مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عزت الله المولائي والشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 477
المشاهدات: 249629
تحميل: 8428

توضيحات:

الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 249629 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 4

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالأُسرة، فلم تكن القوى العسكرية متكافئة في العدد حتى يفصل بينهما بميلين أو أكثر.

لقد أحاط الجيش الأمويّ بمعسكر الإمام، حتّى أنّه لمّا أطلق ابن سعد السهم الذي أنذر به بداية القتال، وأطلق الرُماة من جيشه سهامهم، لم يبقَ أحدٌ من معسكر الإمام إلاّ أصابه سهم، حتّى اخترقت السهام بعض أُزر النساء، ولو كانت المسافة بعيدة؛ لَمَا أُصيبت نساء أهل البيت بسهامهم، وممّا يدعم ما ذكرناه: أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لما خطب في الجيش الأمويّ سمعت نساؤه خطابه، فارتفعت أصواتهم بالبكاء، ولو كانت المسافة بعيدة؛ لَمَا انتهى خطابه إليهنّ، وهناك كثير من البوادر التي تدلّ على أنّ المخيّم في وضعه الحالي)(١) .

اليوم الثالث من المحرّم سنة ٦١ هـ

قال الشيخ المفيد (ره): (فلمّا كان من الغد قدِم عليهم عُمَر بن سعد بن أبي وقّاص(٢) من الكوفة، في أربعة آلاف فارس، فنزل بنينوى)(٣) .

أمّا الطبري فقال: (فأقبلَ في أربعة آلاف حتّى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوى)(٤) ، وهناك انضمَّ إليه الحُرّ بن يزيد الرياحي في ألف فارس، فصار في خمسة آلاف فارس.

____________________

(١) نفس المصدر، ٣: ٩٣ - ٩٤.

(٢) مرّت بنا ترجمة لعُمَر بن سعد (لعنه الله) في الجزء الثاني من هذه الدراسة (الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة المكرّمة): ١٢٠ - ١٢١.

(٣) الإرشاد: ٢٥٣.

(٤) تاريخ الطبري: ٤: ٣١٠، وانظر أيضاً ص٣٠٩.

٨١

حُبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة!

وقال الطبري: (وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسينعليه‌السلام ؛ أنّ عبيد الله بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دستبى(١) ، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب إليه ابن زياد عهده على الريّ وأمَرَه بالخروج فخرج معسكراً بالناس بحمّام أعين، فلمّا كان من أمر الحسين ما كان وأقبلَ إلى الكوفة، دعا ابن زياد عُمر بن سعد فقال: سِرْ إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سِرتَ إلى عملك.

فقال له عمر بن سعد: إنْ رأيتَ رحمك الله أن تعفيني فافعل.

فقال عبيد الله: نعم، على أن ترُدَّ لنا عهدَنا.

قال: فلمّا قال له ذلك، قال عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتّى أنظر(٢) .

قال: فانصرف عُمَر يستشير نُصحاءه، فلم يكن يستشير أحداً إلاّ نهاه، قال:

____________________

(١) دستبى: كورة كبيرة كانت مقسومة بين الريّ وهمذان، فقِسم منها يُسمّى دستبى الرازي وهو يقارب التسعين قرية، وقسم منها يسمّى دستبى همذان وهي عدّة قُرى، وربّما أُضيف إلى قزوين في بعض الأوقات؛ لاتصاله بعملها، ولم تزل دستبى على قِسميها، بعضها للريّ وبعضها لهمذان، إلى أن سعى رجُل من سكّان قزوين من بني تميم يُقال له حنظلة بن خالد، ويُكنّى أبا مالك، في أمرها حتّى صُيّرت كلّها إلى قزوين..) (معجم البلدان: ٢: ٤٥٤).

(٢) وقد أنفق ليله ساهراً يُطيل التفكير في الأمر، هل يقدِم على حرب ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي قتله العذاب الدائم والخزي الخالد؟ أو يستقيل من ذلك، فتفوته إمارة الري التي تضمن له العيش الوفير؟ وسمعهُ أهله يقول:

أأتركُ مُلكَ الريّ والريّ بُغيتي

أم أرجع مأثوماً بقتل حسينِ

وفي قتله النّار التي ليس دونها

حجابٌ، ومُلك الريّ قُرّةُ عيني

(راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، ٣: ١١٣).

٨٢

وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة(١) ، وهو ابن أُخته، فقال: أُنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربّك وتقطع رحِمك، فو الله لأنْ تخرج من دنياك ومالِك وسلطان الأرض كلّها - لو كان لك - خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين.

فقال له عمر بن سعد: فإنّي أفعل إن شاء الله.

قال هشام: حدّثني عوانة بن الحكم، عن عمّار بن عبد الله بن يسار الجُهني، عن أبيه، قال: دخلت على عمر بن سعد وقد أُمر بالمسير إلى الحسين.

فقال لي: إنّ الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين، فأبيتُ ذلك عليه.

فقلت له: أصاب الله بك، أرشدك الله، أَحِلْ فلا تفعل ولا تسِرْ إليه، قال: فخرجت من عنده، فأتاني آتٍ وقال: هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين.

قال: فأتيته فإذا هو جالس، فلمّا رآني أعرض بوجهه، فعرفتُ أنّه قد عزم على المسير إليه، فخرجت من عنده.

قال: فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زياد، فقال: أصلحك الله، إنّك ولّيتني هذا العمل وكتبت لي العهد، وسمع به النّاس، فإنْ رأيت أن تُنفّذ لي ذلك فافعل، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة مَن لستُ بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه، فسمّى له أُناساً.

فقال له ابن زياد: لا تعلّمني بأشراف أهل الكوفة، ولستُ أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، إنْ سِرْتَ بجُندنا وإلاّ فابعث إلينا بعهدنا.

فلمّا رآه قد لجَّ، قال: إنّي سائر..)(٢) .

____________________

(١) حمزة بن المغيرة بن شعبة، ابن أخت عمر بن سعد، استعمله الحجّاج بن يوسف الثقفي على همذان سنة ٧٧هـ، وكان أخوه مطرف بن المغيرة على المدائن فخرج على الحجّاج، فأمدّه حمزة بالمال والسلاح سرّاً، فبعث الحجّاج إلى قيس بن سعد العجلي وهو يومئذٍ على شرَطة حمزة بن المغيرة، بعهده على همذان فأوثقه وحبسه.

(٢) تاريخ الطبري: ٤: ٣٠٩ - ٣١٠، وانظر تفصيلات أخرى لهذه الوقائع أيضاً في كتاب =

٨٣

هكذا أعمى طغيان حبّ الدنيا بصيرة عمر بن سعد لعنه الله، وشلّه روحياً حتّى أفقده القدرة والعزم على اتخاذ القرار الصائب، الذي يُنجيه من شديد عقاب الله تعالى، برغم كلّ النواهي والتحذيرات التي سبق أن بلغت مسامعه الصمّاء، فقد روي عن محمّد بن سيرين، عن بعض أصحابه قال: قال عليٌّ لعمر بن سعد:(كيف أنتَ إذا قُمتَ مقاماً تُخيّر فيه بين الجنّة والنار فتختار النار؟!) (١) .

(وروى سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسين: يا أبا عبد الله، إنّ قِبَلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك!

فقال له الحسينعليه‌السلام :(إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل من بُرّ العراق بعدي إلاّ قليلاً!) (٢) .

(وروى عبد الله بن شريك العامري قال: كنت أسمع أصحاب عليّعليه‌السلام إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، وذلك قبل أن يُقتل بزمان)(٣) .

ولم يكن عمر بن سعد (لعنه الله) عبد الدنيا فحسب، بل كان ذا مَيل وهوى أُمَوي، فقد كان ممّن يتقرّب إلى سلطانهم، وكان من جملة الذين كتبوا إلى يزيد بن معاوية في ضعف والي الكوفة النعمان بن بشير، أو تضعّفه في مواجهة مسلم بن عقيلعليه‌السلام (٤) .

وكان قد نفّذ تعاليم ابن زياد تماماً في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وفي أن يوطئ

____________________

= الفتوح: ٥: ١٥١ - ١٥٣.

(١) تهذيب الكمال: ١٤: ٧٤، وتذكرة الخواص: ٢٢٣.

(٢) و (٣) الإرشاد: ٢٨٢، وتهذيب الكمال: ١٤، ٧٤.

(٤) أنساب الأشراف: ٣، ٨٣٧.

٨٤

الخيل صدره وظهره(١) .

وقد أكلت قلبه الحسرة - بعد أن غلبت عليه شقوته، ونفّذ أبشع جريمة في تاريخ البشريّة - وندم على ما فرّط في أمر دنياه وآخرته، ولات ساعة مندم!

يروي لنا التاريخ أنّ عمر بن سعد (لعنه الله) لمّا لم ينَل - بعد عاشوراء - من ابن زياد (لعنه الله) ما كان يأمله من ولاية الريّ والزلفى من السلطان، خرج من مجلس ابن زياد (يريد منزله إلى أهله وهو يقول في طريقه: ما رجع أحدٌ مثل ما رجعت! أطعتُ الفاسق ابن زياد، الظالم ابن الفاجر! وعصيت الحاكم العدل! وقطعت القرابة الشريفة!

وهجَره الناس، وكلّما مرَّ على ملأ من النّاس أعرضوا عنه، وكلّما دخل المسجد خرج النّاس منه، وكلّ مَن رآه قد سبّه! فلزم بيته إلى أن قُتل)(٢) .

رُسُل عمر بن سعد إلى الإمامعليه‌السلام

قال الطبري: (فبعث عمر بن سعد إلى الحسينعليه‌السلام عزرة بن قيس الأحمسي(٣) ، فقال: ائته فَسَلْهُ ما الذي جاء به، وماذا يريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحى منه أن يأتيه.

قال: فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلّهم أبى وكرهه.

قال: وقام إليه كثير بن عبد الله الشعبيّ، وكان فارساً شجاعاً ليس يردّ وجهه شيء، فقال: أنا أذهب إليه، والله لئن شئتَ لأفتكنَّ به.

____________________

(١) الإرشاد: ٢٥٦.

(٢) تذكرة الخواص: ٢٣٣.

(٣) عزرة بن قيس الأحمسي: مرّت بنا ترجمة له في الجزء الثاني: ٣٤٢ - ٣٤٣.

٨٥

فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن يُفتك به، ولكن ائته فَسلْه ما الذي جاء به؟

قال: فأقبل إليه، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائدي(١) قال للحسين: أصلحك الله أبا عبد الله، قد جاءك شرّ أهل الأرض، وأجرأه على دم، وأفتكه، فقام إليه فقال: ضَعْ سيفك.

قال: لا والله ولا كرامة، إنّما أنا رسول، فإنْ سمعتم منّي أبلغتكم ما أُرسلت به إليكم، وإنْ أبيتم انصرفتُ عنكم.

فقال له: فإنّي آخذٌ بقائم سيفك، ثمّ تكلّم بحاجتك.

قال: لا والله لا تَمسّه.

فقال له: أخبِرني ما جئت به وأنا أبلّغه عنك، ولا أدَعك تدنو منه فإنّك فاجر.

فاستبّا، ثمّ انصرف إلى عمر بن سعد فأخبرهُ الخبر، فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظلي، فقال له: ويحك يا قُرّة، القَ حسيناً فسلْه ما جاء به وماذا يريد؟

قال: فأتاه قُرّة بن قيس: فلمّا رآه الحسين مقبلاً قال:(أتعرفون هذا؟

فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجل من حنظلة تميميٌّ، وهو ابن أختنا ولقد كنتُ أعرفه بحُسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد.

قال: فجاء حتّى سلّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه له.

فقال الحسينعليه‌السلام :كتبَ إليَّ أهل مِصركم هذا أن أقدِم، فأمّا إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم).

قال: ثمّ قال له حبيب بن مظاهر: ويحك يا قُرّة بن قيس، أَنّى ترجع إلى القوم

____________________

(١) مضت ترجمة أبي ثمامة الصائدي (رض) في آخر الفصل الثالث من فصول مقطع (وقائع الطريق من مكّة إلى كربلاء).

٨٦

الظالمين؟! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك الله بالكرامة وإيّانا معك.

فقال له قُرَّة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيي(١) .

قال: فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد: إنّي لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله!)(٢) .

تبادلُ الرسائل بين عمر بن سعد وابن زياد

ثمّ كتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد (لعنهما الله) كتاباً، كان نصّه - على رواية الطبري -:

(بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ، فإنّي حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عمّا أقدمه، وماذا يطلب ويسأل؟ فقال: كتب إليَّ أهل هذه البلاد، وأتتني رسُلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأمّا إذ كرهوني فبدا لهم غيرُ

____________________

(١) قُرّة بن قيس هذا كما وصفه حبيب (رض)، كان ممّن يعرف أحقيّة أهل البيتعليهم‌السلام بالأمر، لكنّه ممّن طغى عليهم مرض الشلل النفسي والروحي وتفشّى فيهم مرض حبّ الدنيا، فأصرّ على خذلان الحقّ ونصرة الباطل، بل أصرَّ على قتل الحقّ فاشترك في جيش الباطل لقتل الإمامعليه‌السلام ، ثمَّ لم يزل ينصر الباطل، حتى كان على رأس مئة رجل من الأزد بعثهم مسعود بن عمر الأزدي لحماية عبيد الله بن زياد (لعنه الله) عندما هرب من البصرة إلى الشام. (راجع: الجزء الثاني من هذه الدراسة: ٣٤)، ولقد كان الحرّ بن يزيد الرياحي (رض) يعرف أنّ قُرَّة هذا لا ينصر الحقّ، فلم يُطلعه يوم عاشوراء - وكان إلى جانبه - على نيّته في الالتحاق بالإمام الحسينعليه‌السلام والانضمام إليه، فأبعده عنه قائلاً له: هل سقيتَ فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظنّ قُرّة من ذلك أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يشاهده فتركه، ولقد كذب قُرَّة بعد ذلك حين قال: (والله، لو أنّ الحرّ أطلعني على مراده لخرجت معه إلى الحسين)؛ وذلك لأنّ فُرص التحوّل إلى الحقّ كانت مفتوحة أمامه حتى بعد التحاق الحرّ فلماذا لم يتحوّل إليه؟!

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٠ - ٣١١.

٨٧

ما أتَتني به رسلهم فإنّي منصرف عنهم)(١) .

ويواصل الطبري: روايته قائلاً: فلمّا قُرئ الكتاب على ابن زياد قال:

ألآن إذ علِقتْ مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناصِ

قال: وكتب إلى عمر بن سعد: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ، فقد بلغني كتابك، وفهمتُ ما ذكرتَ، فأعرِض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية، هو وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رَأَينا رَأْينا، والسلام))(٢) .

وفي رواية الدينوري: (فلمّا وصل كتابه إلى ابن زياد كتب إليه في جوابه: (قد فهمت كتابك، فأعرِض على الحسين البيعة ليزيد، فإذا بايع في جميع مَن معه، فأعلِمني ذلك ليأتيك رأيي!)، فلمّا انتهى كتابه إلى عمر بن سعد قال: ما أحسبُ ابن زياد يريدُ العافية!

فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد إلى الحسين.

فقال الحسين للرسول:(لا أُجيب ابن زياد إلى ذلك أبداً، فهل هو إلاّ الموت؟ فمرحباً به) .

فكتب عمر بن سعد إلى زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع أصحابه إلى النُخيلة(٣) ..)(٤) .

____________________

(١) و (٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١١.

(٣) النُخيلة: ماء عن يمين الطريق، قرب المغيثة والعقبة، على سبعة أميال من جُوَيّ غربيّ واقصة، بينها وبين الحُفَيْر ثلاثة أميال... والنخيلة: تصغير نخلة، موضع قرب الكوفة على سمْت الشام، وهو الموضع الذي خرج إليه عليّرضي‌الله‌عنه لما بلغه ما فُعل بالأنبار من قتل عامله عليها.. (راجع: معجم البلدان، ٥: ٢٧٨).

(٤) الأخبار الطوال: ٢٥٤.

٨٨

الإمامعليه‌السلام يشتري ستّة عشر ميلاً مربعاً من أرض كربلاء

روى محمّد بن أحمد بن داود القمّي في كتابالزيارات ، وحكاه عنه السيّد رضيّ الدين عليّ بن طاووس (ره) في كتابهمصباح الزائر ، ونقله عنه أيضاً الشيخ بهاء الدين محمّد العاملي (ره) في كتابالكشكول (١) بما نصه: (روي أنّ الحسينعليه‌السلام اشترى النواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضريّة بستّين ألف درهم، وتصدّق عليهم وشرط أن يُرشدوا إلى قبره، ويُضيّفوا مَن زاره ثلاثة أيّام)(٢) ، ثمّ بيّن في ذيل الخبر مقدار مساحة تلك الأرضي، وأنّها هي حرم الحسينعليه‌السلام بقوله: قال الصادقعليه‌السلام :(حَرمُ الحسين عليه‌السلام الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة أميال، فهو حلال لوِلده ومواليه، حرام على غيرهم ممّن خالفهم، وفيه البركة) (٣) .

(وذكر السيّد الجليل رضيّ الدين عليّ بن طاووسرحمه‌الله ، أنّها إنّما صارت حلالاً بعد الصدقة؛ لأنّهم لم يفوا بالشرط. قال: وقد روى محمد بن داود عدم وفائهم بالشرط في باب نوادر الزمان)(٤) .

ابن زياد يُعبّئ الكوفة لقتال الحسينعليه‌السلام

كان الحرّ بن يزيد الرياحي قد كتب إلى ابن زياد - بعد نزول الإمامعليه‌السلام في كربلاء - يخبره بذلك، ويروي بعض المؤرّخين أنّ ابن زياد عندئذٍ كتب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام : (أمّا بعدُ يا حسين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إليَّ

____________________

(١) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ١٩٦ (الحاشية).

(٢) و (٣) راجع: تاريخ كربلاء وحائر الحسينعليه‌السلام : ٤٤، عن كشكول البهائي: ١٠٣ طبعة مصر ١٣٠ هـ.

(٤) راجع: تاريخ كربلاء وحائر الحسينعليه‌السلام : ٤٤ عن كشكول البهائي: ١٠٣، طبعة مصر ١٣٠٢ هـ.

٨٩

أمير المؤمنين يزيد بن معاوية أن لا أتوسّد الوثير، ولا أشبع من الخمير، أو أُلحقك باللطيف الخبير! أو ترجع إلى حُكمي وحكم يزيد بن معاوية.

فلمّا ورد الكتاب قرأه الحسين ثمّ رمى به، ثمّ قال:(لا أفلحَ قومٌ آثروا مرضاة أنفسهم على مرضاة الخالق) ، فقال له الرسول: أبا عبد الله، جواب الكتاب؟

قال:(ما له عندي جواب؛ لأنّه قد حقّت عليه كلمة العذاب).

فقال الرسول لابن زياد ذلك، فغضب من ذلك أشدّ الغضب...)(١) .

ثمّ إنّ ابن زياد - كما مرَّ بنا - أمرَ عمر بن سعد بتولّي قيادة الجيوش لقتال الإمامعليه‌السلام ، فخرج - بعد تردد - في أربعة آلاف حتى نزل كربلاء في الثالث من المحرّم، وانضمّ إليه الحرّ مع ألف فارس هناك، فصار في خمسة آلاف فارس.

وقال ابن أعثم الكوفي: (ثمّ جمع عبيد الله بن زياد النّاس إلى مسجد الكوفة، ثمّ خرج فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيها النّاس، إنّكم قد بلوتم آل سفيان فوجدتموهم على ما تُحبّون! هذا يزيد قد عرفتموه أنّه حَسن السيرة! محمود الطريقة! وقد زاد أمير المؤمنين في إكرامكم، وكتب إليَّ يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ومئتي ألف درهم(٢) أُفرّقها عليكم، وأُخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين بن عليّ، فاسمعوا وأطيعوا، والسلام.

____________________

(١) الفتوح، ٥: ١٥٠ - ١٥١.

(٢) في ما نقله العلاّمة المجلسي (ره) عن كتاب السيد محمد بن أبي طالب لا يوجد ذكر لهذا المبلغ، بل فيه: (وقد زادكم في أرزاقكم مئة مئة، وأمرَني أن أوفّرها عليكم وأخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين، فاسمعوا له وأطيعوا). (راجع: البحار: ٤٤: ٣٨٥).

٩٠

قال: ثمّ نزل عن المنبر، ووضعَ لأهل الشام(١) العطاء فأعطاهم، ونادى فيهم بالخروج إلى عمر بن سعد؛ ليكونوا أعواناً له على قتال الحسين.

قال: فأوَّل مَن خرج إلى عمر بن سعد الشمر بن ذي الجوشن(٢) السلولي (لعنه الله) في أربعة آلاف فارس، فصار عمر بن سعد في تسعة آلاف، ثمّ أتبعهُ زيد (يزيد) بن ركاب الكلبي في ألفين، والحصين بن نمير السكوني(٣) في أربعة آلاف، والمصاب الماري(٤) في ثلاثة آلاف، ونصر بن حربة في ألفين، فتمّ له عشرون ألفاً،

____________________

(١) لعلّ هذا من سهو النسّاخ، وإلاّ فلم يُعرف أنّ هناك قطعات عسكرية من أهل الشام اشتركت في كربلاء، ثمَّ إنّ وضع العطاء لأهل الشام ليس من اختصاص والي الكوفة إدارياً.

(٢) العامري: كان لعنة الله عليه من أشدّ أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام عليه، وكان حضر صِفّين في صف الإمام عليّعليه‌السلام ، وكان ممّن شهدَ على حُجر بن عدي (رض)، وهو الذي حرّض ابن مرجانة على التشدّد في مواجهة الحسينعليه‌السلام وقتله، وهو الذي نزل إلى الإمامعليه‌السلام - على ما هو المشهور - فذَبحه عطشاناً، وهو الذي همّ بقتل الإمام السجّادعليه‌السلام ، وهو الذي طعنَ برُمحه فسطاط النساء، وكان من الذين قَدِموا بالرؤوس المقدّسة وبالأُسارى إلى يزيد لعنه الله، وكان من الذين قتلهم المختار (ره) في جملة قَتَلة الحسينعليه‌السلام .

(٣) الحُصين بن نمير السكوني لعنه الله، ورد اسمه في بعض المصادر التاريخية: الحصين بن تميم التميمي، وهو ملعون خبيث، من أتباع معاوية المخلصين له، ومن رؤساء جند ابن زياد، وكان على شرطته، وكان ابن زياد قد بعثه إلى القادسية؛ لينظمّ الخيل ما بينها إلى خفّان والقطقطانة ولعلع، وهو الذي قبض على عبد الله يقطر (رض)، وكذلك على قيس بن مسهّر (رض)، وكان له دور فعّال في قتال الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، وكان مأموراً من قِبل يزيد أيضاً لقتال ابن الزبير بمكة.

(٤) وورد في حاشية الفتوح: أنّ اسم هذا الرجل مصابر بن مزينة المازني، وذكره المحقّق القرشي باسم (مضاير بن رهينة المازني)، (راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ٣: ١٢٣).

٩١

ثمّ بعثَ ابن زياد إلى شبث بن ربعي الرياحي..(١) فاعتلّ بمرض، فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إن كنتَ في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا، فخرج إلى عمر بن سعد في ألف فارس بعد أن أكرمه ابن زياد وأعطاه وحَباه، وأتبَعهُ بحجّار بن أبجر(٢) في ألف فارس، فصار عمر بن سعد في اثنين وعشرين ألفاً ما بين فارس وراجل)(٣) .

ويصف البلاذري التعبئة العامة التي قام بها ابن زياد لإخراج أهل الكوفة إلى قتال الإمام الحسينعليه‌السلام قائلاً: (ولمّا سرّح ابن زياد عمر بن سعد من(حمّام أعيَن) (٤) ، أمرَ الناس فعسكروا بالنخيلة، وأمرَ ألاّ يتخلّف أحدٌ منهم، وصعد المنبر فقرّظ معاوية وذكر إحسانه وإدراره الأعطيات، وعنايته بأمور الثغور، وذكر اجتماع الأُلفة به وعلى يده! وقال: إنّ يزيد ابنه المتقيّل(٥) له، السالك لمناهجه المحتذي لمثاله، وقد زادكم مئة مئة في أعطياتكم، فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب

____________________

(١) شبث بن ربعي الرياحي اليربوعي التميمي: لعنه الله، كان مؤذن سجاح التي ادّعت النبوّة، ثمّ أسلمَ، وكان فيمن أعان على عثمان، ثمّ صار مع عليّ، ثمّ صار من الخوارج، ثمّ تاب، ثمّ حضر قتل الحسينعليه‌السلام ، وكان ممّن كتبوا إليه في مكّة! ثمّ حضر قتل المختار، ومات بالكوفة حدود الثمانين، وهو من أصحاب المساجد الأربعة الملعونة التي جدّدت بالكوفة فرحاً واستبشاراً بقتل الحسينعليه‌السلام .

(٢) حجّار بن أبجر العجلي السلمي: راجع ترجمته في الجزء الثاني من هذه الدراسة: ٣٤٢.

(٣) الفتوح، ٥: ١٥٧ - ١٥٨.

(٤) حمّام أَعيَنَ: بتشديد الميم، بالكوفة، ذِكرهُ في الأخبار مشهور، منسوب إلى أعيَن مولى سعد بن أبي وقّاص (معجم البلدان، ٢: ٢٩٩)، وفي تجريد الأغاني لابن واصل الحموي، ١: ٢٧٧ أنّه باسم أعيَن حاجب بشر بن مروان بن الحكم.

(٥) المتقيّل له: لربّما كانت بمعنى المتخيَّر من قِبَلهِ، أو البديل له (راجع: لسان العرب، ١١: ٥٧٢ - ٥٨٠، مادة: قول، قيل).

٩٢

والتجّار والسكّان إلاّ خرج فعسكر معي، فأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلّفاً عن العسكر برئت منه الذمّة.

ثمّ خرج ابن زياد فعسكر، وبعث إلى الحُصين بن تميم وكان بالقادسية في أربعة آلاف، فقدِم النُخيلة في جميع مَن معه، ثمّ دعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي، ومحمّد بن الأشعث بن قيس، والقعقاع بن سويد بن عبد الرحمان المنقري، وأسماء بن خارجة الفزاري، وقال: طوفوا في الناس فمُروهم بالطاعة والاستقامة، وخوّفوهم عواقب الأمور والفتنة والمعصية، وحثّوهم على العسكرة.

فخرجوا فعذروا وداروا بالكوفة، ثمّ لحقوا به، غير كثير بن شهاب فإنّه كان مبالغاً يدور بالكوفة يأمر النّاس بالجماعة ويحذّرهم الفتنة والفرقة، ويُخذّل عن الحسين.

وسرّح ابن زياد أيضاً حصين بن تميم في الأربعة آلاف الذين كانوا معه إلى الحسين، بعد شخوص عمر بن سعد بيوم أو يومين، ووجّه أيضاً إلى الحسين حجّار بن أبجر العجلي في ألف، وتمارضَ شبث بن ربعي، فبعث إليه فدعاه وعزم عليه أن يشخص إلى الحسين في ألف ففعل(١) .

وكان الرجل يُبعث في ألف فلا يصل إلاّ في ثلاثمئة أو أربعمئة وأقلّ من

____________________

(١) (ثمَّ أرسلَ إلى شبث بن ربعي أن أقبِل إلينا، وإنّا نريد أن نوجّه بك إلى حرب الحسين، فتمارض شبث، وأراد أن يعفيه ابن زياد فأرسلَ إليه: أمّا بعدُ، فإنّ رسولي أخبَرَني بتمارضك، وأخاف أن تكون من الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن، إن كنت في طاعتنا فأقبِل إلينا مسرعاً.

فأقبلَ إليه شبث بعد العشاء؛ لئلاّ ينظر إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلّة، فلمّا دخل رحّب به وقرّب مجلسه، وقال: أُحبُّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه، فقال: أفعل أيها الأمير) (البحار، ٤٤: ٣٨٦ نقلاً عن كتاب السيّد محمد بن أبي طالب).

٩٣

ذلك كراهة منهم لهذا الوجه(١) .

ووجّه أيضاً يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم(٢) في ألف أو أقلّ، ثمّ إنّ ابن زياد استخلف على الكوفة عمرو بن حريث(٣) ، وأمر القعقاع بن سويد بن

____________________

(١) روى الدينوري قائلاً: (قالوا: وكان ابن زياد إذا وجّه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير، يصلون إلى كربلاء ولم يبقَ منهم إلاّ القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين، فيرتدعون ويتخلّفون) (الأخبار الطوال: ٢٥٤).

(٢) يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم: راجع ترجمته مفصّلة في الجزء الثاني من هذه الدراسة: ٣٤٢.

(٣) عمرو بن حريث: قال التستري: عدّه الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي أصحاب عليّعليه‌السلام قائلاً: عدوّ الله ملعون. (راجع: قاموس الرجال، ٨: ٧٥).

وهو ممّن مَردَ على النفاق فلا يستطيع العيش بلا نفاق، وقد روي عن الحسينعليه‌السلام أنّه قال:(لمّا أراد عليٌّ أن يسير إلى النهروان، استنفر أهل الكوفة وأمَرهم أن يعسكروا بالمدائن، فتأخّر عنه شبث بن ربعي، وعمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وجرير بن عبد الله البجلي، وقالوا: أتأذن لنا أيّاماً نتخلّف عنك في بعض حوائجنا ونلحق بك؟ فقال لهم: قد فعلتموها، سوءة لكم من مشايخ، فو الله مالكم من حاجة تتخلّفون عليها، وإنّي لأعلم ما في قلوبكم، وسأُبيّن لكم، تريدون أن تثبّطوا عنّي الناس، وكأنّي بكم بالخورنق وقد بسطتم سُفرَكم للطعام، إذ يمرُّ بكم ضبٌّ فتأمرون صبيانكم فيصيدونه، فتخلعوني وتبايعونه!

ثمّ مضى إلى المدائن، وخرج القوم إلى الخورنق، وهيّأوا طعاماً، فبيناهم كذلك على سُفرتهم وقد بسطوها إذ مرَّ بهم ضبٌّ، فأمروا صبيانهم فأخذوه وأوثقوه، ومسحوا أيديهم على يده كما أخبر عليٌّ، وأقبلوا إلى المدائن، فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام : بئس للظالمين بدلاً، ليبعثنّكم الله يوم القيامة مع إمامكم الضبّ الذي بايعتم، لكأنّي أنظر إليكم يوم القيامة وهو يسوقكم إلى النار.

ثمّ قال:لئن كان مع رسول الله منافقون فإنّ معي منافقين، أمَا والله يا شبث ويا بن حُريث لتقاتلان ابني الحسين، هكذا أخبرني رسول اله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (الخرائج والجرائح، ١: ٢٢٥ - ٢٢٦، رقم ٧٠). =

٩٤

عبد الرحمن بن بجير المنقري بالتطواف بالكوفة في خيل، فوجد رجلاً من همدان قد قدِم يطلب ميراثاً له بالكوفة(١) ، فأتى به ابن زياد فقتله، فلم يبقَ بالكوفة محتلم إلاّ خرج إلى العسكر بالنخيلة.

ثمّ جعل ابن زياد يُرسل العشرين والثلاثين والخمسين إلى المئة، غدوة وضحوة ونصف النهار وعشيّة، من النخيلة يمدُّ بهم عمر بن سعد - وكان يكره أن يكون هلاك الحسين على يده، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يقع الصلح! - ووضع ابن زياد المناظر على الكوفة لئلاّ يجوز أحدٌ من العسكر؛ مخافة لأنْ يلحق الحسين مغيثاً له، ورتّب المسالح حولها، وجعل على حرس الكوفة والعسكر زحر بن قيس الجعفي(٣) ، ورتّب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلاً مضمرة مقدحة، فكان خبر ما قبله يأتيه في كلّ وقت)(٣) .

____________________

= وكان معاوية قد دسَّ إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجر بن الحجر، وشبث بن ربعي دسيساً - أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه: (إنّك إنْ قتلتَ الحسن بن عليّ فلك مئتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي)، فبلغ الحسنعليه‌السلام ذلك فاستلأمَ ولبس درعاً وكفّرها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك، فرماهُ أحدهم بسهم في الصلاة.. (راجع: علل الشرائع: ٢٢٠، باب ١٦٠).

وكان عمرو بن حريث مقرّباً من عبيد الله بن زياد، وكان يستخلفه عليها، فقد استخلفه عليها أثناء مواجهته لمحاصرة مسلم بن عقيلعليه‌السلام إيّاه في القصر، كما استخلفه عليها عند خروجه إلى النخيلة إبّان محاصرته الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء.

(١) في الأخبار الطوال: ٢٥٥، (فبينما هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدِم الكوفة في طلب ميراث له، فأرسلَ به إلى ابن زياد، فأمر به فضُربت عُنقه).

(٢) يرد اسمه في مصادر تاريخية أخرى: زجر بن قيس الجعفي.

(٣) أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٦ - ٣٨٨.

٩٥

اكتمالُ تعبئة الكوفة لقتال الإمامعليه‌السلام في السادس من المحرّم

وفي رواية السيّد محمّد بن أبي طالب: (فما زال يُرسل إليه بالعساكر حتّى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل)(١) .

وروى الشيخ الصدوق (ره) بسندٍ عن المفضّل بن عمر، عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن أبيهعليه‌السلام ، عن جدّهعليه‌السلام :(إنّ الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام دخل يوماً إلى الحسن عليه‌السلام ، فلمّا نظر إليه بكى.

فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟

قال: أبكي لِما يُصنع بك.

فقال له الحسنعليه‌السلام : (إنَّ الذي يؤتى إليَّ سمٌّ يُدسُّ إليَّ فأُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثِقلك، فعندها تحلّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلَوات، والحيتان في البحار)(٢) .

كما روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن ثابت بن أبي صفيّة قال: (نظر سيّد العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى عبيد الله بن عبّاس بن عليّ بن أبي طالب فاستعبر ثمّ قال:(ما من يوم أشدّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يوم أُحد، قُتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة، قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب.

____________________

(١) البحار، ٤٤: ٣٨٦.

(٢) أمالي الصدوق: ١٠١، المجلس ٢٤، حديث رقم ٣.

٩٦

ثمّ قالعليه‌السلام :ولا يوم كيوم الحسين عليه‌السلام ازدلف عليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الأمّة، كلّ يتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بدمه، وهو بالله يذكّرهم فلا يتّعظون حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً...) (١) .

فالصحيح إذاً في عدد جيش عمر بن سعد (لعنه الله) هو:الثلاثون ألفاً - كما يقّره الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام والإمام السجّادعليه‌السلام - وينبغي الانتباه إلى أنّهماعليهما‌السلام ربما عَنيا - فقط - الذين يزدلفون يوم عاشوراء لقتال الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهذا يعني ضمناً أنّ في جيش ابن سعد مَن هو كاره لا يزدلف لقتال الإمامعليه‌السلام ، وهذا يعني أنّ سواد الجيش الأموي الذي واجه الإمام الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء يبلغ أكثر من ثلاثين ألف رجل.

وتقول رواية ابن أعثم الكوفي: (ثمّ كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: إنّي لم أجعل لك علّة في قتال الحسين من كثرة الخيل والرجال، فانظر أن لا تبدأ أمراً حتى تشاورني غدوّاً وعشيّاً مع كلّ غادٍ ورائح، والسلام.

قال: وكان عبيد الله بن زياد في كلّ وقت يبعث إلى عمر بن سعد، ويستعجله في قتال الحسين.

قال: والتأمت العساكر إلى عمر بن سعد لِستّ مضين من المحرّم)(٢) .

أحدُ أنصار الإمامعليه‌السلام يحاول اغتيال ابن زياد

روى البلاذري قائلاً: (وهَمَّ عمّار بن أبي سلامة الدالاني أن يفتك بعبيد الله

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٣٧٣ - ٣٧٤، المجلس السبعون، رقم ١٠.

(٢) الفتوح: ٥: ١٥٩.

٩٧

بن زياد في عسكره بالنخيلة، فلم يمكنه ذلك، فلطف حتى لحق بالحسين فقُتل معه)(١) .

غير أنّ هذا اللطف والتخفّي لم ينفع هذا الشهيد البطل (رض) عند كلّ المفارز والمسالح التي ترصد حركة كلّ عابر باتجاه كربلاء، فاضطرّ إلى الاصطدام مع إحدى المسالح الكبيرة الموجودة على جسر الصراة التي كان على رأسها اللعين زجر بن قيس الجعفي، فقد نقل المحقّق المرحوم السيّد المقرّم في مقتله يقول: (وجعل عبيد الله بن زياد زجر بن قيس الجعفي على مسلحة في خمسمئة فارس، وأمرَهُ أن يُقيم بجسر الصراة(٢) ، يمنع مَن يخرج من الكوفة يريد الحسينعليه‌السلام ، فمرَّ به عامر(٣) بن أبي سلامة بن عبد الله بن عرار الدالاني، فقال له زجر: قد عرفتُ حيث تريد فارجع، فحملَ عليه وعلى أصحابه فهزمهم ومضى، وليس أحدٌ منهم يطمع في الدنوّ منه، فوصلَ كربلاء ولحق بالحسينعليه‌السلام حتّى قُتل معه، وكان قد شهد المشاهد مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام )(٤) .

رسالةُ الإمامعليه‌السلام إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة

روى الشيخ ابن قولويه (ره) بسند عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال:(كتبَ الحسين

____________________

(١) أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٨.

(٢) الصَراة: بالفتح، نهر يأخذ من نهر عيسى من بلدة يُقال لها المحوّل، بينها وبين بغداد فرسخ، وهو من أنهار الفرات. (راجع وقعة صفّين: ١٣٥، الحاشية).

(٣) ضبطهُ المحقّق السماوي (ره) هكذا: (عمّار بن أبي سلامة بن عبد الله بن عمران بن راس بن دالان، أبو سلامة الهمداني الدالاني، وبنو دالان بطن من همدان (راجع: إبصار العين: ١٣٣).

(٤) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ١٩٩ عن كتاب الإكليل للهمداني، ١٠: ٨٧ و ١٠١، وفيه (ودالان بطن من همدان منهم بنو عُرار بضمّ العين، وهو عُرار بن رؤاس بن دالان...).

٩٨

بن عليّ عليهما‌السلام إلى محمّد بن عليّ من كربلاء :

بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبَله من بني هاشم:

أمّا بعدُ، فكأنّ الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزُل، والسلام)(١) .

تأمّل:

إنّ غير المعصوم في أخذه وتلقّيه عن النبيّ الأكرم محمّد وآله الطيبين الطاهرينصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في أخذه عن القرآن الكريم - إنّما يأخذ على قدر وعائه وأداته، ولا يمكنه - مع قصوره - أن يدّعي أنّ ما فهمه من القرآن أو من المعصومعليه‌السلام هو كلّ ما أراد المعصومعليه‌السلام ، أو هو كلّ المراد القرآنيّ.

وهذه الرسالة التي كتبها الإمام الحسينعليه‌السلام من كربلاء إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة (رض)، وهي آخر ما كتبه الإمامعليه‌السلام من الرسائل، ولعلّها أقصر رسائلهعليه‌السلام متناً، مثيرة للعجب وداعية إلى التأمّل!

ما هو المعنى الذي أراد الإمام الشهيد الفاتحعليه‌السلام أن يوصله خلال هذه الرسالة، من أرض المصرع المختار إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة (رض) وإلى بني هاشم، وإلى الأجيال كافّة؟

لكلّ مغترف أن يغترف على قدر وعائه، ونحن على قدر وعائنا نقول: ربّما أراد الإمامعليه‌السلام في قوله:(فكأنّ الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل) نفس المعنى الذي أرادهعليه‌السلام في قوله لأنصاره ليلة عاشوراء:(واعلَموا أنّ الدنيا حُلوُها ومُرّها حُلُم،

____________________

(١) كامل الزيارات: ٧٦، الباب ٢٣، رقم ١٥، وذكرها بعض الفضلاء في حوادث اليوم السادس من المحرّم (راجع: قصة كربلاء: ٢٢٨).

٩٩

والانتباه في الآخرة، والفائز مَن فاز فيها، والشقيّ مَن شقي فيها..) (١) ؛ ذلك لأنّ الإنسان ابن الأيّام الثلاثة: يوم ولدته أمّه، ويوم يخرج من هذه الدنيا، ويوم يقوم للحساب! وهذه الأيّام الثلاثة الكبرى هي التي ورد السلام فيها من الله تبارك وتعالى على يحيىعليه‌السلام ، في قوله تعالى:( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ) (٢) ، وفي قوله تعالى عن لسان عيسىعليه‌السلام :( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) (٣) .

وإذا تأمّل كلّ إنسان في الماضي من عمره طويلاً كان أم قصيراً، فكأنّما يتأمّل في رؤيا منام رآها البارحة، والآتي من العمر - بعد مروره - كما الماضيّ، حلمٌ أيضاً.

فالدنيا - وهي عمر الإنسان بكلّ تفصيلاته الحلوة والمرّة - حلُمٌ في الختام، فكأنّ الدنيا لم تكن.

فالعاقل السعيد مَن أخذ من هذه الدنيا كما يأخذ المارّ من ممرّه لمقرّه، والعاقل السعيد مَن لم يتعلّق قلبه بهذه الدار الزائلة، ولم يقع في شباكها، وكان من المخفّين فيها؛ ليكون فراقها عليه سهلاً يسيراً هيّناً، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام :(مَن كثر اشتباكه بالدنيا كان أشدَّ لحسرته عند فراقها) (٤) .

وإذا كانت هذه هي حقيقة الدنيا، وكان لابدّ من فراقها، فليكن الختام أفضل الختام، ولتكن النهاية أشرف نهاية، وأفضل الموت القتل في سبيل الله، فليكن

____________________

(١) التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكريعليه‌السلام : ٢١٨، وعنه البحار: ١١: ١٤٩.

(٢) و(٣) سورة مريمعليها‌السلام : الآيتان: ١٥ و ٣٣؛ ومع أنّ الأيام الكبرى من عمر الإنسان هي ثلاثة أيّام، إلاّ أنّ القرآن الحكيم يقرّر أنّ( وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ) هو:( ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً ) (سورة النبأ، الآية ٣٩).

(٤) سفينة البحار: مادة (دنى).

١٠٠