مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234372 / تحميل: 8791
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وروى سبط ابن الجوزي، عن الواقدي، عن ربيعة بن عمر قال: ( كنت جالساً عند يزيد بن معاوية في بهوٍ له، إذ قيل: (هذا زحر بن قيس بالباب ). فاستوى جالساً مذعوراً، وأذِن له في الحال، فدخل فقال: ما وراءك؟... ).

إلى أن قال: (... في سبعين راكباً من أهل بيته وشيعته... فأبوا واختاروا القتال... وهم صرعى في الفلاة... )(١) .

تأمُّل ومُلاحظات:

مع مُلاحظة تلك النصوص نصل إلى الحقائق التالية:

الأوّل: خوف يزيد، كما روى سبط ابن الجوزي في الفقرة أعلاه.

الثاني: صلابة الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه الأوفياء، وعظمتهم وعِزّة أنفسهم وقدرتهم الفائقة؛ حيث إنّ الجميع - بما فيهم ابن سعد وابن عبد ربّه وابن أعثم والطبري وابن الجوزي وسبطه وابن الأثير وابن نما وابن كثير والباعوني وغيرهم - اعترفوا بأنّ الإمام وصحبه رفضوا الاستسلام وأبوا إلاّ القتال(٢) .

الثالث: اعتراف العدوّ بقساوة أفعاله وفظاعة جريمته.

الرابع: عجز العدوّ عن مقابلة الواقع والتجاؤه إلى الكذب، حيث يقول: ( وجعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون منّا بالآكام والحفر... ).

بينما الواقع الثابت على عكس ذلك، والدليل عليه ( تصديق أميرهم عمر بن سعد لكلام عمرو بن الحجّاج، حينما رأى عدم قدرتهم لمبارزتهم فصاح بالناس: ( يا حمقى، أتدرون مَنْ تُقاتلون؟! تُقاتلون فرسان أهل المصر! وتُقاتلون قوماً

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦٠.

(٢) مرّ ذكر المصادر مع أرقام الأجزاء والصفحات آنفاً.

١٠١

مُستميتين! لا يبرز إليهم منكم أحد! فإنّهم قليل وقلّما يبقون، والله، لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم )، فقال عمر بن سعد: ( صدقت، الرأي ما رأيت! )، فأرسل في الناس مَن يعزم عليهم ألاّ يُبارز رجل منكم رجلاً منهم )(١) .

ويكفي لقطع نباح هذا الشقي وأمثاله المراجعة إلى ما تجلّى في يوم عاشوراء، من تسابق الحسين وأصحابهعليهم‌السلام في الرواح إلى الله تعالى، برواية الموثوقين من المؤرِّخين، وكذا يكفي ما أبداه بعض الحاضرين في كربلاء من أشقّاء هذا الرجس (زحر بن قيس)، حيث اعتذر عن قتاله وقتله لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما رواه عنه ابن أبي الحديد قال: ( ثارت علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية... تُلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها! )(٢) .

ردّ فعل يزيد:

ذكر المؤرِّخون، أنّ يزيد بعدما سمع كلام زحر بن قيس تكلّم بكلمات تدلّ - بنظرنا - على كذبه ونفاقه(٣) .

فمن ذلك ما ذكره ابن سعد أنّه دمعت عينا يزيد! وقال: ( كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين )! ثمّ تمثّل:

مَن يذق الحرب يجد طعمها

مرّاً وتتركه بجعجاع(٤)

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١٠٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣/ ٣٠٧/ ٢٦٢.

(٣) راجع ما ذكرنا في عنواني (قتله الحسين) و(كذبه)، في المدخل - شخصية يزيد.

(٤) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين من القسم غير المطبوع): ٨١.

١٠٢

ومنه: ما رواه ابن أعثم أنّه ( أطرق يزيد ساعة، ثمّ رفع رأسه فقال: يا هذا، لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين بن علي، أما والله، لو صار إليّ لعفوت عنه، ولكن قبّح الله ابن مرجانة.

قال: وكان عبد الله بن الحَكم - أخو مروان بن الحَكم - قاعداً عند يزيد بن معاوية، فجعل يقول شعراً، فقال يزيد: نعم، لعن الله ابن مرجانة؛ إذ أقدم على قتل الحسين بن فاطمة، أما والله، لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما استطعت، ولو كان بهلاك بعض ولْدي، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فلم يكن له منه مردّ )(١) .

وأظنّ(٢) أنّ وضع المجلس أدّى بيزيد لاتّخاذ هذا الموقف - كذباً ونفاقاً - ولعلّ هذا أوّل موقف أبرز فيه تراجعه وأظهر ندامته.

وروى نحوه ابن عبد ربّه من أنّ يزيد قال: ( لعن الله ابن سميّة، أما والله، لو كنت صاحبه لتركته، رحم الله أبا عبد الله وغفر له! )(٣) .

وقريب منه ما في الأخبار الطوال، وفيه أنّه تمثّل بعد ذلك:

نُفلِّق هاماً من رجال أعزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما(٤)

وقد ذكرنا الشواهد المتقنة والكافية لإثبات أنّ يزيد هو الآمر بقتل الحسينعليه‌السلام والراضي بقتله، وأنّه هو الأصل في ذلك، وأنّ ما أظهره من الندامة يرجع إلى كذبه وخوفه على زوال مُلكه، وتمشّياً مع الوضع العام واستنكار الناس

____________________

(١) الفتوح ٢/ ١٨٠؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٦.

(٢) مُضافاً إلى ما ذكرناه في المدخل - عن يزيد.

(٣) العقد الفريد ٥/ ١٣٠ ونحوه في المنتظم ٥/ ٣٤١.

(٤) الأخبار الطوال: ٢٦٠.

١٠٣

لذلك - بعدما كُشف عن القضية شيئاً فشيئاً - والدليل على ذلك أنّه لم يُعاقِب ابن زياد على ما فعله ولم يعزله عن الإمارة، بل شكر له واستدعاه وشرب معه الخمر كما مرّ ذكره(١) .

وممّا يدلّ على ذلك ما رواه الحافظ البدخشاني، قال: ( ولما قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين (رضي الله عنه) بين يديه، فاستبشر الشقيّ بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران... )(٢) .

إزاحة وهْم:

قيل: ( إنّ زحر بن قيس الجعفي شهد صِفِّين مع عليّعليه‌السلام وقدّمه على أربعمئة من أهل العراق، وبقي بعده مؤمّراً، وأمّره الحسنعليه‌السلام بأخذ البيعة له، وهو مع ذلك وثّقه الإمام أحمد بن حنبل وأحمد بن عبد الله العجلي؛ ومعه لابدّ أن يكون غيره - وليس هو - الذي أتى برأس الحسين ( عليه السلام ) )(٣) .

الجواب: إنّ الرأي الغالب بين أصحاب السير والتراجم، أنّ الذي أتى بالرأس الشريف هو زحر بن قيس الجعفي(٤) ، وإن قيل: غيره. مثل ما نقله ابن نما، بكونه زحر بن قيس المذحجي(٥) ، وما قيل: بأنّه كان شمر بن ذي الجوشن(٦) .

والظاهر أنّ ما

____________________

(١) في ص٥٩ من هذا الكتاب.

(٢) نُزل الأبرار: ١٥٩.

(٣) اُنظُر بُغية الطلب ٨/ ٣٧٨٤.

(٤) اُنظُر الطبقات (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ): ٨١؛ الفتوح ٢/ ١٨٠؛ العقد الفريد ٥/ ١٣٠؛ تذكرة الخواص: ٢٦٠؛ جواهر المطالب؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥.

(٥) مُثير الأحزان: ٩٨.

(٦) الأخبار الطوال: ٢٦٠.

١٠٤

قيل: بأنّه زفر بن قيس(١) ، أو زجر بن قيس(٢) فإنّه تصحيف، ومردّ الجميع إلى شخص واحد.

نعم، هناك احتمال وجود فرد آخر وهو مُحفَّز بن ثعلبة العائذي(٣) ، والظاهر أنّه كان مع أُسارى أهل البيت حينما دخل على يزيد، وهناك خلط في النقل، فبعضهم يذكرون أنّه أتى بالرأس الشريف(٤) ، وبعضهم يقول: إنّه أتى بالرأس الشريف وأهل بيته(٥) ، وبعضهم يذكر أنّه أتى مع أهل بيت الحسين(٦) ، وهو المختار.

وكيفما كان، فالمشهور أنّ الذي أتى بالرأس الشريف إلى يزيد هو زحر بن قيس لعنه الله.

وأمّا ما قيل: بأنّه كان من أصحاب عليّ و... فإنّه ليس أوّل قارورة كُسِرت، فغير واحدٍ من أصحاب عليّعليه‌السلام انقلبوا إلى الجاهلية السوداء، ألم يكن شمر من أصحاب عليّعليه‌السلام في صِفِّين؟! ألم يُجرح في تلك الحرب؟!(٧) ألم يكن شبث بن ربعي من أصحاب عليّ والحسينعليهما‌السلام ؛ حتّى إنّه قال: ( قاتلنا مع عليّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثمّ عدونا على ولَده وهو خير أهل الأرض نُقاتله مع آل معاوية وابن سميّة الزانية )(٨) ، ولكنّ المهمّ حُسن العاقبة.

وأمّا توثيق الإمام حنبل والعجلي، فلا نُرتِّب عليه أثراً.

____________________

(١) المنتظم ٥/ ٣٤١.

(٢) تذكرة الخواص: ٢٦٠.

(٣) الطبقات (ترجمة الإمام الحسين): ٨٢؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٥.

(٤) سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٥؛ الطبقات: ٨٢؛ تاريخ الإسلام (حوادث ٦١ - ٨٠)؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

(٥) تاريخ الطبري ٤/ ٢٥٤.

(٦) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢.

(٧) وقعة صِفّين: ٢٦٧.

(٨) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرَّم: ٢٤٢.

١٠٥

القاتل يطلب الجائزة!

قال أبو الفرج الأصفهاني: ( وحمل (ابن زياد) أهله (الحسينعليه‌السلام ) أسرى، وفيهم عمر وزيد والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكان الحسن بن الحسن بن علي قد ارتُثّ جريحاً فحُمل معهم، وعلي بن الحسين الذي أُمّه أُمّ ولد، وزينب العقيلة، وأُمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين، لما أُدخلوا على يزيد - لعنه الله - أقبل قاتل الحسين بن علي يقول:

أوقِـرْ ركـابي فِضَّة أو ذهبا

فـقد قـتلت الـملك المحجَّبا

قـتلت خـير الناس أُمّاً وأبا

وخيرهم إذ يُنسبون نَسبا )(١)

وفي مقتل الخوارزمي، بإسناده عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيهعليهم‌السلام : ( ثمّ وضع الرأس في حقّة وأُدخل على يزيد، فدخلت معهم، وكان يزيد جالساً على السرير، وعلى رأسه تاج مُكلَّل بالدُّرّ والياقوت، وحوله كثير من مشايخ قريش، فدخل صاحب الرأس ودنا منه، وقال:

أوقِرْ ركابي فضّةً أو ذهبا

فـقد قتلتُ السيِّدَ المحجّبا

قتلت أَزكَى الناسِ أُمّاً وأبا

وخيرهم إذ يذكرون النَّسَبا

فقال له يزيد: إذا علمت أنّه خير الناس لِمَ قتلته؟!

قال: رجوت الجائزة!

فأمر بضرب عنقه، فحُزّ رأسه... )(٢) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ١١٩، وانظر: الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨٠، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٦.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٨١؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٨. وفي ينابيع المودّة (٣/ ٩١): فقال له يزيد: إذا علمت أنّه خير الناس أُمّاً وأبا فلِمَ قتلته؟! اُخْرُج من بين يدي، فلا جائزة لك.

فخرج هارباً خائباً من الجائزة، وخاسراً في عاجل الدُّنيا وآجل الآخرة.

١٠٦

مجلس يزيد:

لقد غمرت الأفراح والمسرّات يزيد، وسُرَّ سروراً بالغاً، وأمر بترتيب مجلس فخم حاشد من الأشراف والأعيان والشخصيات.

قال ابن الجوزي: ( ثمّ جلس يزيد ودعا أشراف أهل الشام، وأجلسهم حوله، ثمّ أدخلهم - أي الأسرى من آل البيتعليهم‌السلام - عليه )(١) .

إنّ التاريخ لم يُزوّدنا بأسماء كلّ مَن حضر ذلك المجلس المشؤوم، لكنّا نعلم أنّه كان حاشداً بالأشراف والأعيان والشخصيات، مثل بعض الصحابة والتابعين! كأبي بُرزة الأسلمي(٢) ، وزيد بن الأرقم(٣) ، وقيل: سمرة بن جندب(٤) ، وبعض الأنصار(٥) ، وبعض ناصري بني أُميّة منهم النعمان بن بشير(٦) ، والكبار من الشجرة الملعونة في القرآن، مثل يحيى بن الحَكم(٧) ، وعبد الله بن الحَكم(٨) ، وعبد الرحمان بن الحَكم(٩) ،

____________________

(١) المنتظم ٥/ ٣٤١.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٢٩٣؛ المنتظم ٥/ ٣٤٢؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٩؛ تذكرة الخواص: ٢٦١؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤ و١٩٩؛ أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦؛ البدء والتاريخ ٦/ ١٢؛ الملهوف: ٢١٤؛ مُثير الأحزان: ١٠٠؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٢؛ الفتوح ٢/ ١٨١؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٧.

(٣) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٧.

(٤) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي ٢/ ٦٤ (ط دار أنوار الهُدى).

(٥) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين من القسم غير المطبوع): ٨٢، عبرات المصطفين ٢/ ٣٢١.

(٦) الجوهرة ٢/ ٢١٩ على ما في عبرات المصطفين.

(٧) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٩؛ المناقب ٤/ ١١٤.

(٨) الفتوح ٢/ ١٨٠.

(٩) أنساب الأشراف ٣/ ٤٢١؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ١٨؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٨؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٠ عن المناقب.

١٠٧

وكذا رجال السلطة الحاكمة، وبعض نساء بني أُميّة مثل (ريّا) حاضنة يزيد(١) ، والتحقت بها زوجة يزيد هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز(٢) .

ومن أهل الكوفة الذين أتوا مع أُسارى آل البيتعليهم‌السلام إلى الشام: زحر بن قيس(٣) ، وشمر بن ذي الجوشن(٤) ، ومُخفّر بن ثعلبة(٥) ، وعمر بن سعد(٦) ، ومحقن بن ثعلبة(٧) ، وأبو بُردة بن عوف الأزدي، و(طارق بن أبي ظبيان الأزدي، وجماعة من أهل الكوفة)(٨) ، وغيرهم مثل ربيعة بن عمر(٩) ، والعذري بن ربيعة بن عمرو الجرشي(١٠) ، وعبد الله بن ربيعة الحميري(١١) ، والغار بن ربيعة الجرشي(١٢) ، وروح بن زنباع(١٣) .

____________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٢٠؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٩؛ البداية والنهاية ٨/ ٢٠٥؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٦.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٣؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٢.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٦٠؛ الفتوح ٢/ ١٨٠، الإرشاد ٢/ ١١٩؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ إعلام الورى: ٢٤٨..

(٤) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦؛ الأخبار الطوال: ٢٦٠؛ الإرشاد ٢/ ١١٩؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ إعلام الورى: ٢٤٨..

(٥) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦؛ الفتوح ٤/ ١٨٠؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥؛ الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨ (وفي الأخيرين محفر بدل مخفر)..

(٦) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥ (وفيه عمرو بدل عمر).

(٧) الأخبار الطوال: ٢٦٠ (والظاهر اتّحاده مع مخفر وأنّه تصحيف).

(٨) الإرشاد ٢/ ١١٨؛ تاريخ الطبري ٤/ ٢٥١؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٣.

(٩) تذكرة الخواص: ٢٦٠.

(١٠) مُثير الأحزان: ٩٨.

(١١) الإرشاد ٢/ ١١٨.

(١٢) العقد الفريد ٥/ ١٣٠.

(١٣) جوهر المطالب ٢/ ٢٧٠، ولكنّ الظاهر أنّه راوي الخبر عن الغار بن ربيعة الجرشي، كما هو كذلك في العقد الفريد، فهناك سقط في السند.

١٠٨

ومن جانب آخر، نرى بعض مُمثّلي كبار الدولة آنذاك وكبار أهل الكتاب، مثل سفير الروم(١) ورأس الجالوت(٢) .

فتحصّل أنّه كان مجلساً في غاية الأهمّية سياسياً واجتماعياً، داخلياً وخارجياً؛ ومن هنا أراد يزيد أن يُظهر نفسه بأنّه هو الغالب على عدوّه! وقد انتهى كلّ شيء(٣) .

قال المزّي: ( فلما قدموا (الأُسارى من آل البيت) عليه (يزيد) جمع مَن كان بحضرته من أهل الشام، ثمّ أُدخلوا عليه، فهنّأوه بالفتح! )(٤) .

مجلس أم مجالس؟

هل كان مجلس يزيد - الذي أُحضر فيه الرأس الشريف وأُسارى آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله - مجلساً واحداً أم مجالس مُتعدّدة؟ يظهر من بعض السير الثاني.

روى الخوارزمي، بإسناده عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال:( لما أُتي برأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد، كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين فيضعه بين يديه ويشرب عليه ) (٥) .

وقال ابن نما: ( وكان يزيد يتّخذ مجالس الشرب واللهو والقيان والطرب، ويُحضِر رأس الحسين بين يديه )(٦) .

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦٣.

(٢) الكامل في التاريخ: ٤/ ٩٠.

(٣) غافلاً أنّ المسيرة سيُكتب لها الظفر، وأنّ المعادلة ستنقلب ضدّه، وأنّ مجلسه سيصير قاعدة إعلام ظفر الحسينعليه‌السلام وبلوغ حركته إلى أهدافها المقدّسة.

(٤) تهذيب الكمال ٦/ ٤٢٩.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٢؛ وعنه الملهوف: ٢٢٠.

(٦) مُثير الأحزان: ١٠٣.

١٠٩

قالوا: ( وحضر ذات يوم في مجلسه رسول ملك الروم )(١) ، وظاهر هذا النقل حصول التَّكرّر، وهو ليس ببعيد؛ لأنّ اللعين كان يُحضِر الرأس الشريف ويشرب الشراب كما روي.

فتحصّل؛ أنّ المجالس تكرّرت، سواء قبل ورود أهل البيت أم بعده، ولكن كان ذلك ضمن مجالس خاصّة، والظاهر أنّ المجلس الذي جرت فيه الأمور الآتي ذكرها، الحاشد بالأعيان والأشراف (بل الأرجاس) من الناس لم يكن إلاّ مجلساً واحداً، وهو المجلس العام الذي سوف نذكر تفاصيل ما جرى فيه.

كيفيّة دخول أُسارى آل البيتعليهم‌السلام :

قال الشيخ المفيد والطبرسي: (ولم يكن عليّ بن الحسينعليه‌السلام يُكلِّم أحداً من القوم في الطريق كلمة حتّى بلغوا - أي الشام -، فلما انتهوا إلى باب يزيد، رفع مجفر بن ثعلبة صوته فقال: هذا مجفر بن ثعلبة، أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :( ما ولدت أُمّ مجفر أشرّ وألأم ) (٢) .

ونُسِبَت هذه الإجابة إلى يزيد - وهو الأنسب -(٣) .

فمن الذين نسبوا هذه الإجابة إلى يزيد: البلاذريّ(٤) ، وابن سعد(٥) ، والطبري(٦) ،

____________________

(١) الملهوف: ٢٢١؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٢، ولكن في مُثير الأحزان (ص١٠٣): فحضر مجلسه...

(٢) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨ (وفيه محفر).

(٣) لأنّه قد يرد عليه، أنّ الردّ يتضمّن الإقرار بنسبة اللؤم والفجور إلى أهل البيتعليهم‌السلام - والعياذ بالله - ويقرّر أنّ مخفراً أكثر لؤماً وفجوراً!! وهذا بعيد الصدور من الإمامعليه‌السلام وهو من سادة الفصاحة.

غير أنّ الردّ يتناسب مع نفسية يزيد، الذي يرى أهل البيت أعداء له، ولكنّه لا يُفضّل مخفراً - هذا النكرة - عليهم، إلاّ أن يكون هناك محذوف، مثلاً: أشرّ الناس وألأم.

(٤) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦ (وفيه مخفر بن ثعلبة).

(٥) الطبقات ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ): ٨٢.

(٦) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢ (وفيه محفز).

١١٠

وابن نما(١) ، وابن الأثير(٢) ، وابن كثير(٣) ، والذهبي(٤) ، والخوارزمي(٥) . بتفاوت يسير بينهم.

قال البلاذري: ( ثمّ سرّح (عبيد الله) بهم (الأُسارى) مع مُحفّز بن ثعلبة من عائذة قريش، وشمر بن ذي الجوشن. وقوم يقولون: بعث مع محفز برأس الحسين أيضاً، فلما وقفوا بباب يزيد رفع مُحفّز صوته فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مُحفّز بن ثعلبة أتاك باللئام الفجرة!

فقال يزيد: ما تحفّزت عنه أمّ مُحفّز ألأم وأفجر )(٦) .

أقول: ويل لمن كفّره نمرود!

وقال الطبري وابن الأثير: ( فدعا عبيد الله بن زياد مُحفِّز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن فقال: انطلقوا بالثقل والرأس إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية.

فخرجوا حتّى قدموا على يزيد، فقام مُحفّز بن ثعلبة فنادى - بأعلى صوته -: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم!

فقال يزيد: ما ولدت أمّ مُحفّز ألأم وأحمق، ولكنّه قاطع ظالم )(٧) .

وقال ابن سعد: ( وقدم برأس الحسين مخفر بن ثعلبة العائذي - عائذة قريش - على يزيد، فقال: أتيتك - يا أمير المؤمنين - برأس أحمق الناس وألأمهم!

فقال يزيد: ما ولدت أمّ مخفر أحمق وألأم، لكنّ الرجل لم يقرأ كتاب الله:( ... تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء... ) (آل عمران: ٢٦)(٨) .

____________________

(١) مُثير الأحزان: ٩٨ - عن تاريخ دمشق - وعنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٩ (وفيه مخفر).

(٢) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤.

(٣) البداية والنهاية ٨/ ١٩٦ وفيه محقر بن ثعلبة العائذي.

(٤) سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٥؛ تاريخ الإسلام (حوادث ووفيات ٦١ - ٨٠).

(٥) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨، وفيه ( ما ولدت أمّ محفز أكفر وألأم وأذمّ ).

(٦) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦.

(٧) تاريخ الطبري ٤/ ٢٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤.

(٨) الطبقات: ٨٢؛ وعنه سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٥؛ تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير، حوادث (٦١ - ٨٠).

١١١

وروى الخوارزمي، بإسناده عن مجاهد ( أنّ يزيد حين أُتي برأس الحسين بن علي ورؤوس أهل بيته قال ابن مُحفّز: يا أمير المؤمنين، جئناك برؤوس هؤلاء الكفرة اللئام!

فقال يزيد: ما ولدت أمّ مُحفّز أكفر وألأم وأذمّ )(١) .

وأظنّ أنّ الرأس أُدخِل ثانياً مع مُحفّز في مجلس يزيد؛ لأنّه أُدخِل مع زحر بن قيس في المرّة الأُولى كما ذكرناه - وكان ذاك مجلسه الخاصّ - وفي المرّة الثانية أُدخل في مجلسه العام مع هذا الرجس الخبيث.

وأمّا كيفيّة الورود، فلقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:( لما أُدخل رأس الحسين بن عليّ عليهما‌السلام على يزيد لعنه الله، وأُدخل عليه عليّ بن الحسين وبنات أمير المؤمنين عليه‌السلام كان عليّ بن الحسين مُقيّداً مغلولاً ) (٢) .

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام :( قُدِم بنا على يزيد بن معاوية لعنه الله، بعدما قُتِل الحسين ونحن اثنا عشر غلاماً، ليس منّا أحد إلاّ مجموعة يداه إلى عنقه، وفينا عليّ بن الحسين... ) (٣) .

وفي مقتل الخوارزمي: ( ثمّ أُتي بهم حتّى أُدخلوا على يزيد، قيل: إنّ أوّل مَن دخل شمر بن ذي الجوشن بعليّ بن الحسين مغلولة يداه إلى عنقه، فقال له يزيد: مَن أنت يا غلام؟

قال:( أنا عليّ بن الحسين )، فأمر برفع الغِلّ عنه )(٤) .

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

(٢) تفسير القمّي ٢/ ٣٥٢ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٨.

(٣) شرح الأخبار ٣/ ٢٦٧ ح١١٧٢. ونحوه عن الإمام زين العابدين في مُثير الأحزان: ٩٨؛ العقد الفريد ٥/ ١٣١؛ الإمامة والسياسة ٢/ ٨؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٧٢ و٢٧٨، إلاّ أنّ فيها محمّد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والظاهر سقوط كلمة (عليّ) والصحيح: محمّد بن عليّ بن حسين الذي ينطبق على الإمام الباقرعليه‌السلام ؛ إذ لا نعرف ولداً بقي للإمامعليه‌السلام غير الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام .

(٤) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٢.

١١٢

قال السيّد ابن طاووس: ( قال الراوي: ثمّ أُدخل ثقل الحسينعليه‌السلام ونساؤه ومَن تخلّف من أهله على يزيد، وهم مُقرَّنون في الحبال)(١) .

وقال سبط ابن الجوزي: ( وكان عليّ بن الحسين والنساء موثّقين في الحبال )(٢) .

وعنه: ( ولما أُتي يزيد بثقل الحسين (رضي الله عنه) ومَن بقي من أهله فأُدخلوا عليه وقد قُرنوا بالحبال فوقفوا بين يديه )(٣) .

وقال الشبلنجي: (ثمّ أمر بعلي زين العابدين فدخل عليه مغلولاً )(٤) .

رأس الحسينعليه‌السلام في ملجس يزيد!

روى ابن شهر آشوب، عن أبي مخنف قال: (لما دُخِل بالرأس على يزيد كان للرأس طيب قد فاح على كلّ طيب )(٥) .

وعن مرآة الزمان: (لما وضِع الرأس بين يدي يزيد كان بالخضراء(٦) ، فتَهْتَه (فقهقه خ ل) حتّى سمعه مَن كان بالمسجد، ولما سمع صوت النوائح عليه أنشد:

يا صيحة تُحمَد من صوائح

ما أهوَن الموت على النوائح

ويُقال: إنّه كبّر تكبيرة عظيمة! )(٧) .

قال ابن الأثير: ( ثمّ أُدخل نساء الحسين عليه (يزيد) فجعلت فاطمة وسكينة

____________________

(١) الملهوف: ٢١٣.

(٢) تذكرة الخواص: ٢٦٢.

(٣) مرآة الزمان: ١٠٠ - مخطوط - على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٨.

(٤) نور الأبصار: ١٣٢.

(٥) المناقب ٤/ ٦١.

(٦) الظاهر أنّه قصر الخضراء الواقع قرب المسجد الأُموي حاليّاً.

(٧) عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٤.

١١٣

ابنتا الحسين تتطاولان؛ لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس! فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولول بنات معاوية )(١) .

وقال السيّد ابن طاووس: ( ثمّ وضع رأس الحسينعليه‌السلام بين يديه وأجلس النساء خلفه؛ لئلا ينظرن إليه )(٢) .

يزيد ينكت ثنايا الحسينعليه‌السلام !

إنّ هذا الفعل الفضيع ممّا تواتر نقله؛ حتى عُدّ من مُسلّمات التاريخ، وافتضح به فاعله يزيد.

قال أحمد بن أبي طاهر (م٢٨٠): ( لما كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن عليعليهما‌السلام الذي كان، وانصرف عمر بن سعد - لعنه الله - بالنسوة والبقيّة من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ووجّههنّ إلى ابن زياد لعنه الله، فوجّههنّ هذا إلى يزيد - لعنه الله وغضب عليه - فلما مثلوا بين يديه أمر برأس الحسينعليه‌السلام ، فأُبرز في طست، فجعل ينكت ثناياه بقضيب في يده... )(٣) .

وقال اليعقوبي: ( ووضِع الرأس بين يدي يزيد، فجعل يقرع ثناياه بالقصب )(٤) .

روى ابن الجوزي، عن سالم بن أبي حفصة قال: ( قال الحسن البصري: ( جعل يزيد بن معاوية يطعن بالقضيب موضع في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وا ذلاّه! )(٥) .

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٥.

(٢) الملهوف: ٢١٣، وفيه (فرآه علي بن الحسينعليه‌السلام ، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٢، ونحوه في مُثير الأحزان: ٩٩ بتفاوت يسير جدّاً.

(٣) بلاغات النساء: ٢٠.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢/ ٢٤٥.

(٥) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧.

١١٤

وقال السيّد ابن طاوس وابن نما: (ثمّ دعا يزيد بقضيب خيزران، فجعل ينكت به ثنايا الحسينعليه‌السلام )(١) .

وعن مرآة الزمان: ( قال العامري بن ربيعة: جمع يزيد أهل الشام، ووضع الرأس في طشت، وجعل ينكت عليه بالخيزرانة )(٢) .

روى ابن كثير، عن ابن أبي الدُّنيا، بإسناده عن الحسن قال: ( لما جيء برأس الحسين، جعل يزيد يطعنه بالقضيب )(٣) .

وقال مُطهّر بن طاهر المقدسي: ( ووضع رأسه بين يديه، وجعل ينكث بالقضيب في وجهه )(٤) .

ونقل ذلك كثير من المؤرّخين، مثل الباعوني(٥) ، والشبراوي(٦) وغيرهما، نكتفي بما أوردناه. كما وثّقه الشعراء بقصائدهم؛ أنشد الصاحب بن عبّاد:

يقرع بالعود ثنايا لها

كان النبي المصطفى لاثما(٧)

وقال الجواليقي:

اخـتال بالكبر على ربّه

يـقرع بـالعود ثـناياه

بحيث قد كان نبيّ الهُدى

يـلثم في قُبلته فاه(٨)

____________________

(١) اللهوف: ٢١٤؛ مُثير الأحزان: ١٠٠؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٢.

(٢) نقلناه من عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥.

(٣) البداية والنهاية ٨/ ١٩٤.

(٤) البدء والتاريخ ٦/ ١٢.

(٥) جواهر المطالب ٢/ ٢٩٣.

(٦) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٩.

(٧) المناقب ٤/ ١١٤.

١١٥

ولقد أظهر يزيد بفعله الفضيع ما في قلبه من الكفر والحقد، يفعل ذلك في حقّ مَن قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأنه:( حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط ) (١) . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( إنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ) (٢) .

ولنِعْمَ ما قال ابن الجوزي على ما ذكره سبطه في التذكرة، قال: ( قال جدّي: ولو لم يكن في قلبه أحقاد جاهلية وأضغان بدرية لاحترم الرأس لما وصل إليه، ولم يضربه بالقضيب، وكفّنه ودفنه، وأحسن إلى آل رسول الله )(٣) .

وبذلك يظهر ضلالة مَن يدّعي أنّ يزيد ما كان راضياً بقتل الحسينعليه‌السلام وأنّه اغتمّ لذلك! إذ لو صحّ ذلك فلماذا ارتكب هذا الفعل الفضيع؟

نقل الباعوني، عن الشيخ العالم أبي الوفاء ابن عقيل أنّه قال: ( ثمّ قتلوا ابنه (أي ابن الإمام عليّ) الحسينَ بن فاطمة الزهراء، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين بعد أن منعوهم الماء، هذا والعهد بنبيّهم قريب، وهم القرن الذي رأوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقبِّل فمه وترشفه (يرشف ثناياه)، فنكتوا على فمه وثناياه بالقضيب! تذكّروا - والله - أحقاد يوم بدر وما كان فيه. وأين هذا من مطمع الشيطان وغاية أمله بتبتيك آذان الأنعام؟!

هذا مع قرب العهد وسماع كلام ربّ الأرباب:( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ستروا - والله - عقائدهم في عصره مخافة السيف، فلما صار الأمر إليهم كشفوا قناع البغي والحيف )(٤) .

____________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٣/ ٢١٣، الفصل السابع ح٨ ط دار أنوار الهُدى، وغيره.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٧/ ١١٨، كنز العمّال ١٣/ ٦٦١.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٩٠.

(٤) جواهر المطالب ٢/ ٣١٣.

١١٦

أ) ما قاله يزيد عند نكته ثنايا الحسينعليه‌السلام !

قال البلاذري: (وحدّثني ابن برد الأنطاكي الفقيه، عن أبيه قال:... وقال يزيد حين رأى وجه الحسين: ما رأيت وجهاً قطّ أحسن منه!

فقيل له: إنّه كان يُشبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فسكت )(١) .

وروى ابن سعد، بإسناده عن يزيد بن أبي زياد قال: ( لما أُتي يزيد بن معاوية برأس الحسين بن علي، جعل ينكت بمخصرة معه سنّه، ويقول: ما كنت أظنّ أبا عبد الله يبلغ هذا السنّ!

قال: وإذا لحيته ورأسه قد نصل من الخضاب الأسود )(٢) .

وقال محمّد بن حبان: ( فلما وضِع الرأس بين يدي يزيد بن معاوية، جعل ينقر ثنيّته بقضيب كان في يده ويقول: ما أحسن ثناياه )(٣) .

وعن التلمساني أنّه قال: ( وأُتي يزيد برأس الحسينعليه‌السلام ، فلما وضِع بين يديه جعل ينكت أسنانه بقضيب كان في يده ويقول: كان أبو عبد الله صبيحاً )(٤) .

ب) ما أنشده يزيد!

لقد تمثّل يزيد ببيت شعر للحصين بن الحمام المرّي(٥) وهو:

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦.

(٢) الطبقات الكبرى ٨٢، ح٢٩٧؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٢٠؛ تاريخ الإسلام (للذهبي): ١٩.

(٣) كتاب الثقات ٢/ ٣١٣.

(٤) عبرات المصطفين ٢/ ٣١٠ عن كتاب الجوهرة ٢/ ٢١٩ط الرياض.

(٥) الحصين بن الحمام، هو شاعر جاهلي، وقصيدته تشتمل ٤٢ بيتاً، وقد تمثّل يزيد - لعنه الله - بالبيت السادس منها، أُنظر الأغاني ١٤/ ١٠، شرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي ١/ ٣٢٥.

١١٧

نُفلِّق هاماً من رجال أعِزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما(١)

وفي بعض الكتب أنّه قال:

يُفلِّقنَ هاماً من رجال أعِزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما(٢)

وأمّا زمان إنشاده، فقد ذكروا أنّه كان حينما كشف عن ثنايا سيّد الشهداء وتناوله بقضيب(٣) .

وذكر بعضهم أنّه قالها حينما وُضِع الرأس الشريف بين يديه(٤) .

____________________

(١) أُنظر مقاتل الطالبيين: ١١٩؛ المعجم الكبير (للطبراني) ٣/ ١٠٩، ح٢٨٠٦؛ تجارب الأُمم ٢/ ٧٤؛ الإرشاد ٢/ ١١٩؛ المناقب ٤/ ١١٤؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٧؛ كفاية الطالب: ٤٣٢، إعلام الورى: ٢٤٨؛ مرآة الزمان (مخطوط): ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥)؛ تاريخ دمشق ١٩/ ٤٩٣؛ تهذيب الكمال ٦/ ٤٢٨؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٨.

(٢) أُسد الغابة ٥/ ٣٨١؛ المنتظم ٥/ ٣٤٢؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٥ و٤٦؛ الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين): ٨٢؛ تاريخ الطبري ٤/ ٢٥٢ و٢٥٤؛ الفتوح ٢/ ١٨١؛ أنساب الأشراف ٣/ ٤١٥؛ العقد الفريد ٥/ ١٣١.

(٣) صرّح بذلك ابن سعد في الطبقات (ترجمة الإمام الحسين): ٨٢؛ وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: ١١٩؛ والطبراني في المعجم الكبير ٣/ ١٠٩، ح٢٨٠٦؛ والطبري في تاريخه ٤/ ٣٥٦؛ وابن الأثير في أُسد الغابة ٥/ ٣٨١؛ والكامل في التاريخ ٤/ ٨٥؛ وابن الجوزي في المنتظم ٥/ ٣٤٢؛ والردّ على المتعصّب العنيد: ٤٥ و٤٦؛ وسبطه في مرآة الزمان: ٩٩ - مخطوط - (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥)؛ وابن شهر آشوب في المناقب ٤/ ١١٥؛ وابن عساكر في تاريخ دمشق ١٩/ ٤٩٣؛ والمزّي في تهذيب الكمال ٦/ ٤٢٨.

(٤) صرّح بذلك البلاذري في أنساب الأشراف ٣/ ٤١٥؛ وابن عبد ربّه في العقد الفريد ٥/ ١٣١؛ والطبراني في المعجم الكبير ٣/ ١٢٤ ح٢٨٤٨؛ وابن أعثم في الفتوح ٢/ ١٨١؛ والطبري في تاريخه ٤/ ٣٥٢ و٤٥٤؛ والشيخ المفيد في الإرشاد ٢/ ١١٩؛ ومسكويه الرازي في تجارب الأُمم ٢/ ٧٤؛ والخوارزمي في مقتله ٢/ ٥٧؛ والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: ٤٣٢؛ والطبري في إعلام الورى: ٢٤٨؛ والهيثمي في مجمع الزوائد ٩/ ١٩٨.

١١٨

نكتفي بذكر ما أورده الطبري، قال: ثمّ أذِن (يزيد) للناس، فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يزيد قضيب، فهو ينكت به في ثغره، ثمّ قال: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام المرّي:

يُفلِّقن هاماً من رجال أحبّة

إلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما(١)

وقفة مع بعض الكُتب:

١ - ذكر ابن شهر آشوب - عن الطبري والبلاذري والكوفي -: أنّه لما وضِعت الرؤوس بين يدي يزيد، جعل يضرب بقضيبه على ثنيّته، ثمّ قال: يومٌ بيوم بدر، وجعل يقول: نُفلّق هاماً... إلى آخره(٢) .

هذا أيضاً ممّا يدلّ على كفره وزندقته، وتصريح على أنّ ما ارتكبه يزيد كان انتقاماً من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليه يُشير ابن عبّاس ضمن رسالته إلى يزيد.

قال سبط ابن الجوزي: ذكر الواقدي وهشام وابن إسحاق وغيرهم: أنّه كتب ابن عبّاس إلى يزيد كتاباً جاء فيه: ( يا يزيد، وإنّ من أعاظم الشماتة حملك بنات رسول الله وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أُسارى مجلوبين مسلوبين، تُري الناس قدرتك علينا، وأنّك قد قهرتنا واستوليت على آل رسول الله، وفي ظنّك أنّك أخذت بثأر أهلك الكفرة الفجرة يوم بدر، وأظهرت الانتقام الذي كنت تُخفيه والأضغان الذي تكمن في قلبك كمون النار في الزّناد، وجعلت أنت وأبوك دم عثمان وسيلةً إلى إظهارها.

فالويل لك من ديّان يوم الدِّين! ووالله، لئن أصبحت آمناً من جراحة يدي، فما أنت بآمن من جراحة لساني )(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٦؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٥.

(٢) المناقب ٤/ ١١٤.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٧٦.

١١٩

٢ - ذكر الطبري، بإسناده عن القاسم بن عبد الرحمان مولى يزيد بن معاوية: أنّ يزيد قال بعد تمثّله بأبيات الحصين: ( أما والله، يا حسين، لو أنا صاحبك ما قتلتك )(١) .

ففيه:

أوّلاً: أنّه منقول عن مولى يزيد، فهو مُتَّهم في حدّ نفسه.

ثانياً: لو لم يكن راضياً بقتله، فلماذا أساء إلى الرأس الشريف وأمر بسبي أهله إلى الشام؟!

ثالثاً: قد ذكرنا الأدلّة الوافية بأنّه هو الذي أمر بقتل الحسينعليه‌السلام والراضي بقتله، وإليه يُنسب الفعل بالسبب.

رابعاً: لو صحّ النقل نقول: لم يقل هذا إلاّ مراعاةً لوضعه وإبقاءً لحُكمه، والدليل عليه ما رواه سبط ابن الجوزي ( أنّه ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وأنشد للحصين بن الحمام المرّي:... (الأبيات) فلم يبقَ أحد إلاّ عابه وتركه )(٢) .

وبذلك يظهر وهن ما نقله الطبراني عن محمّد بن الحسن المخزومي، أنّه (لما أُدخل ثقل الحسين بن علي على يزيد بن معاوية ووضِع رأسه بين يديه بكى يزيد وقال: نُفلّق... (الأبيات)، أما والله، لو كنت صاحبك ما قتلتك أبداً )(٣) .

وزبير بن بكار روى الخبر عن محمّد بن الحسن، وهو ضعيف ومعاند لأهل البيت؛ قال الشيخ المفيد في شأنه: ( لم يكن موثوقاً به في النقل، وكان مُتّهماً فيما يذكره من بُغضه لأمير المؤمنينعليه‌السلام وغير مأمون فيما يدّعيه على بني هاشم )(٤) .

إنّها مُحاولة شرذمة من الناس لإنقاذ يزيد، وما هي إلاّ كتشبّث الغريق بالتوافه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢.

(٢) مرآة الزمان: ٩٩ (مخطوط) على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥.

(٣) المعجم الكبير ٣/ ١٢٤، ح٢٨٤٨؛ تاريخ الإسلام ٢/ ٣٥٠.

(٤) تزويج عليّ بنته من عمر: ١٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460