليلة التي قُتل صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جَملاً؛ فإنّ القوم إنّما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حِلٍّ وسِعة.

فقالوا: لا والله، لا يكون ذلك أبداً.

قال: إنّكم تُقتلون غداً كذلك لا يفلت منكم رجل(١) .

قالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك.

ثمّ دعا، وقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا.

فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان، وهذا قصرك يا فلان، وهذه درجتك يا فلان.

فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه؛ ليصل إلى منزله من الجنّة) (٢) .

وروى الشيخ الصدوق (ره) في العلل بسند عن محمّد بن عمارة أنّه سأل الإمام الصادقعليه‌السلام : (قال: قلتُ له: أخبِرني عن أصحاب الحسينعليه‌السلام وإقدامهم على الموت؟

فقال:(إنّهم كُشف لهم الغطاء حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يُقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة) (٣) .

____________________

(١) الخرايج والجرايح، ٢: ٨٤٧ - ٨٤٨، رقم ٦٢؛ وانظر: البحار، ٤٤: ٢٩٨، رقم ٣.

(٢) في رواية أخرى رواها القطب الرواندي (ره) أيضاً مرسلة عن الإمام السجّادعليه‌السلام ، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قال:(إنّ هؤلاء يريدونني دونكم، ولو قتلوني لم يُقبلوا إليكم، فالنجاء النجاء، وأنتم في حلّ، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلّكم، فقالوا: لا نخذلك ولا نختار العيش بعدك..) . (راجع : الخرايج والجرايح، ١: ٢٥٤، رقم ٨).

(٣) علل الشرايع، ١: ٢٢٩، باب ١٦٣، رقم ١، وانظر: البحار، ٤٤، ٢٩٧، رقم ١.

١٤٣

حبيبُ بن مظاهر وسرُّ المزاح ليلة عاشوراء

نقل الكشّي (ره) عن كتاب(مفاخر الكوفة والبصرة) قائلاً:

(ولقد مزح حبيب بن مظاهر الأسدي، فقال له يزيد بن خضير الهمداني، وكان يُقال له سيّد القرّاء: يا أخي، ليس هذه بساعة ضحك!

قال:فأيُّ موضع أحقّ من هذا بالسرور؟ والله، ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين) (١) .

إشارة

ليس في أنصار الإمام الحسينعليه‌السلام الذين استشهدوا بين يديه في كربلاء، رجل من آل همدان اسمه يزيد بن خضير الهمداني، بل إنّ هذا الرجل هو برير بن خضير الهمداني، ويؤكّد صحة هذا ما وصفه الخبر بأنّه كان سيّد القرّاء؛ لأنّ بريراً كان معروفاً بشيخ القرّاء أو سيّد القرّاء في الكوفة، إذاً فيزيد تصحيف لبُرَير.

ونقل السيّد المقرّم (ره) في المقتل(٢) هذه الواقعة عن رجال الكشّي أيضاً قائلاً: (وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك؟...).

وقد ورد في زيارة الناحية المقدّسة أيضاً:(السلام على يزيد بن حصين الهمدانيّ المشرقيّ القاري) (٣) .

قال المحقّق السماوي (ره): (بُرير: في ضبط هذا الاسم وضبط اسم أبيه

____________________

(١) اختيار معرفة الرجال (المعروف برجال الكشّي)، ١: ٢٩٣، رقم ١٣٣.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢١٦.

(٣) البحار، ٤٥: ٧٠.

١٤٤

خلاف، فقد كُتب في الرجال: يزيد بن حصين...)(١) .

وقال المحقّق التستري: (هذا، وقد قلنا في عنوان بُرير بن حصين: إنّ يزيد بن حصين في نُسَخ الكشّي محرّف (برير بن خضير) هذا(٢) .

أصحابُ الإمام الحسينعليه‌السلام لا يجدون أَلَمَ مسَّ الحديد

روى القطب الراوندي (ره) بسندٍ عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال:(قال الحسين بن عليّ عليهما‌السلام لأصحابه قبل أن يُقتل: إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا بُنيّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرض التقى بها النبيّون وأوصياء النبيين، وهي أرض تُدعى (عمورا)، وإنّك تُستشهدُ بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك، لا يجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ، تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً، فأبشِروا، فو الله لئن قتلونا فإنّا نرِد على نبيّنا...) (٣) .

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قال لأصحابه:

(أبشروا بالجنّة، فو الله إنّا نمكث ما شاء الله بعدما يجري علينا، ثمّ يُخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم في السلاسل والأغلال وأنواع العذاب، فقيل له: مَن قائمكم يا بن رسول الله؟ قال: السابع من ولد ابني محمّد بن عليّ الباقر وهو: الحجّة ابن الحسن بن عليّ

____________________

(١) إبصار العين: ١٢٥ - ١٢٦.

(٢) قاموس الرجال، ٢: ٢٩٦، رقم ١٠٧٧.

(٣) الخرائج والجرائح، ٢: ٨٤٨ - ٨٥٠، رقم ٦٣، ولهذه الرواية الشريفة عن لسان الإمام الحسينعليه‌السلام تتمّة مهمّة تتعلّق ببعض إخبارات عالَم الرجعة يحسنُ بالقارئ الكريم أن يراجعها ولا يغفل عنها. وانظر: البحار، ٤٤: ٨٠، رقم ٦.

١٤٥

بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ ابني، وهو الذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً) (١) .

الإمامعليه‌السلام يأمر بحفر خندق حول معسكره

(ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام أمر بحفيرة فحُفرت حول عسكره شبه الخندق، وأمر فحُشيت حطباً، وأرسل عليّاً ابنهعليه‌السلام في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء، وهم على وجَلٍ شديد(٢) ، وأنشأ الحسينعليه‌السلام يقولُ:

يـا دهـرُ أُفٍّ لك من خليلِ

كم لك في الإشراق والأصيلِ

مـن طـالب وصاحبٍ قتيلِ

والـدهر لا يـقنع بـالبديلِ

وإنّـما الأمـر إلـى الجليل

وكـلُّ حـيٍّ سـالك سبيلي

ثمّ قال لأصحابه:(قوموا فاشربوا من الماء يكن آخر زادكم، وتوضّأوا واغتسلوا واغسلوا ثيابكم؛ لتكون أكفانكم...) (٣) .

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢١٥، عن إثبات الرجعة، وانظر: إثبات الهداة، ٣: ٥٦٩، باب ٣٢، فصل ٤٤، رقم ٦٨١ عن إثبات الرجعة للفضل بن شاذان، وانظر أيضاً: معجم أحاديث المهديعليه‌السلام ، ٣: ١٨١ - ١٨٢، رقم ٧٠٤.

(٢) لا شكّ أنّ هذه العبارة منافية للحقيقة الثابتة والمشهورة عن شجاعة أصحاب الحسينعليه‌السلام ، والطمأنينة التي يتمتعون بها، خصوصاً بعدما رأوا منازلهم في الجنّة، حيث تعجّلوا لقاء العدوّ.

(٣) أمالي الصدوق (ره): ١٣٣ - ١٣٤، المجلس الثلاثون، حديث رقم ١، ولعلّ خبر استقاء الماء هذا بقيادة سيّدنا علي الأكبرعليه‌السلام ليلة العاشر من المحرّم، ممّا تفرّد به الشيخ الصدوق (ره) - حسب علمنا - وهو مغاير للمشهور من: أنّ آخر استقاء كان بقيادة سيّدنا أبي الفضل العباسعليه‌السلام يوم السابع من المحرم، كذلك فإنّ الأبيات الشعرية المذكورة في هذا الخبر قد ذُكرت في واقعة أخرى مشهورة من وقائع ليلة العاشر، ولا منافاة في أن يكون الإمام قد قرأها في أكثر من مناسبة.

١٤٦

أمّا الخوارزمي فقد نقل قضيّة حفر الخندق عن ابن أعثم الكوفي هكذا: (فلمّا آيس الحسين من القوم، وعلِمَ أنّهم مقاتلوه، قال لأصحابه:(قوموا فاحفروا لنا حفيرة شبه الخندق حول معسكرنا، وأجّجوا فيها ناراً حتّى يكون قتال هؤلاء القوم من وجه واحد، فإنّهم لو قاتلونا وشُغلنا بحرْبهم لضاعت الحُرَم) .

فقاموا من كلّ ناحية فتعاونوا واحتفروا الحفيرة، ثمَّ جمعوا الشوك والحطب فألقوه في الحفيرة وأجّجوا فيها النّار)(١) .

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليل

قال الشيخ المفيد (ره): (قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : (إنّي جالسٌ في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جُوَين مولى أبي ذرّ الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

يـا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ

كم لك بالإشراق والأصيلِ

من صاحبٍ أو طالبٍ قتيلِ

والـدهر لا يـقنع بالبديلِ

وإنّـما الأمر إلى الجليلِ

وكـلُّ حـيٍّ سالكٌ سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً، حتّى فهمتُها وعرفتُ ما أراد، فخنقتني العَبرة فرددتها، ولزمتُ السكوت، وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل، وأمّا عمّتي فإنّها سمعتْ ما سمعتُ، وهي امرأة ومن شأن النساء الرقّة والجزع، فلم تملك نفسها إذ وثَبَت تجرُّ ثوبها وإنّها لحاسرة حتّى انتهت إليه.

فقالت: واثكلاه، ليت الموت أعدَمني الحياة، اليوم ماتت أمّي فاطمة، وأبي عليّ، وأخي

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٢ عن الفتوح، ٥: ١٧٣ - ١٧٤، وقد اخترنا متن الخوارزمي على متن الفتوح؛ لأنّ الأخير كثير الاضطراب.

١٤٧

الحسن عليهم‌السلام ، يا خليفة الماضين وثمال (١) الباقين .

فنظر إليها الحسينعليه‌السلام فقال لها: يا أُخيّة، لا يُذهبنّ حلمَك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو تُرك القطا لنام.

فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدُّ على نفسي.

ثمّ لطمت وجهها، وهوَت إلى جَيبها فشقّته، وخرّت مغشيّاً عليها.

فقام إليها الحسينعليه‌السلام ، فصبّ على وجهها الماء، وقال لها: إيهاً يا أُختاه، اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلَمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه الله الذي خلق الخلْق بقدرته، ويبعث الخلق ويعيدهم، وهو فردٌ وحده، جدّي خيرٌ منّي، وأبي خيرٌ منّي، وأمّي خيرٌ منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولي ولكلّ مسلم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسوة.

فعزّاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أُخيّة، إنّي أقسمتُ عليك فأبرّي قَسَمي، لا تشقّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكتُ.

ثمَّ جاء بها حتّى أجلسها عنده، ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يُقرّب بعضهم بيوتهم من بعض، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت، فيستقبلون القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أَيمانهم وعن شمائلهم، قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم، ورجع عليه‌السلام إلى مكانه، فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يُصلّون ويدعون ويستغفرون) (٢) .

____________________

(١) الثمال: الغياث الذي يقوم بأمر قومه، والملجأ.

(٢) الإرشاد: ٢٥٩ - ٢٦٠، وتاريخ الطبري، ٤: ٣١٨ - ٣١٩، وفيه في بداية الخبر:(إذ اعتزل أبي بأصحابه) وفيه أيضاً:(ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي وخرج إلى أصحابه..) ، وفيه أيضاً (حُوّى) بدل (جوين)، وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٥ - ٢٨٦ وليس فيه (وهي حاسرة)، =

١٤٨

____________________

= وانظر: البداية والنهاية، ٨: ١٩١ بتفاوت واختصار، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٩٣، وفيه (حوَّي) بدل (جوين) وليس فيه (وهي حاسرة) وانظر: مقاتل الطالبيين: ٧٥.

أمّا ابن أعثم الكوفي فقد روى هذه الواقعة في بداية نزول الإمامعليه‌السلام أرض كربلاء، وتبعهُ في ذلك بعض المؤرّخين (راجع: اللهوف: ٣٥ - ٣٦، مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٣٨ - ٣٣٩).

وفي رواية ابن أعثم: (فنزل القوم وحطّوا الأثقال ناحية من الفرات، وضُربت خيمة الحسين لأهله وبنيه، وضرب عشيرته خيامهم من حول خيمته، وجلس الحسين وأنشأ يقول:

يـا دهر أُفٍّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيلِ

مـن طالبٍ وصاحبٍ قتيل

وكـلُّ حـيٍّ عـابر سبيلِ

ما أقرب الوعد من الرحيل

وإنّـما الأمـر إلى الجليلِ

قال: وسَمِعت ذلك أخت الحسين زينب وأمّ كلثوم فقالتا: يا أخي هذا كلام مَن أيقن بالقتل؟

فقال:(نعم يا أختاه، فقالت زينب: واثكلاه، ليت الموت أعدَمني الحياة، مات جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومات أبي عليّ، وماتت أمّي فاطمة، ومات أخي الحسنعليه‌السلام ، والآن ينعى إليَّ الحسين نفسه.

قال: وبكت النسوة ولطمنَ الخدود، قال: وجعلت أمّ كلثوم تنادي: واجدّاه! وا أبي عليّاه! وا أمّاه! وا حسناه! وا حسيناه! واضيعتنا بعدك! وا أبا عبد الله!

فعذلها الحسين وصبّرها وقال لها:يا أختاه، تعزّي بعزاء الله وارضي بقضاء الله، فإنّ سكّان السماوات يفنون، وأهل الأرض يموتون، وجميع البريّة لا يبقون، وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وإنَّ لي ولكِ ولكلّ مؤمن ومؤمنة أسوة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال لهنّ:انظرن إذا أنا قُتلت فلا تشققنَ عليَّ جيباً، ولا تخمشن وجهاً..) . (الفتوح، ٥: ١٤٩ - ١٥٠).

وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: (ومعه جون مولى أبي ذرّ الغفاريّ)، وفي روايته جمع بين ما يشبه رواية الطبري، وما يشبه رواية ابن أعثم الكوفي، وفي آخر روايته: (ثمّ قالعليه‌السلام :(يا زينب، ويا أمّ كلثوم، ويا فاطمة، ويا رباب، انظرن إذا أنا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً، ولا تخمشن عليَّ وجهاً، ولا تقلن فيَّ هجراً) . (راجع مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٣٨ - ٣٣٩).

١٤٩

الإمام الحسينعليه‌السلام يتفقّد التلاع والروابي

(وخرجَعليه‌السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عمّا أخرجه.

قال: يا بن رسول الله، أفزَعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي.

فقال الحسينعليه‌السلام :(إنّي خرجتُ أتفقّد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون.

ثمّ رجعَعليه‌السلام وهو قابض على يد نافع ويقول:هي هي والله، وعدٌ لا خُلف فيه، ثمّ قال له:ألا تسلُك بين هذين الجبلَين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟

فوقعَ نافع على قدميه يُقبّلها ويقول: ثَكلتني أمّي إنّ سيفي بألف وفرَسي مثله، فو الله الذي مَنَّ بك عليَّ لا فارقتك حتّى يكِلاّ عن فرّي وجرّي.

ثمّ دخلَ الحسين خيمة زينب، ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره، فسمع زينب تقول له:هل استعلمتَ من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أن يُسلموك عند الوثبة؟

فقال لها:والله، لقد بلَوتُهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس (١) ،يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه).

قال نافع: فلمّا سمعتُ هذا منه بكيت، وأتيتُ حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن أخته زينب.

قال حبيب: والله، لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة.

قلت: إنّي خلّفته عند أُخته، وأظنُّ النساء أفقْن وشاركنها في الحسرة، فهل لك

____________________

(١) الأشوس: ذو النخوة، الأبيّ، الجريء على القتال، الشديد.

الأقعس: الثابت العزيز المنيع. (لسان العرب: ٦، مادة: شوس وقعس).

١٥٠

أن تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهنّ.

فقام حبيب ونادى: يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة.

فتطالعوا من مضاربهم كالأُسود الضارية، فقال لبني هاشم: ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم، ثمّ التفتَ إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع.

فقالوا بأجمعهم: والله، الذي منَّ علينا بهذا الموقف، لولا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا الساعة، فطِب نفساً وقُرَّ عيناً.

فجزّاهم خيراً، وقال: هلمّوا معي لنواجه النسوة ونطيّب خاطرهنّ.

فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح:يا معشر حرائر رسول الله، هذه صوارم فتيانكم آلوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب مَن يريد السوء فيكم، وهذه أسِنّة غلمانكم أقسموا ألاّ يُركزوها إلاّ في صدور مَن يفرّق ناديكم.

فخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل وقلنَ: أيّها الطيّبون، حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين.

فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم)(١) .

( قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (٢) :

وفي رواية للطبري عن الضحّاك ابن عبد الله المشرقي قال: (فلمّا أمسى حسينٌ وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون، قال:

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للسيّد المقرّم: ٢١٨ - ٢١٩ عن كتاب الدمعة الساكبة: ٣٢٥، ولعلّ السيّد المقرّم قد لخّص ما في المصدر تلخيصاً رفعَ به الاضطراب وضعف العبارة عنه، وفي المصدر ورد اسم (هلال بن نافع) بدلاً من (نافع بن هلال)، وهو اشتباه مخالف للمضبوط الصحيح الموافق لزيارة الناحية المقدّسة ولتاريخ الطبري، والكامل في التاريخ والإرشاد.

(٢) سورة المائدة: الآية ١٠٠.

١٥١

فتمرُّ بنا خيلٌ لهم تحرسنا، وإنّ حسيناً ليقرأ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (١) فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا، فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون، مُيّزنا منكم!

قال: فعرفتهُ، فقلت لبرير بن خضير: تدري مَن هذا؟ قال: لا.

قلتُ: هذا أبو حرب السبيعي، عبد الله بن شهر، وكان مضحاكاً بطّالاً، وكان شريفاً شجاعاً فاتكاً، وكان سعيد بن قيس ربّما حبسه في جناية.

فقال له برير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيبين؟!

فقال له: مَن أنت؟

قال: أنا برير بن خضير.

قال: إنّا لله، عزّ عليَّ، هلكتَ والله، هلكتَ والله يا بُرير.

قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام؟ فو الله إنّا لنحن الطيّبون ولكنّكم لأنتم الخبيثون.

قال: وأنا على ذلك من الشاهدين!

قلتُ: ويحك، أفلا ينفعك معرفتك؟!

قال: جُعلتُ فداك، فمَن يُنادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل؟ قال: هاهو ذا معي.

قال: قبّح الله رأيك، على كلّ حالٍ أنت سفيه.

قال: ثمّ انصرف عنا، وكان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسي وكان على الخيل)(٢) .

____________________

(١) سورة آل عمران، الآيتان: ١٧٨ و ١٧٩.

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣٢٠ - ٣٢١.

١٥٢

أنصارٌ جُددٌ

(وباتَ الحسينعليه‌السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبرَ عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(١) ، وكذا كانت سجيّة الحسينعليه‌السلام في كثرة صلاته وكمال صفاته)(٢) .

رؤيا حقّة ساعة السحر

(فلمّا كان وقت السحر خفقَ الحسين برأسه خفقة، ثمّ استيقظ فقال:(أتعلمونَ ما رأيت في منامي الساعة؟

قالوا: فما رأيت يا بن رسول الله؟

قال:رأيت كلاباً قد شدّت عليَّ (تناشبني) لتنهشني، وفيها كلب أبقع رأيته كأشدّها عليَّ، وأظنّ الذي يتولّى قتلي رجلاً أبرص من بين هؤلاء القوم، ثمّ إنّي رأيت بعد ذلك جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعه جماعة من أصحابه، وهو يقول لي: يا بُنيَّ، أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة، عجِّل يا بُني ولا تتأخّر، فهذا مَلَك نزل من السماء لأخذ دمك في قارورة خضراء، فهذا ما رأيت، وقد أزفَ الأمر، واقترب الرحيل من هذه الدنيا) (٣) .

____________________

(١) سنأتي على ذكر أسمائهم وتراجمهم ضمن قائمة بأسماء الملتحقين بالإمامعليه‌السلام في كربلاء، حتّى ليلة العاشر في ختام هذا الفصل.

(٢) اللهوف: ٤١، وسنأتي على ذكر أسماء أنصارهعليه‌السلام الذين التحقوا به في كربلاء حتى ليلة العاشر، في ختام هذا الفصل إن شاء الله تعالى.

(٣) الفتوح، ٥: ١٨١، وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٦ بتفاوت يسير، وقد اخترنا نصّ =

١٥٣

الأنصار الملتحقون بهعليه‌السلام في كربلاء حتّى ليلة العاشر

١) - أنس بن الحرث الكاهلي - الصحابي - (رض)

مرّت بنا ترجمته في وقائع الطريق بين مكّة وكربلاء، في وقائع منزل (قصر بني مقاتل)، فراجع ترجمته هناك(١) .

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة:(السلام على أنس بن كاهل الأسدي) (٢) .

وقد قالالمحقّق الشيخ السماوي (ره) في إبصار العين أنّه: (كان جاء إلى الحسينعليه‌السلام عند نزوله كربلاء، والتقى معه ليلاً فيمَن أدركته السعادة)(٣) .

٢) - جوين بن مالك بن قيس بن ثعلبة التميمي (رض)

(كان جوين نازلاً في بني تيم، فخرج معهم إلى حرب الحسينعليه‌السلام ، وكان من الشيعة، فلمّا رُدَّت الشروط على الحسينعليه‌السلام مالَ معه فيمَن مال، ورحلوا إلى الحسينعليه‌السلام ليلاً، وقُتل بين يديه، قال السروي: وقُتل في الحملة الأولى)(٤) .

وقال الزنجاني: (قال المحقّق الأسترآبادي في رجاله: جوين بن مالك التميمي.. وقال ابن عساكر في تاريخه: وهو جوين بن مالك بن قيس بن ثعلبة التميمي له ذكر في المغازي والحروب)(٥) .

____________________

= الخوارزمي لخلوّه من الاضطراب.

(١) الفصل الثالث: ص٢٨٠ - ٢٨٢.

(٢) البحار، ٤٥: ٧١.

(٣) إبصار العين: ٩٩.

(٤) إبصار العين: ١٩٤.

(٥) وسيلة الدارين في أنصار الحسينعليه‌السلام : ١١٦، رقم ٢٥.

١٥٤

وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة:(السلام على جوين بن مالك الضبعي) (١) .

٣) - حبيب بن مظاهر (مُظَهّر) الأسدي الفقعسي - الصحابي - (رض)

(هو حبيب بن مُظهَّر بن رئاب بن الأشتر بن جخوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد).

أبو القاسم الأسديّ الفقعسي، كان صحابياً رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذكره ابن الكلبي(٢) ، وكان ابن عمّ ربيعة بن حوط بن رئاب المكنّى أبا ثور الشاعر الفارس.

قال أهل السيَر: إنّ حبيباً نزل الكوفة، وصحب عليّاًعليه‌السلام في حروبه كلّها وكان من خاصّته وحَمَلة علومه.

وروى الكشّي عن فضيل بن الزبير قال: مرّ ميثم التمّار على فرَس له، فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد، فتحادثا حتى اختلف عُنُقا فرسيهما، ثمّ قال حبيب: لكأنّي بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطّيخ عند دار الرزق، قد صُلب في حُبّ أهل بيت نبيّه، فتُبقَر بطنه على الخشبة.

فقال ميثم: وإنّي أعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان، يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه، فيُقتل ويُجال برأسه في الكوفة.

ثمّ افترقا، فقال أهل المجلس: ما رأينا أكذب من هذين؟

قال: فلم يفترق المجلس حتّى أقبل رُشَيد الهجَري فطلبهما، فقالوا: افترقا، وسمعناهما يقولان كذا وكذا، فقال رشيد: رَحم الله ميثماً، نسيَ ويُزاد في عطاء

____________________

(١) البحار، ١٠١: ٢٧٣.

(٢) راجع: جمهرة النسب، ١: ٢٤١.

١٥٥

الذي يجيء بالرأس مئة درهم.

ثمّ أدبر، فقال القوم: هذا والله أكذبهم.

قال: فما ذهبت الأيّام والليالي حتّى رأينا ميثماً مصلوباً على باب عمرو بن حريث.

وجيء برأس حبيب قد قُتل مع الحسينعليه‌السلام ، ورأينا كما قالوا(١) .

وذكر أهل السيَر: أنّ حبيباً كان ممّن كاتب الحسينعليه‌السلام (٢) .

قالوا: ولما ورد مسلم بن عقيل إلى الكوفة ونزل دار المختار، وأخذت الشيعة تختلف إليه، قام فيهم جماعة من الخطباء، تقدّمهم عابس الشاكري، وثنّاه حبيب فقام وقال لعابس بعد خطبته: رحمك الله، لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول، وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو لعلى مثل ما أنت عليه(٣) .

قالوا: وجعل حبيب ومسلم (ابن عوسجة) يأخذان البيعة للحسينعليه‌السلام في الكوفة، حتّى إذا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة، وخذّل أهلها عن مسلم، وفرَّ أنصاره، حبسَهما عشائرهما وأخفياهما، فلمّا ورد الحسين كربلاء خرجا إليه مختفيَين يسيران الليل ويكمُنان النهار حتى وصلا إليه.

وروى ابن أبي طالب: أنّ حبيباً لمّا وصل إلى الحسينعليه‌السلام ورأى قلّة أنصاره وكثرة محاربيه قال للحسين: إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد، فلو أذنتَ لي لسرتُ إليهم ودعوتهم إلى نصرتك، لعلّ الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك.

فأذِن له الحسينعليه‌السلام ، فسار إليهم حتى وافاهم فجلس في ناديهم ووَعَظهم،

____________________

(١) رجال الكشّي، ٧٨، رقم ١٣٣.

(٢) راجع: الإرشاد: ٢٢٤، واللهوف: ١٤، وتاريخ الطبري، ٤: ٢٦١.

(٣) راجع: تاريخ الطبري، ٤: ٢٦٤.

١٥٦

وقال في كلامه: يا بني أسد، قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن عليّ أمير المؤمنين، وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين، وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه، فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه، فو الله لئن نصرتموه ليعطينّكم الله شرف الدنيا والآخرة، وقد خصصتكم بهذه المكرمة؛ لأنّكم قَومي وبنو أبي وأقرب الناس منّي رحِماً، فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال:

شكر الله سعيك يا أبا القاسم، فو الله لجئتنا بمكرمة يستأثر بها المرء الأحبّ فالأحبّ، فأمّا أنا فأوّل مَن أجاب، وأجاب جماعة بنحو جوابه فنهدوا مع حبيب، وانسلّ منهم رجل فأخبر ابن سعد، فأرسل الأزرق في خمسمئة فارس فعارضهم ليلاً، ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم، فلمّا علموا أن لا طاقة لهم بهم تراجعوا في ظلام الليل، وتحمّلوا عن منازلهم، وعاد حبيب إلى الحسينعليه‌السلام فأخبره بما كان، فقالعليه‌السلام :(وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله) (١) .

ومن متابعة هذه الواقعة (دعوة حبيب حيّ بني أسد لنصرة الإمامعليه‌السلام ) في المصادر التاريخية التي تعرّضت لذكرها يُستفاد: أنّ حبيب (رض) كان قد التحق بالإمامعليه‌السلام في كربلاء قبل اليوم السادس من المحرّم، ويتضح هذا جليّاً في قول الخوارزمي: (والتأمت العساكر عند عمر لستّة أيّام مضين من محرّم، فلمّا رأى ذلك حبيب بن مظاهر الأسدي جاء إلى الحسين فقال له: يا بن رسول الله، إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد قريباً منّا...)(٢) .

ولمّا جاء قُرّة بن قيس الحنظلي إلى الإمامعليه‌السلام رسولاً من ابن سعد، وأبلغهُ

____________________

(١) إبصار العين: ١٠٠ - ١٠٣.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٥.

١٥٧

رسالة عمر، ثمّ أجابه الإمامعليه‌السلام ، قال له حبيب: ويحك يا قُرَّة بن قيس أنّى ترجع إلى القوم الظالمين؟! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك الله بالكرامة وإيّانا معك، فقال له قُرّة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي(١) !

وكلّم حبيب القوم عصر يوم تاسوعاء قائلاً:(أمَا والله، لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه عليه‌السلام ، وعترته وأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعُبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً) (٢) .

ولمّا ردّ شمر بن ذي الجوشن على إحدى مواعظ الإمامعليه‌السلام قائلاً: (هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما تقول! فقال له حبيب بن مظاهر: والله، إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك)(٣) .

وذكر الطبري وغيره أنّ حبيباً كان على ميسرة الحسينعليه‌السلام ، وزهيراً على الميمنة(٤) ، وأنّه كان خفيف الإجابة لدعوة المبارز(٥) .

(قالوا: ولمّا صُرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الحسينعليه‌السلام ومعه حبيب، فقال حبيب:عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم، أَبشِر بالجنّة.

فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بخير.

فقال حبيب: لولا أنّي أعلمُ أنّي في إثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه، لأحببتُ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١١.

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٦.

(٣) راجع: تاريخ الطبري، ٤: ٣٢٣.

(٤) راجع: الأخبار الطوال: ٢٥٦.

(٥) راجع: تاريخ الطبري، ٤: ٣٢٦.

١٥٨

أن توصي إليَّ بكلّ ما أهمّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك، بما أنت له أهل من الدين والقرابة.

فقال له: بلى، أوصيك بهذا رحمك الله - وأومَأ بيديه إلى الحسينعليه‌السلام - أنْ تموت دونه.

فقال حبيب: أفعل وربّ الكعبة)(١) .

(قالوا: ولمّا استأذن الحسينعليه‌السلام لصلاة الظهر وطلب منهم المهلة؛ لأداء الصلاة، قال له الحصين بن تميم: إنّها لا تُقبل منك.

فقال له حبيب: زعمتَ لا تُقبل الصلاة من آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتُقبل منك يا حمار.

فحملَ الحصين وحملَ عليه حبيب، فضربَ حبيب وجه فرَس الحصين بالسيف، فشبَّ به الفرَس ووقع عنه، فحملهُ أصحابه واستنقذوه، وجعل حبيب يحمل فيهم ليختطفه منهم وهو يقول:

أُقسمُ لو كُنّا لكم أعداداً

أو شطركم ولَيتمُ أكتادا(٢)

يا شرَّ قوم حسباً وآدا

ثمّ قاتل القوم، فأخذ يحمل فيهم ويضرب بسيفه وهو يقول:

أنـا حـبيبٌ وأبي مُظهَّر

فارس هيجاء وحرب تسعر

أنـتم أعـدُّ عـدّة وأكـثر

ونـحن أوفى منكم وأصبر

ونـحنُ أعلى حُجَّة وأظهر

حـقّاً وأتـقى منكم وأعذر

ولم يزل يقولها حتّى قتلَ من القوم مقتلة عظيمة)(٣) .

____________________

(١) إبصار العين: ١٠٤.

(٢) أكتاد: جمع كتد: وهو مجتمع الكتفين من الإنسان وغيره.

(٣) إبصار العين: ١٠٤ - ١٠٥.

١٥٩

وروي أنَّ القاسم بن حبيب - وهو يومئذٍ قد راهق - بصرَ بقاتل أبيه قد عُلّق رأس أبيه حبيب في لُبان فَرَسه (فأقبلَ مع الفارس لا يفارقه، كلّما دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به فقال: مالكَ يا بُنيَّ تتبّعني؟ قال: لا شيء، قال: بلى، يا بُنيّ فأخبرني؟ قال: إنّ هذا رأس أبي أفتعطنيه حتّى أدفنه؟ قال: يا بُنيَّ لا يرضى الأمير أن يُدفن، وأنا أريد أن يُثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً، فقال القاسم: لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب، أمَ والله لقد قتلته خيراً منك، وبكى ثمّ فارقه، ومكث القاسم حتّى إذا أدركَ لم تكن له همّة إلاّ اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه.

فلمّا كان زمان مصعب ابن الزبير وغزا مصعب باجميرا(١) ، دخلَ عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبلَ يختلف في طلبه والتماس غرّته، فدخل عليه وهو قائل(٢) نصف النهار فضربه بسيفه حتّى برد)(٣) .

(وقيل: بل قتله رجلٌ يُقال له (بديل بن صُريم)، وأخذ رأسه فعلّقه في عُنق فرسه، فلمّا دخل الكوفة رآه ابن حبيب بن مظاهر - وهو غلام غير مراهق - فوثب عليه وقتله، وأخذ رأسه)(٤) .

ولمّا قُتل حبيب (ره) هدَّ ذلك الحسينعليه‌السلام وقال:(عند الله أحتسبُ نفسي وحُماة أصحابي) (٥) .

____________________

(١) باجميرا: موضع من أرض الموصل كان مصعب بن الزبير يعسكر به في محاربة عبد الملك بن مروان، حين يقصده من الشام أيّام منازعتهما في الخلافة.

(٢) وهو قائل: يعني وهو نائم ساعة القيلولة.

(٣) إبصار العين: ١٠٥ - ١٠٦، وتاريخ الطبري، ٤: ٣٣٥، وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٩١ - ٢٩٢.

(٤) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ٢٢.

(٥) تاريخ الطبري، ٤: ٣٣٦.

١٦٠