مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٥

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 228

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جعفر الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 228
المشاهدات: 125402
تحميل: 8117

توضيحات:

الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125402 / تحميل: 8117
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 5

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خُطبة فاطمة الصُّغرى بنت الحسينعليه‌السلام :

وقال السيّد ابن طاووس (ره): (وروى زيد بن موسى(١) ، قال: حدّثني أبي، عن جدّيعليهما‌السلام قال: خطبَتْ فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلاء، فقالت:

الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزِنَة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده

____________________

(١) قال النمازي في مُستدركات علم رجال الحديث: ٣: ٤٨٦ رقم ٥٩٨٧: (زيد بن موسى الكاظمعليه‌السلام . ويُقال له: زيد النار. روى الصدوق عن ياسر: أنّه خرج بالمدنية وأُحرق وقُتل، فبعث إليه المأمون فأُسر وحمل إلى المأمون، فقال المأمون: اذهبوا به إلى أبي الحسنعليه‌السلام . قال: ياسر: فلما دخل عليه قال له أبو الحسن:(يا زيد أغرّك قول سفَلة أهل الكوفة: إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذرّيتها على النار؟ ذاك للحسن والحسين خاصّة! إن كنت ترى أنّك تعصي الله وتدخل الجنّة! وموسى بن جعفر عليه‌السلام أطاع الله ودخل الجنّة فأنت إذاً أكرم على الله عزّ وجلّ من موسى بن جعفر عليه‌السلام ! والله، ما ينال بنا أحدٌ ما عند الله عزّ وجلّ إلاّ بطاعته، وزعمت أنّك تناله بمعصيته، فبِئْسَ ما زعمت!) .

فقال له زيد: أنا أخوك وابن أبيك. فقال له أبو الحسنعليه‌السلام :(أنت أخي ما أطعت الله عزّ وجلّ إنّ نوحاً قال: ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) ، فقال الله عزّ وجل: ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ، فأخرجه الله عزّ وجلّ من أن يكون من أهله بمعصيته) .

وقال السيد الخوئي في المعجم ٧/٣٦٠ بعد نقله هذه الحكاية: (وروى أيضاً - أي الشيخ الصدوق - عن أبي الحسين عليّ بن أحمد النسّابة عن مشايخه: أنّ زيد بن موسى كان يُنادم المنتصر!! وكان في لسانه فضل، وكان زيدياً، رواهما في العيون، الباب ٥٨، ح٣ و٤.

وذكر فيه غيرهما ممّا دلّ على ذمِّ زيد، إلاّ أنّ جميع تلك الروايات ضعيفة السند لا يُعتمد عليها.

والذي يُسهِّل الخَطْب، أنّه لم يرد في هذا توثيق ولا مدح، وكلام الشيخ المفيد لا دلالة فيه على المدح من جهة الدين كما هو ظاهر).

١٠١

ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذَحل ولا تِرات !

اللّهمّ، إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه، من أخْذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، المسلوب حقّه، المقتول من غير ذنب كما قُتِل ولده بالأمس، في بيت من بيوت الله، في معشر مسلمة بألسنتهم! تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك اللّهم لومة لائم ولا عذل عاذل، هديته اللّهم للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قبضته إليك، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخُيلاء! فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهْمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا! ورأيتم قتالنا حلالاً! وأموالنا نهباً! كأنّنا أولاد تُرك وكابُل! كما قتلتم جدّنا بالأمس(١) ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد مُتقدّم! قرّت لذلك

____________________

(١) هذه العبارة: (كما قتلتم جدّنا بالأمس) تُشخِّص أنّ فاطمة هذه هي فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّ الجدّ القتيل هو أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، أمّا إطلاق الصغرى أو الكبرى على فاطمة بنت الحسينعليها‌السلام فلا يوجد في كُتب المؤرّخين الأوائل، لكنّه موجود في كُتب مؤرّخين آخرين، مُتأخّرين عن أولئك، أمثال الخوارزمي، وابن نما، وابن طاووس، والعلاّمة المجلسي، وقد ذكر الشيخ المفيد (ره) فاطمة ضمن ذكره لبنات الحسينعليه‌السلام ، لكنّه لم يُقيّدها بصغيرة أو كبيرة، كما أنّهاعليها‌السلام مذكورة في أكثر كُتب التراجم بدون هذا القيد، فمثلاً في كتاب تهذيب الكمال: ٣٥: ٢٥٤ =

١٠٢

عيونكم، وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتم، والله خير الماكرين، فلا تدعونَّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة ( فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) تبّاً لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنّ قد حلّ بكم وتواترت من السماء نقمات، فيُسحتكم بعذاب ويُذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تُخلَّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين .

____________________

= رقم ٧٩٠١: (فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب القرشيّة الهاشميّة المدنيّة، أخت عليّ بن الحسين زين العابدين، وأمّها أمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، تزوّجها ابن عمّها حسن بن حسن فولدت له عبد الله وإبراهيم وحسناً وزينب ...).

وعدّها ابن حبّان في الثقات! وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. (راجع: كتاب الثقات: ٥: ٣٠١).

وأمّا المشهور من أنّ للإمام الحسينعليه‌السلام بنتاً اسمها فاطمة الصغرىعليه‌السلام ، وقد تركها في المدينة؛ لأنّها كانت يومذاك مريضة، فلم يصطحبها معه إلى كربلاء؛ لشدّة وجعها وعدم تمكُّنها من السير والحركة، فلا تؤكِّده نصوص مصادر مُعتبرة.

نعم، روى الخوارزمي في مقتله قصّة مجيء الغراب بعد مقتل الحسينعليه‌السلام ووقوعه في دمهعليه‌السلام ، وأنّه بعد ذلك طار إلى المدينة حتّى وقف على جدار فاطمة بنت الحسين وهي الصغرى، فرفعت رأسها إليه فنظرته فبكت (راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٩٢).

وذكر المرحوم الشهيد السيد قاضي طباطبائي (ره): أنّ صاحب كتاب مطالب السؤول ذكر أنّ هناك بنتاً أُخرى للحسينعليه‌السلام لم يذكر اسمها، وإذا صحّ ذلك فلعلّها هي التي اسمها فاطمة وبقيت في المدينة! (راجع: كتاب التحقيق حول زيارة الأربعين / فارسي: ٢٩٠).

١٠٣

ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم؟! وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟! أمْ بأيّ رِجْل مشيتم إلينا تبغون مُحاربتنا؟!

قسَت - والله - قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم، وسوَّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون!

فتبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ تراتٍ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قِبَلكم، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم؟! وافتخر بذلك مُفتخركم، فقال:

نحن قتلنا عليّاً وبني علي

بسيوف هنديّة ورماح

وسبينا نساءهم سبي تُرك

ونطحناهم فأيّ نطاح

بفيك - أيُّها القائل - الكُثْكُث والأثلب! افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً! فاكظم وأقعِ كما أقعى أبوك فإنّما لكلّ امرئٍ ما اكتسب وما قدّمت يداه، أحسدتمونا - ويلاً لكم - على ما فضّلنا الله؟!

فما ذنبا إن جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساجٍ لا يواري الدّعامصا

ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ومَن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

قال: وارتفعت الأصوات بالبكاء! وقالوا: حسبك - يا ابنة الطيِّبين! - فقد أحرقت قلوبنا، وانضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا. فسكتت)(١) .

____________________

(١) اللهوف: ١٩٤، وانظر: الاحتجاج: ٢: ١٠٤، ومُثير الأحزان: ٨٧، وتسيلة المجالس: ٢: ٣٥٥ - ٣٥٩، والبحار: ٤٥: ١١٠.

١٠٤

خطبة أمّ كلثوم بنت عليّعليه‌السلام :

(قال: وخطبت أمّ كلثوم بنت عليّعليه‌السلام في ذلك اليوم من وراء كلِّتها، رافعة صوتها بالبكاء فقالت:

يا أهل الكوفة، سوأة لكم! خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه! وسبيتم نساءه ونكبتموه! فتبّاً لكم وسُحقاً!!

ويلكم! أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم؟! وأيّ وزرٍ على ظهوركم حملتم؟! وأيّ دماءٍ سفكتم؟! وأيّ كريمة أصبتموها؟! وأيّ صبية سلبتموها؟! وأيّ أموالٍ انتهبتموها؟! قتلتم خير رجالات بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثمّ قالت:

قـتلتم أخـي صبراً فويلٌ لأمّكم

سـتُجزون نـاراً حـرُّها يتوقَّد

سـفكتم دمـاءً حـرَّم الله سفكها

وحـرّمها الـقرآن ثـمّ مـحمّد

ألا فـابشروا بـالنّار إنّـكم غداً

لـفي سـقرٍ حـقّاً يقيناً تُخلَّدوا

وإنّي لأبكي في حياتي على أخي

عـلى خير من بعد النبيّ سيولَد

بـدمعٍ غـزير مُستهلّ مُكفكف

على الخدّ منّي دائماً ليس يجمد

قال: فضجّ الناس بالبكاء والحنين والنوح، ونشر النساء شعورهنّ، ووضعن التراب على رؤوسهنّ، وخمشن وجوههنّ وضربن خدودهنّ، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم! فلم يُرَ باكية وباكٍ أكثر من ذلك اليوم)(١) .

____________________

(١) اللهوف: ١٩٨، وانظر: تسلية المجالس: ٢: ٣٥٩، والبحار: ٤٥: ١١٢.

١٠٥

خُطبة الإمام السجّادعليه‌السلام :

(ثمّ إنّ زين العابدينعليه‌السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقام قائماً، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ صلّى عليه، ثمّ قال:

(أيّها الناس! مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، أنا ابن مَن انتُهكت حُرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عيالُه! أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذَحلٍ ولا تِرات! أنا ابن مَن قتل صبراً، فكفى بذلك فخراً!

أيّها الناس! فأنشدكم الله، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه؟! وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه!؟

فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمّتي؟!).

قال الراوي: فارتفعت الأصوات من كلّ ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون!!

فقالعليه‌السلام :(رحم الله امرئً قبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسوةً حسنة) .

فقالوا بأجمعهم: نحن كلّنا - يا بن رسول الله - سامعون مُطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك! فمُرْنا بأمرك يرحمك الله! فإنّا حرب لحربك! وسلم لسلمك! لنأخذنّ يزيد لعنه الله ونبرأ ممّن ظلمك!

فقالعليه‌السلام :(هيهات هيهات! أيّها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم! أتُريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل؟!

١٠٦

كلاّ وربِّ الراقصات! فإنّ الجُرح لما يندمل، قُتِل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه، ولم يُنسني ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي، ووجْده بين لَهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه يجري في فراش صدري، ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا!) .

ثمّ قال:

لا غرو إن قُتِل الحسين فشيخه

قد كان خيراً من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي

أُصيب حسين كان ذلك أعظما

قـتيل بشطّ النهر روحي فداؤه

جـزاء الـذي أرداه نار جهنّما

ثمّ قال:(رضينا منكم رأساً برأس! فلا يوم لنا ولا يوم علينا!) (١) .

إشارة (١):

يلاحِظ المتأمّل في خُطب كلٍّ من الإمام السجّاد، والعقيلة زينب، وأمّ كلثوم، وفاطمة الصغرىعليهم‌السلام ، أنّ الخطّ المشترك الرئيس في كلّ هذه الخُطب، هو أنّهم صلوات الله عليهم ألقوا باللائمة على أهل الكوفة، وخاطبوهم بصفتهم الجناة الذي ارتكبوا جريمة قتل سيد الشهداءعليه‌السلام وأنصاره رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، بما ظهر منهم من ختل وغدر ونقضٍ للبيعة، وبما كان منهم من انقياد تامٍّ لأوامر يزيد، وعبَيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمر، وبقيّة طغاتهم!

فالأمّة هنا هي قعود النار التي اقتدح شرارتها الجبابرة الظالمون، وهي أداة القتل، بل هي التي باشرت ارتكاب الجريمة العُظمى بيدها! فهي التي تستحقّ اللعن الدائم إلى قيام الساعة، وفي هذا وردت نصوص كثيرة عن أهل بيت

____________________

(١) اللهوف: ١٩٩، وانظر: الاحتجاج: ٢: ١١٧ بتفاوت يسير، ومُثير الأحزان: ٨٩ - ٩٠ والبحار: ١١٢ - ١١٣.

١٠٧

العصمةعليهم‌السلام منها هذه الفقرة من زيارة عاشوراء:

(... فلعن الله أُمّة أسّست أساس الظلم والجَور عليكم أهل البيت، ولعن الله أمّة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم الله فيها، ولعن الله أمّة قتلتكم ...) (١) .

إنّ دور الأمّة - في مجموعة العلل والأسباب الاجتماعية - هو الدور الفاعل الرئيس، فبالأمّة يستطيع قادة الخير أن يُحقِّقوا كلّ مشاريع الخير والصلاح، وبدونها يعجز هؤلاء القادة عن تحقيق هدف من أهداف الإصلاح والخير، وكذلك فإنّ أئمّة الضلال إنّما يستطيعون بلوغ أهدافهم الشرّيرة المشؤومة، ما أطاعتهم الأمّة فيما يريدون، ويعجزون عن تحقيق أيِّ مطمع من مطامعهم إذا خالفتهم الأمّة في الرأي والعمل.

نعم، في البدء يكون سامريٌّ وعِجل! لكنّهما لا أثر لهما ما لم تُطعْهما الأمّة وتقتفِ أثرهما!

فالأمّة وإن كانت تابعة لكنّها ذات الدور الفاعل الأساس!

من هنا؛ صبّ خطباء بقيّة الركب الحسينيّ جام غضبهم على أهل الكوفة، وحمّلوهم أوزار جريمة فاجعة عاشوراء إذ لولا أمّة (أهل الكوفة) لكان ابن زياد وجلاوزته أعجز من أن يقوموا بما قاموا به!

الإشارة (٢):

هل كانت لفاطمةعليها‌السلام بنتٌ واحدة أم أكثر؟

يُستفاد من بعض النصوص، أنّ مولاتنا فاطمة الزهراءعليها‌السلام كان لها من ذريّتها

____________________

(١) راجع: نصّ زيارة عاشوراء.

١٠٨

بنتٌ واحدة هي زينبعليها‌السلام ، وكانت كُنيتها أمّ كلثوم، كما في هذا النصّ الذي ينقله الشيخ القمّي في كتابه (بيت الأحزان) عن كتاب مصباح الأنوار:(عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال: (إنّ فاطمة عليها‌السلام لما احتضرت أوصت عليّاً عليه‌السلام فقالت: إذا أنا متّ فتولّ أنت غُسلي، وجهّزني، وصلِّ عليّ، وأنزلني في قبري، وألحدني، وسوِّ التراب عليّ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي، فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء؛ فإنّها ساعة يحتاج الميّت إلى أُنس الأحياء، وأنا أستودعك الله تعالى وأوصيك في ولْدي خيراً، ثمّ ضمّت إليها أمّ كلثوم فقالت له: إذا بلَغَتْ فلها ما في المنزل ثمّ الله لها، فلما توفّيت فعل ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ) (١) .

وكما في النص الذي يرويه الشيخ الصدوق (ره) بسنده، عن حمّاد بن عثمان (قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : جُعلت فداك! ما معنى قول رسول الله:(إنّ فاطمة أحصنت فرْجها، فحرّم الله ذرّيّتها على النار؟) . فقال:(المعتقون من النار هم ولْد بطنها الحسن والحسين وأمّ كلثوم) (٢) .

وكما في الخبر الذي ينقله الشيخ المفيد (ره) من رواية عثمان بن المغيرة، حيث يقول: (لما دخل شهر رمضان كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يتعشّى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر، وكان لا يزيد على ثلاث لُقَم ...)(٣) .

فإنّ ليلة عبد الله بن جعفررضي‌الله‌عنه تعني ليلة زينبعليها‌السلام ؛ لأنّها زوجته، وليس هنا ليلة أُخرى يتعشّى فيها عليّعليه‌السلام عند ابنة له أُخرى اسمها أمّ كلثوم!

لكنّ هناك روايات أُخرى، يُستفاد منها أنّ عليّاً وفاطمةعليها‌السلام كان لهما من

____________________

(١) بيت الأحزان: ١٤٩ / مطبعة سيد الشهداءعليه‌السلام - قم.

(٢) معاني الأخبار: ١٠٧.

(٣) الإرشاد: ١: ١٤.

١٠٩

ذرّيتهما ابنتان، هما زينب وأمّ كلثوم (عليهنّ السلام)، بل إنّ هذه الروايات هي الأكثر، وفي ضوئها ذهب جمع من علمائنا إلى هذا، منهم الشيخ المفيد (ره) حيث يقول في الإرشاد: (فأولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأُنثى: الحسن، والحسين، وزينب الكبرى، وزينب الصغرى المكنَّاة أُمّ كلثوم، أُمُّهم فاطمة البتول ...)(١) .

ويقول المقدسي المتوفَّى سنة ٦٢٠ هـ في كتابه (التبيين في أنساب القرشيين): (وولدت - أيّ فاطمةعليها‌السلام - لعليّ رضي الله عنه: الحسن، والحسين، وأمّ كلثوم، وزينب)(٢) . وقال أيضاً: (ولم يتزوّج عليّ امرأة سوى فاطمة حتّى ماتت، وولِد له منها الحسن، والحسين، وأمّ كلثوم، وزينب الكبرى رضي الله عنهم)(٣) .

وقال المرحوم المامقاني: (أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام ، هذه كُنية لزينب الصغرى، وقد كانت مع أخيها الحسينعليه‌السلام بكربلاء، وكانت مع السجاد إلى الشام ثمّ إلى المدينة، وهي جليلة القدر فهيمة بليغة ...)(٤) .

وقال المرحوم النمازي: (كانت لمولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه بنات منهنّ ثلاث زينبات: زينب الكبرى، وزينب أُخرى المكنّاة بأمّ كلثوم، من وِلْد فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، وزينب أُخرى من أمّ ولَد.

أمّا زينب الكبرى صلوات الله عليها: من رواة الحديث، أدركت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وولِدت في حياته، وهي عقيلة بني هاشم، ذات الخصال الحميدة والصفات

____________________

(١) الإرشاد: ١: ٣٥٤.

(٢) التبيين في أنساب القرشيِّين: ٩١.

(٣) نفس المصدر: ١٢٥.

(٤) تنقيح المقال: ٣: ٧٣.

١١٠

المجيدة، وفي الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى فريدة وحيدة، وفي الفصاحة والبلاغة كأنّها تنطق من لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام وفي كتاب الزينبات روايات محصولها، أنّ زينب الكبرىعليها‌السلام لما جاءت إلى المدينة كانت تُحرّض الناس على الأخذ بثأر الحسينعليه‌السلام ، فأبلغ خبرها والي المدينة إلى يزيد، فأمر يزيد بإخراجها من المدينة مع مَن تشاء من نساء بني هاشم إلى مصر، فجهّزهنّ إلى مصر، فلما وردوا مصر أقامت فيها أحد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً، وتوفِّيت بمصر في ١٥ رجب سنة ٦٢هـ ..)(١) .

ويُنسب إلى السيّد محسن الأمين العاملي أنّه قال: (وجد على قبر في الشام حجر مكتوب عليه: هذا قبر السيّدة زينب المكنّاة بأمّ كلثوم بنت سيّدنا عليّ رضي الله عنه)(٢) .

حكاية اختطاف الإمام السجّاد!!

روى ابن سعد في طبقاته يقول: (قال عليّ بن الحسين:(فغيّبني رجلٌ منهم (٣) ، وأكرم نُزلي واختصّني، وجعل يبكي كلّما خرج ودخل! حتّى كنت أقول: (إن يكن عند أحدٍ من الناس خيرٌ ووفاء فعند هذا!

إلى أن نادى منادي ابن زياد: ألا مَن وجد عليّ بن حسين فيأت به فقد جعلنا فيه ثلاثمئة درهم!

____________________

(١) مُستدركات علم رجال الحديث: ٨: ٥٧٧ رقم ١٨٠٨١.

(٢) مدينة الحسين / فارسي / لمحمّد باقر مدرّس: ١٣٢.

(٣) أي من أهل الكوفة.

١١١

قال: فدخل - والله - عليَّ وهو يبكي، وجعل يربط يدي إلى عُنقي وهو يقول: أخاف!!

فأخرجني - والله - إليهم مربوطاً حتّى دفعني إليهم وأخذ ثلاثمئة درهم وأنا أنظر إليها!!

فأُخذت وأُدخلت على ابن زياد فقال: ما اسمك؟

فقلت: عليّ بن حسين.

قال: أوَ لم يقتل الله عليّاً؟!

قال: قلت: كان لي أخ يُقال له: عليّ، أكبر منّي، قتله النّاس!

قال: بل الله قتله.

قلت: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) .

فأمر بقتله، فصاحت زينب بنت عليّ: يا بن زياد حسبك من دمائنا! أسألك بالله إن قتلته إلاّ قتلتني معه! فتركه ...) (١) .

إشارة:

إنَّنا نتحفَّظ على هذه الرواية - في صدد اختطاف الإمامعليه‌السلام أو تغييبه - من الناحية التحقيقية للأسباب التالية:

١ - أنّ هذه الرواية - فضلاً عن إرسالها - كان ابن سعد قد تفرّد بها على ما يبدو؛ إذ لم يذكرها مؤرّخ آخر من مؤرّخي أهل السنّة، فضلاً عن مؤرّخي الشيعة الأوائل.

وما في كتاب المنتظم أو في كتاب مرآة الزمان لابن الجوزي هو نقل عن كتاب الطبقات، وكذلك ما في كتاب تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي هو أيضاً نقل عن كتاب الطبقات.

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ٥: ٢١٢ وعنه: تذكرة الخواص: ٢٣٢، وقد ذكر الشيخ القرشي أنّ ابن الجوزي أورده في المنتظم وفي مرآة الزمان (راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام ٣: ٢٥٦).

١١٢

٢ - كان الإمام السجّادعليه‌السلام زعيم قافلة السبي والراعي لها، ولا شكّ أنّه كان موضع حراسة مُشدّدة خاصة من قِبَل حرس ابن زياد، فهو لا يخفى عن أعينهم طرفة عين؛ لأهمِّيته، فلا يُعقل أن يأتي رجل فيأخذه ويُغيّبه عن الركب وعن الحرس وعن الناس بهذه السهولة!!

٣ - ثمّ إنّ الإمام السجّادعليه‌السلام لم يكن ليخفى طرفة عين عن نظر الهاشميّات في الركب الحسينيّ؛ لأنّه بقيّة السلف وبقيّة الإمامة؛ ولأنّه حماهنّ الذي يلُذن به، خصوصاً مولاتنا زينبعليها‌السلام التي كان أهمّ ما يُهمّها هو المحافظة على الإمامعليه‌السلام ، وقد عرّضت نفسها مراراً للقتل دونه محافظة عليه، فلو صحّ ما في هذه الرواية؛ لكانت زينبعليها‌السلام قد أقامت الدنيا وأقعدتها، ولَبان ذلك في كُتب التأريخ كحدث مهمٍّ جدَّاً من أحداث وقائع الأسر والسبيّ.

٤ - تُظهِر هذه الرواية الإمامعليه‌السلام وكأنّه لا يُهمّه إلاّ أمر نفسه! ولا يُهمّه ما تُعانيه عمّاته وأخواته وبقيّة سبايا الركب الحسينيّ؛ إذ قد أحسّ بالراحة والاطمئنان عند هذا الرجل!! - كما تُصوّره الرواية! - وهذا ممّا لا يتلاءم مع الغيرة الهاشميّة الحسينية، التي خير ما تتجسّد إن تجسّدت ففي عليّ بن الحسينعليهما‌السلام نفسه.

٥ - وتُظهِر هذه الرواية الإمامعليه‌السلام أيضاً، وكأنّه ليس لا يعلم ما يُريده هذا الخاطف فقط - وهو الذي لا يخفى عليه علم ما يشاء علمه! - بل وكأنّه من البساطة والسذاجة - حاشاه! - بحيث قد اطمأنّ بسرعة إلى هذا الرجل المجهول، وهو من أهل الكوفة الذي يصفهم الإمام السجّادعليه‌السلام نفسه بأنّهم أهل غدر وختل وخيانة.

٦ - ظاهر الرواية مشعرٌ بأنّ الإمامعليه‌السلام بقي في منزل هذا الرجل نهاراً أو أكثر من نهار! وفي نقل ابن الجوزي:(فبينما أنا ذات يوم عنده) ، وهذا التعبير مُشعر بأنّهعليه‌السلام بقي عند هذا الرجل أيّاماً!!

١١٣

مع أنّ تسلسل حركة أحداث ووقائع وجود الركب الحسينيّ في الكوفة يُنافي هذا تماماً؛ لأن لقاءهم مع ابن زياد في قصره كان قد تمّ في نفس اليوم الذي دخلوا فيه الكوفة - وهو اليوم الثاني عشر من المحرّم -؛ ولأنّ إدخالهم السجن كان قد بدأ في أواخر نهار ذلك اليوم، فكيف يمكن لذلك الرجل - على ما تدّعيه رواية ابن سعد - أن يُغيّب الإمامعليه‌السلام عنده؟!

الطواف برأس الإمامعليه‌السلام في سكك الكوفة!!

قال السيّد ابن طاووس (ره): (ثمّ أمر ابن زياد برأس الحسينعليه‌السلام فطيف به في سكك الكوفة، ويحقّ لي أن أتمثّل هاهنا بأبيات لبعض ذوي العقول، يرثي بها قتيلاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:

رأس ابـن بـنت مـحمّدٍ ووصيّه

لـلـناظرين عـلى قـناةٍ يُـرفع

والـمـسلمون بـمنظرٍ وبـمسمع

لا مـنـكرٌ مـنـهم ولا مُـتـفجِّع

كـحلت بـمنظرك الـعيون عمايةً

وأصمَّ رزؤك كـلّ أُذن تـسمع

أيـقظتَ أجـفاناً وكـنت لها كرى

وأنـمْتَ عـيناً لـم تكن بك تهجع

ما روضةٌ إلاّ تـمنَّت أنّـها

لك حُفرة ولخطّ قبرك مضجع) (١)

____________________

(١) اللهوف: ٢٠٣ / ويقول جرجي زيدان: (أمّا ابن زياد، فأمر برأس الحسين فداروا به في طُرقات الكوفة على رمح، ولم يبقَ أحدٌ إلاّ رآه!) (تاريخ روايات الإسلام: ١: ١٧٩)، ويقول عبّاس محمود العقّاد: (فالمتواتر الموافق لسَير الأمور، أنّهم حملوا الرؤوس والنساء إلى الكوفة، فأمر ابن زياد أن يُطاف بها في أحياء الكوفة ثمّ تُرسل إلى يزيد) (كتاب أبو الشهداء: ١٦٣)، وقال الإسفرائيني: (ثمّ لما أن طافوا بالرأس جميع الكوفة سلّموه إلى عمر المخزومي، وأمروه أن يحشوه مسكاً وكافوراً، ففعل ذلك فما أن أتمّ فعله حتّى بُليت يده ووقعت بها الأكلة وتهرَّأت!) (نور العين في مشهد الحسينعليه‌السلام : ٥١)، وتقول الدكتورة عائشة عبد الرحمان - بنت الشاطئ -: =

١١٤

وقال الشيخ المفيد (ره): (ولما أصبح عبيد الله بن زياد، بعث برأس الحسينعليه‌السلام فدير به سكك الكوفة كلّها وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنّه قال: مُرّ به عليَّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ:( أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) .(١) فقفّ(٢) - والله - شَعري وناديت: رأسك - والله - يا بن رسول الله أعجب!!

ولما فرغ القوم من التطوّف به بالكوفة ردّه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زجر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية)(٣) .

وقال ابن شهر آشوب: وروى أبو مخنف، عن الشعبي: أنّه صُلب رأس الحسينعليه‌السلام بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله:( إِنّهمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) ، فلم يزدهم ذلك إلاّ ضلالاً!)(٤) .

____________________

= (وطيف برأس الحسين في أحياء الكوفة على مرأى من السبايا الثواكل! أين الأشياع والأنصار؟! أين الألوف الأربعون الذين ألحّوا في دعوته ليتواصلوا معه في سبيل الحقّ؟! فجاءهم مُلبيّاً وترك مأمنه إلى جوار البيت العتيق! ألا فليملئوا عيونهم من رأس سيّد الشهداء! وليروا نساءه وبناته سبايا! وليملئوا أسماعهم بصوت ابنته سكينة، إذ تقف في الركب التعِس حاسرة الوجه مهيضة الجناح!) (موسوعة آل النبيّ عليهم الصلاة والسلام: ٨١٩).

(١) سورة الكهف: الآية ٩.

(٢) أي: قام من الفزع. (راجع: الصحاح للجوهري: ٤: ١٤١٨).

(٣) الإرشاد: ٢: ١١٧، وانظر: كشف الغمّة: ٢: ٢٧٩، وتاريخ الطبري: ٣: ٣٣٨، والبداية والنهاية: ٨: ١٩٢، وإعلام الورى: ٢٤٨.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٤: ٦١ وعنه البحار: ٤٥: ٣٠٤، والعوالم: ١٧: ٣٨٦، ومدينة المعاجز: ٤: ١١٥.

١١٥

كلام المرحوم السيّد المقرّم حول تكلُّم الرأس:

(لم يزل السبط الشهيد حليف القرآن منذ أُنشئ كيانه؛ لأنّهما ثِقلا رسول الله وخليفتاه على أُمّته، وقد نصّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض، فبذلك كان الحسينعليه‌السلام غير مُبارح تلاوته طيلة حياته، في تهذيبه وإرشاده، وتبليغه في حلّه ومرتحله، حتى في موقفه يوم الطف بين ظهراني أولئك المتجمهرين عليه؛ ليتمّ عليهم الحجّة ويوضّح لهم المحجّة.

هكذا كان ابن رسول الله يسير إلى غايته المقدّسة سيراً حثيثاً، حتّى طفق يتلو القرآن رأسه المطهّر فوق عامل السنان، عسى أن يحصل في القوم مَن يُكَهْربه نور الحقّ، غير أنّ داعية الهدى لم يُصادف إلاّ قصوراً في الإدراك وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان( خَتَمَ اللّهُ عَلَى‏ قُلُوبِهِمْ وَعَلَى‏ سَمْعِهِمْ وَعَلَى‏ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) .

ولا يستغرب هذا مَن يفقه الأسرار الإلهيّة؛ فإنّ المولى سبحانه بعد أن أوجب على سيّد الشهداء النهضة لسدّ أبواب الضلال، بذلك الشكل المحدَّد الظرف والمكان والكيفيّة لمصالح أدركها الجليل جلّ شأنه، فأوصى إلى نبيّه الأقدس أن يقرأ هذه الصفحة الخاصة على ولده الحسينعليه‌السلام ، فلا سبيل إلاّ التسليم والخضوع للأصلح المرضيّ لربّ العالمين( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) .

وحيث أراد المهيمن تعالى بهذه النهضة المقدّسة، تعريف الأمّة الحاضرة، والأجيال المتعاقبة ضلال الملتوين عن الصراط السويّ، العابثين بقداسة الشريعة، أحبَّ الإتيان بكلّ ما فيه توطيد أُسس هذه الشهادة، التي كتبت بدمها الطاهر صحائف نيّرة من أعمال الثائرين في وجه المنكر، فكانت هذه محفوفة بغرائب لا تصل إليها الأفهام، ومنها استشهاد الرأس المعظَّم بالآيات الكريمة، والكلام من رأس مقطوع أبلغ في إتمام الحجّة على مَن أعْمته الشهوات عن إبصار الحقائق،

١١٦

وفيه تركيز العقائد على أحقّيّة دعوته، التي لم يقصد بها إلاّ الطاعة لربّ العالمين، ووخامة عاقبة مَن مدّ عليه يد السوء والعدوان، كما نبّه الأُمّة على ضلال مَن جرّأهم على الطغيان.

ولا بدع في القدرة الإلهيّة، إذا مكّنت رأس الحسينعليه‌السلام من الكلام للمصالح التي نقصر عن الوصول إلى كُنهها، بعد أن أودعت في الشجرة قوّة الكلام مع نبيّ الله موسى بن عمرانعليه‌السلام عند المناجاة، وهل تُقاس الشجرة برأس المنحور في طاعة الرحمان سبحانه؟! كلاّ!)(١) .

ما هو السرّ في تلاوته هذه الآية من سورة الكهف؟

لعلّ السرّ في تلاوة الرأس المقدّس هذه الآية الشريفة من سورة الكهف( أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٢) ، هو أنّ هناك مُشتركات بين أصحاب الكهفعليهم‌السلام وبين الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه الذين استُشهدوا بين يديهعليهم‌السلام ، ومع وجود هذه المشتركات جعل الله تبارك وتعالى آية الحسينعليه‌السلام أعجب وأعجب؟!

وهذا ما تؤكِّده نفس الآية الشريفة؛ حيث تبدأ باستفهام استنكاري مفاده: أنّ في آيات الله ما هو أعجب من آية أصحاب الكهفعليهم‌السلام ، وهذا المعنى هو ما أراد أن يُلفت الانتباه إليه الرأس المقدّس، بتكرار تلاوة هذه الآية الشريفة في مواضع كثيرة(٣) .

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام / للمقرّم: ٣٣١.

(٢) سورة الكهف، الآية ٩٠.

(٣) راجع الإرشاد ٢: ١١٧، الخرائج والجرائح ٢: ٥٧٧ ح ١، البحار ٤٥: ١٨٨.

١١٧

فإذا كان الناس قد أيقنوا بحقّانيّة دعوة واعتقاد أصحاب أهل الكهف بعد ثلاثمئة وتسع سنين، فإنّ نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام قد حفّت بها آيات الله الكاشفة عن حقّانيّتها منذ بدئها وحتى يومنا هذا، وما جرى من آيات إلهيّة على يد الإمام الحسينعليه‌السلام في أعدائه في أيّام حياته وبعد استشهاده - وهي كثيرة جدّاً - دليل على ذلك أيضاً، بل إنّ نفس نطق الرأس المقدّس بعد قطعه وحتى دفنه هو آية من أكبر الآيات المفصحة عن هذه الحقّانية، وعن كونهعليه‌السلام فيما جرى عليه أعجب وأعجب من آية أصحاب الكهف!

وقد يحسُن هنا أيضاً الإشارة، إلى أهمّ المشتركات بين الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه صلوات الله عليهم أجمعين، وبين أصحاب الكهفعليهم‌السلام ، وهي:

١ - الفتوّة: (... إنّهم فتية ...): والفتى لا ينحصر معناه بمعنى الشابِّ والحدَث، بل معناه الجزل من الرجال، الناهض بأعباء المسؤولية، المتحمّل لأعباء المعتقد، كما قال الشاعر:

إنّ الفتى حمَّال كلِّ مُلمة

ليس الفتى بمنعَّم الشبَّان

٢ - القيام لله: إنّ قيام أهل الكهف قرّره القرآن الكريم بقوله تعالى:( إِذْ قَامُوا فَقَالُوا ) ، وقيام شهداء الطف لا يحتاج إلى دليل.

٣ - الرجعة: ورد في الروايات(١) ، أنّ لأهل الكهف رجعة، وأنّهم من أنصار الإمام المهديّعليه‌السلام قائد الفصل الأخير من فصول نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام . كما ورد في الروايات، أنّ شهداء الطفّ يرجعون أيضاً.

____________________

(١) راجع: الدّر المنثور: ٤: ٢١٥، مُعجم أحاديث الإمام المهدي: ١: ٤٦٦.

١١٨

في مجلس الطاغية ابن زياد:

الرأس المقدّس يتلو القرآن عند باب دار الإمارة!

ينقل صاحب كتاب رياض الأحزان: أنّه حُكي عن شاهد عيان: أنّ الرؤوس لما كانت تؤخَذ من الرماح وتُنزّل على باب دار الإمارة، كانت شفتا رأس الإمام الحسينعليه‌السلام تتحرّكان، وهو يقرأ قوله تعالى:( وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ ) (١) .

وسالت دماً حيطان دار الإمارة!

روى ابن عساكر بسنده، عن أبي غالب قال: (حدّثني بوّاب عبيد الله بن زياد: أنّه لما جيء برأس الحسين فوضع بين يديه، رأيت حيطان دار الإمارة تسايل دماً!!)(٢) .

ابن زياد يضرب ثنايا الرأس المقدَّس بالقضيب!!

قال الشيخ المفيد (ره): (جلس ابن زياد للناس في قصر الإمارة، وأذِن للناس إذْناً عامّاً، وأمر بإحضار الرأس فوضِع بين يديه(٣) ، فجعل ينظر إليه ويتبسّم! وفي

____________________

(١) رياض الأحزان: ٥٥ / والآية هي الآية ٤٢ من سورة إبراهيم.

(٢) تاريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي: ٣٦١ رقم ٢٩٩، وفي الصواعق المحرقة: ١٩٤: (لما جيء برأس الحسين إلى دار ابن زياد سالت حيطانها دماً!)، وذكره في ذخائر العُقبى: ١٠ عن مروان (أبي لبابة الورّاق مولى عائشة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل: مولى هند بنت المهلب)، عن بوّاب عبيد الله بن زياد.

(٣) ينقل أنّه (حمل اللئيم الرأس الطاهر على يديه، وجعل ينظر إليه فارتعدت يداه، فوضع الرأس على فخذه، فقطرت قطرة من الدم من نحره الشريف على ثوبه، فخرقه حتى إذا وصل إلى فخذه =

١١٩

يده قضيب يضرب به ثناياه! وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وهو شيخ كبير - فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له: ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين! فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليهما ما لا أُحصيه كثرة تُقبّلهما.

ثمّ انتحب باكياً، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! أتبكي لفتح الله؟! والله، لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك!

فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله)(١) .

وفي نصّ ما ينقله سبط ابن الجوزي، عن ابن أبي الدنيا: (فنهض زيدٌ وهو يقول: أيّها الناس، أنتم العبيد بعد اليوم! قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة؟! والله،

____________________

= فخرّجه وصار جرحاً منكراً، فكلّما عالجه لم يتعالج! حتّى ازداد نتناً وعفونة! ولم يزل يحمل معه المسك لإخفاء تلك العفونة حتّى هلك!) (راجع: معالي السبطين: ٢: ٦٥).

(١) الإرشاد: ٢: ١١٤، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٦ وفيه: قال أبو مخنف: حدّثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: دعاني عمر بن سعد، فسرّحني إلى أهله لأُبشّرهم بفتح الله عليه وبعافيته!!، فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم ذلك، ثمّ أقبلت حتّى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وأجد الوفد قد قاموا عليه، فأدخلهم وأذِن للناس، فدخلت فيمَن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت بقضيب بين ثنيّتيه ساعة!

فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له: أعلُ بهذا القضيب عن هاتين الثنيّتين فلما خرج سمعت الناس يقولون: والله، لقد قال زيدٌ بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتَله! قال: فقلت: ما قال؟ قالوا: مرّ بنا وهو يقول: ملَكَ عبدٌ عبداً فاتّخذهم تلداً! أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم! قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة؟! فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم! فرضيتم بالذلّ؟! فبُعداً لمن رضي بالذل). (وانظر: البداية والنهاية: ٨: ١٩٢، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة: ١: ١١٩، وعبرات المصطفين: ٢: ٢٠٠، والخُطط المقريزيّة: ٢: ٢٨٩).

١٢٠