مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عزت الله المولائي والشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 477
المشاهدات: 249625
تحميل: 8428

توضيحات:

الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 249625 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 4

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الرابع

ملحمةُ كربلاء يوم عاشوراء من المحرّم سنة ٦١ هـ

روى الطبري قائلاً: (وعبّأ الحسينعليه‌السلام أصحابه، وصلّى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثين فارساً وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العبّاس بن عليّ أخاه(١) ، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمرَ بحطب وقصب كان من وراء البيوت تُحرق بالنّار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.

قال: وكان الحسينعليه‌السلام أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض، كأنّه ساقية فحفروه في ساعة من الليل فجعلوه كالخندق، ثمّ ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدَوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار؛ كي لا نؤتى من ورائنا وقاتلونا القوم من وجه واحد، ففعلوا وكان ذلك لهم نافعاً)(٢) .

____________________

(١) قال المرحوم المحقق السيّد المقرّم: (وأعطى رايته أخاه العبّاس؛ لأنّه وجدَ قمر الهاشميين أكفأ ممّن معه لحمْلها، وأحفظهم لذمامه، وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه، وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره، وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً، وأشدّهم مراساً). (مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٢٥).

(٢) تاريخ الطبري: ٣: ٣١٧، وانظر: الإرشاد: ٢: ٩٥ بتفاوت يسير، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٦، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الطبري روى واقعة يُستفاد من نصّها أنّها من أوائل وقائع يوم عاشوراء، رواها بسنده عن غلام عبد الرحمان بن عبد ربّه الأنصاريّ أنّه قال:

(كنتُ مع مولاي، فلمّا حضر النّاس وأقبلوا إلى الحسين أمر الحسين بفسطاط فضُرب، ثمّ أمرَ بمسك فميث في =

٢٤١

كما روى الطبري أيضاً قائلاً: (فلمّا صلّى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، وقد بلغنا أيضاً أنّه كان يوم الجمعة، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، خرج فيمن معه من الناس)، وقال أيضاً: (لما خرج عمر بن سعد بالناس كان علىربع أهل المدينة يومئذٍ: عبد الله بن زهير بن سُليم الأزدي، وعلىربع مذحج وأسد: عبد الرحمان بن أبي سبرة الحنفي، وعلىربع ربيعة وكندة : قيس بن الأشعث بن قيس، وعلىربع تميم وهمدان : الحرّ بن يزيد الرياحي - فشهدَ هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلاّ الحرّ بن يزيد فإنّه عدل إلى الحسين وقُتل معه - وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شرحبيل بن الأعور بن عمر بن معاوية وهو الضِّباب بن كلاب، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسيّ،

____________________

= جفنة عظيمة أو صُحفة، قال: ثمّ دخلَ الحسين ذلك الفسطاط فتطلّى بالنورة، قال: ومولاي عبد الرحمان بن عبد ربّه وبرير بن خضير الهمداني على باب الفسطاط تحتكُّ مناكبهما، فازدحما أيّهما يُطلي على أثره، فجعل برير يهازل عبد الرحمان، فقال له عبد الرحمان: دعنا فو الله ما هذه بساعة باطل، فقال له برير: والله، لقد علمَ قومي أنّي ما أحببتُ الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكن والله إنّي لمستبشر بما نحن لاقون، والله إنّ بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددتُ أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم، قال: فلمّا فرغ الحسين دخلنا فأطلينا، قال:

ثمّ إنّ الحسين ركب دابّته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، قال: فاقتتل أصحابه بين يديه قتالاً شديداً، فلمّا رأيت القوم قد صُرعوا أفلتُّ وتركتهم). (تاريخ الطبري: ٣: ٣١٨، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٦، وأنساب الأشراف: ٣: ٣٩٥ - ٣٩٦ بتفاوت).

والملاحَظ على هذه الرواية: أنّها - بحسب متابعتنا - ممّا تفرّد به الطبري، ومَن رواها بعده فقد أخذها عنه، هذا أوّلاً، وثانياً: فإنّ الإطلاء بالنورة لابدّ بعده من استعمال الماء، هذا دالّ على وجود الماء في معسكر الإمامعليه‌السلام بوفرة تكفي لأن يُستخدم بعضه للإطلاء مثلاً، غير أنّ هذا خلاف المشهور التاريخي في أنّ معسكر الإمامعليه‌السلام خلا من الماء تماماً، أو كاد منذ اليوم الثامن إلى ما بعد ظهر اليوم العاشر، كما هو المستفاد من كثير من الروايات.

٢٤٢

وعلى الرجال شبث بن ربعي اليربوعي، وأعطى الراية ذويداً مولاه)(١) .

دعاء الإمام الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء

وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام أنّه قال:(لمّا صبّحت الخيلُ الحسينَ رفع يديه وقال:

اللّهمَّ أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعُدّة، كم من همٍّ يضعُف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذلُ فيه الصديق، ويشمتُ فيه العدوّ، أنزلتهُ بك وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرجّته وكشفته، وأنت وليُّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة..) (٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣١٧، وانظر: الإرشاد: ٢: ٩٥ بتفاوت يسير، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٦، والأخبار الطوال: ٢٥٦، وعيون الأخبار: ٩٨، وفي بعض هذه المصادر: (دريد) بدلاً من (ذويد)، وفي الأخبار الطوال: زيد مولى عمر بن سعد.

يقول خالد محمد خالد في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء: ١٢٠): (ومن عجيبٍ أنّهم - كما يحدّثنا التاريخ - خرجوا لجريمتهم تلك بعد أن صلّى بهم قائدهم صلاة الصبح، أصحيح أنّهم صلّوا وقرأوا في آخر صلاتهم: اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد؟! إذاً ما بالهم ينفتلون من صلاتهم؛ ليحصدوا بسيوفهم الأئمّة من آل محمّد؟!).

(٢) الإرشاد: ٢: ٩٦، ورواه الطبري في تاريخه: ٣: ٣١٧ عن أبي مخنف، عن بعض أصحابه، عن أبي خالد الكاهليّ، وفيه:(فأنت ولي كلّ نعمة...) ، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٦ - ٢٨٧، وتاريخ مدينة دمشق: ١٤: ٢١٧ وترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله، من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي (ره): ٧١ بتفاوت، وانظر: سير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠١، ونظم درر السمطين: ٢١٦.

٢٤٣

إشعالُ النار في الخندق خلف المخيّم

وأمرَ الإمام الحسينعليه‌السلام صبيحة يوم عاشوراء بحطب وقصب كانوا قد جمعوه خلف الخيم - فوضعَ في المكان المنخفض خلف المخيّم كأنّه ساقية، بعد أن حفروه ليلة العاشر فجعلوه كالخندق - فأُشعلت فيه النار، حتّى لا يتمكّن العدو أن يقاتلهم إلاّ من وجه واحد(١) .

ردّةُ فعل العدوّ على إشعال النار

أدركَ أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام أنّ مكيدة إشعال النار في الخندق خلف مخيّم الإمامعليه‌السلام ، قد ضيّقت عليهم سعة ميدان الحرب، وجعلت المواجهة من وجه واحد، فاستفزّ ذلك أعصابهم، وصدرت من بعض وجهائهم ردود فعل هستيرية، فقد روى الطبري بسنده عن الضحّاك المشرقيّ أنّه قال: (لمّا أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنّا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلاّ يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلّمنا حتّى مرَّ على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلاّ حطباً تلتهب النّار فيه، فرجع فنادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلتَ النار في الدنيا قبل يوم القيامة؟!

فقال الحسين:(مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن.

فقالوا: نعم، أصلحك الله، هو هو.

فقال:يا بن راعية المِعزى، أنت أَولى بها صِليّا.

فقال له مسلم بن عوسجة: يا بن رسول الله، جُعلت فداك، ألا أرميه فإنّه قد

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري: ٣: ٣١٧، والإرشاد: ٢: ٩٥، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٦، وأنساب الأشراف: ٣: ٣٩٥، والفتوح: ٥: ١٧٣ - ١٧٤، دار الندوة الجديدة، بيروت.

٢٤٤

أمكنني، وليس يسقط سهم، فالفاسق من أعظم الجبّارين.

فقال له الحسين:لا ترمِه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم (١) .

وروى البلاذري يقول: (وقال رجل من بني تميم يقال له: عبد الله بن حوزة، وجاء حتى وقف بحيال الحسينعليه‌السلام فقال: أبشِر يا حسين بالنار!

فقال:كلاّ، إنّي أقدِم على ربّ رحيم وشفيع مطاع ، ثمّ قال:مَن هذا؟

قالوا: ابن حوزة.

قال:حازهُ الله إلى النّار).

فاضطربت به فرَسُه في جدول، فعلقت رجْله بالركاب، ووقعَ رأسه في الأرض، ونفرَ في الفرس فجعل يمرّ برأسه على كلّ حجَر وأصل شجرة حتّى مات، ويقال: بقيت رجله اليسرى في الركاب فشدَّ عليه مسلم بن عوسجة الأسدي فضرب رجله اليمنى فطارت، ونفر به فرسه يضرب به كلّ شيء حتّى مات)(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣١٨، وانظر: الإرشاد: ٢: ٩٦، وأنساب الأشراف: ٣: ٣٩٦.

(٢) أنساب الأشراف: ٣: ٣٩٩، ويلاحظ على هذه الرواية: أنّ ما ذكره البلاذري من أنّ مسلم بن عوسجة (رض) شدَّ على الرجل فضرب رجله اليمنى إذا كان قبل بدء القتال، فإنّ هذا يتعارض مع مبدأ الإمامعليه‌السلام :(فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال)، وإذا كانت واقعة عبد الله بن حوزة بعد نشوب القتال فلا منافاة في تدخّل مسلم بن عوسجة (رض).

وقد روى هذه الرواية كلّ من: الطبري في تاريخه: ٣: ٣٢٤، والمفيد في الإرشاد: ٢: ١٠٢، وابن أعثم في الفتوح: ٥: ١٠٨، وابن الأثير في الكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٩ بتفاوت مع نصّ البلاذري، وتفاوت فيما بينها، ولا يوجد في نصّ كلّ من: الطبري، وابن الأثير، وابن أعثم ما ذكره البلاذري والمفيد أنّه (فشدّ عليه مسلم بن عوسجة الأسدي فضرب رجله اليمنى فطارت..).

 كما أنّ الطبري وابن الأثير ذكرا الرجل باسم (ابن حوزة)، وذكره ابن أعثم (مالك بن حوزة)، لكنّ الخوارزمي في نقله عن ابن أعثم ذكره باسم (مالك بن جريرة، وذكر أنّ الإمامعليه‌السلام قال:(اللّهمّ جُرّه إلى النار...) . (راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١: ٣٥٢). =

٢٤٥

وروى البلاذري أيضاً أنّ محمّد بن الأشعث جاء فقال: (أين حسين؟

قال:(ها أنا ذا.

قال: أبشِر بالنّار ترِدها الساعة!

قال:بل أبشِر بربٍّ رحيم وشفيع مطاع، فمَن أنت؟)

قال: محمّد بن الأشعث)(١) .

____________________

= وروى الشيخ الصدوق مثل هذه الرواية بتفاوت، واسم الرجل في روايته (ابن أبي جويرية المزني). (أمالي الصدوق: ١٣٤ المجلس ٣٠ ح١)، وفي راية المسعودي أنّ اسم هذا الرجل (ابن جريرة) (إثبات الوصية: ١٧٧).

(١) أنساب الأشراف: ٣: ٤٠١، وقد روى ابن نما (ره) قائلاً: (وجاء رجل فقال: أين الحسين؟ فقال:(ها أنا ذا، قال: أبشر بالنّار تردها الساعة! قال:بل أبشر بربّ رحيم وشفيع مطاع، فمَن أنت؟ قال: أنا محمّد بن الأشعث.

قال:اللّهمّ إن كان عبدك كاذباً فخذه إلى النّار، واجعله اليوم آية لأصحابه)، فما هو إلاّ أن ثنى عنان فرسه فرمى به وثبتت رجله في الركاب، فضربه حتى وقعت مذاكيره في الأرض، فو الله لقد عجبنا من سرعة إجابة دعائهعليه‌السلام ). (مثير الأحزان: ٦٤، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١: ٣٥٢ - ٣٥٣).

وقد روى الشيخ الصدوق (ره) قائلاً: (ثمّ أقبل آخر من عسكر عمر بن سعد يقال له محمّد بن أشعث بن قيس الكندي فقال: يا حسين بن فاطمة، أيّة حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك؟! قال الحسينعليه‌السلام :(هذه الآية: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً... ) ، ثمّ قال:إنّ محمّداً لمِن آل إبراهيم، ثمّ قال:إنّ محمّداً لمِن آل إبراهيم، وإنَّ العترة الهادية لمِن آل محمّد، مَن الرجل؟

فقيل: محمّد بن أشعث بن قيس الكندي، فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه إلى السماء فقال:اللّهمّ أرِ محمّد بن الأشعث ذُلاًّ في هذا اليوم لا تُعزّه بعد هذا اليوم أبداً) ، فعرضَ له عارض فخرج من العسكر يتبرّز فسلّط الله عليه عقرباً فلدغهُ فمات بادي العورة). (أمالي الصدوق: ١٣٤ المجلس الثلاثون، ح١). =

٢٤٦

وقال البلاذري: (ثمّ جاء رجل آخر فقال: أين الحسين؟ قال:(ها أنا ذا ، قال: أبشر بالنّار تردها الساعة! قال:بل أبشر بربّ رحيم وشفيع مطاع، فمَن أنت؟

قال: شمر بن ذي الجوشن.

فقال الحسين:الله أكبر، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّي رأيتُ كلباً أبقع يلِغ في دماء أهل بيتي)) (١) .

إشارة:

قد يُلفت انتباه المتابع في رواية البلاذري الأولى هنا قول الإمامعليه‌السلام لمسلم بن عوسجة (رض):(لا ترمِه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم)، وقولهعليه‌السلام لزهير بن القين (رض) - إبّان تضييق الحرّ عليهم:(... ولكن ما كنتُ لأبدأهم بالقتال حتّى يبدأوني) (٢) ، ردّاً على قول زهير: (... ذرنا نقاتل هؤلاء القوم؛ فإنّ قتالنا إيّاهم الساعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا معهم بعد هذا)(٣) .

____________________

= لكنّ جلّ المؤرّخين يذكرون: أنّ محمّد بن الأشعث بقي فيما بعد عاشوراء، وهو الذي قاد قوّات ابن زياد في مواجهة عبد الله بن عفيف (رض)، وجموع الأزد الذين دافعوا عنه (راجع مثلاً: مثير الأحزان لابن نما: ٩٣، واللهوف: ٧٢، المطبعة الحيدرية - النجف).

كما ذكر المؤرّخون: أنّ محمّد بن الأشعث بقيَ إلى ما بعد ثورة المختار فهرب منه، وانضمّ إلى مصعب بن الزبير، وقُتل محمّد بن الأشعث في المواجهة بين جيش مصعب وجيش المختار (راجع مثلاً: الكامل في التاريخ: ٣: ٣٨٢ - ٣٨٤، والأخبار الطوال: ٣٠٦، والمعارف: ٤٠١، وتاريخ الطبري: ٣: ٤٩٦)، وراجع ترجمة محمّد بن الأشعث في الجزء الثاني من (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة): ص١٢٣ - ١٢٤.

(١) أنساب الأشراف: ٣: ٤٠١.

(٢) و (٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١: ٣٣٤ عن الفتوح: ٥: ١٤٣ بتفاوت، ففي الفتوح:(ولكن ما كنت بالذي أنذرهم بقتال حتّى يبتدروني) ، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٠٧، والأخبار الطوال: ٣٥٢.

٢٤٧

إنّ إصرار الإمامعليه‌السلام على عدم البدء بالقتال، من سُنن الدعاة إلى الحقّ في مواجهة المنحرفين عن الهدى ودعوتهم إلى الصراط المستقيم، ومِن قبله كان أبوه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام قد امتنع عن البدء في القتال في الجمل وصفّين(١) ؛ ذلك لأنّ الداعي إلى الحقّ الواثق من قوّة حجّته وصحّة دليله على موقفه، لا يرى إلى القتال حاجة ما دام طريق مخاطبة العقول والقلوب بنور الحقيقة مفتوحاً لم يوصد بعدُ، إذ الأصل في الغاية عند هذا الداعي هو الهداية إلى الحقّ لا الحرب، فلو بدأهم بقتال لأوصدَ - هو بنفسه - على حجّته طريق النفوذ إلى القلوب والعقول التي يريد هدايتها، ولمَنَع حجّته من بلوغ تمامها، بل وجعل الحجّة عليه بيد خصومه فيكون بذلك قد نقض حجّته؛ ذلك لأنّ لهم أن يقولوا عند ذاك إذا كنت تريد لنا الهداية بالحقّ فلماذا ابتدأتنا بالقتال؟!

وهذا ما لا يصدر عن الساحة المقدّسة لأهل بيت العصمة والطهارةعليهم‌السلام أبداً، بل قد لا يصدر عمّن يقتدي بهديهم وسنّتهم.

احتجاجاتُ الإمامعليه‌السلام في ساحة المعركة

حرصَ الإمام الحسينعليه‌السلام على مواصلة احتجاجاته على أعدائه - وهو يعلم أنّ القوم قاتلوه - ليتمّ الحجّة عليهم أمام الله تبارك وتعالى، وليستنقذ مَن يمكن أن

____________________

(١) لما أجمعَ معاوية أن يمنع الماء عن جيش أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بعد أن أخذ أهل الشام الشريعة فهي في أيديهم، فزع أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام إليه، فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية وقال له:(ائتِ معاوية فقل: إنّا سرنا مسيرنا هذا، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنّك قد قدمتَ بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالقتال، ونحن من رَأيَنا الكفَّ حتّى ندعوك ونحتجَّ عليك...) . (راجع: وقعة صفين: ١٦٠ - ١٦١).

٢٤٨

ينتفع بمعرف الحقّ والحقيقة، وليكشف للأمّة عامة ولأجيالها الآتية فيما بعد عصره خاصة - من خلال بياناته الاحتجاجيّة - عن حقّانيّة قيامه، وعن أحقيّته بالأمر، وعن أبعاد مظلوميّتهعليه‌السلام .

قال اليعقوبي في تاريخه: (فلمّا كان من الغد خرج فكلّم القوم، وعظّم عليهم حقّه، وذكّرهم الله عزّ وجلّ ورسوله، وسألهم أن يخلّوا بينه وبين الرجوع، فأبوا إلاّ قتاله أو أخذَهُ حتّى يأتوا به عبيد الله بن زياد، فجعل يكلّم القوم بعد القوم، والرجل بعد الرجل، فيقولون ما ندري ما تقول!)(١) .

خطابهُعليه‌السلام قبل بدء القتال

روى الشيخ المفيد (ره) في الإرشاد يقول: (ثمّ دعا الحسين براحلته فركبها، ونادى بأعلى صوته:(يا أهل العراق - وجُلّهم يسمعون - فقال:

أيّها النّاس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعِظكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتّى أُعذِر إليكم، فإنْ أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإنْ لم تعطوني النَصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم، ثمّ لا يكنْ أمركم عليكم غُمّة ثمَّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنَّ ولييَّ الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.

ثمّ حمدَ الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكة الله وأنبيائه، فلم يُسمع متكلِّمٌ قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجِعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلحُ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألستُ ابن بنت نبيّكم، وابن

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢: ١٧٦.

٢٤٩

وصيّه وابن عمِّه، وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمِّي؟ أوَ لم يَبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟

فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً منذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبَرَكم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعديّ، وزيد ابن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخيّ، أمَا في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟!.

فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول!(١) ، فقال له حبيب بن مظاهر: والله، إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادقّ ما تدري ما يقول، قد طبعَ الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسينعليه‌السلام :

____________________

(١) في مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١: ٣٥٨، (فقال له شمر بن ذي الجوشن: يا حسين بن عليّ، أنا أعبد الله على حرف إن كنتُ أدري ما تقول!...).

وفي مثير الأحزان: ٥١: (فقال شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يعرف شيئاً ممّا يقول!...).

وفي سير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠٢ (فقال شمر: هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول، فقال عمر: لو كان أمرك إليَّ لأجبتُ، وقال الحسين:(يا عمر، ليكوننّ لِما ترى يوم يسوؤك، اللّهمّ إنّ أهل العراق غرّوني، وخدعوني، وصنعوا بأخي ما صنعوا، اللهمّ شتِّت عليهم أمرهم، وأحصِهم عدداً).

٢٥٠

فإنْ كنتم في شكّ من هذا، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟! أو مالٍ لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!

فأخذوا لا يكلّمونه، فنادى:

يا شبث بن ربعي، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألمْ تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدِم على جُندٍ لك مُجنَّدة؟!

فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول! ولكن انزِل على حكم بني عمّك؛ فإنّهم لن يُروك إلاّ ما تحبّ!

فقال له الحسين:

لا واللهِ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، ثمّ نادى:

يا عباد الله، إنّي عُذت بربّي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب).

ثمّ إنّه أناخَ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها)(١) .

____________________

(١) الإرشاد: ٢: ٩٧ - ٩٩، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣١٨ وفيه بعد قول الإمامعليه‌السلام :(.. إنَّ ولييّ الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين) قال: فلمّا سمع أخواته كلامه هذا صحْن وبكَينَ، وبكى بناته، فارتفعت أصواتهنّ فأرسل إليهنّ أخاه العبّاس بن عليّ وعليّاً ابنه، وقال لهما: (أسكِتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ، قال: فلمّا ذهبا ليسكتاهنّ، قال: لا يبعد ابن عبّاس)، قال: فظننّا أنّه إنّما قالها حين سمع بكاؤهنّ؛ لأنّه كان قد نهاه أن يخرج بهنّ..).

ويلاحظ هنا: أنّ هذا ظنّ الراوي - وهو غير الحقّ - إذ يُوحي وكأنّ الإمامعليه‌السلام قد ندمَ في تلك الساعة على إخراج النساء معه، فتذكّر ابن عبّاس الذي كان قد طلب منه ألاّ يصطحب النساء =

٢٥١

أمّا الخوارزمي، فقد روى تفاصيل هذا الخطاب على نحوٍ آخر يتفاوت كثيراً مع رواية الشيخ المفيد (ره)، والطبري، وابن الأثير، قال الخوارزمي: (وأصبحَ الحسين فصلّى بأصحابه، ثمّ قرّب إليه فرسه، فاستوى عليه وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه، وبين يديه برير بن خضير الهمداني، فقال له الحسين:(كلِّم القوم يا برير وانصحهم، فتقدّم برير حتى وقف قريباً من القوم، والقوم قد زحفوا إليه عن بكرة أبيهم، فقال لهم برير: يا هؤلاء، اتّقوا الله فإنّ ثِقل محمّد قد أصبح بين

____________________

= معه، وهذا الظنّ غير وارد؛ لأنّ الإمام المعصومعليه‌السلام لا يفعل إلاّ الحقّ والصواب، وقد صرّح هوعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفية (رض)، بأنّ اصطحابه النساء امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال له:(قد قال لي - أي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله -:إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا) . (راجع: اللهوف: ٢٧).

وقد ذكر المرحوم السيّد المقرّم نقلاً عن كتاب (زهر الآداب للحصري، ج١، ص٦٢ دار الكتب العربية): أنّ الإمامعليه‌السلام قال بعد أن أُسكتْنَ النساء عن البكاء والصياح:(عباد الله اتّقوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر؛ فإنّ الدنيا لو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد، لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وألوى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أنَّ الله خلقَ الدنيا للفناء، فجديدها بالٍ، ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهّر، والمنزل تلعة، والدار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتّقوا الله لعلّكم تفلحون) .

وفي تاريخ الطبري أيضاً أنّ الإمامعليه‌السلام قال لقيس بن الأشعث - بعد أن اقترح عليه النزول على حكم بني أمية -:(أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟! لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقرّ إقرار العبيد..).

وقد روى تفاصيل هذه الخطبة أيضاً ابن الأثير في الكامل: ٣: ٣٨٧، وانظر: مثير الأحزان: ٥١، وأنساب الأشراف: ٣: ٣٩٦ - ٣٩٧، وترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام مقتله من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد، تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي، ص٧٢، وسير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠١ - ٣٠٢.

٢٥٢

أظهركم، هؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم؟ وما الذي تريدون أن تصنعوا بهم؟!

فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيهم.

فقال برير: أفلا ترضون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي أقبلوا منه؟! ويلكم يا أهل الكوفة، أنسيتم كتبكم إليه وعهودكم التي أعطيتموها من أنفسكم وأشهدتم الله عليها، وكفى بالله شهيداً؟! ويلكم، دعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم من دونهم، حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم لعُبَيد الله، وحَلأتموهم عن ماء الفرات الجاري، وهو مبذول يشرب منه اليهود والنصارى والمجوس، وترِده الكلاب والخنازير، بئسما خلفتم محمّداً في ذرّيته، ما لكم؟! لا سقاكم الله يوم القيامة، فبئس القوم أنتم.

فقال له نفر منهم: يا هذا ما ندري ما تقول؟

فقال برير: الحمدُ لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللهمّ ألقِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعلَ القوم يرمونه بالسهام، فرجع برير إلى ورائه.

فتقدّم الحسينعليه‌السلام حتّى وقف قبالة القوم، وجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّها السيل، ونظرَ إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة، فقال:

(الحمدُ لله الذي خلقَ الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرّته، والشقيّ مَن فَتَنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا؛ فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتخيّب طمعَ مَن طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، فأعرضَ بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنِعمَ الربّ ربّنا، وبئس العبيد أنتم، أقرَرتم

٢٥٣

بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم وما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم قد كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين).

فقال عمر بن سعد: ويلكم، كلِّموه فإنّه ابن أبيه، فو الله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لمَا قطع ولمَا حصر، فكلّموه.

فتقدّم إليه شمرٍ بن ذي الجوشن فقال: يا حسين، ما هذا الذي تقول؟ أفْهِمنا حتى نفهم!

فقالعليه‌السلام :

(أقول لكم اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلونِ، فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك حرمتي؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ما خلا النبيّين والمرسلين، فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، فو الله ما تعمّدتُ كذباً منذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم من الصحابة مثل: جابر بن عبد الله، وسهل بن سعد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، فاسألوهم عن هذا، فإنّهم يُخبرونكم أنّهم سمعوه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن كنتم في شكّ من أمري أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فو الله ما بين المشرقين والمغربين ابن بنت نبيّ غيري، ويلكم، أتطلبوني بدم أحد منكم قتلته، أو بمالٍ استملكته، أو بقصاص من جراحات استهلكته؟!

فسكتوا عنه لا يجيبونه، ثمّ قالعليه‌السلام :

والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، عباد الله، إنّي

٢٥٤

عُذت بربّي وربّكم أن ترجمونِ، وأعوذ بربّي من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب .

فقال له شمر بن ذي الجوشن: يا حسين بن علي، أنا أعبد الله على حرف إن كنتُ أدري ما تقول!

فسكت الحسينعليه‌السلام ، فقال حبيب بن مظاهر للشمر: يا عدوَّ الله وعدوَّ رسول الله، إنّي لأظنّك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك لا تدري ما يقول، فإنّ الله تبارك وتعالى قد طبع على قلبك.

فقال له الحسينعليه‌السلام :

حسبُك يا أخا بني أسد، فقد قُضي القضاء، وجفّ القلم، والله بالغ أمره، والله إنّي لأَشوق إلى جدّي وأبي وأمّي وأسلافي من يعقوب إلى يوسف وأخيه، ولي مصرعٌ أنا لاقيه) (١) .

وأمّا السيّد ابن طاووس (ره)، فقد روى تفاصيل هذا الخطاب على نحو آخر أيضاً، قال: (قال الراوي: وركب أصحاب عمر بن سعد لعنهم الله، فبعث الحسينعليه‌السلام برير بن خضير، فوعظهم فلم يستمعوا، وذكّرهم فلم ينتفعوا، فركب الحسينعليه‌السلام ناقته - وقيل فرسه - فاستنصتهم فأنصتوا(٢) ، فحمدَ الله وأثنى عليه

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٦ - ٢٥٨.

(٢) وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ٨ - ٩: (لمّا عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسينعليه‌السلام ، ورتّبهم في مراتبهم، وأقام الرايات في مواضعها، وعبّأ الحسين أصحابه في الميمنة والميسرة، فأحاطوا بالحسين من كلّ جانب حتّى جعلوه في مثل الحلقة، خرجَ الحسين من أصحابه حتّى أتى الناس فاستنصَتَهم، فأبَوا أن ينصتوا، فقال لهم:(ويلكم، ما عليكم أن تُنصتوا إليَّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمَن أطاعني كان من المرشدين، ومَن عصاني =

٢٥٥

وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الملائكة والأنبياء والرسُل، وأبلغ في المقال، ثمّ قال:

(تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً، حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشوهُ فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيها، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يُستحصف؟! ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُبى (١) ،وتداعيتم إليها كتهافت الفَراش، فسحقاً لكم يا عبيد الأَمَة، وشُذّاذ الأحزاب، ونَبَذة الكتاب، ومحرّفي الكَلِم، وعصبة الآثام، ونَفثة الشيطان، ومُطفيء السُنن، أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟!

أجل والله، غدر فيكم قديم، وَشجت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجىَ للناظر وأكلة للغاصب، ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعي قد ركزَ بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٍ طابت وطهُرت، وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر.

ثمّ أوصل كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي:

____________________

=كان من المهلَكين، وكلّكم عاصٍ لأمري، غير مستمع لقولي، قد انخزلت عطياتكم من الحرام، ومُلئت بطونكم من الحرام، فطبع الله على قلوبكم، ويلكم، ألا تُنصتون؟! ألا تسمعون؟! فتلاوم أصحاب عمر بن سعد، وقالوا: أنصِتوا له، فقال الحسين:تبّاً لكم أيتها الجماعة وترَحاً..) إلى آخر خطبته الشريفة).

(١) الدُبى - كعصى: النمل، أصغر الجراد، والواحدة: الدَباة.

٢٥٦

فـإنْ نُـهزم فهزامون قِدماً

وإنْ نُـغلب فـغير مُغلَّبينا

ومـا إنْ طـبّنا جُبنٌ ولكنْ

مـنايانا ودولـة آخـرينا

إذا ما الموت رفّع عن أُناسٍ

كـلاكـله أنـاخ بـآخرينا

فـأفنى ذلكم سروات قَومي

كـما أفنى القرون الأوّلينا

فـلو خلُد الملوك إذاً خلُدنا

ولـو بقيَ الملوك إذاً بقينا

فـقل لـلشامتين بنا أفيقوا

سـيلقى الشامتون كما لقينا

ثُمَّ أَيمُ الله، لا تلبثون بعدها إلاّ كرَيث ما يركب الفرس، حتى تدور بكم دَور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدّي، فأجمِعوا أمركم وشركاءكم ثمَّ لا يكن أمركم عليكم غمَّة ثمَّ اقضوا إليَّ ولا تُنظِرون، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابّة إلاّ هو آخذٌ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم، اللّهمّ احبِس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيِّ يوسف، وسلِّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة (١) ؛فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.

ثمّ نزلعليه‌السلام ودعا بفرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المرتجز، فركبهُ وعبّأ أصحابه للقتال)(٢) .

____________________

(١) في مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ١٠٢:(... يسقيهم كأساً مصبَّرة فلا يدع فيهم أحداً، قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم؛ فإنهم غرّونا وكذبونا...) .

(٢) اللهوف: ٤٢ - ٤٣، وتاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، تحقيق المحمودي: ٣١٧ - ٢٠ رقم ٢٧٣ بتفاوت، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ٨ - ١٠ بتفاوت وفيه: (ثمّ قالعليه‌السلام :أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر، فدُعي له وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه، فقال:(يا عمر، أنت تقتلني، وتزعم أن يولّيك الدعيّ ابن الدعيّ بلاد الري وجرجان؟! والله، لا تتهنّأ بذلك أبداً، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة قد نُصبت بالكوفة يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم)! =

٢٥٧

إشارات

١ - المستفاد من ظهر متون الأصول التاريخية التي روت نصّ خطاب الإمامعليه‌السلام قبل بدء القتال - على ما هي عليه من الاختلاف فيما بينها -: هو أنّ كُلاًّ من هذه النصوص يشكّل وحده متن هذا الخطاب، ومع فرض صحة صدور هذه النصوص جميعاً عن الإمامعليه‌السلام ، فلا محيص من أن تكون هذه النصوص خطباً متعددة خَطبهاعليه‌السلام قبل بدء القتال، أو أن تكون أجزاء ومقاطع متعددة من خطاب واحد، فُصلت بينها فواصل قطعت اتصالها ووحدة سياقها.

وبحسب طبيعة تدرّج الأمور والأشياء، فلابدَّ أن يكونعليه‌السلام قد بدأهم بتعريفهم بنفسه الشريفة وبنصيحتهم ودعوتهم إلى الحقّ، وتذكيرهم بكتبهم وعهودهم، ثمّ حيث لم يجد منهم الاستجابة والتسليم، بل الإصرار والعناد، فإنّ لهجة خطابه اشتدّت تبعاً لذلك.

من هنا، فإنّ الأرجح أن يكون النصّ الذي رواه الطبري والمفيد (ره) والذي كانت بدايته:(أيّها النّاس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ... أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها...) ، هو المقطع الأوّل من خطابهعليه‌السلام ، ثمَّ يأتي بعده - مقطعاً ثانياً - ما رواه الخوارزمي:(الحمدُ لله (١) الذي خلقَ الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال...)، ثمّ حيث لم تنفع بهم المواعظ والاحتجاجات؛ فإنّ لهجة خطابه اشتدّت فقرّعهمعليه‌السلام ووبّخهم فقال:(تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً...) ، فكان هذا المقطع هو

____________________

= فغضب عمر بن سعد من كلامه، ثمّ صرف بوجهه عنه، ونادى بأصحابه: ما تنظرون به؟ احملوا بأجمعكم إنّما هي أكلة واحدة).

(١) تنقل بعض المصادر بداية هذا النصّ هكذا:(أيّها الناس، إنّ الله خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال..) . (راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٢٧، وحياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ٣: ١٨٤).

٢٥٨

الجزء الأخير من خطابهعليه‌السلام .

٢ - وربّما يستظهر المتأمّل أنّ خطاب برير (رض) كان فاصلاً بين المقطع الأوّل والمقطع الثاني من خطابهعليه‌السلام ، ولربّما كانت خطبة زهير بن القين (رض) - وتأتي فيما بعد - فاصلاً بين مقطعين من مقاطع خطابهعليه‌السلام ، أي أنّ خطابه قبل بدء القتال تخللّته فواصل؛ بسبب خطابَي برير وزهير رضوان الله عليهما.

٣ - ذهب المحقّق الشيخ السماوي (ره) إلى أنّ كلامهعليه‌السلام الأوّل هو خطبته الأولى، وهي تنتهي بنزولهعليه‌السلام عن راحلته التي عقَلها عقبة بن سمعان، وأنّ خطبته الثانية هي التي تبدأ بقوله:(تبّاً لكم أيتها الجماعة وتَرَحاً...) (١) .

٤ - وذهب المحقّق السيّد المقرّم (ره) إلى أنّ كلامهعليه‌السلام الأوّل هو خطبته الأولى(٢) .

وأنّ وقائع: حادثة عبد الله بن حوزة التميمي(٣) ، وحادثة محمّد بن الأشعث(٤) ،

____________________

(١) راجع: إبصار العين: ٣٢ - ٣٥.

(٢) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٢٧ - ٢٢٩، وقد أدخل المقرّم (ره) في بطن هذه الخطبة قولهعليه‌السلام :(عباد الله اتّقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر...) إلى آخر ما نقله عن كتاب زهر الآداب، ثمَّ أدخل بعده في بطن هذه الخطبة قولهعليه‌السلام :(أيها النّاس، إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال...) ، ولا نعلم المستند التاريخي أو التحليلي الذي اعتمده السيّد المقرّم فيما ذهب إليه؟

(٣) الرجل الذي سحلته فرسه - بدعاء الإمامعليه‌السلام - فحطّمته وألقت به في النار المشتعلة في الخندق، وقد مرّت بنا قصّته في ما مضى.

(٤) حيث دعا الإمامعليه‌السلام ، فلدغهُ عقرب أسود فمات بادي العورة، وقد مرّت بنا روايته في ما مضى.

٢٥٩

وما حصل لمسروق بن وائل الحضرمي(١) ، وخطبة زهير بن القين (رض)، وخطبة برير (رض)، جميعها تأتي بعد خطبتهعليه‌السلام الأولى.

ثمّ تأتي بعد هذه الوقائع خطبتهعليه‌السلام الثانية، حيث يقول السيّد المقرّم (ره): (ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركب فرَسه، وأخذ مصحفاً ونشَره على رأسه ووقف بإزاء القوم، وقال:(يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسُنّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولامَتهُ وعمامته، فأجابوه بالتصديق، فسألهم عمّا أقدَمهم على قتله؟ قالوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد! فقالعليه‌السلام :تبّاً لكم أيتُها الجماعة وتَرحاً..) (٢) .

٥ - أمّا المحقّق الشيخ القرشي، فقد ذهبَ إلى ما ذهبنا إليه في أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد خطب خطبة واحدة، متألّفة من مقاطع فُصلت بينها فواصل، لكنّه ذكر أنّ خطبة زهير (رض) ثمّ خطبة برير (رض) فُصلتا بين مقطعي خطبتهعليه‌السلام ؛ إذ إنَّ الشيخ القرشي - كما السيّد المقرّم - أدرجَ المقطع الذي رواه الخوارزمي:(الحمدُ لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال...) (٣) في المقطع الأوّل، وذَكرهُ بعد إسكات النساء عن الصراخ والبكاء، ولا نعلم أيضاً المستند التاريخي أو التحليلي للسياق الذي اعتمده؟ ولعلّه اعتمد على ما ذهب إليه السيّد المقرّم رحمة الله عليه.

____________________

(١) حيث كان في أوائل الخيل طمعاً في أن يُصيب رأس الحسين حُبّاً في الجائزة، فلمّا رأى ما صنع الله بابن حوزة قال: رأيت من أهل هذا البيت شيئاً! لا أقاتلهم أبداً، وقد مرَّ بنا ذكر قصّته أيضاً.

(٢) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٣٠ - ٢٣٥ و، لا نعلم المستند التاريخي والتحليلي لهذا السياق الذي اعتمده المرحوم السيّد المقرّم؟

(٣) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : ٣: ١٨٤ - ١٩٥.

٢٦٠