مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٥

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 228

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جعفر الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 228
المشاهدات: 125333
تحميل: 8117

توضيحات:

الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125333 / تحميل: 8117
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 5

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الطواهر المرمّلة بالدماء، ودفنوها على ما هي الآن عليه)(١) .

ومن هؤلاء أيضاً ابن شهر آشوب (ره)؛ حيث قال: (ودفن جثثهم بالطفّ أهل الغاضريّة من بني أسد بعدما قُتِلوا بيوم، وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً! ويرون طيوراً بيضاً! ...)(٢) .

إنّ المستفاد من جميع هذه النصوص: أنّ دفْن الإمام الحسينعليه‌السلام والمستشهَدين بين يديهعليهم‌السلام ، كان قد تمّ في نفس اليوم الذي ارتحل فيه ابن سعد عن كربلاء، وهو اليوم الحادي عشر، وكان ذلك عصراً؛ لأنّ ابن سعد قد ارتحل عن كربلاء فيه بعد الزوال.

ولكن هل يمكن الأخذ بهذا الرأي؟!

خصوصاً فيما يتعلّق بأنّ بني أسد من أهل الغاضرية، هم الذين تولّوا تكفين الإمامعليه‌السلام وأصحابه(٣) ، وصلّوا عليهم، ودفنوهم!

____________________

(١) اللهوف: ١٢٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب (عليم السلام): ٤: ١١٢.

(٣) ذكر ذلك الخوارزمي في المقتل: ٢: ٤٤ / وهناك روايات مُستفيضة ومُشاهدات رواها لنا التأريخ، تؤكّد أنّ الإمامعليه‌السلام وأصحابه صلوات الله عليهم أجمعين، دُفنوا على هيئتهم التي استُشهدوا عليها بلا تكفين ولا غُسل، ومن هذه المشاهدات على سبيل المثال، ما رواه الشيخ الطوسي (ره) في الأمالي: ٣٢٦ رقم ٦٥٣ / ١٠٠، بسنده إلى إبراهيم الديزج، الذي بعثه المتوكّل لنبش قبر الحسينعليه‌السلام ، قال: (... أتيت في خاصّة غلماني فقط، وإنّي نبشت فوجدت بارية جديدة وعليها بدن الحسين بن عليّ، ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالتها، وبدن الحسين على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه، فلم تطأه البقر! وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه! فحلفت لغلماني بالله وبالأَيمان المغلّظة لئن ذكر أحدٌ هذا لأقتلنّه).

١٤١

إنّ طريقة دفن الإمامعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه المستشهدين بين يديه صلوات الله عليهم أجمعين، على النحو والتوزيع المعروف من خلال قبورهم - والمتسالم عليه بلا خلاف - لا يمكن لبني أسد من أهل الغاضريّة - وهم من أهل القرى الذين لم يشهدوا المعركة - أن يُحقّقوا ذلك بدون مُرشد عارف تماماً بهؤلاء الشهداء وبأبدانهم ولباسهم، خصوصاً وأنَّ الرؤوس الشريفة كانت قد قُطّعت وبقيت الأجساد الشريفة بلا رؤوس، فلولا هذا المرشد المطّلع العالم؛ لَما أمكن لبني أسد من أهل الغاضرية التمييز بين شهيد وآخر، ولولاه لكان الدفن عشوائياً بلا معرفة، ولم يكن ليتحقّق هذا الفصل المقصود وهذا التوزيع المدروس بين هذه القبور على ما هي عليه الآن.

وفي ضوء الاعتقاد: بأنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ إمام مثله(١) ، فإنّ هذا المرشد الذي لابدّ أن يكون قد حضر عملية الدفن مع بني أسدٍ من أهل الغاضرية، هو الإمام السجّادعليه‌السلام ، ولابدّ أن يكون حضورهعليه‌السلام إلى ساحة كربلاء حضوراً إعجازياً خارقاً للعادة في الأسباب؛ لأنّهعليه‌السلام حينذاك كان لم يزل في قيد الأسر بيد الأعداء.

وهذا ما يؤكِّده المأثور عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام ، كما في رواية إثبات الوصية عن سهل بن زياد بن العباس، عن إسماعيل بن سهل، عن بعض أصحابه قال: (كنت عند الرضاعليه‌السلام ، فدخل عليه عليّ بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكاري، فقال عليٌّ - بعد كلام بينهم وبينهعليه‌السلام في إمامته -: إنّا روينا عن آبائكعليهم‌السلام :(أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ الإمام مثله) .

____________________

(١) راجع مثلاً: الكافي: ١: ٣٨٤ - ٣٨٥ باب أنّ الإمام لا يُغسِّله إلاّ إمام من الأئمةعليهم‌السلام ، وراجع: علل الشرائع: ١: ١٨٤ باب ١٤٨: العلّة التي من أجلها غسَّل فاطمة أمير المؤمنين لما توفِّيت، وراجع: عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢: ٢٤٥ - ٢٥٠ باب ٦٤ حديث رقم ١.

١٤٢

فقال له أبو الحسنعليه‌السلام :(فأخبرني عن الحسين بن عليّ كان إماماً أو غير إمام؟!) .

قال: كان إماماً.

قال:(فمَن ولِيَ أمره؟!) .

قال: علي بن الحسين!

قال:(وأين كان عليّ بن الحسين؟!) .

قال: كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد.

فقال:(كيف ولِيَ أمر أبيه وهو محبوس؟!) .

قال: له روينا أنّه خرج وهم لا يعلمون، حتّى ولِيَ أمر أبيه، ثمّ انصرف إلى موضعه.

فقال له أبو الحسن:(إنّ هذا الذي أمكن عليّ بن الحسين وهو مُعتقل، فهو يُمكّن صاحب هذا الأمر - وهو غير مُعتقل - أن يأتي بغداد ويلي أمر أبيه ويتصرَّف وليس هو المحبوس ولا مأسور!) (١) .

ويُستفاد من متن هذه الرواية في هذه الفقرة: (كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد، خرج وهم لا يعلمون حتّى ولي أمر أبيه ثمّ أنصرف)، أنّ الإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام خرج من محبسه بالكوفة - بالأمر المعجز - إلى كربلاء لدفن أبيهعليه‌السلام ، وكان خروجه هذا (وهم لا يعلمون).

إذن؛ فخروجهعليه‌السلام إلى كربلاء المعجز لم يكن في اليوم الحادي عشر حتماً؛ ذلك لأنّه لم يدخل المحبس إلاّ في اليوم الثاني عشر، إذ لم يكن عمر بن سعد قد دخل بعسكره وبالسبايا مدينة الكوفة، إلاّ في نهار اليوم الثاني عشر، كما قدّمنا قبل ذلك في سياق الأحداث.

____________________

(١) إثبات الوصيّة: ١٧٥.

١٤٣

وإذا علمنا أنّ جُلّ نهار اليوم الثاني عشر، كان انقضى على بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام في عرْضهم على الناس، وفي عرْضهم على ابن زياد - لعنه الله - في مجلسه في القصر، وفي مُحاوراتهم معه؛ فإنّه يتّضح لنا أنّ ابن زياد أمر بحبسهم عصر أو أواخر نهار اليوم الثاني عشر، ثمّ استدعاهم، ثمّ أعادهم إلى الحبس مرّة أُخرى.

وبهذا تكون ليلة اليوم الثالث عشر هي أوّل ليلة لهم في السجن، حيث بقوا فيه إلى اليوم الذي أرسلهم ابن زياد فيه إلى يزيد.

ومن هنا - مع الانتباه إلى ما تذكره الرواية من أنّهعليه‌السلام خرج من محبسه إلى كربلاء لدفن أبيهعليه‌السلام وهم لا يعلمون - نستنتج؛ أنّ خروجه كان من المحبس في وقت كان قد فرغ الطاغية من التحقيق معهم فلا يعود إلى استدعائهم، أي في وقت كان الإمام السجّادعليه‌السلام قد اطمأنّ إلى أنّه إذا غاب عن الأنظار، فإنّه لا يفتقد في الفترة التي ينشغل فيها بدفن أبيه وأنصاره صلوات الله عليهم أجمعين ...

وعليه؛ فالمرجّح أنّهعليه‌السلام - في ضوء هذا التحليل - كان قد خرج إلى كربلاء بالأمر المعجز، إمّا ليلة الثالث عشر أو في نفس اليوم الثالث عشر، مُبادراً إلى دفن الشهداءعليه‌السلام في أقرب وقت مُمكن.

لكنّ ظاهر بعض الآثار، يدلّ على أنّ عملية دفن الأجساد المقدّسة حصلت في اليوم الثالث عشر من المحرّم لا في ليلته، كما في كتاب أسرار الشهادة، حيث يقول: (وكان إلى جنب العلقميّ حيّ من بني أسد، فمشت نساء ذلك الحيّ إلى المعركة، فرأين جثث أولاد الرسول، وأفلاذ حشاشة الزهراء البتول، وأولاد عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام فحل الفحول، وجثث أولادهم في تلك الأصحار وهاتيك القفار، تشخب الدماء من جراحاتهم، كأنّهم قتلوا في تلك الساعة! فتداخل النساء من ذلك المقام العَجبُ! فابتدرن إلى حيّهنّ، وقلن لأزواجهنّ ما شاهدنه، ثمّ قلن لهم: بماذا

١٤٤

تعتذرون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام وفاطمة الزهراء، إذا أُوردتم عليهم؛ حيث إنّكم لم تنصروا أولاده، ولا دافعتم عنهم بضربة سيف ولا بطعنة رمح ولا بحذفة سهم؟!

فقالوا لهنّ: إنّا نخاف من بني أُميّة!

وقد لحقتهم الذلّة وشملتهم الندامة من حيث لا تنفعهم، وبقيت النسوة يجُلْن حولهم ويقُلْن لهم: إن فاتتكم نصرة تلك العصابة النبويّة، والذبّ عن هاتيك الشنشنة العليّة العلويّة، فقوموا الآن إلى أجسادهم الزكيّة فواروها، فإنّ اللعين ابن سعد قد وارى أجساد مَن أراد مواراته من قومه، فبادِروا إلى مواراة أجساد آل رسول الله، وارفعوا عنكم بذلك العار! فماذا تقولون إذ قالت العرب لكم: إنّكم لم تنصروا ابن بنت نبيّكم مع قُربه وحلوله بناديكم؟! فقوموا واغسلوا بعض الدَرَن عنكم!

قالوا: نفعل ذلك.

فأتوا إلى المعركة، وصارت همّتهم أوّلاً أن يواروا جثّة الحسينعليه‌السلام ثمّ الباقين، فجعلوا ينظرون الجثث في المعركة، فلم يعرفوا جثّة الحسينعليه‌السلام من بين تلك الجثث؛ لأنّها بلا رؤوس وقد غيّرتها الشموس، فبينا هم كذلك، وإذا بفارس أقبل إليهم حتّى إذا قاربهم قال:(أنّى بكم؟).

قالوا: إنّا أتينا لنواري جثّة الحسينعليه‌السلام وجثث ولْده وأنصاره، ولم نعرف جثّة الحسينعليه‌السلام !

فلما سمع ذلك حنّ وأنَّ وجعل يُنادي:(وا أبتاه! وا أبا عبد الله! ليتك حاضر وتراني أسيراً ذليلاً!) .

ثمّ قال لهم:(أنا أُرشدكم) .

١٤٥

فنزل عن جواده، وجعل يتخطّى القتلى، فوقع نظره على جسد الحسينعليه‌السلام فاحتضنه وهو يبكي ويقول:(يا أبتاه، بقتلك قرّت عيون الشامتين! يا أبتاه، بقتلك فرحت بنو أُميّة! يا أبتاه، بعدك طال حزننا! بعدك طال كربنا!) .

قال: ثمّ إنّه مشى قريباً من محلّ جثّته فأهال يسيراً من التراب، فبان قبر محفور ولحد مشقوق! فأنزل الجثّة الشريفة وواراها في ذلك المرقد الشريف كما هو الآن.

قال: ثمّ إنّهعليه‌السلام جعل يقول: هذا فلان، وهذا فلان.

هذا والأسديّون يوارونهم، فلما فرغ مشى إلى جثّة العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام فانحنى عليها، وجعل ينتحب ويقول:(يا عمّاه! ليتك تنظر حال الحرم والبنات وهنّ يُنادين: وا عطشاه! وا غربتاه!) .

ثمّ أمر بحفر لحْده وواراه هنا، ثمّ عطف على جثث الأنصار وحفر حفيرة واحدة وواراهم فيها، إلاّ حبيب بن مظاهر، حيث أبى بعض بني عمّه ذلك، ودفنه ناحية عن الشهداء.

قال: فلما فرغ الأسديون من مواراتهم قال لهم:(هلموا لِنوارِ جثّة الحرّ الرياحي) .

قال: فتمشَّى وهم خلْفه، حتى وقف عليه فقال:(أمّا أنت، فقد قَبِلَ الله توبتك، وزاد في سعادتك ببذْلك نفسك أمام ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) .

قال وأراد الأسديّون حمْله إلى محلّ الشهداء، فقال:(لا، بل في مكانه واروه) .

قال: فلما فرغوا من مواراته ركب ذلك الفارس جواده، فتعلّق به الأسديّون، فقالوا: بحقّ مَن واريته بيدك! مَن أنت؟

فقال:(أنا حجّة الله عليكم، أنا عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، جئت لأواري جثّة أبي ومَن معه من إخواني وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم، الذين بذلوا مُهجهم دونه، وأنا الآن راجع إلى سجن ابن زياد لعنه الله، وأمّا أنتم فهنيئاً لكم، لا تجزعوا إذ تُضاموا فينا!) .

١٤٦

فودّعهم وانصرف عنهم. وأمّا الأسديون، فإنّهم رجعوا مع نسائهم إلى حيّهم)(١) .

وقال المرحوم السيّد المقرّم: (وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم، أقبل زين العابدين لدفن أبيه الشهيدعليه‌السلام ؛ لأنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ إمام مثله(٢) ولما أقبل السجّادعليه‌السلام وجد بني أسد مُجتمعين عند القتلى مُتحيّرين! لا يدرون ما يصنعون، ولم يهتدوا إلى معرفتهم فأخبرهمعليه‌السلام عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وأوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب ثمّ مشى الإمام زين العابدين إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى إلى موضع القبر، ورفع قليلاً من التراب، فبان قبر محفور، وضريح مشقوق! فبسط كفّيه تحت ظهره

____________________

(١) أسرار الشهادة: ٤٥٢.

(٢) راجع: إثبات الوصيّة للمعسودي: ١٧٣، وكتاب زين العابدينعليه‌السلام للسيّد المقرّم: ٤٠٢، ويحسن هنا أن ننقل ما قاله السيّد المقرّم (ره) في المقتل: ٣١٩: (لم تكشف الأحاديث هذا السرّ المصون، ولعلّ النكتة فيه، أنّ جثمان المعصوم عند سَيره إلى المبدأ الأعلى بانتهاء أمد الفيض الإلهي يختصّ بآثار منها: أن لا يقرب منه مَن لم يكن من أهل هذه المرتبة؛ إذ هو مقام قاب قوسين أو أدنى، ذلك المقام الذي تقهقر عنه الروح الأمين! وعام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وحده في سبحات الملكوت! وليست هذه الدعوى في الأئمّة بغريبة، بعد أن تكوّنوا من الحقيقة المحمّدية، وشاركوا جدّهم في المآثر كلّها إلاّ النبوّة والأزواج - كما في المحتضر للحسن بن سليمان الحلِّي: ص ٢٢ / طبع النجف - وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر، ولا سبيل لنا إلى الإنكار بمُجرّد بُعدنا عن إدراكها ما لم تبلغ حدّ الاستحالة، وقد نطقت الآثار الصحيحة: بأنّ للأئمّة أحوالاً غريبة، ليس لسائر الخلق الشركة معهم، كإحيائهم الأموات بالأجساد الأصليّة، ورؤية بعضهم بعضاً، وصعود أجسادهم إلى السماء، وسماعهم سلام الزائرين لهم، وقد صادق على ذلك شيخنا المفيد في المقالات: ٢٨٤ / طبعة طهران، والكراجكي في كنز الفوائد، والمجلسي في مرآة العقول: ج١ / ص ٣٧٣، وكاشف الغطاء في منهج الرشاد: ص٥١، والنوري في دار السلام: ج١ / ص ٢٨٩).

١٤٧

وقال:(بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم) .

وأنزله وحده، لم يُشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم:(إنّ معي مَن يُعنني) ، ولما أقرّه في لحْده وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً:(طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مُظلمة، والآخرة بنورك مُشرقة، أمّا الليل فمُسهَّد! والحزن سرمد! أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مُقيم! وعليك منّي السلام يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته) .

وكتب على القبر:(هذا قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب، الذي قتلوه عطشاناً غريباً) .

ثمّ مشى إلى عمّه العبّاسعليه‌السلام ، فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء! وأبكت الحور في غُرَف الجنان! ووقع عليه يلثم نحْره المقدّس قائلاً:(على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منِّي السلام من شهيد مُحتسب ورحمة الله وبركاته) .

وشقّ له ضريحاً، وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد:(إنّ معي مَن يُعينني!) .

نعم، ترك مساغاً لبني أسد بمُشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعَين، وأمرهم أن يحفروا حفرتين، ووضع في الأُولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب.

وأمّا الحرّ الرياحي، فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن، وقيل: إنّ أمّه كانت حاضرة، فلما رأت ما يُصنع بالأجساد حملت الحرّ إلى هذه المكان.

وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ولَده (الأكبر)عليه‌السلام ، وفي ذلك يقول الإمام

١٤٨

الصادق لحمّاد البصري(١) :(قُتِل أبو عبد الله غريباً بأرض غُربة، يبكيه مَن زاره، ويحزن له مَن لم يزره، ويحترق له مَن لم يشهده، ويرحمه مَن نظر إلى قبره، ابنه عند رجْليه ...) (٢) .

خبر سليمان بن قتّة:

روى ابن نما (ره) يقول: (ورويت إلى ابن عائشة، قال: مرّ سليمان بن قتّة العدويّ(٣) مولى بني تميم بكربلاء، بعد قتل الحسينعليه‌السلام بثلاث، فنظر إلى مصارعهم، فاتّكأ على فرَس له عربية وأنشأ:

مـررت عـلى أبـيات آل محمّد

فـلم أرَهـا أمـثالها يـوم حُلَّتِ

ألم ترَ أنّ الشمس أضحت مريضة

لـفقْد حـسينٍ والـبلاد اقشعرّت

وكـانوا رجـاءً ثمّ أضحوا رزيّة

لـقد عـظُمت تلك الرزايا وجلَّتِ

وتـسألنا قـيس فـنُعطي فقيرها

وتـقتلنا قـيس إذا الـنعلُ زلَّت

وعـند غـنيٍّ قـطرة من دمائنا

سـنطلبهم يـوماً بها حيث حلَّت

فـلا يُـبعد الله الـديار وأهـلها

وإن أصـبحت منهم برغمٍ تخلَّت

فـإنّ قـتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقاب الـمسلمين فـذلَّت

وقـد أعـولت تبكي النساء لفقْده

وأنـجُمنا نـاحت عـليه وصلَّتِ

وقيل: الأبيات لأبي رمح الخزاعي)(٤) .

____________________

(١) راجع: كامل الزيارات: ٣٢٥.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام / للمقرّم: ٣١٩ - ٣٢١.

(٣) قال المرحوم الشيخ عبّاس القمّي: (سليمان بن قتّة التابعي الخزاعي الشيعي، قيل: إنّه أوّل مَن رثى الحسينعليه‌السلام ، مرّ بكربلاء فنظر إلى مصارع شهداء الطفّ، فبكى حتّى كاد أن يموت ثمّ قال: ...) (راجع: الكنى والألقاب: ١: ٣٨٣).

(٤) مُثير الأحزان: ١١٠ - ١١١ / ونقل الأبيات أبو فرج الإصبهاني في كتابه مقاتل الطالبيين: ١٢١، وانظر: سير أعلام النبلاء: ٣: ٣١٨، ومناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ١١٧ وفيه: (سليمان بن قبّة =

١٤٩

وقد يُستفاد ممّا ورد في متن الخبر: (مرّ سليمان بن قتّة بعد قتل الحسينعليه‌السلام بثلاث، فنظر إلى مصارعهم ...) أنّ الأجساد الطاهرة قد مرّت عليها ثلاث ليالٍ وهي بعد لم تدفن، حين مرّ عليها سليمان بن قتّة؛ فيكون هذا الخبر دليلاً على أنّ الدفن لم يحصل في اليوم الحادي عشر، ولا في اليوم الثاني عشر، ولا في ليلة الثالث عشر.

لكنّنا إذا علمنا أنّ المراد بمصارعهم هو الأمكنة التي صرّعوا فيها(١) ، أي ساحة ميدان المعركة في كربلاء، فإنّ الاستفادة المشار إليها من هذا الخبر تنتفي؛ إذ يمكن أن يُقال: إنّ سليمان بن قتّة مرّ بساحة المعركة في كربلاء، في اليوم الثالث عشر، بعد دفن الشهداءعليهم‌السلام ، فرأى قبورهم وآثار الحرب في ساحة الميدان، فرثاهم بهذه الأبيات.

وممّا يؤيِّد ذلك؛ أنّه ذكر (أبيات آل محمّد) ولم يصف الأجساد حيث صرِّعت، وربّما كان ذكر الأبيات كناية عن القبور، كما يؤيّد ذلك أنّ سليمان لو كان مرّ بالأجساد الطاهرة قبل دفنها، فكيف يصحّ منه عدم السعيّ إلى دفنها، وهو من مُحبّي أهل البيتعليهم‌السلام ؟!

ولو كان - أيضاً - حاضراً ساعة دفنهم، مع جملة مَن حضر من بني أسد من أهل الغاضريّة بحضور الإمام السجّادعليه‌السلام ؛ لكان له خبرٌ يُذكر مع الإمامعليه‌السلام ومع بني أسد ذلك اليوم في التاريخ، بل كان هو المبادر إلى تسجيل تلك اللحظات الخالدة من ساعة الدفن على صفحة التاريخ، في قصيدة من شِعره رائعة، تبقى القلوب والألسن تتناقلها إلى قيام الساعة!

ولنعُدْ الآن إلى تتمّة مجرى أحداث الكوفة ...

____________________

= الهاشمي)، وانظر: نظم درر السمطين: ٢٣٦، ونسب قريش: ٤١.

(١) راجع: لسان العرب: ٨: ١٩٧ ففيه (ومصارع القوم: حيث قتلوا).

١٥٠

ابن زياد يطلب مَن يُقَوِّرُ الرأس المقدّس!

روى الخوارزمي أنّه: (ولما جيء برأس الحسين إلى عبيد الله، طلب مَن يُقَوِّره ويُصلحه، فلم يجسر أحدٌ على ذلك، ولم يحِر أحدٌ جواباً، فقام طارق بن المبارك(١) ، فأجابه إلى ذلك، وقام به فأصلحه وقوّره، فنصبه بباب داره!)(٢) .

وقال سبط ابن الجوزي: (وذكر عبد الله بن عمر الورّاق في كتاب (المقتل)، أنّه لما حضر الرأس بين يدي ابن زياد أمر حجّاماً فقال: قوِّرْه.

فقوَّره وأخرج لغاديده ونخاعه وما حوله من اللحم - واللغاديد ما بين الحنك وصفحة العنق من اللحم - فقام عمرو بن حريث المخزومي فقال: يا بن زياد، قد بلغت حاجتك من هذا الرأس! فهب لي ما ألقيت منه.

فقال: ما تصنع به؟! فقال: أواريه. فقال: خُذْه.

فجمعه في مطرف خزٍّ كان عليه، وحمله إلى داره، فغسله وطيّبه وكفّنه ودفنه عنده في داره، وهي بالكوفة تُعرف بدار الخزّ دار عمرو بن حريث المخزومي)(٣) .

____________________

(١) طارق بن المبارك: لم نعثر على ترجمته، لكنّ الخوارزمي قال في تتمّة الخبر: (ولطارق هذا حفيد كاتب يُكنّى: (أبا يعلى) هجاه (العدويّ) فعرض له بذلك وقال:

نـعـمة الله لا تُـعاب ولـكن

ربّـما اسـتقبحت عـلى أقوام

لا يـليق الغنى بوجه أبي يعلى ولا نور بـهجة الإسـلام

وسخ الثوب والعمامة والبرذون والـوجـه والـقـفا والـغلام

لا تـسمُّوا دواتـه فـتُصيبوا

من دماء الحسين في الأقلام).

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٥٨ - ٥٩.

(٤) تذكرة الخواص: ٢٣٣ / وقال اليافعي في مرآة الجنان: (وذكروا مع ذلك ما يعظم من الزندقة والفجور، وهو أنّ عبيد الله بن زياد أمر أنّ يُقوَّر الرأس المشرّف المكرّم حتى يُنصب في الرمح، =

١٥١

أوّل رأس حُمل في الإسلام!

اختلفت الروايات في مَن هو أوّل رأس حُمل في الإسلام، فقد صرّحت بعضها: بأنّ أوّل رأس حُمِل (أي رُفِع على رمح) هو رأس الإمام الحسينعليه‌السلام ، وصرّح البعض الآخر: أنّ أوّل رأس حُمِل (نُقل من بلدٍ إلى آخر) هو رأس عمرو بن الحمقرضي‌الله‌عنه .

ومع اختلاف معنى الحمْل، فإنّ هذه الروايات لا تُعارض بعضها بعضاً، أمّا إذا كان المراد بالحمل هو نقل الرأس من بلد إلى آخر، فإنّ الجمع بين هذه الروايات مُمكن أيضاً، إذا قلنا: إنّ أوّل رأس من بني هاشم حُمِل في الإسلام هو رأس الحسينعليه‌السلام ، وأوّل رأس حُمل في الإسلام من غيرهم هو رأس عمرو بن الحمقرضي‌الله‌عنه .

ومن أمثلة هذه الروايات:

١ - روي عن عاصم، عن زرّ(١) ، قال: (أوّل رأس حُمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن عليّ، فلم أرَ باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم)(٢) .

٢ - وروى ابن سعد في طبقاته بسنده عن عاصم، عن زرّ أنّه قال: (أوّل رأس رُفِع

____________________

= فتحامى الناس عن ذلك، فقام من بين الناس رجل يُقال له: طارق بن المبارك، بل هو ابن المشؤوم المذموم، فقوَّره ونصبه بباب المسجد الجامع وخطب خُطبة لا يحلّ ذكرها!) (مرآة الجنان: ١: ١٣٥).

(١) هو زرّ بن حبيش بن حباشة بن أوس بن بلال، ذكره ابن سعد في طبقاته (٦/١٠٥) في الطبقة الأُولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: كان ثقة كثير الحديث.

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (٤/١٦٦): الإمام القدوة مقرئ الكوفة. وقال أبو عبيد: مات زرّ سنة إحدى وثمانين. وقيل: سنة ثلاث وثمانين. (راجع: تهذيب الكمال: ٩: ٣٣٩).

(٢) نفس المهموم: ٣٦٦ وانظر: كشف الغمّة: ٢: ٢٣٧.

١٥٢

على خشبة رأس الحسين)(١) .

٣ - وروى أيضاً بسنده عن الشعبي قال: (رأس الحسين أوّل رأس حُمِل في الإسلام)(٢) .

٤ - وعن ابن مسعود، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(إنّ أوّل رأس يُحمل على رمح في الإسلام رأس ولدي الحسين عليه‌السلام ) .

وقال:(أخبرني بذلك أخي جبرئيل عن الربّ العظيم) (٣) .

٥ - وقال ابن الأثير الجزري: (وكان رأسه أوّل رأس حُمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أنّ أوّل رأس حُمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق)(٤) .

انتفاضة عبد الله بن عفيف الأزديرضي‌الله‌عنه !

ولما قام طارق بن المبارك لعنه الله بتقوير الرأس المقدّس امتثالاً لأمر ابن زياد، أمر هذا الطاغية بالرأس الشريف فنُصب على باب داره، ثمّ إنّ ابن زياد نادى في الناس فجمعهم في المسجد الأعظم، ثمّ خرج ودخل المسجد، وصعد المنبر، (فحمد الله وأثنى عليه، فكان من بعض كلامه أن قال: الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله! ونصر أمير المؤمنين وأشياعه! وقتل الكذّاب ابن الكذّاب!!

قال: فما زاد على هذا شيئاً حتّى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، ثمّ

____________________

(١) ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد / تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي: ٨٠ - ٨١ رقم ٢٩٤.

(٢) ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد: ٨١ رقم ٢٩٥.

(٣) المنتخب للطريحي: ٣٣٢.

(٤) الكامل في التاريخ: ٣: ٣٩٨.

١٥٣

العامري(١) - أحد بني والبة - وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكان قد ذهبت عينه اليسرى يوم الجَمل، والأخرى يوم صِفّين، وكان لا يكاد يُفارق المسجد الأعظم، يُصلّي فيه إلى الليل ثمّ ينصرف إلى منزله ..

فلما سمع مقالة ابن زياد وثب إليه وقال: يا بن مرجانة، إنّ الكذّاب وابن الكذّاب أنت وأبوك! ومَن استعملك وأبوه! يا عدوّ اللهِ ورسولِه! أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟!

فغضب عبيد الله بن زياد وقال: مَن المتكلّم؟!

فقال: أنا المتكلّم يا عدوّ الله! أتقتل الذرّيّة الطاهرة، الذين أذهب الله عنهم الرجس في كتابه، وتزعم أنّك على دين الإسلام؟! وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار؛ لينتقموا من هذا الطاغية اللعين ابن اللعين على لسان رسول الله ربّ العالمين؟!

فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجه، فقال: عليَّ به!

فوثب إليه الجلاوزة فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور.

وكان عبد الرحمان بن مخنف الأزدي(٢) في المسجد، فقال: ويحَ نفسك!

____________________

(١) أو الغامدي كما في أنساب الأشراف: ٣: ٤١٣.

(٢) قال النمازي (ره) في مُستدركات علم رجال الحديث: ٤: ٤٢١: (عبد الرحمان بن مخنف الأزدي الشريف الكريم، لم يذكروه، وهو من أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم صفّين.)، وروى نصر بن مزاحم المنقري: (أنّ راية بني نهد بن زيد أخذها مسروق بن الهيثم بن سلمة فقُتل، وأخذ الراية صخر بن سمي فارتُثّ، ثمّ أخذها عليّ بن عمير فقاتل حتّى ارتُثّ، ثمّ أخذها عليّ بن عمير فقاتل حتّى ارتُثّ، ثمّ أخذها عبد الله بن كعب فقُتل، ثمّ رجع إليهم سلمة بن حذيم بن جرثومة وكان يُحرّض الناس فوجد عبد الله بن كعب قد قُتل، فأخذ رايته فارتُثّ وصُرِع، فأخذها عبد الله بن عمر بن كيشة فارتُثّ، ثمّ أخذها أبو مسبّح =

١٥٤

أهلكتَها وأهلكتَ قومك.

وحاضر الكوفة يومئذٍ سبعمئة مقاتل من الأزد، فوثبت إليه فتية من الأزد، فانتزعوه منهم وانطلقوا به إلى منزله!

ونزل ابن زياد عن المنبر ودخل القصر، ودخلت عليه أشراف الناس!

فقال: أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم؟!

قالوا: رأينا أصلح الله الأمير، إنّما فعل ذلك الأزد، فشدّ يدك بساداتهم فهم الذين استنقذوه من يدك!

فأرسل عبيد الله إلى عبد الرحمان بن مخنف الأزدي فأخذه، وأخذ جماعة من أشراف الأزد فحبسهم، وقال: لا خرجتم من يدي أو تأتوني بعبد الله بن عفيف!

ثمّ دعا بعمرو بن الحجّاج الزبيدي، ومحمّد بن الأشعث، وشبث بن ربعي، وجماعة من أصحابه، فقال لهم: اذهبوا إلى هذا الأعمى الذي أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه، فأتوني به!

فانطلقوا يريدون عبد الله بن عفيف، وبلغ الأزد ذلك، فاجتمعوا وانضمّت إليهم قبائل من اليمن؛ ليمنعوا صاحبهم.

فبلغ ذلك ابن زياد، فجمع قبائل مُضَر وضمّهم إلى محمّد بن الأشعث، وأمره أن يُقاتل القوم!

فأقبلت قبائل مُضر، ودنت منهم اليمن فاقتتلوا قتالاً شديداً، وبلغ ذلك ابن

____________________

= ابن عمرو الجهني فقُتل، ثمّ أخذها عبد الله بن النزال فقُتل، ثمّ أخذها أخوه عبد الرحمان بن زهير فقُتل، ثمّ أخذها مولاه مخارق فقُتل، حتى صارت إلى عبد الرحمان بن مخنف الأزدي ...) (وقعة صِفّين: ٢٦١).

١٥٥

زياد، فأرسل إلى أصحابه يؤنِّبهم ويُضعّفهم!

فأرسل إليه عمرو بن الحجّاج يُخبره باجتماع اليمن معهم، وبعث إليه شبث بن ربعي: أيُّها الأمير، إنّك بعثتنا إلى أسود الآجام فلا تعجل!

قال: واشتدّ اقتتال القوم حتى قُتلت جماعة من العرب، ووصل القوم إلى دار عبد الله بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه!

فصاحت ابنته: يا أبتي، أتاك القوم من حيث تحذر!

فقال: لا عليك يا بُنيّة! ناوليني سيفي.

فناولته السيف، فجعل يذبُّ عن نفسه وهو يقول:

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر

عـفيف شـيخي وأنا ابن عامر

كـم دارع مـن جمعكم وحاسر

وبـطـل جـدَّلـته مُـغـاور

وجعلت ابنته تقول: ليتني كنت رجلاً فأُقاتل بين يديك هؤلاء الفجَرة، قاتلي العترة البررة!

وجعل القوم يدورون عليه من يمينه وشماله وورائه، وهو يذبّ عن نفسه بسيفه، فليس أحد يقدم عليه، كلّما جاءوه من جهة قالت ابنته: جاءوك - يا أبت - من جهة كذا! حتّى تكاثروا عليه من كل ناحية، وأحاطوا به، فقالت ابنته: وا ذلاّه! يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به!

وجعل عبد الله يُدافع ويقول:

والله لو يُكشف لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

ومازالوا به حتّى أخذوه.

١٥٦

فقال جندب بن عبد الله الأزدي(١) ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا لله وإنّا إليه

____________________

(١) جندب بن عبد الله الأزدي: قال الذهبي: (فذاك جندب بن عبد الله، ويُقال: جندب بن كعب، أبو عبد الله الأزدي صاحب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويُقال له: جندب الخير، وهو الذي قتل المشعوذ، روى خالد الحذّاء، عن أبي عثمان النهدي: أنّ ساحراً كان يلعب عند الوليد بن عقبة الأمير، فكان يأخذ سيفه، فيذبح نفسه ولا يضرّه، فقام جندب إلى السيف فأخذه فضرب عنقه، ثمّ قرأ:( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) (سير أعلام النبلاء: ٣: ١٧٥ - ١٧٦ رقم ٣١).

وقال الشيخ المفيد (ره): (وروى أصحاب السير، عن جندب بن عبد الله الأزدي قال: شهدت مع عليّعليه‌السلام الجَمل وصِفّين، لا أشكّ في قتال مَن قاتله، حتى نزلنا النهروان فدخلني شكٌّ وقلت: قرُّاؤنا وخيارنا نقتلهم؟! إنّ هذا لأمر عظيم!

فخرجت غدوة أمشي ومعي إداوة ماء، حتّى برزت عن الصفوف، فركزت رمحي ووضعت ترْسي إليه واستترت من الشمس، فإنّي لجالس حتّى ورد عليَّ أميرُ المؤمنينعليه‌السلام فقال:(يا أخا الأزد! أمعك طَهور؟!). قلت: نعم. فناولته الإداوة، فمضى حتى لم أرَه، ثمّ أقبل وقد تطهّر، فجلس في ظلّ الترْس فإذا فارس يسأل عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا فارس يريدك. قال:(فأشر إليه) . فأشرت إليه فجاء فقال: يا أمير المؤمنين، قد عبَر القوم وقد قطعوا النهر. فقال:(كلاَّ ما عبروا!) . قال: بلى والله، لقد فعلوا. قال:(كلاّ ما فعلوا!) .

قال: فإنّه لكذلك، إذ جاء آخر فقال: يا أمير المؤمنين، قد عبَر القوم.

قال:(كلاّ ما عبروا!) .

قال: والله، ما جئتك حتّى رأيت الرايات في ذلك الجانب والأثقال. قال:(والله، ما فعلوا! وإنّه لمصرعهم ومهراق دمائهم!) .

ثمّ نهض ونهضت معه، فقلت في نفسي: الحمد لله الذي بصّرني هذا الرجل وعرّفني أمره! هذا أحد رجُلين: إمّا رجل كذّاب جريء، أو على بيّنة من ربّه وعهد من نبيّه! اللّهمّ، إنّي أُعطيك عهداً تسألني عنه يوم القيامة، إن أنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أول مَن يُقاتله وأوّل مَن يطعن بالرمح في عينه، وإن كانوا لم يعبروا أن أُقيم على المناجزة والقتال.

فدُفعنا إلى الصفوف فوجدنا الرايات والأثقال كما هي!

فأخذ بقَفاي ودفعني ثمّ قال:(يا أخا الأزد! أتبيَّن لك الأمر؟!) . قلت: أجَل يا أمير المؤمنين. قال: =

١٥٧

راجعون! أخذوا - والله - عبد الله بن عفيف، فقبّح الله العيش بعده! فقام وجعل يُقاتل من دونه، فأُخِذ أيضاً وانطُلق بهما، وابن عفيف يُردّد: والله لو يُكشف لي عن بصري ...

فلما أُدخل على عبيد الله، قال له: الحمد لله الذي أخزاك!

فقال ابن عفيف: يا عدوّ الله! بماذا أخزاني؟! والله لو يكشف عن بصري ...

فقال له: ما تقول في عثمان؟

فقال: يا بن مرجانة! يا بن سميّة! يا عبد بني علاج! ما أنت وعثمان؟! أحسَن أم أساء، وأصلح أم أفسد؟! الله وليّ خلْقه، يقضي بينهم بالعدل والحق، ولكن سَلْني عنك وعن أبيك! وعن يزيد وأبيه!

فقال ابن زياد: لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت!

فقال ابن عفيف: الحمد لله ربّ العالمين، كنت أسأل الله أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدْك أمّك مرجانة، وسألته أن يجعل الشهادة على يدي ألعن خلْقه وأشرّهم وأبغضهم إليه، ولما ذهب بصري آيست من الشهادة، أمّا الآن، فالحمد لله

____________________

=(فشأنك بعدوّك) . فقتلت رجلاً، ثمّ قتلت آخر، ثمّ أختلفت أنا ورجل آخر أضربه ويضربني فوقعنا جميعاً، فاحتملني أصحابي، فأفقْت حين أفقتُ وقد فرغ القوم) (الإرشاد: ١: ٣١٧ - ٣١٩، وانظر: الكافي: ١: ١٨٠ رقم ٢ نحوه، وكذا كنز العمّال: ١١: ٢٨٩ عن الطبراني في الأوسط، وابن أبي الحديد في شرح النهج: ٢: ٢٧١، والبحار: ٤١: ٢٨٤ رقم ٢).

ولما بويع عثمان عن مؤامرة الشورى، وزويت الخلافة عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام مرّة ثالثة، رجع جندب (ره) إلى العراق، وكان كلّما ذكر للناس شيئاً من فضائل عليّعليه‌السلام ومناقبه وحقوقه زبروه ونهروه، حتّى رُفع ذلك من قوله إلى الوليد بن عقبة والي الكوفة يومذاك، فبعث إليه فحبسه، حتّى كُلّم فيه فخُلّى سبيله. (راجع: الإرشاد: ١: ٢٤١ - ٢٤٣، وأمالي الطوسي: ١ / ٢٣٩، وشرح ابن أبي الحديد: ٩: ٥٧).

١٥٨

الذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الاستجابة منه لي في قديم دعائي!

فقال عبيد الله: اضربوا عنقه! فضُربت، وصُلِب!

ثمّ دعا ابن زياد بجندب بن عبد الله، فقال له: يا عدوّ الله! ألست صاحب عليّ بن أبي طالب يوم صِفّين؟!

قال: نعم، ولازلت له وليّاً ولكم عدوّاً! لا أبرأ من ذلك إليك ولا أعتذر في ذلك وأتنصّل منه بين يديك!

فقال ابن زياد له: أما إنّي سأتقرَّب إلى الله بدمك!

فقال جندب: والله، ما يُقرّبك دمي إلى الله، ولكنّه يُباعدك منه، وبعد: فإنّي لم يبقَ من عمري إلاّ أقلّه، وما أكره أن يُكرمني الله بهوانك!

فقال: أخرجوه عنّي، فإنّه شيخ قد خرف وذهب عقله!

فأُخرج وخلّي سبيله)(١) .

ابن زياد يُحاول استعادة الموادعة مع الأزد

لا شكّ في أنّ ابن زياد لم يُقدم على قتل جندب بن عبد الله الأزدي (جندب الخير)، مع ما في قلبه من غلّ وحقد متأجّج عليه، لا لأنّه رجل قد تقادم به العمر فخرف وذهب عقله؛ بل لأنّ قتله بعد قتْل عبد الله بن عفيفرضي‌الله‌عنه قد يؤجّج الأزد ويُحرِّضهم عليه، وهم من القبائل التي لها حساب مُهمّ في كلّ أمر ملم.

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ج ٢ ص ٥٩ - ٦٢، وانظر: الفتوح: ٥: ١٤٤ - ١٤٦، وتاريخ الطبري: ٣: ٣٣٧، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٧، والإرشاد: ٢ / ١١٧ وفيه: (فقال ابن زياد: عليّ به. فأخذته الجلاوزة، فنادى بشعار الأزد، فاجتمع منهم سبعمئة رجل فانتزعوه من الجلاوزة، فلما كان الليل أرسل إليه ابن زياد مَن أخرجه من بيته، فضرب عنقه وصلبه في السبخة رحمه الله). وانظر: (اللهوف: ٢٠٣، وأنساب الأشراف: ٣: ٤١٣ - ٤١٤، وتذكرة الخواص: ٢٣٢ - ٢٣٣).

١٥٩

إذن؛ فالسبب هو حسابات الموازنات في تهدئة العشائر الكبيرة، وكسب مودّتها وعدم إثارتها، فعفوه عن جندب بن عبد اللهرضي‌الله‌عنه مُحاولة لتهدئة ثائرة الأزد، بعد تفاقم الوضع وتأزّم العلاقة معهم نتيجة وقائع انتفاضة عبد الله بن عفيفرضي‌الله‌عنه .

وفي هذا الاتجاه يروي لنا ابن أعثم الكوفي قائلاً:

(ثمّ قدم إليه سفيان بن يزيد(١) ، فقال له ابن زياد: ما الذي أخرجك عليّ يا بن المعقل؟! فقال له: بلغني أنّ أصحابك أسَروا عمّي فخرجت أُدافع عنه.

قال: فخلّى سبيله، وراقب فيه عشيرته. ثمّ دعا بعبد الرحمان بن مخنف الأزدي، فقال له: ما هذه الجماعة على بابك؟! فقال: أصلح الله الأمير! ليس على بابي جماعة، وقد قتلت صاحبك الذي أردت، وأنا لك سامع مطيع! وإخوتي لك جميعاً كذلك! قال: فسكت عنه ابن زياد، ثمّ خلاّه وخلّى سبيل إخوته وبني عمّه)(٢) .

وهكذا قبلت رؤوس الأزد (وهم أسود الآجام!) أن توادع ابن زياد موادعة ذليلة، وهذا شأن مَن يهاب المواجهة من الطغاة!، فلم يؤثَر عن أحد من أشراف

____________________

(١) قال النمازي في مُستدركات علم رجال الحديث: ٤: ٩٥: (سفيان بن يزيد الأزدي، عدّ من مجاهيل الصحابة، لكن يظهر حُسنه وكماله من كونه على ميمنة جند إبراهيم بن الأشتر لطلب الثأر وقتال ابن زياد. راجع: البحار: ٤٥: ٣٨٠).

(٢) الفتوح: ٥: ١٤٦، وانظر: أنساب الأشراف: ٣: ٤١٤ وفيه: (وخرج سفيان بن يزيد بن المغفل ليدفع عن ابن عفيف فأخذوه معه وأُتي بجندب بن عبد الله، فقال له ابن زياد: والله، لأتقربنّ إلى الله بدمك! فقال: إنّما تتباعد من الله بدمي وقال لابن المغفل: قد تركناك لابن عمّك سفيان بن عوف، فإنّه خير منك).

١٦٠