مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عزت الله المولائي والشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 477
المشاهدات: 249607
تحميل: 8428

توضيحات:

الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 249607 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 4

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ بكى بكاءً طويلاً وبكينا معه، حتّى سقط لوجهه وغُشيَ عليه طويلاً، ثمّ أفاق فأخذ البعر فصرَّهُ في ردائه، وأمرني أن أصرّها كذلك، ثمّ قال:يا بن عبّاس، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ويسيل منها دم عبيط فاعلم أنّ أبا عبد الله قد قُتل بها ودُفن).

قال ابن عبّاس: فو الله لقد كنت أحفظها أشدّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزّ وجلّ عليَّ، وأنا لا أحلّها من طرف كُمّي، فبينما أنا نائم في البيت إذا انتبهتُ فإذا هي تسيل دماً عبيطاً، وكان كُمّي قد امتلأ دماً عبيطاً، فجلست وأنا باكٍ وقلت: قد قُتل والله الحسين! والله ما كذَبني عليٌّ قطّ في حديث حدّثني، ولا أخبرني بشيء قطّ أنّه يكون إلاّ كان كذلك؛ لأنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره.

ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر، فرأيتُ والله المدينة كأنّها ضبابٌ لا يستبين منها أثر عَين، ثمّ طلعت الشمس فرأيت كأنّها منكسفة، ورأيت كأنّ حيطان المدينة عليها دم عبيط، فجلست وأنا باكٍ فقلت: قد قُتل والله الحسين، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول:

إصبروا آلَ الرسول

قُـتل الفرخ النحول

نزل الروح الأمين

بـبـكاء وعـويل

ثمّ بكى بأعلى صوته وبكيتُ، فأثبتُّ عندي تلك الساعة وكان شهر المحرم يوم عاشوراء لعشر مضين منه، فوجدته قُتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك، فحدّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه، فقالوا: والله، لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ولا ندري ما هو، فكنّا نرى أنّه الخضرعليه‌السلام )(١) .

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٤٧٨ - ٤٨٠، المجلس ٨٧، رقم ٥. وكمال الدين: ٢: ٥٣٢ - ٥٣٥، باب ٤٨، رقم ١. وانظر: الخرائج والجرائح: ٣: ١١٤٤، رقم ٥٦. والفتوح: ٢: ٤٦٢ - ٤٦٣.

٦١

٣) - وأخرج أبو نعيم الأصبهاني عن الأصبغ بن نُباتة قال: (أتينا مع عليّعليه‌السلام موضع قبر الحسينعليه‌السلام فقال:(هاهنا مناخ ركابهم وموضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يُقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السماء والأرض) (١) .

٤) - وأخرج الراوندي في الخرائج عن أبي سعيد عقيصا قال: (خرجنا مع عليّعليه‌السلام نريد صِفّين، فمررنا بكربلاء فقال:(هذا موضع قبر الحسين عليه‌السلام وأصحابه) (٢) .

٥) - وقال عليٌّعليه‌السلام للبراء بن عازب:(يا براء، يُقتل ابني الحسين وأنت حيٌّ لا تنصره) ، فلمّا قُتل الحسينعليه‌السلام كان البراء بن عازب يقول: صدق والله عليّ بن أبي طالب، قُتل الحسين ولم أنصره. ثمّ أظهرَ على ذلك الحسرة والندم)(٣) .

٦) - وروى الشيخ ابن قولويه (ره) بسند عن أبي عبد الله الجدلي قال: (دخلت على أمير المؤمنينعليه‌السلام والحسين إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين، ثمّ قال:(إنّ هذا يُقتل ولا ينصره أحدٌ!

قال: قلت: يا أمير المؤمنين، والله إنّ تلك لحياة سوء.

قال:إنّ ذلك لكائن) (٤) .

٧) - (وروي عن أبي جعفر، عن أبيهعليهما‌السلام قال:(مرَّ عليٌّ بكربلاء فقال لمّا مرَّ

____________________

(١) دلائل النبوّة لأبي نعيم الإصبهاني: ٢: ٥٨١ - ٥٨٢، رقم ٥٣. وأُسد الغابة لابن الأثير: ٤: ١٦٩، مرسلاً عن غرفة الأزدي بتفاوت يسير. وفي إرشاد المفيد: ١٧٥:(هذا والله مُناخ ركابهم وموضع منيّتهم). وفي تهذيب الطوسي: ٦: ٧٢، رقم ١٣٨:(مناخ ركاب ومصارع شهداء لا يسبقهم مَن كان قبلهم).

(٢) الخرائج والجرائح ١: ٢٢٢، رقم ٦٧.

(٣) الإرشاد: ١٩٢.

(٤) كامل الزيارات: ٧١، باب ٢٣، حديث رقم ١.

٦٢

به أصحابه وقد اغرورقت عيناه يبكي ويقول: هذا مُناخ ركابهم، وهذا مُلقى رحالهم، هاهنا مُراق دمائهم، طوبى لكِ من تربة عليها تُراق دماء الأحبّة).

وقال الباقرعليه‌السلام :(خرج عليٌّ يسير بالنّاس حتّى إذا كان بكربلاء على ميلَين أو ميل، تقدّم بين أيديهم حتى طاف بمكان يُقال له المقذفان، فقال: قُتل فيها مئتا نبيّ ومئتا سبط كلّهم شهداء، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم ولا يلحقهم مَن بعدهم) (١) .

إخبارات الإمام الحسينعليه‌السلام بمقتله قبل قيامه

إنّ إخبارات الإمام الحسينعليه‌السلام بمصرعه ومصرع أصحابه، وزمان ومكان هذا المصرع بعد أن أعلن عن قيامه ورفضه لبيعة يزيد، أمام والي المدينة آنذاك الوليد بن عتبة، كثيرة مبثوثة في لقاءاته ومحاوراته، خصوصاً في المدّة الممتدّة من قُبيل رحيله عن مكة إلى ساعة استشهادهعليه‌السلام .

لكنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قبل قيامه قد تحدّث وأخبر عن مصرعه وعن قاتله، منذ أن كان طفلاً صغيراً، ولم يزل يواصل الإخبار عن استشهاده إلى أواخر أيّام ما قبل الإعلان عن قيامه، ومن هذه الأخبار:

١) - عن حذيفة بن اليمان قال: (سمعتُ الحسين بن عليّ يقول:(والله، ليجتمعنّ على قتلي طغاة بني أميّة، ويَقدِمهم عمَر بن سعد، وذلك في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلتُ: أنبّأك بهذا رسول الله؟ قال:لا .

فأتيتُ النبيّ فأخبرته، فقال:عِلمي علمهُ، وعِلمه عِلمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته) )(٢) .

____________________

(١) البحار: ٤١: ٢٩٥، باب ١١٤، حديث ١٨.

(٢) دلائل الإمامة: ١٨٣ - ١٨٤، حديث ١٠١ / ٦.

٦٣

٢) - وروي أنّ عمَر بن سعد قال للحسينعليه‌السلام : (يا أبا عبد الله، إنّ قَبِلَنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك!

فقال له الحسينعليه‌السلام :(إنّهم ليسوا بسفهاء، ولكنّهم حلماء، أمَا إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل من بُرّ العراق بعدي إلاّ قليلاً)) (١) .

٣) - وروى الشيخ ابن قولويه (ره) بسند عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام ، عن جدّهعليه‌السلام ، عن الإمام الحسينعليه‌السلام أنّه قال:(والذي نفس حسين بيده لا ينتهي بني أميّة مُلكهم حتى يقتلوني، وهم قاتليّ، فلو قد قتلوني لم يصلّوا جميعاً أبداً، ولم يأخذوا عطاءً في سبيل الله جميعاً أبداً، إنّ أوّل قتيل هذه الأمّة أنا وأهل بيتي، والذي نفس حسين بيده لا تقوم الساعة وعلى الأرض هاشميٌّ يطرف) (٢) .

٤) - وروى (ره) أيضاً بسند عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضاً قال:(قال الحسين بن عليّ عليهما‌السلام : أنا قتيل العَبرة، لا يذكرني مؤمنٌ إلاّ استعبر) (٣) .

لماذا كان الإخبار بمقتلهعليه‌السلام ؟

(إنّ أخبار الملاحم والفتن المأثورة عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام عامة، وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة، فضلاً عن أنّها تؤكّد على أنّ عِلم هؤلاء المصطفَين الأخيارعليهم‌السلام علمٌ لدُنيٌّ ربّانيٌّ، كاشف عن مكانتهم الإلهية الخاصة المنصوص عليها من قِبل الله تعالى، تؤكّد أيضاً على مدى حرصهم الكبير على رعاية هذه

____________________

(١) الإرشاد: ٢٨٢.

(٢) كامل الزيارات: ٧٥، باب ٢٣، رقم ١٣.

(٣) كامل الزيارات: ١١٦، باب ٣٦، رقم ٣.

٦٤

الأمّة، وإنقاذها من هلكات مدلهمّات الفتن التي أحاطت بها منذ بداية التَيه في يوم السقيفة.

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم مدى الانحراف الذي سيصيب الأمّة من بعده، ويلقي بها في متاهات تنعدم فيها القدرة على الرؤية السديدة إلاّ على قلّة من ذوي البصائر، ويصعب فيها تشخيص الحقّ من الباطل إلاّ على مَن تمسّك بعروة الثقلَين، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم خطورة حالة الشلل النفسي والازدواجية في الشخصية التي ستتعاظم في الأمّة من بعده، حتى لا يكاد ينجو منها إلاّ أقلّ القليل.

لذا لم يألُصلى‌الله‌عليه‌وآله جهداً في تبيان سبُل الوقاية والنجاة من تلك الهلكات، ومن جملة تلك السبل: سبيل إخبار الأمّة بملاحمها وبالفتن التي ستتعرّض لها إلى قيام الساعة، فكشف لهاصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كلّ الملاحم والفتن، وأوضح لها مزالق وعثرات الطريق إلى أن تنقضي الدنيا. يقول حذيفة بن اليمان (ره): والله، ما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا، بلغ مَن معه ثلاثمئة فصاعداً، إلاّ قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته(١) !.

وذلك؛ لكي لا تلتبس على الأمّة الأمور، ولا تقع في خطأ الرؤية أو انقلابها فترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً!(٢) إضافة إلى ما يتضمّنه بيان الملاحم للأمّة من دعوة إلى نصرة صفّ الحق وخذلان صفّ الباطل، بعد تشخيص كلٍّ من الصفَّين.

____________________

(١) راجع: سنن أبي داود: ٤: ٩٥، حديث ٤٢٤٣.

(٢) عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟! فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟! فقال:نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟! فقيل له: ويكون ذلك؟! قال:نعم، وشرٌ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟!) . (راجع: الكافي: ٥: ٥٩، كتاب الجهاد حديث رقم ١٤).

٦٥

وقد اختُصَّ قتل الحسينعليه‌السلام بنصيب وتركيز أكبر في الإخبارات الواردة عن النبيّ (صلّى الله عيه وآله)، وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وذلك لعظيم حرمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولنوع مصرعه المفجع ومصارع أنصاره، ولشدّة مصابهما بتلك الوقعة الفظيعة والرزيّة العظيمة(١) ، ولأهميّة واقعة عاشوراء بلحاظ ما يترتّب عليها من حفظ الإسلام وبقائه، ولأهميّة المثوبة العظيمة والمنزلة الرفيعة المترتّبة على نصرة الحسينعليه‌السلام ، واللعنة الدائمة والعقوبة الكبيرة التي تلحق مَن يقاتله ويخذله.

ولعلّ قُرب عاشوراء الزمني من عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّعليه‌السلام ، عامل أيضاً من عوامل هذا التركيز؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّهعليه‌السلام يعلمان أنَّ جماعة غير قليلة من الصحابة والتابعين سوف يدركون يوم عاشوراء، فالتركيز على الإخبار بمقتلهعليه‌السلام ، ومخاطبة هؤلاء مخاطبة مباشرة بذلك، يؤثّران التأثير البالغ في الدعوة إلى نصرتهعليه‌السلام ، والتحذير من الانتماء إلى صف أعدائه، مع ما في ذلك من إتمام الحجّة على هؤلاء الناس آنئذٍ؛ ولذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخاطب الباكين معه لبكائه على الحسينعليه‌السلام خطاباً مباشراً فيقول لهم:(أيها الناس، أتبكونه ولا تنصرونه؟!) (٢) ، ويخاطب عليٌّعليه‌السلام البراء بن عازب قائلاً:(يا براء، يُقتل ابني الحسين وأنت حيٌّ لا تنصره!) (٣) .

____________________

(١) عن الإمام الصادقعليه‌السلام :(لمّا أن هبط جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتل الحسين، أخذ بيد عليّ فخلا به مليّاً من النهار فغلبتهما عبرة، فلم يتفرّقا حتّى هبط عليهما جبرئيل - أو قال رسول ربّ العالمين -فقال لهما: ربّكما يقرئكما السلام ويقول: قد عزمت عليكما لمّا صبرتما، قال: فصبراً) (راجع: كامل الزيارات: ٥٣، باب ١٦، حديث رقم ١)، وهذا حديث من الأحاديث الكثيرة الكاشفة عن عُظم رزية الحسينعليه‌السلام على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقلب أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٢) راجع: مثير الأحزان: ١٩.

(٣) راجع: الإرشاد: ١٩٢.

٦٦

وفي المقابل فقد انتفع بهذا الإخبار جمْع من أهل الصدق والإخلاص من الصحابة والتابعين، فقد روى الصحابيّ الجليل أنس بن الحارث رضوان الله تعالى عليه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(إنّ ابني هذا - وأشار إلى الحسين -يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء، فمَن شهد ذلك منكم فلينصره)، ولمّا خرج الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء خرج معه الصحابي الجليل أنس بن الحارث رضوان الله تعالى عليه، واستُشهد بين يدي الحسينعليه‌السلام (١) .

ولعلّ سِرّ التحوّل في موقف زهير بن القين رضوان الله تعالى عليه، ما كان يحفظه من قول سلمان الفارسيّ رضوان الله تعالى عليه وإخباره عن بشرى نصرة الإمام الحسينعليه‌السلام ، يقول زهير: (سأحدّثكم حديثاً، إنّا غزَونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسيرحمه‌الله : أفَرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم)(٢) .

و (قال العريان بن الهيثم: كان أبي يتبدّى(٣) ، فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنّا لا نبدوا إلاّ وجدنا رجلاً من بني أسدٍ هناك.

فقال له أبي: أراك ملازماً هذا المكان؟؟

قال: بلغني أنّ حسيناً يُقتل هاهنا، فأنا أخرج إلى هذا المكان لعليّ أُصادفه

____________________

(١) راجع: تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ) / تحقيق المحمودي: ٢٣٩، حديث ٢٨٣.

(٢) الإرشاد: ٢٤٦.

(٣) يتبدّى: يخرج إلى البادية.

٦٧

فأُقتل معه! قال ابن الهيثم: فلمّا قُتل الحسين قال أبي: انطلقوا بنا ننظر هل الأسديُّ فيمن قُتل مع الحسين؟ فأتينا المعركة وطوّفنا فإذا الأسديّ مقتول!)(١) )(٢) .

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، تحقيق المحمودي: ٢١٢، حديث ٢٦٩.

(٢) الجزء الأوّل من هذه الدراسة: (الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة): ٢٠٤ - ٢٠٨.

٦٨

الفصل الثاني

الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء

٦٩

٧٠

الفصل الثاني

الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء

من اليوم الثاني من المحرّم سنة ٦١ هـ.ق حتّى فجر اليوم العاشر

نزل الركْب الحسينيّ أرض كربلاء في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين للهجرة، وكان ذلك في يوم الخميس، على ما هو المشهور القويّ(١) .

____________________

(١) ذهب إلى ذلك: الطبريّ في تاريخه: ٤: ٣٠٩، وابن الأثير في كامله: ٣: ٢٨٢، والشيخ المفيد (ره) في الإرشاد: ٢٥٣، والبلاذري في أنساب الأشرف: ٣: ٣٨٥ وغيرهم، ولم يخالف ذلك إلاّ الدينوري، حيث قال: (ثمّ أمر الحسين بأثقاله فحطّت بذلك المكان يوم الأربعاء غرّة المحرّم من سنة إحدى وستين) (الأخبار الطوال: ٢٥٣).

وكذلك ما ورد في المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: (وساروا جميعاً إلى أن أتوا أرض كربلاء وذلك يوم الأربعاء) (مقتل الحسينعليه‌السلام لأبي مخنف: ٧٥ - ٧٦)، لكنّه لم يذكر تاريخ اليوم، وكذلك ما ورد من ترديد ابن أعثم الكوفي في يوم نزولهم كربلاء، حيث قال: (حتى نزل كربلاء في يوم الأربعاء أو يوم الخميس، وذلك في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين) (الفتوح: ٥: ١٤٩)، وإذا علمنا أنّ يوم التروية الثامن من ذي الحجّة سنة ٦٠ هـ كان يوم الثلاثاء حسب تصريح الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه(... وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضَين من ذي الحجّة يوم التروية..) (تاريخ الطبري ٤: ٢٩٧)، على هذا، فإنّ الأربعاء إمّا أن يكون غرّة المحرّم إذا كان شهر ذي الحجّة تسعة وعشرين يوماً، أو يكون الأربعاء هو اليوم الثلاثين من شهر ذي الحجّة إذا كان هذا الشهر ثلاثين يوماً، وعلى ضوء هذا لا يمكن أن يكون يوم الأربعاء هو اليوم الثاني من المحرّم حسب ترديد ابن أعثم الكوفي، فيسقط هذا الترديد، ولا يبقى إلاّ الخميس هو اليوم الثاني من المحرّم تلكم السنة.

قال المحدّث القمي (ره): (قد وقع الخلاف في يوم ورود الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، والأصحّ =

٧١

وروي أنّ فرَس الإمام الحسينعليه‌السلام عند وصوله أرض كربلاء، وقفت ممتنعة عن الحركة فلم تنبعث خطوة واحدة، (فنزل عنها وركب أخرى فلم تنبعث خطوة واحدة، ولم يزل يركب فرساً بعد فرَس حتى ركب سبعة أفراس، وهنّ على هذه الحال! فلمّا رأى ذلك قال:(يا قوم، ما اسم هذه الأرض؟

قالوا: أرض الغاضرية.

قال:فهل لها اسم غير هذا؟

قالوا: تُسمّى نينوى.

قال:أَهَلْ لها اسم غير هذا؟

قالوا: شاطئ الفرات.

قال:أَهَلْ لها اسم غير هذا؟

قالوا:تسمّى كربلاء!

فعند ذلك تنفّس الصُعداء، وقال:أرض كرب وبلاء! ثمّ قال:انزلوا، هاهنا مُناخ رِكابنا، هاهنا تُسفك دماؤنا، هاهنا والله تُهتك حريمنا، هاهنا والله تُقتل رجالنا، هاهنا والله تُذبح أطفالنا، هاهنا والله تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعَدني جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا خُلف لقوله، ثمّ نزل عن فرسه!))(١) .

وفي رواية: (ثمّ قال الحسين:ما يُقال لهذه الأرض؟

فقالوا: كربلاء ويُقال لها أرض نينوى قرية بها.

فبكى وقال:كرب وبلاء، أخبرَتني أمّ سلمة قالت: كان جبرئيل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

= أنّه قَدِمها في اليوم الثاني من شهر المحرم الحرام سنة إحدى وستين للهجرة) (منتهى الآمال: ١: ٦١٧).

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام ، لأبي مخنف: ٧٥ - ٧٦.

٧٢

وأنت معي، فبكيتَ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دعي ابني، فتركتك، فأخذك ووضعك في حِجره، فقال جبرئيل: أتحبّه؟ قال: نعم، قال: فإنّ أُمّتك ستقتله، قال: وإنْ شئتَ أنْ أُريك تُربة أرضه التي يُقتل فيها، قال: نعم، قالت: فبسط جبرئيل جناحه على أرض كربلاء فأراه إيّاها (١) .

(فلمّا قيل للحسين هذه أرض كربلاء شمّها (وفي رواية: قبض منها قبضة فشمّها) وقال:(هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله، وأنّني أُقتل فيها!) )(٢) .

وفي رواية ابن أعثم الكوفي: أنّ الإمامعليه‌السلام لمّا نزل كربلاء أقبل إلى أصحابه فقال لهم:(أهذه كربلاء؟

قالوا: نعم.

فقال الحسين لأصحابه:انزلوا، هذا موضع كرب وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، وسفك دمائنا!)

قال: فنزل القوم، وحطّوا الأثقال ناحية من الفرات، وضُربت خيمة الحسين لأهله وبَنيه، وضربَ عشيرته خيامهم من حول خيمته)(٣) .

وفي رواية السيّد ابن طاووس (ره): فلمّا وصلها قال:(ما اسم هذه الأرض؟ فقيل: كربلاء.

فقالعليه‌السلام :اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء! ثمّ قال:هذا موضع كرب وبلاء انزلوا، هاهنا محطّ رحالنا ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا، بهذا حدّثني جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !) فنزلوا جميعاً(٤) .

____________________

(١) و (٢) تذكرة الخواص: ٢٢٥.

(٣) الفتوح: ٥: ١٤٩.

(٤) اللهوف: ٣٥.

٧٣

وأقبل الحرُّ بن يزيد حتّى نزل حذاء الحسينعليه‌السلام في ألف فارس، ثمّ كتب إلى عبيد الله بن زياد يخبره أنّ الحسينعليه‌السلام نزل بأرض كربلاء(١) .

إشارة رقم ١:

قال المرحوم السيّد المقرّم (ره): (لا تذهب على القارئ النكتة في سؤال الحسينعليه‌السلام عن اسم الأرض - وكلّ قضايا سيّد الشهداء غامضة الأسرار - والإمام عندنا معاشر الإمامية عالِم بما يجري في الكون من حوادث وملاحم، عارف بما أودع الله تعالى في الكائنات من المزايا؛ إقداراً له من مبدع السماوات والأرضين تعالى شأنه...

وكان السرّ في سؤالهعليه‌السلام عن اسم الأرض التي مُنعوا من اجتيازها، أو أنّ الله تعالى أوقف الجواد كما أوقف ناقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الحديبية، أن يُعرّف أصحابه بتلك الأرض التي هي محلّ التضحية الموعودين بها بإخبار النبيّ، أو الوصيّ صلّى الله عليهما؛ لتطمئنّ القلوب، وتمتاز الرجال، وتثبت العزائم، وتصدق المفاداة، فتزداد بصيرتهم في الأمر والتأهب للغاية المتوخّاة لهم، حتّى لا يبقى لأحد المجال للتشكيك في موضع كربلاء التي هي محل تُرتبه.

ولا جزاف في هذا النحو من الأسئلة بعد أن صدر مثله من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد سأل عن اسم الرَجُلين اللذين قاما لحلْب الناقة، وعن اسم الجبلين اللذين في طريقه إلى (بدْر)، ألم يكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عالماً بذلك؟ بلى، كان عالماً، ولكنّ المصالح الخفيّة علينا دعته إلى السؤال... وهذا باب من الأسئلة يُعرف عند علماء البلاغة بـ (تجاهل العارف)، وإذا كان فاطر الأشياء الذي لا يغادر عِلمه صغيراً ولا كبيراً يقول لموسىعليه‌السلام :( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ) ، ويقول لعيسىعليه‌السلام :( أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ ) ، لَضربٌ من المصلحة، وقال سبحانه للخليلعليه‌السلام :( أَوَلَمْ تُؤْمِن ) مع أنّه عالِم بإيمانه،

____________________

(١) راجع: الفتوح، ٥: ١٥.

٧٤

فالإمام المنصوب من قِبله أميناً على شرعه لا تخفى عليه المصالح.

كما أنّ سيّد الشهداءعليه‌السلام لم يكن في تعوّذه من الكرب والبلاء عندما سمع باسم كربلاء متطيّراً؛ فإنّ المتطيّر لا يعلم ما يرد عليه، وإنّما يُستكشف ذلك من الأشياء المعروفة عند العرب أنّها سبب للشرّ، والحسينعليه‌السلام على يقين ممّا ينزل به في أرض الطفّ من قضاء الله، فهو عالم بالكرب الذي يحلّ به وبأهل بيته وصحبه، كما أنبأ عنه غير مرّة)(١) .

إشارة رقم ٢:

قال ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح: (ونزل الحسين في موضعه ذلك ونزل الحرّ بن يزيد حذاءه في ألف فارس، ودعا الحسين بدواة وبياض، وكتب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّهم على رأيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وعبد الله بن وال، وجماعة المؤمنين.

أمّا بعدُ، فقد علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرَم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يُغيّر عليه بقول ولا فعل كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله، وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمان، وأظهروا في

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ١٩٣ - ١٩٤، وفي رجال الكشّي: أنّ سلمان الفارسي (رض) مرَّ بكربلاء في طريقه إلى المدائن فقال: (هذه مصارع إخواني، وهذا موضع مناخهم ومهراق دمائهم، يُقتل بها ابن خير الأوّلين والآخِرين)، فيا تُرى أيعلم سلمان (رض) ما لا يعلمه الإمام الحسينعليه‌السلام الذي قال فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :(عِلمي عِلمه، وعلمه علمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته) (راجع: دلائل الإمامة: ١٨٣ - ١٨٤، حديث ١٠١ / ٦).

٧٥

الأرض الفساد، وعطّلوا الحدود والأحكام، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وإنّي أحَقُّ من غيري بهذا الأمر؛ لقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أتَتني كتبُكم، وقَدِمت عليَّ رسُلكم ببيعتكم أنّكم لا تُسلموني ولا تخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حضّكم ورُشدكم، ونفسي مع أنفسكم، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ومواثيقكم، وخلعتم بيعتكم، فلعمري ما هي منكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي، هل المغرور إلاّ مَن اغترّ بكم، فإنّما حضّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم، والسلام) .

قال: ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي، وأمره أن يسير إلى الكوفة.

قال: فمضى قيس إلى الكوفة، وعبيد الله بن زياد قد وضع المراصد والمسالح على الطُرق، فليس أحدٌ يقدر أن يجوز إلاّ فُتّش، فلمّا تقارب من الكوفة قيس بن مسهّر لقيه عدوّ الله، يقال له الحصين بن نمير السكوني، فلمّا نظر إليه قيس كأنّه اتّقى على نفسه، فأخرج الكتاب سريعاً فمزّقه عن آخره.

قال: وأمر الحصين أصحابه فأخذوا قيساً وأخذوا الكتاب ممزّقاً، حتّى أتوا به إلى عبيد الله بن زياد.

فقال له عبيد الله بن زياد: مَن أنت؟

قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين الحسين بن عليّرضي‌الله‌عنهما !

قال: فَلِمَ خرَقت الكتاب الذي كان معك؟!

قال: خوفاً حتّى لا تعلم ما فيه.

قال: وممّن كان هذا الكتاب وإلى مَن كان؟

٧٦

فقال: كان من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.

قال: فغضب ابن زياد غضباً عظيماً، ثمّ قال: والله، لا تفارقني أبداً أو تدلّني على هؤلاء القوم الذين كُتب إليهم هذا الكتاب، أو تصعد المنبر فتسبّ الحسين وأباه وأخاه فتنجو من يدي، أو لأقطّعنك.

فقال قيس: أمّا هؤلاء القوم فلا أعرفهم، وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فإنّي أفعل!

قال: فأمر به فأُدخل المسجد الأعظم، ثمّ صعد المنبر، وجُمع له النّاس؛ ليجتمعوا ويسمعوا اللعنة، فلمّا عَلم قيس أنّ النّاس قد اجتمعوا وثبَ قائماً، فحمدَ الله وأثنى عليه، ثمّ صلّى على محمد وآله، وأكثرَ الترحّم على عليّ ووَلده، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد، ولعن أباه، ولعن عُتاة بني أميّة عن آخرهم، ثمّ دعا النّاس إلى نصرة الحسين بن عليّ.

فأُخبر بذلك عبيد الله بن زياد، فأُصعد على أعلى القصر، ثمّ رُمي به على رأسه فماترحمه‌الله ، وبلغ ذلك الحسين فاستعبر باكياً، ثمّ قال:(اللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً عندك، واجمع بيننا وإيّاهم في مستقرّ رحمتك، إنّك على كلّ شيء قدير).

قال: فوثب إلى الحسين رجلٌ من شيعته يُقال له هلال(١) فقال: يا بن بنت رسول الله، تعلم أنّ جدّك رسول الله لم يقدر أن يُشرِب الخلائق محبّته، ولا أن يرجعوا من أمرهم إلى ما يُحبّ، وقد كان منهم منافقون يعِدونه النصر ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل ويلحقونه بأمرّ من الحنظل، حتّى توفّاه الله عزّ وجلّ، وأنّ أباك عليّاً قد كان في مثل ذلك، فقوم أجمعوا على نصره وقاتلوا معه

____________________

(١) الصحيح تاريخياً هو أنّ اسم هذا الرجل: نافع بن هلال الجملي.

٧٧

المنافقين والفاسقين والمارقين والقاسطين حتّى أتاه أجَله، وأنتم اليوم عندنا في مثل ذلك الحال، فمَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، والله يُغني عنه، فسِرْ بنا راشداً مشرّقاً إنْ شئت أو مغرّباً، فو الله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا ونصرتنا، نوالي مَن والاك ونعادي مَن عاداك.

قال: فخرج الحسين وولده وإخوته وأهل بيته رحمة الله عليهم بين يديه، فنظر إليهم ساعة وبكى وقال:(اللّهمّ إنّا عترة نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أُخرجنا وطُردنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أميّة علينا، فخُذ بحقّنا وانصرنا على القوم الكافرين)، قال: ثمّ صاح الحسين في عشيرته ورحل من موضعه ذلك، حتى نزل كربلاء في يوم الأربعاء أو يوم الخميس، وذلك في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين...)(١) .

ونقول:

١) - إنّ المشهور تاريخياً: هو أنّ الإمامعليه‌السلام خطب أصحابه وأصحاب الحرُّ في منزل البيضة خطبته الشهيرة التي جاء فيها:(أيها النّاس، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرم الله...)) (٢) ، ولعلّ ابن أعثم قد تفرّد برواية نصّ تلكم الخطبة على أنّها متْن رسالة بعث بها الإمامعليه‌السلام إلى مجموعة من وجهاء الشيعة وجماعة المؤمنين في الكوفة(٣) .

٢) - وقد تُوهِم رواية ابن أعثم هذه - كما اختلط الأمر بالفعل على بعض المؤرّخين المتأخرين - أنّ الإمامعليه‌السلام كتب هذه الرسالة (نصّ خطبة البيضة) بعد

____________________

(١) الفتوح: ٥: ١٤٣ - ١٤٩.

(٢) راجع: تاريخ الطبري: ٤: ٣٠٤ - ٣٠٥، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٠، ومقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ١٨٤ - ١٨٥.

(٣) أمّا ما في مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١: ٣٣٤ - ٣٣٦، فهو نقل عن ابن أعثم.

٧٨

نزوله كربلاء، لكنّ التأمّل في جميع متن رواية ابن أعثم - بالرغم من اضطراب سياق الرواية اضطراباً بيّناً - يكشف عن أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد كتبها في موضع من المواضع القريبة من كربلاء قبل نزوله كربلاء، بل قبل اشتداد محاصرة جيش الحرّ للركب الحسيني؛ بدليل قول نافع بن هلال مخاطباً الإمامعليه‌السلام :(فَسِرْ بنا راشداً مشرّقاً إن شئت أو مغرّباً!) ، إذ لو كان هذا القول في كربلاء أو بعد اشتداد المحاصرة لكان قولاً بلا معنى؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام - بعد ذلك - كان قد جُعجع به وحوصر، وما كان يملك الاختيار في الحركة لا شرقاً ولا غرباً، هذا أوّلاً.

أمّا ثانياً؛ فلأنّ آخِر متن رواية ابن أعثم يصرّح هكذا: (ثمّ صاح الحسين في عشيرته، ورحل من موضعه ذلك حتّى نزل كربلاء..)؛ وفي هذا دلالة لا ريب فيها على أنّ الواقعة التي رواها ابن أعثم حصلت قبل كربلاء وليس فيها.

٣) - المشهور تاريخياً أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد أرسل قيس بن مسهر الصيداوي (رض) برسالته الثانية إلى أهل الكوفة، من منطقة الحاجر من بطن الرمّة(١) ، فجرى عليه ما جرى حتّى استشهاده (رض)، وكان خبر مقتله قد وصل إلى الإمامعليه‌السلام في منطقة عذيب الهجانات(٢) ، لا كما تصف رواية ابن أعثم الكوفي.

المخيّم الحسينيّ

ونُصبت خيام الركب الحسينيّ بأمر الإمامعليه‌السلام في البقعة الطاهرة التي لا تزال

____________________

(١) راجع مثلاً: تاريخ الطبري: ٤: ٢٩٧، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٧٧، والإرشاد: ٢٢٠، وتجارب الأمم: ٢: ٥٧، وأنساب الأشراف: ٣: ٣٧٨، والأخبار الطوال: ٢٤٥ - ٢٤٦، وتذكرة الخواص: ٢٢١، ومثير الأحزان: ٣٢، والبداية والنهاية: ٨: ١٨١.

(٢) راجع مثلاً: تاريخ الطبري: ٤: ٣٠٦، والكامل في التاريخ ٣: ٢٨١، والبداية والنهاية: ٨: ١٨٨.

٧٩

آثارها باقية إلى اليوم، وأقام الإمامعليه‌السلام في رقعة بعيدة عن الماء تحيط بها سلسلة ممدودة من تلال وربوات، تبدأ من الشمال الشرقي متصلة بموضع باب السدرة في الشمال، وهكذا إلى موضع الباب الزينبي إلى جهة الغرب، ثمّ تنزل إلى موضع الباب القِبْلي من جهة الجنوب، وكانت هذه التلال المتقاربة تشكّل للناظرين نصف دائرة، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وضُربت خيمة الحسين لأهله وبَنيه، وضربَ عشيرته خيامهم من حول خيمته(٢) ، ثمّ خيام بقيّة الأنصار..

وقد نفى السيد محمّد حسن الكليدار أن يكون الموضع المعروف بمخيم الحسينعليه‌السلام ، هو الموضع الذي حطّ فيه الإمامعليه‌السلام أثقاله، وذهب إلى أنّ المخيّم إنّما يقع بمكان ناءٍ بالقرب من (المستشفى الحسينيّ)، مستنداً في ذلك إلى أنّ التخطيط العسكريّ المتّبع في تلك العصور يقضي بالفصل بين القوى المتحاربة بما يقرب من ميلَين؛ وذلك لِما تحتاجه العمليات الحربية من جوَلان الخيل وغيرها من مسافة، كما أنّ نصب الخيام لابدّ أن يكون بعيداً عن رمي السهام، والنبال المتبادلة بين المحاربين، واستند أيضاً إلى بعض الشواهد التاريخية التي تؤيّد ما ذهب إليه(٣) .

وردّ الشيخباقر شريف القرشي على ذلك قائلاً: (وأكبر الظنّ أنّ المخيّم إنّما هو في موضعه الحالي، أو يبعد عنه بقليل؛ وذلك لأنّ الجيش الأموي المكثّف الذي زحف لحرب الإمام لم يكن قُباله إلاّ معسكر صغير، عبّر عنه الحسين

____________________

(١) نهضة الحسينعليه‌السلام : ٩٩.

(٢) راجع: الفتوح: ٥: ١٤٩.

(٣) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : ٣: ٩٣.

٨٠