مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عزت الله المولائي والشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 477
المشاهدات: 249567
تحميل: 8428

توضيحات:

الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 249567 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 4

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خطابُ زهير بن القين (رض)

لم تحدّد المصادر التاريخية الأساسية التي روت خطاب زهير بن القين (رض) قبل بدء القتال موقع هذا الخطاب بدقة، أي هل كان قبل خطاب الإمامعليه‌السلام أم بعده، أم كان في أثنائه، وهل كان قبل خطاب برير (رض) أم بعده؟

يروي الطبري عن كثير بن عبد الله الشعبي أنّه قال: (لمّا زحفنا قِبَل الحسين خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنب، شاكٍ في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذارِ لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة، وعلى دين واحدة وملّة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهلٌ فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أمّة وأنتم أمّة.

إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد؛ فإنّكم لا تُدركون منهما إلاّ بسوء عُمُر سلطانهما كلّه! ليُسملان أعينكم ويُقطّعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقُرّاءكم، أمثال: حُجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه.

قال: فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له، وقالوا: والله، لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سِلماً.

فقال لهم: عبادَ الله، إنّ وِلْدَ فاطمة رضوان الله عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإنْ لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.

قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اُسكتْ، أَسكتَ الله نامتك!

٢٦١

أبرمْتنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير: يا بن البوّال على عقِبَيه، ما إيّاك أُخاطب إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تُحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

قال: أفبالموت تخوّفني؟ فو الله للَمَوت معه أحبّ إليَّ من الخُلد معكم.

قال: ثمّ أقبلَ على النّاس رافعاً صوته فقال: عبادَ الله، لا يغرّنكم من دينكم هذا الجلَف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً أهرقوا دماء ذرّيته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرهم وذبَّ عن حريمهم.

قال: فناداه رجل فقال له: إنّ أبا عبد الله يقول لك:(أقبِل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النُصح والإبلاغ) (١) .

الحرّ بن يزيد الرياحي.. والموقف الخالد

قال الشيخ المفيد (ره): (فلمّا رأى الحرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسينعليه‌السلام ، قال لعمر بن سعد:أَيْ عُمر، أمُقاتلٌ أنت هذا الرجل؟!

قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

قال:أفما لكم فيما عرضهُ عليكم رضا؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٠، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٨ باختصار، وكذلك أنساب الأشراف: ٣: ٣٩٧.

٢٦٢

قال عمر: أمَا لو كان الأمرُ إليَّ لفعلتُ! ولكنّ أميرك قد أبى.

فأقبل الحرُّ حتى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه يُقال له قُرّة بن قيس، فقال: يا قُرّة هل سقيتَ فرسك اليوم؟

قال: لا.

قال: فما تريد أن تسقيه؟

قال قُرّة: فظننتُ والله أنّه يُريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لمْ أسقِه، وأنا منطلق فأسقيه.

فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فو الله لو أنّه أطلعني على الذي يُريد لخرجت معه إلى الحسين بن عليّعليه‌السلام (١) .

فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا بن يزيد، أتريد أن تحمل؟

فلم يجبه وأخذهُ مثل الأفكل - وهي الرعدة - فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب، والله، ما رأيتُ منك في موقف قطُّ مثلَ هذا، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة ما عَدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟

____________________

(١) كان الحرّ (رض) يعلم أنّ قرّة بن قيس لعنه الله ليس ممّن يتأسّى بالأحرار لنصرة الحق وأهله، بل هو من المشلولين نفسيّاً الذين يكذبون حتّى على أنفسهم، والأقوى أنّ الحرّ (رض) خشي من قُرَّة - لو أطلعه على نيّته وعزمه - أن يُفشي أمره ويمنعه من تحقيق غايته؛ ولذا كتمَ عليه نيّته وعزمه.

والدليل على كذب قُرّة بن قيس: نفسُ بقائه في جيش ابن سعد حتّى بعد التحاق الحرّ (رض) بالإمامعليه‌السلام ، بل لقد أصرّ قُرّة هذا على مناصرة وحماية أهل الضلال حتّى بعد تزعزع كيانهم، فقد بعثهُ مسعود بن عمرو الأزدي على رأس مئة من الأزد لحماية ابن زياد حتّى القدوم به إلى الشام، بعد أن طرده أهل البصرة منها (راجع: الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة المكرّمة: ٣٤).

٢٦٣

فقال له الحرّ:إنّي والله أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار، فو الله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعتُ وحُرّقت.

ثمّ ضربَ فرسه فلَحِق بالحسينعليه‌السلام فقال له: جُعلت فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعتُ بك في هذا المكان، وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضتهُ عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله، لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وإنّي تائب إلى الله ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟(١)

فقال له الحسينعليه‌السلام :(نعم، يتوب الله عليك، فانزِل (٢) .

قال: أنا لك فارساً خير منّي راجلاً، أُقاتلهم على فرَسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري.

فقال له الحسينعليه‌السلام :فاصنع يرحمك الله ما بدا لك).

فاستقدمَ أمام الحسينعليه‌السلام (٣) ثمّ قال:

____________________

(١) في تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٠: (... والله الذي لا إله إلاّ هو، ما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله لو ظننتُ أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟).

(٢) في تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٠:(.. نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحرُّ بن يزيد، قال:أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، أنت الحرُّ في الدنيا والآخرة، انزِل...) .

(٣) في المصدر (الإرشاد: ٢: ١٠٠): (فاستقدم أمام الحسينعليه‌السلام ، ثمّ أنشأ رجل من أصحاب الحسينعليه‌السلام يقول:

لنعِم الحرُّ حرُّ بني رياحِ

وحُرٌّ عند مختلف الرماحِ

=

٢٦٤

يا أهل الكوفة، لأُمِّكم الهَبَلُ والعَبَرُ، أدَعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا أتاكم أسلمتموه؟ وزعمتم أنّكم قاتِلوا أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه؟! أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة(١) ، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرّاً، وحلأتموه ونساءَه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلفتم محمّداً في ذرّيته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر(٢) .

فحمل عليه رجال يرمونه بالنبْل، فأقبلَ حتّى وقف أمام الحسينعليه‌السلام )(٣) .

هل التحق ثلاثون رجلاً بالإمامعليه‌السلام يوم عاشوراء؟

يقول ابن عبد ربّه الأندلسي: (وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلاً من أهل الكوفة فقالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث خصال فلا تقبلون منها شيئاً؟! فتحوّلوا مع الحسين فقاتلوا معه)(٤) .

____________________

=

ونِعمَ الحرُّ إذْ نادى حسينٌ

وجاد بنفسه عند الصباحِ

ولكنّ الطبري لم يورد هذه الأبيات داخل سياق التحاق الحرّ (رض) بالإمامعليه‌السلام ، كما أنّ المشهور أنّ هذه الأبيات قيلت بعد مصرعه (رض).

(١) في تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٠: (.. فمنعتموه التوجّه في بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير..).

(٢) وكذلك في تاريخ الطبري: (.. لا سقاكم الله يوم الظمأ إنّ لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه، فحملت عليه رجّالة لهم ترميه بالنبل...).

(٣) الإرشاد: ٢: ٩٩ - ١٠١.

(٤) العقد الفريد: ٥: ١٢٨، وانظر: تهذيب ابن عساكر: ٤: ٣٣٨، والإمامة والسياسة: ٢: ٦، وسير أعلام =

٢٦٥

إشارة:

إنّ المتأمّل في متون المصادر التاريخية(١) - التي ذكرت قضيّة تحوّل والتحاق ثلاثين رجلاً من جيش ابن سعد بالإمامعليه‌السلام - يجد أنّ هذه المتون لا تُشخّص ساعة وزمان التحاقهم بالتحديد، لكنّ ظاهر هذه المتون يوحي بأنّ هذا الالتحاق كان قد حصلَ يوم عاشوراء.

ولذا فإنّ بعض المؤرّخين المتأخرين - أخذاً بهذا الظاهر - ذكرَ قضيّة هذا الالتحاق بعد ذكره التحاق الحرّ (رض) بالإمامعليه‌السلام (٢) ، بل ذهب آخر إلى القول: (ولا شكّ في أنّ موقف الحرّ بن يزيد كان له أعمق الأثر في نفوس الكثيرين من جيش ابن زياد،... ولذلك لم يلبث أن انحاز إلى الحرّ بن يزيد في انتصاره للحسين جماعة من أعيان الكوفة وفرسانها يُقدّر عددهم بثلاثين فارساً)(٣) ، فهذا الكاتب يصرّح بأنّ التحاق هؤلاء الثلاثين كان نتيجة التأثّر بالتحاق الحرّ (رض) بالإمامعليه‌السلام صبيحة عاشوراء.

ولنا هنا ملاحظات في هذا الصدد:

١ - ليس هناك دليل تاريخي يفيد أنّ التحاق هؤلاء الثلاثين (رض) كان بعد التحاق الحرّ (رض) أو كان نتيجة له.

٢ - هناك مصادر تاريخية أخرى تروي أنّ عملية التحوّل والالتحاق

____________________

= النبلاء: ٣: ٣١١، وتاريخ الخميس: ٢: ٢٩٨، وذخائر العقبى: ١٤٩، والمحن، ١٣٣، وانظر: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام / ٣: ١٩٨ عن تهذيب التهذيب: ١: ١٥٢، وفي ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي (ره)، ص٦٩ (وأتاهم من الجيش عشرون رجلاً).

(١) التي ذكرناها في الحاشية.

(٢) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام : ٣: ١٩٨.

(٣) سيّد شباب أهل الجنّة: ٢٧٧.

٢٦٦

بالإمامعليه‌السلام من قِبل مجموعة من جيش ابن سعد كانت قد تمّت ليلة العاشر، فهذا السيّد ابن طاووس (ره) يروي قائلاً: (وبات الحسينعليه‌السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبَر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً..)(١) .

٣ - إنّ هذه الخصال أو الشروط التي تتحدّث مصادر تاريخية أنّ الإمامعليه‌السلام عرضها على ابن سعد ورُدَّت عليه(٢) - على فرض أنّها عُرضت يوم عاشوراء أيضاً - كانت قد عُرضت أيضاً قبل يوم عاشوراء، وبالتحديد بعد إحكام الحصار على معسكر الإمامعليه‌السلام ، أي في اليوم السابع أو الثامن، وقد وردت هذه الخصال المزعومة في رسالة ابن سعد إلى ابن زياد(٣) ، ولا شكّ أنّ أمر هذه الرسالة ومحتواها - على فرض صحّة خبرها - كان قد انتشر في صفوف جيش ابن سعد؛ لأهميتها البالغة.

٤ - تذكر كتب التراجم والتواريخ أسماء مجموعة من الأنصار قد تحوّلوا إلى معسكر الإمامعليه‌السلام في سواد ليلة عاشوراء - بعد ردّ الجيش الأموي ما عرضه الإمامعليه‌السلام - ومن هؤلاء الأنصار (رض) على سبيل المثال لا الحصر: جوين بن مالك بن قيس بن ثعلبة التميمي (رض)، وزهير بن سليم الأزدي (رض)، والنعمان بن عمرو الأزدي الراسبي (رض)، وأخوه الحُلاس (رض)(٤) .

بل تذكر كتب التراجم والتاريخ: أنّ بعض هؤلاء الأنصار (رض) كان قد تحوّل

____________________

(١) اللهوف: ٤١.

(٢) راجع: تاريخ الطبري: ٣: ٣١٢، وقد تمَّ إثبات أنّ هذه الخصال الثلاث أو الشروط المزعومة هي أُكذوبة افتراها عمر بن سعد في رسالته إلى ابن زياد.

(٣) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٣١٢.

(٤) راجع: إبصار العين، ١٩٤ و ١٨٦ و ١٨٧.

٢٦٧

إلى معسكر الإمامعليه‌السلام - بعد ردّ ما عرضهُ الإمامعليه‌السلام - دون أن تُشخّص أنّ هذا التحوّل كان ليلة عاشوراء، ممّا يفيد أنّ هذا الالتحاق ربّما كان قبل ليلة عاشوراء، ومن هؤلاء على سبيل المثال: عمرو بن ضبيعة الضبعي (رض)(١) ، والحارث بن امرئ القيس الكندي (رض)(٢) .

إذاً فالصحيح: أنّ تحوّل والتحاق مجموعة من رجال جيش ابن سعد إلى معسكر الإمامعليه‌السلام قد بدأ ليلة العاشر - أو قبل ذلك على احتمال - ثمّ استمرت عمليّة التحوّل هذه حتى يوم عاشوراء، إلى أن تمّ في يوم عاشوراء عدد الرجال الذين تحوّلوا إلى معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ثلاثين أو يزيدون، وهذا ما ذهب إليه أيضاً المحقّق السماوي (ره) في تلخيصه لمجريات وقائع نهضة الإمامعليه‌السلام ، حيث يقول: (.. فقطعَ - أي عمر بن سعد - المراسلات بينه وبين الحسين، وضيّق عليه ومنع عليه ورود الماء، وطلب منه إحدى الحالتين النزول أو المنازلة، فجعلَ يتسلّل إلى الحسين من أصحاب عمر بن سعد في ظلام الليل الواحد أو الاثنان، حتى بلغوا في اليوم العاشر زهاء ثلاثين ممّن هداهم الله إلى السعادة ووفّقهم إلى الشهادة)(٣) .

____________________

(١) راجع: إبصار العين: ١٩٤، ووسيلة الدارين: ١٧٧ رقم ١١٢.

(٢) راجع: وسيلة الدارين: ١١٦ - ١١٧ رقم ٢٦.

(٣) إبصار العين: ٣٠ - ٣١.

٢٦٨

بدايةُ الحرب - الحملة الأولى

عُمَر بن سعد: اشهدوا أنّي أوّلُ مَن رمى

قال الشيخ المفيد (ره): (ونادى عمر بن سعد: يا ذويد(١) ، أَدْنِ رايتك، فأدناها، ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه، ثمّ رمى، وقال: اشهدوا أنّي أوّل مَن رمى، ثمّ ارتمى النّاس وتبارزوا...)(٢) .

وروى الخوارزمي قائلاً: (وزحفَ عمر بن سعد، فنادى غلامه دريداً: قدِّمْ رايتك يا دريد، ثمَّ وضع سهمه في كبد قوسه، ثمّ رمى به وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَن رمى، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة، فما بقيَ من أصحاب الحسين أحدٌ إلاّ أصابه من رميتهم سهم)(٣) .

الإمامعليه‌السلام يأذن لأنصاره (رض) بالقتال

وقال السيد ابن طاووس (ره): (فتقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسينعليه‌السلام بسهم، وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَن رمى، وأقبلت السهام من القوم كأنّها القطَْر، فقالعليه‌السلام لأصحابه:(قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابدّ منه، فإنّ هذه السهام رُسل القوم إليكم) ، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة، حتّى قُتل من أصحاب الحسينعليه‌السلام جماعة.

____________________

(١) مرَّ في نفس كتاب الإرشاد: ٢: ٩٦ أنّ اسم هذا الغلام دريد.

(٢) الإرشاد: ٢: ١٠١، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٢١، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٩، وإعلام الورى: ٢: ٤٦١، والدرّ النظيم: ٥٥٤، وقال الدينوري في الأخبار الطوال: ٢٥٦: (ونادى عمر بن سعد مولاه زيداً أن قدِّم الراية، فتقدّم بها، وشبّت الحرب).

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ١١، وتسلية المجالس: ٢: ٢٧٨.

٢٦٩

قال: فعندها ضرب الحسينعليه‌السلام بيده إلى لحيته، وجعل يقول:

(اشتدّ غضب الله تعالى على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضب الله تعالى على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم، أمَا والله، لا أُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله تعالى وأنا مُخضّب بدمي) (١) .

وقال الخوارزمي: (قال أبو مخنف: فلمّا رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسينعليه‌السلام ، فبقيَ في هؤلاء القوم الذين يُذكرون في المبارزة، وقد قُتل منهم ما يُنيف على خمسين رجلاً...)(٢) .

النصرُ يرفرف على رأس الحسينعليه‌السلام

روى الشيخ الكليني (ره) عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال:(أنزلَ الله تعالى النصر على الحسين عليه‌السلام حتى كان ما بين السماء والأرض، ثمّ خُيِّر: النصر أو لقاء الله، فاختار

____________________

(١) اللهوف: ١٥٨ وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ١١ - ١٢: (.. فعندها ضرب الحسينعليه‌السلام بيده إلى لحيته، فقال:(هذه رُسل القوم - يعني السهام - ثمّ قال:اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضب الله على المجوس إذ عبدت الشمس والقمر والنار من دونه، واشتدّ غضب الله على قوم اتفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيّهم، والله، لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدونه أبداً حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي، ثمّ صاحعليه‌السلام :أمَا من مغيثٍ يُغيثنا لوجه الله تعالى؟ أمَا من ذابّ يذبّ عن حُرَم رسول الله؟).

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ١١، وتسلية المجالس: ٢: ٢٧٨، وانظر: مثير الأحزان: ٥٦، ومقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٣٧.

٢٧٠

لقاء الله) (١) .

وينقلها السيّد ابن طاووس (ره) عن معالم الدين للنرسي هكذا: (لمّا التقى الحسينعليه‌السلام وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب، أُنزل النصر حتّى رفرف على رأس الحسينعليه‌السلام ، ثمَّ خُيِّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله تعالى، فاختار لقاء الله تعالى)(٢) .

المبارزةُ التي وقعت قبل الحملة الأولى

عبد الله بن عمير الكلبي (رض)... والموقف البطولي

لمّا أدنى عمر بن سعد رايته ورمى بالسهم معلناً بداية الحرب ارتمى الناس (فلمّا ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: مَن يُبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم.

قال: فوثب حبيب بن مظاهر، وبرير بن خضير، فقال لهما الحسين:(اجلسا.

فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال: أبا عبد الله، رحمك الله، ائذن لي فلأَخرج إليهما.

فرأى حسين رجلاً آدم طويلاً، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين، فقال حسين:إنّي لأحسبهُ للأقران قتّالاً، اُخرج إنْ شئت) .

____________________

(١) الكافي: ١: ٢٦٠ باب (أنّ الأئمةعليهم‌السلام يعلمون متى يموتون، وأنّه لا يموتون إلاّ باختيار منهم)، حديث رقم ٨.

(٢) اللهوف: وقد مرَّ في الجزء الأوّل (الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة) كيف نفهم أحد أبعاد هذه الرواية في ضوء (منطق الشهيد الفاتح) - فضلاً عن بُعدها العرفاني - فراجع ذلك في مضانّه من الجزء الأوّل: ص١٦٥ - ١٦٦.

٢٧١

قال: فخرج إليهما، فقالا له: مَن أنت؟

فانتسبَ لهما، فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين، أو حبيب بن مظاهر، أو برير بن خضير.

ويسار مستنتل أمام سالم، فقال له الكلبي: يا بن الزانية، وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس؟ ويخرج إليك أحد من الناس إلاّ وهو خيرٌ منك؟ ثمّ شدَّ عليه فضربه بسيفه حتى برد، فإنّه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شدَّ عليه سالم، فصاح به أصحابه: قد رهقك العبد، فلم يأبه له حتى غشيه فبدرهُ الضربة، فاتّقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفّه اليسرى، ثمّ مالَ عليه الكلبيّ فضربه حتّى قتله، وأقبلَ الكلبيّ مرتجزاً وهو يقول وقد قتلهما جميعاً:

إنْ تُـنكروني فأنا ابن كلب

حسبي ببيتي في عُلَيْمٍ حسبي

إنّـي امرؤٌ ذو مِرَّةٍ وعصبِ

ولـستُ بالخوّار عند النّكبِ

إنّـي زعـيمٌ لـكِ أُمَّ وهبِ

بالطعن فيه مُقدماً والضربِ

ضرب غُلامٍ مؤمنٍ بالربِّ

فأخذت أمّ وهب امرأته عموداً، ثمَّ أقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأمّي، قاتِل دون الطيبين ذرّية محمّد.

فأقبل إليها يردّها نحو النساء، فأخذت تجاذب ثوبه(١) ، ثمّ قالت: إنّي لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها حسينٌ فقال:

(جُزيتم من أهل بيت خيراً، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ، فإنّه ليس على النساء قتال) ، فانصرفت إليهنّ)(٢) .

____________________

(١) وإنّ يمينه سدكت على السيف، ويساره مقطوعة أصابعها، فلا يستطيع ردّ امرأته. (راجع: إبصار العين: ١٨٠).

(٢) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٣، وانظر: الإرشاد: ٢: ١٠١.

٢٧٢

بعضُ تفاصيل الحملة الأولى

يظهر من المتون التاريخية أنّ الحملة الأولى كان قد شنّها جيش عمر بن سعد على جيش الإمامعليه‌السلام ، عقيب المبارزة التي قَتل فيها عبد الله بن عمير الكلبي (رض) كُلاًّ من يسار مولى زياد بن أبيه، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، يروي الطبري بداية الحملة الأولى فيقول: (وحملَ عمرو بن الحجّاج(١) وهو على ميمنة الناس في الميمنة(٢) ، فلمّا أن دنا من حسين جثوا على الرُكَبِ وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تَقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا منهم آخرين..)(٣) .

وروى الطبري عمّن سمع عمرو بن الحجّاج حين دنا من أصحاب الحسينعليه‌السلام أنّه كان يقول: (يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرَقَ من الدين وخالف الإمام!

فقال له الحسين:(يا عمرو بن الحجّاج، أعَليَّ تُحرّض الناس؟ أنحن مَرَقنا

____________________

(١) مرّت بنا ترجمة موجزة لعمرو بن الحجّاج لعنه الله في الجزء الثاني من هذه الدراسة (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة) في ص٣٤٣ منه، ونضيف إليها هنا ما يتعلّق بنهاية هذا الظالم الآثم: يقول الدينوري:

(وهرب عمرو بن الحجّاج وكان من رؤساء قتلة الحسين يريد البصرة، فخافَ الشماتة، فعدلَ إلى سراف فقال له أهل الماء: ارحل عنّا، فإنّا لا نأمن المختار، فارتحلَ عنهم، فتلاوموا وقالوا: قد أسأنا، فركبت جماعة منهم في طلبه ليردّوه، فلمّا رآهم من بعيد ظنّ أنّهم من أصحاب المختار، فسلكَ الرّمل في مكان يُدعى (البُيَيْضَة) وذلك في حمّارة القيظ، هي فيما بين بلاد كلب وبلاد طي، فقال فيها فقتلهُ ومَن معه العطش). (الأخبار الطوال: ٣٠٣).

(٢) أي في ميمنة جيش عمر بن سعد، والظاهر أنّ الأصل أن تهجم الميمنة على ميسرة الجيش المقابل؛ لأنّها تكون المقابلة لها.

(٣) تاريخ الطبري، ٣: ٣٢٣، وانظر: الإرشاد: ٢: ١٠٢.

٢٧٣

وأنتم ثبتُّم عليه؟ أمَا والله، لتعلمُنَّ لو قد قُبضت أرواحكم ومِتُّمُ على أعمالكم أيّنا مرَق من الدين، ومَن هو أَولى بصَليِ النّار؟!...).

ثمَّ إنَّ عمرو بن الحجّاج حملَ على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات فاضطربوا ساعة، فصُرع مسلم بن عوسجة الأسدي، أوّل أصحاب الحسين، ثمّ انصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه، وارتفعت الغبرة فإذا هم به صريع، فمشى إليه الحسين فإذا به رمق، فقال:(رحمك ربّك يا مسلم بن عوسجة ( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) ).

ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال:عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم، أبشِر بالجنّة.

فقال له مسلم قولاً ضعيفاً:بشّرك الله بخير.

فقال له حبيب: لولا أنّي أعلم في أثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببتُ أن توصيني بكلّ ما أهمَّك، حتى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.

قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله - وأهوى بيده إلى الحسين - أن تموت دونه.

قال: أفعلُ وربّ الكعبة.

قال: فما كان بأسرع من أن مات بأيديهم.

وصاحت جارية له فقالت: يا بن عوسجتاه! يا سيّداه!

فتنادى أصحاب عمرو بن الحجّاج: قتلنا مسلم بن عوسجة!

فقال شبث لبعض مَن حوله مِن أصحابه: ثكلتكم أمّهاتكم، إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّلون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يُقتل مثل مسلم بن

٢٧٤

عوسجة؟! أمَا والذي أسلمتُ له، لرُبَّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم سَلق آذربيجان قتلَ ستّة من المشركين قبل أن تتامّ خيول المسلمين، أفيُقتل منكم مثله وتفرحون؟!

قال: وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة: مسلم بن عبد الله الضبّابي، وعبد الرحمان بن أبي خُشكارة البجلي...)(١) .

زيارة الناحية المقدّسة تؤيّد أنّ مسلم بن عوسجة (رض) أوّل شهداء الحملة الأولى، أي أوّل شهداء الطفّ رضوان الله تعالى عليهم، فقد ورد فيها السلام على مسلم بن عوسجة هكذا:

(السلام على مسلم بن عوسجة الأسديّ، القائل للحسين وقد أذِن له في الانصراف: أنحن نخلّي عنك؟ وبمَ نعتذر عند الله من أداء حقّك؟ لا والله، حتى أكسِر في صدورهم رمحي هذا، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أُفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ولم

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٦، وانظر: الإرشاد: ٢: ١٠٣ - ١٠٤، والمنتظم لابن الجوزي: ٥: ٣٣٩، والبداية والنهاية لابن كثير: ٨: ١٨٢، وجواهر المطالب للباعوني: ٢: ٢٨٦، وأمّا ما ورد في مناقب ابن شهرآشوب: ٤: ١٠١ ((ثمّ برزَ مسلم بن عوسجة مرتجزاً:

إنْ تـسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

من فرع قوم في ذرى بني أسد

فـمَن بـغانا حائدٌ عن الرشد

وكـافر بـدين جـبّار صمد

وفي اللهوف: ١٦١: (ثمّ خرجَ مسلم بن عوسجة فبالغَ في قتال الأعداء، وصبر على أهوال البلاء حتى سقط إلى الأرض وبه رمق، فمشى إليه الحسينعليه‌السلام ...).

فلا دلالة فيه على أنَّ مسلماً (رض) قُتل مبارزة بعد الحملة الأولى، بل إنّ (ثُمّ) الموجودة في بعض كتب التواريخ والمقاتل لا تدلّ على ترتيب وقائع الأحداث فعلاً، ولعلّ المتأمّل في سياقات كتاب اللهوف خاصة يرى هذه الحقيقة واضحة.

٢٧٥

أُفارقك حتى أموت معك، وكُنت أوّل مَن شرى نفسه، وأوّل شهيد شهد لله وقضى نحبه، ففزتَ وربّ الكعبة، شكر الله استقدامك ومواساتك إمامك، إذ مشى إليك وأنت صريع فقال: يرحمك الله يا مسلم بن عوسجة، وقرأ: ( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) ، لعنَ الله المشتركين في قتلك: عبد الله الضبّابي، وعبد الله بن خُشكارةَ البجلي، ومسلم بن عبد الله الضبّابي) (١) .

شمر بن ذي الجوشن.. يواصل الحملة في الميسرة

ونعود إلى رواية الطبري - التي ذكرت مصرع مسلم بن عوسجة (رض) في حملة عمرو بن الحجّاج في ميمنة جيش ابن سعد - فنقرأ فيها أيضاً: (وحملَ شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة، فثبتوا له فطاعنوه وأصحابه..)(٢) .

ثمّ صارت الحملة من كلّ جانب

وتقول نفس رواية الطبري: (وحُمِلَ على حسين وأصحابه من كلّ جانب)(٣) .

____________________

(١) البحار: ٤٥: ٦٩ - ٧٠.

(٢) و (٣) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٤ - ٣٢٥، وهذا أيضاً ما استفاده المحقّق السماوي (ره) من جملة روايات الطبري في تاريخه، فقد قال في كتابه إبصار العين: ٣٥: (وأمر عمر بن سعد الناس بالحرب، فتقدّم سالم ويسار فوقعت مبارزات، ثمّ صاح الشمر بالناس وعمرو بن الحجّاج بأنّ هؤلاء قوم مستميتون فلا يبارزنّهم أحد، فأحاطوا بهم من كلّ جانب وتعطّفوا عليهم، وحمل الشمر على الميسرة، وعمرو على الميمنة، فثبتوا لهم وجثوا على الرُكب حتى ردّوهم، وبانت القلّة في أصحاب الحسينعليه‌السلام بهذه الحملة التي تسمّى الحملة الأولى، فإنّ الخيل لم يبقَ منها إلاّ =

٢٧٦

فقُتل الشهيد الثاني عبد الله بن عمير الكلبي (رض)

وتتابع رواية الطبري وصف تفاصيل هذه الحملة فتقول: (فقُتِل الكلبيّ وقد قَتَل رجلين بعد الرجلين الأوّلَيْن، وقاتل قتالاً شديداً، فحمل عليه هانئ بن ثُبَبيت الحضرمي، وبُكَير بن حيّ التيمي من تيم الله بن ثعلبة فقتلاه، وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين)(١) .

خيلُ الإمامعليه‌السلام تحمل على الأعداء

تواصل رواية الطبري وصف تفاصيل الحملة الأولى فتقول: (وقاتلهم أصحاب الحسين قتالاً شديداً، وأخذت خيلهم تحمل - وإنّما هم اثنان وثلاثون فارساً - وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلاّ كشفتهُ، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس هو على خيل أهل الكوفة - أنّ خيله تنكشف من كلّ جانب - بعث إلى عمر بن سعد عبد الرحمان بن حصن، فقال: أمَا ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرماة...)(٢) .

____________________

= القليل، وذهب من الرجال ما يناهز الخمسين رجلاً)، وراجع أيضاً كتاب إبصار العين: ١٨١.

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٥.

(٢) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٥، وتذكر نفس هذه الرواية أنّ عمر بن سعد لمّا أراد أن يبعث الرجال والرماة قال لشبث بن ربعي: (ألا تَقدم إليهم؟ فقال: سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مصر وأهل مصر عامّة تبعثه في الرماة؟ لم تجد مَن تندب لهذا ويجزي عنك غيري؟!

قال: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله.

وقال أبو زهير العبسي: فأنا سمعته - يعني شبث بن ربعي - في إمارة مصعب يقول: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً ولا يسدّدهم لرشد، ألا تعجبون أنّا قاتلنا مع عليّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثمّ عَدَونا على ابنه - وهو خير أهل الأرض - نقاتله =

٢٧٧

مشهدٌ كريم من مشاهد بطولة الحرّ (رض)

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن النضر بن صالح العبسي: أنّ الحرّ بن يزيد الرياحي (رض) لمّا لحق بالإمام الحسينعليه‌السلام ، قال رجل من بني تميم من بني شقرة، وهم بنو الحارث بن تميم، يُقال له يزيد بن سفيان: أمَا والله، لو أنّي رأيتُ الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعتهُ السِنان!

... فبينا النّاس يتجاولون ويقتتلون، والحرّ بن يزيد يحمل على القوم مقدماً ويتمثّل قول عنترة:

ما زِلتُ أرميهم بثغرة نحره

ولبانه حتّى تسربل بالدّمِ

.. وإنّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبه، وإنّ دماءه لتسيل.. فقال الحصين بن تميم(١) - وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين، وكان مع عمر بن سعد، فولاّه عمر مع الشرطة المجفّفة(٢) - ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنّى، قال: نعم، فخرجَ إليه، فقال له: هل لك يا حرّ بن يزيد في المبارزة؟ قال: نعم، قد شئتُ، فبرز له.

قال (الراوي): فأنا سمعتُ الحصين بن تميم يقول: والله، لبرز له، فكأنّما كانت نفسه في يده، فما لبثَ الحرّ حين خرج إليه أن قتله)(٣) .

____________________

= مع آل معاوية وابن سميّة الزانيّة! ضلال يا لكَ من ضلال).

(١) يُذكر في بعض المصادر باسم (الحصين بن نمير)، راجع مثلاً: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩١.

(٢) أي ولاّه قيادة المجففّة مع قيادته الشرطة، والمجفّفة جماعة من الجيش يحملون دروعاً أو متاريس كبيرة، تقيهم وتقي الرماة معهم نبال ورماح الأعداء.

(٣) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٤.

٢٧٨

مقتلُ مجموعة عمرو بن خالد الصيداوي (رض)

قال الطبري: (فأمّا الصيداوي عمرو بن خالد، وجابر(١) بن الحارث السلماني، وسعد مولى عمرو بن خالد، ومجمّع بن عبد الله العائذي(٢) ، فإنّهم قاتلوا في أوّل القتال، فشدّوا مُقدمين بأسيافهم على الناس، فلمّا وغلو عطفَ عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوه من أصحابهم غير بعيد، فحملَ عليهم العبّاس بن عليّ فاستنقذهم، فجاءوا قد جُرّحوا، فلمّا دنا منهم عدوّهم شدّوا بأسيافهم، فقاتلوا في أوّل الأمر حتّى قُتلوا في مكان واحد)(٣) .

رُماة ابن سعد يعقرون خيل الإمامعليه‌السلام

وتواصل رواية الطبري خبر هذه الحملة فتقول: (ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم، فبعث معه المجفّفة(٤) وخمسمئة من المرامية، فأقبلوا حتّى إذا دنَوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجًّالة كلّهم)(٥) .

____________________

(١) هو جنادة بن الحرث المذحجي المرادي السلماني الكوفي على ضبط المحقّق السماوي (ره) في إبصار العين: ١٤٤، وكذلك في رجال الشيخ الطوسي: ٩٩ رقم ٩٨٦، وغيرهم، ولعلّ (جابر) من تصحيف النسّاخ.

(٢) وابنه عائذ بن مجمع بن عبد الله، فقد كان معهم أيضاً (راجع: إبصار العين: ١٤٦).

(٣) تاريخ الطبري، ٣: ٣٣٠، وقال المحقّق السماوي (ره): (قال أهل السيَر: وكانوا أربعة نفر، وهم: عمرو بن خالد، وجنادة، ومجمع، وابنه، وواضح مولى الحرث، وسعد مولى عمرو بن خالد، فكأنّما لم يعدّوا المولَيَين واضحاً وسعداً..). (إبصار العين: ١٤٦ - ١٤٧).

(٤) المجفّفة: جماعة (فِرقة) من الجيش يحملون دروعاً ومتاريس كبيرة تقيهم وتقي الرماة منهم نبال ورماح الأعداء.

(٥) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٤.

٢٧٩

ويروي الطبري أيضاً: أنّ أيّوب بن مشرح الخيواني كان يقول: (أنا والله عقرتُ بالحرّ بن يزيد فرَسه، حَشأته سهماً فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبَا، فوثبَ عنه الحرّ كأنّه ليث، والسيف في يده وهو يقول:

إن تعقِروا بي فأنا ابن الحُرّ

أشجع من ذي لَبَدٍ هِزَبْرِ

فما رأيتُ أحداً قطُّ يفري فريه)(١) .

اشتدادُ القتال حتّى منتصف النهار

ويروي الطبري أيضاً فيقول: (وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشدّ قتالٍ خلَقه الله، وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلاّ من وجه واحد؛ لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض، قال: فلمّا رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالاً يقوّضونها عن أيمَانهم وعن شمائلهم؛ ليحيطوا بهم.

قال: فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلّلون البيوت فيشدّون على الرجل وهو يقوِّض وينتهب، فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه، فأمرَ بها عمر بن سعد عند ذلك فقال: احرقوها بالنّار ولا تدخلوا بيتاً ولا تقوّضوه، فجاءوا بالنار فأخذوا يُحرقون.

فقال حسينٌ:

(دَعوهم فليُحرقوها؛ فإنّهم لو قد حرَقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها).

وكان ذلك كذلك وأخذوا لا يقاتلونهم إلاّ من وجه واحد)(٢) .

____________________

(١) نفس المصدر: ٣: ٣٢٤.

(٢) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٥.

٢٨٠