مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة8%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 246642 / تحميل: 9462
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

مُقدِّمة مركز الدراسات الإسلامية

التابع لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، ودليلاً على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد: فهذا هو الجزء السادس والأخير من موسوعتنا التاريخية (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة)، ويدور هذا الجزء حول المقاطع الأخيرة من هذه الدراسة، وهي:

١ - الركب الحسيني في الشام.

٢ - عودة الركب الطاهر إلى كربلاء.

٣ - رجوع أهل البيت إلى المدينة.

إذن؛ هذا الجزء يتناول مرحلة ما بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه؛ ومن ثَمّ فهو يُعنى أيضاً بمعرفة نتيجة هذه المسيرة التي سارها هذا الركب الطاهر، ومَن هو المنتصر حقّاً؛ لذلك أفرد المؤلّف الفاضل فصلاً مُستقلاً تحت عنوان (المظلوم ينتصر)، بيّن فيه كيف أنّ نتيجة هذا الصراع الدامي كانت لصالح الحسين المظلومعليه‌السلام ، وأنّ نقطة انقلاب المعادلة بدأت بمُجرّد وصول الأُسارى من آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشام وقصر يزيد؛ ومن هنا استحقّت أن يطلق عليها اسم (المسيرة المظفّرة).

٣

ولما كانت الشام مركز الحُكم الذي أمر بارتكاب هذه الجريمة النكراء، وبقي آل الرسول فيها مدّة شهدوا خلالها حوادث ووقائع، وألقوا هم فيها - بدورهم - خطباً بقيت تُدوِّي في آذان الدهر، وأدّوا أدواراً...

رأى المؤلّف الفاضل إعطاء صورة عن الشام ووضعها قبل ورود أهل البيت، وكذلك عن حكّامها - ويزيد بالخصوص ومسؤوليّته في الموضوع - ليكون الباحث على معرفة بخلفية القضايا التي يتناولها الكتاب.

وهكذا تمّ في هذا الجزء ربط الختام بالمطلع، كما يُقال.

ونحمد الله تعالى على أن وفّقنا في المبدأ والمآل.

بيد أنّ النقطة التي نرى من واجبنا الإشارة إليها، هي أنّ المؤلّف الفاضل سعى لأن يكون كتابه جامعاً في تناوله لمواضيعه، فالتقط كلّ ما له علاقة بأبحاث الكتاب، ونحن لا يسعنا في هذا المقام إلاّ أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى سماحة المؤلّف المحترم الشيخ الأميني - حفظه الله - وكلّ الإخوة الذين آزرونا في مراجعة وتنظيم هذا البحث القيِّم والأجزاء الأُخرى من هذا الكتاب، ونسأل الله أن يتقبّل منّا جميعاً، وأن يوفّقنا لما فيه رضاه، إنّه خير ناصر ومُعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مركز الدراسات الإسلامية          

التابع لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

٤

مُقدِّمة المؤلّف

المسيرة المظفّرة في فصلها الأخير

٥

٦

مقدمة المؤلف

المسيرة المظفّرة في فصلها الأخير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

إنّها مسيرة مُظفّرة، تحمل رسالة خالدة، إلى أُناس تعرَّفوا على الدِّين من طريق حكّامهم الطواغيت، آخذين بأقوالهم، مُمتثلين أوامرهم، تاركين نواهيهم، مُعتقدين أنّهم خلفاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، زاعمين أنّ كلّ صوت يُرفع بوجههم لابدّ أن يُخمد، وكلّ مَن يقف أمامهم لابدّ أن يُقتل، يحسبون أنّ كلّ حركة تتحرّك نحو إيقاظ شعور الأمّة فتنة، وقادتها أرباب الفتنة! والفتنة لابدّ أن تُخمد! وكلّ مَنْ يُعارض السلطة الحاكمة خارجيٌّ، لابدّ أن يُقطع رأسه ويُدار به بالبلدان! ويُصلب في قلب العاصمة، ويُسبى أهله ويُطاف بهم البلاد؛ لكي يتعلّم الجميع أنّه ليس لديهم إلاّ الصمت والالتزام بما يراه الخليفة المتغلِّب على الحُكم مهما كان، وبلغ ما بلغ!

وإلى أُناس تعرّفوا على إسلام أُمويّ في ظلّ حُكمٍ دمويّ! ولم يعرفوا أيّ حقّ لآل بيت نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل لم يعرفوا مَن هو المقتول! ومَن أبوه وجدّه! فكيف يدرون لماذا قُتل! وما الذي دعاه لهذه النهضة الدامية؟

٧

أجل، إنّهم لم يكونوا يعلمون إلاّ كلمة واحدة تعلّموها من وعّاظ سلاطينهم - أصحاب الزمرة المتسلّطة الجائرة الفاسدة - وهي أنّ هؤلاء القتلى خرجوا على أمير المؤمنين يزيد!

لهذه المسيرة رسالتان؛ الأُولى إلى شعب ضائع جاهل بالواقع، قد تربَّى على نهج بني أُميّة، وأُخرى إلى عامّة الأمّة الإسلامية الكبرى، الزاعمة أنّ الحُكم لمن غلب!

وتهدف الرسالتان لبثّ الروح في ضمير هؤلاء الناس، وإحيائهم بعد أن ماتوا معنويّاً، وإيقاظهم من رقدتهم، واستنهاضهم للوقوف بوجه كلّ حاكم جابر وصل بالغلبة إلى السلطة، فاقد لشرائط الحُكم والإمامة، وذاك - لعَمْرِي - هو الإصلاح في أمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما صرّح به سيّد الشهداء وقائد الأحرار الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام في مقولته الشهيرة:(... وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... ) (١) .

وهذا المهمّ تبنّته هذه المسيرة، وعلى رأسها ابن قائد النهضة، الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، وأُخته العقيلة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، وقد نهضا بها على أحسن وجه وفوق ما يُتصوَّر، حتّى انقلبت المعادلة والركب ما زال في قلب العاصمة، ولم يكن ليزيد اللعين بُدٌّ إلاّ البكاء تصنّعاً، والتظاهر بلعن ابن مرجانة والبراءة منه، وإبراز تأسُّفه على ما جرى! وإعادة بقيّة عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة المنوّرة؛ إبقاءً على حكمه وخوفاً على زوال سلطته، وهذا ما سنتوفّر عليه خلال قراءتنا لهذه القطعة من تاريخ النهضة الحسينيّة المباركة، إن شاء الله. والسلام.

محمّد أمين الأمينيّ ( پور أميني )

____________________

(١) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، العلاّمة المجلسي ٤٤/ ٣٢٩.

٨

المدخل

الشام وحكَّامها الأُمويّون

٩

التعرُّف على الشام من الجهات الجغرافية، والطبيعيّة، والاجتماعية، والتأريخية، ومعرفة حُكّامها في تلك الفترة - أي بني أُميّة - وطبيعة حكمهم، وجذور علاقتهم بالشام، ولا سيّما حاكمها آنذاك يزيد بن معاوية... يُعطينا آفاقاً جديدة ورؤىً واضحة، لمعرفة جذور ما يواجهنا حينما نقرأ هذا المقطع من التاريخ، إذاً من الأجدر أن نتوقّف عند هذه المحطّة قبل متابعة مسيرة الركب الطاهر.

١٠

المدخل

الشام وحُكّامها الأُمويّون

التعريف بالشام:

الشام اسم يتناول عامّة الأقاليم الداخلة اليوم في سورية ولبنان وفلسطين. وللّغويّين والجغرافيّين في سبب تسميته شاماً آراء مختلفة، فقيل: سُمّي بسام بن نوح؛ لأنّه نزل به واسمه بالسريانيّة شام بشين مُعجمة. وقيل: لأنّ أرضه مُختلفة الألوان بالحمرة والسواد والبياض؛ فسُمّي شاماً لذلك كما يُسمَّى الخال في بدن الإنسان شامة. وقيل: سُمّي شاماً؛ لأنّه عن شمال الكعبة، والشام لغة في الشمال(١) .

وهو قطرٌ تأخذ فيه الفصول الأربعة حُكمها، وتتمّ في قيعانه وجباله أسباب النعيم، معتدل الأهوية، مُتهاطل الأمطار والثلوج، مُمرع التربة، فيه الغابات والمعادن، والحمّامات المعدنية والأنهار الجارية، والبحيرات النافعة والأجواء البهيجة، والرباع المنبسطة والمناظر المدهشة، فيه تنبت الحبوب والبقول، والأشجار على اختلاف أنواعها(٢) .

من خواصّ الشام:

قيل: إنّ من خواصّها الطاءات الثلاث: الطعن، والطاعة، والطاعون.

أمّا الطعن فمشهور أنّ أجنادها شجعان، وأمّا الطاعة فما يُضرب به المثل، حتّى قيل: إنّما تمشّى الأمر لمعاوية لأنّه كان في أطوع جند، وكان عليّعليه‌السلام في أعصى جند وهم أهل العراق، وأمّا الطاعون فكثير الحدوث فيها...(٣) .

____________________

(١) خُطط الشام، محمد كرد علي ١/ ٧.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٤.

(٣) دائرة المعارف، المعلم بطرس البستاني ١٠/ ٣٩٥.

١١

ومن الخصائص التي امتازت بها الشام - وما تزال - تعايش أصحاب الديانات والقوميّات المختلفة - كالروم والرومان، والفرس والعرب... - فيه(١) .

الشام مدخل الفاتحين:

جاء الفاتحون الشام بحراً وبرّاً... بل من جهاتها الأربع، فجاءها الفراعنة من البحر والبرّ، والبابليّون والفرس من الشرق والشمال، والإسكندر والصليبيّون والعثمانيّون من الشمال، وغازان وهولاكو وتيمور لنك من الشرق، والعرب الفاتحون من الشرق والجنوب، ونابليون من الجنوب ومن الغرب بحراً و...(٢) .

وخضعت دمشق للآشوريّين إلى سنة ٧٢١ حين استولى البابليّون والفرس عليها، ثمّ جاهر أهلها مع سائر السوريّين بالعصيان على بختنصر...

وفي سنة ٣٣١ ق. م استولى إسكندر ذو القرنين عليها، ثمّ صارت من مملكة السلوقيّين اليونانية إلى زمن استيلاء الرومان عليها سنة ٦٤ق. م.

وفي سنة ٥٩ق. م قُتل فيها كثير من الإسرائيليّين، وفي نحو سنة ٢٠ق. م عاد الإسرائيليّون إليها، وفي نحو سنة ٣٧ للميلاد أتاها بولس، وكان مستولياً عليها وقتئذٍ موقّتاً الحارث الغسّانيّ العربيّ حمو هيرودرس الكبير.. ولما تنصّرت الدولة الرومانية ذاعت النصرانية في دمشق وأمر يثودوسيوس بإبطال عبادة الأصنام.. وفي بُرهة وجيزة تنصّر أهلها جميعاً خلا الإسرائيليّين منهم.

وسنة ٥٤٠ للميلاد فتحها الفرس.. وعادت بعد بُرهة قصيرة إلى المملكة الرومانية، وكان عمّالهم فيها بنو غسان، وسنة ٦٣٣ ميلادية فتحها المسلمون.. واستعمل عليها عمر معاوية بن أبي سفيان، وكانت مدّة إمارته عليها عشرين سنة، وسنة (٤١) بايعه الناس! بالخلافة، فهو مؤسّس الدولة الأُمويّة التي جعلت دمشق قاعدة المماليك الإسلامية، وظلّت كذلك إلى سنة ١٣٢ هجرية..(٣) .

____________________

(١ و٢) خطط الشام ١/ ٢٨.

(٣) دائرة المعارف ٨/ ١٨ (بتلخيص).

١٢

فتح الشام:

كانت الشام من أوّل الأقطار التي فكّر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمرها لنشر كلمة التوحيد وبثّ الدعوة إلى الإسلام، وكانت تحت حُكم الرومان منذ سبعة قرون، وملكها صاحب مملكة بيزنطية أو مملكة الروم الشرقية ويُعرف باسم هرقل، وكانت علائق عرب الحجاز في الجاهلية كثيرة جدّاً مع أهل هذا القطر.

بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بدومة الجندل جمعاً كثيراً يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليالٍ، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ستّ عشرة ليلة، فندب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الناس، واستخلف على المدينة، وخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار.. إلى أن صالحهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الجزية، وذلك في السنة السادسة من الهجرة، ثمّ أرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً إلى هرقل - وهو بالشام - والحارث بن أبي شمر - أمير دمشق - يدعوهما إلى الإسلام.

وفي السنة الثامنة للهجرة، بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سريّة كعب بن عُمير الغفاريّ إلى ذات أطلاح من ناحية الشام، وهي وراء وادي القرى بين تبوك وأذرعات.. وفي هذه السنة استنفر الرسولُ الناسَ إلى الشام، فكانت غزوة ذات السلاسل.. ومن السرايا التي أُرسلت إلى الشام سريّة زيد بن حارثة إلى جذام بحسمى وراء وادي القرى ممّا يلي فلسطين من أرض الشام.. وفيه غزوة مؤتة التي بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله جيشاً مؤلّفاً من ثلاثة آلاف مقاتل، بلغوا تخوم البلقاء فلقيتهم جموع هرقل ومعهم العرب المتنصّرة بقرية من قرى البلقاء يُقال لها: مشارف. فانحاز المسلمون إلى قرية يُقال لها: مؤتة. فلقيتهم الروم في جمع عظيم، فاستُشهد من الأُمراء زيد بن حارثة، ثمّ جعفر بن أبي طالب، ثمّ عبد الله بن رواحة..

وفي السنة التاسعة من الهجرة حصلت غزوة تبوك، وكان مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٣

ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف، والجمال اثنا عشر ألفاً.. إلى أن صالح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نجبة بن رؤبة - أسقف أيلة على البحر الأحمر، صالحه - على الجزية، وصالح الرسولُ أهلَ جربا، وأذرح من أرض الشراة، صالح أهل أذرح على مئة دينار، وأهل مقنا - على مقربة من أيلة - على ثلاثمئة دينار، وعلى ربع عروكهم وغزولهم وربع كراعهم.

وفي أواخر أيّام حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جهّز جيشاً إلى الشام، وأمّر عليه أُسامة بن زيد، وقال:( لعن الله مَن تخلّف عن جيش أُسامة... ) (١) .

هذا خلاصة ما جرى في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى اهتمامه الوافر بهذا القُطْر، ولا يخفى أنّ داعي المسألة لم يكن إلاّ إنقاذ البشرية ووضعهم على جادّة الحقيقة، وإيصالهم إلى رحمة الحقّ، وما كان هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله توسيع رقعة حكمه جغرافياً، بل كان ذلك أمراً عرضيّاً تابعاً لبسط كلمة التوحيد، والتفاف الناس حول راية الإسلام، وإنّما هدفه هو هداية الناس إلى الله تبارك وتعالى.

بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّرت الموازين تدريجيّاً، وانقلبيت الدواعي والحوافز شيئاً فشيئاً، وغرّت الدُّنيا كثيراً من الناس، وأصبحت الغنيمة والحصول على المناصب الدنيوية، وبسط السلطة والنفوذ من أهمّ الدواعي لفتوح البلدان، وهذه نقطة مهمّة لابدّ أن نلتفت إليها ونُميّز بها غزوات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا جرى بعده، خاصّة في ظلّ حُكم بني أميّة وبني العبّاس.

يقول صاحب خُطط الشام: وبعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - بعد قتال أبي بكرٍ أهل الرُّدّة - كتب أبو بكر إلى أهل مكّة، والطائف، واليمن، وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد في الشام، ويُرغّبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارعَ الناس إليه بين

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ٦٩ - ١٧٦ (بتلخيص).

١٤

مُحتسبٍ وطامعٍ، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال، وهم: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص.. وقد شيّع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان راجلاً إلى ما بعد ربض المدينة وأوصاه بوصايا.. إلى أن وصل الجيش إلى مشارف الشام، فنزل في أبل وزيزاء والقسطل، وكان جيش الروم من دون زيزاء بثلث، وطلع ماهان قائد الروم وقدم قدّامه الشماسة والرهبان والقسّيسين يحضّون جيش الروم على القتال، وكان هرقل - وهو من عظام القوّاد - أدرك الخطر، ورأى - لما أتاه الخبر بقرب جيش المسلمين - أن لا يُقاتلهم ويُصالحهم، وقال لقومه: فوالله، لأن تُعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفاً وتقرُّ بكم جبال الروم، خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويُشاركوكم في جبال الروم. فلما رآهم يعصونه ويردّون عليه بعث أخاه تيودورا وأمّر الأُمراء، وأوّل وقعة كانت بين المسلمين والروم بقرية من قرى غزة يُقال لها: دائن. في ١٢هـ، كانت بينهم وبين بِطْريق غزة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهُزم الروم، وتوجّه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق.. وانتهى إليه ستّة من قوّاد الروم.. وهُزم الروم، هزمهم المسلمون..

أمّا أبو عبيدة فصالحهم، وخالد بن الوليد حاربهم.. حتّى أن فتح المسلمون جميع أرض حوران وغلبوا عليها سنة ١٣هـ، وأهمّ الوقائع التي انهزم فيها الروم شرّ هزيمة ولحق فلّهم بالشمال وقعة يرموك - واليرموك نهر - فهي الوقعة الفاصلة التي هان (للمسلمين) بها الاستيلاء على القدس ودمشق وما إليها، ثمّ على حمص وحماة وحلب وما إليها من البُلدان.. في حين ما كان خالد يريد الفتح والغلبة، جاءه البريد يُعرّفه بموت أبي بكر وخلافة عمر وتأمير أبي عبيدة على الشام كلّه وعزل خالد، فأخذ الكتاب منه وتركه في كنانته، ووكّل به مَن يمنعه أن يُخبر الناس من الأمر لئلاّ يضعفوا!

وتوفّي أبو بكر قبل فتح اليرموك بعشر ليالٍ، وبعد أن أُصيب الروم بالهزيمة القاطعة على اليرموك، كانت وقعة فحل من الأردن بعد خلافة عمر بن

١٥

الخطّاب بخمسة عشر شهراً، ولما انتصر المسلمون على اليرموك كان هرقل في البيت المقدّس، جاءها للاحتفال بتخليص الصليب الذي استردّه قبل ذلك فصار إلى أنطاكية، واستنفر الروم وأهل الجزيرة، وبعث عليهم رجالاً من خاصّته وثقاته، فلقوا المسلمين بفحل، فقاتلوهم أشدّ قتال حتّى ظهروا (أي ظهر المسلمون) عليهم، وقُتل بِطْريقهم وزهاء عشرة آلاف معه، وتفرّق الباقون من مُدن الشام، ولحق بعضهم بهرقل.. ثمّ نهض المسلمون إلى الروم وهم بفحل فاقتتلوا، فهُزمت الروم ودخل المسلمون فحل في ذي القعدة سنة ١٣هـ.. وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن عنوة ما خلا طبرية، فإنّ أهلها صالحوه.. وفتح عمرو بن العاص غزّة ثمّ سبسطية ونابلس ويبنى وعمودس و... وظلّت القدس وقيسارية مُحاصرتَين، ولم تُفتح القدس إلّا سنة خمس عشرة أي بعد فتح دمشق بسنة...(١) .

فتح دمشق:

فتحها المسلمون في رجب سنة ١٤ للهجرة بعد حصار ومُنازلة، وكان قد نزل على كلّ باب من أبوابها أمير من المسلمين، فصدّهم خالد بن الوليد من الباب الشرقيّ حتّى افتتحها عنوة، فأسرع أهل البلد إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وكان كلٌّ منهم على ربع الجيش، فسألوهم الأمان فأمنوهم، وفتحوا لهم الباب، فدخل هؤلاء من ثلاثة أبواب بالأمان، ودخل خالد من الباب الشرقي بالقهر وملكوهم...(٢) .

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ٧٧ - ٨٤ (بتلخيص وتصرّف).

(٢) دائرة المعارف ٨/ ٢.

١٦

بنو أُميّة والشام

جذور العلاقة:

أُميّة هو عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب... وعبد شمس - والد أُميّة - هو أخو هاشم - الجدّ الثاني للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله -، قيل: وُلد هاشم وعبد شمس توأمين، وإنّ أحدهما قُبل الآخر وله إصبع مُلتصقة بجبهة صاحبه، فتنجّبت فسال الدم، فقيل: يكون بينهما دم..

وأوّل منافرة كانت بين أُميّة وعمّه هاشم، أنّ هاشماً لما وليَ بعد أبيه عبد مناف ما كان له من السقاية والرفادة، حسده أُميّة على رئاسته وإطعامه، فتكلّف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز فشمَّتت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنِّه وقَدره، فلم تدَعْه قريش حتّى نافره على خمسمئة ناقة والجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضي أُميّة، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعيّ ومنزله بعسفان، فقضى لهاشم بالغلبة. وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها الناس، وغاب أميّة عن مكّة بالشام عشر سنين، فكانت هذه أوّل عداوة بينهما(١) .

لو صحّ هذا النقل، فهذا يعني أنّ هذه المسألة كانت انطلاقاً لأمرين:

الأمر الأوّل: كانت بداية العداوة بين بني أُميّة وبني هاشم، بداعي الحسد، وبعد ظهور الإسلام تغيّرت الدواعي وكثرت، وحصلت آفاق جديدة في البين، وهذا ما سنُبيّنه في الأبحاث الآتية.

الأمر الثاني: بداية علاقة بني أُميّة بالشام، فإنّ الشام بموقعه الخاص، وطبيعته الجميلة، وأنهاره الكثيرة، وتنوّع سُكّانه أصبح موقعاً مُهمّاً للتجارة؛ ولذلك نرى قريشاً - ومنهم أبو سفيان الأُمويّ - أنشأوا الروابط الاقتصادية والتجارية مع الشام.

____________________

(١) دائرة المعارف ٤/ ٤١٩.

١٧

ومن الغريب جدّاً أن نرى بني أُميّة - الطلقاء - يقومون بدور مُهمّ في فتح الشام، ويأخذون بزمام أمرها قبل الفتح، ولم يتركوه حتى غُلبوا على أمرهم.

فأبو سفيان بنفسه يحضر المعركة في مشيخة من قريش، يُحارب تحت راية ابنه يزيد، وكان له ولابنيه يزيد ومعاوية - بل ولجماعة من أُسرته بل للنساء منهنّ - اليد الطولى والكعب المعلّى في فتح الشام!.. ولقد قاتل بعض النساء بالفعل يوم اليرموك، مثل جويرية ابنة أبي سفيان وكانت مع زوجها. وكذلك هند بنت عتبة أمّ معاوية بن أبي سفيان )(١) .

هذا الكلام وإن لم يخلُ من المبالغة؛ بسبب حُبّ المؤلِّف لمعاوية وانحرافه عن الحقّ - كما نلمسه في مطاوي كتابه - بيدَ أنّ دوافع المسألة معلومة إجمالاً، وتتمثَّل في حُبّ بني أُميّة لهذه المنطقة وتعلُّقهم بها، ولا يبعد أن تكون ثمّة خطّة مدروسة بدأوا بتنفيذها شيئاً فشيئاً.

إذنْ؛ حضر المعركة أبو سفيان وابناه وزوجته وبعض بناته وأُسرته، وأصبح يزيد بن أبي سفيان حاكماً على دمشق، بوعدٍ من الخليفة الذي شيّعه راجلاً إلى خارج المدينة، كما مرّ ذكره عن (الخُطط)، وبقي الشام ليزيد بن أبي سفيان، لكنّه لم يطُلْ أمدُ ولايته؛ لأنّه هلك في طاعون عمواس(٢) ، وبعد يأتي دور أخيه معاوية بن أبي سفيان.

معاوية مؤسِّس الحكومة الأُمويّة السوداء:

لما هلك يزيد بن أبي سفيان والي دمشق سنة ١٨ من الهجرة، ولّى عمر بن الخطّاب أخاه معاوية بن أبي سفيان، فلم يزل والياً لعمر حتّى قُتل عمر، ثمّ ولاّه

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ٩٣.

(٢) المصدر: ٩٧. وعمواس من الرملة على أربعة أميال ممّا يلي بيت المقدس ومات فيه ٢٥٠٠٠ إنسان.

١٨

عثمان، وأقرَّ عمّال عمر على الشام، فلما مات عبد الرحمان بن علقمة الكناني - وكان على فلسطين - ضمّ عمله إلى معاوية، وكان عمير بن سعيد الأنصاري في سنة ٢١ على دمشق والثنيَّة وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة، ومعاوية على الأردن وفلسطين، والسواحل وأنطاكية، ومعرّة ومصرين وقيليقية، ثمّ جعل عمير في سنة ٢٣ على حمص ومعاوية على دمشق.

اجتمع الشام على معاوية لسنتين من إمارة عثمان، أضاف عثمان إليه حمص وحماة وقنسرين والعواصم وفلسطين مع دمشق، ورزقه ألف دينار كلّ شهر(١) .

وهكذا ترسّخ الحُكم الأُموي في الشام، في ظلّ قيادةٍ وتوجّهات جاءت خطواتها تنفيذاً لما قاله أبو سفيان، بعد استقرار خلافة عثمان: ( يا بني أُميّة، تلقّفوها تلقّف الكُرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وراثة )(٢) .

يقول صاحب الخُطط: ( وما زال عثمان على شيخوخته مغلوباً لمروان وبني أُميّة، أخذ الناس ينقمون - في الحجاز وغيره - على عثمان لستّ سنين من خلافته، فاجتمع ناس من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتبوا كتاباً ذكروا فيه عدّة أمور، منها ما كان من هبة خُمس أفريقية لمروان، وما كان من تطاوله في البنيان؛ حتّى عدّوا سبع دور بناها بالمدينة، داراً لنائلة، وداراً لعائشة وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان القصور بذي خشب، وعمارة الأموال بها من الخُمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمّه من بني أُميّة أحداث وغُلمة، لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور )(٣) ، إلى أن حصلت فتنة قتل عثمان.

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ١٠٠.

(٢) الغدير ٨/ ٢٧٨.

(٣) خُطط الشام ١/ ١٠٣.

١٩

يقول محمّد فريد وجدي: ( لما قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، وتولَّى الخلافة عليُّ بن أبي طالب وهو من قريش، حدث شِقاق بين الأُسرتين الأُمويّة والقرشية، وتداعى الناس إلى العصبية الجاهلية، وكان في مقدّمة النافخين في نار هذه الفتنة معاوية بن أبي سفيان الأُمويّ والي الشام، فقام يُطالب بدم عثمان مُتّهماً عليّ بن أبي طالب بالإغراء على قتله، ولما كانت ولايته للشام منذ عشرين سنة، وأهل الشام لا يدرون من أمر الخلافة إلاّ ما كان يُريد لهم، التفّت حوله جموع منهم أكثرهم من شذّاذ القبائل العربية وأصحاب المطامع الذاتية، فشقّ عصا الطاعة لعليّ وادّعى لنفسه الخلافة... )(١) .

لقد استفاد معاوية من جهل الناس أقصى ما يمكن، مستنداً إلى مكره وشيطنته، ولقد كان أهل الشام قريبي العهد بالإسلام، ما عرفوه إلاّ من خلال حُكم الخلفاء وإمارة أمرائهم، وما وجدوه إلاّ مجسّداً في شخص معاوية المتستّر بالدين، فهو يؤمّهم بالصلاة وهم يقتدون به، يخطبهم في الجُمع، ويترأسهم باسم الخلافة الإسلامية، ويُدير شؤونهم في الحرب والسِّلْم.

وانتهز معاوية الفرصة في فتنة قتل عثمان.

ومع أنّه كان منصوباً من قِبله على الشام، وأميراً من أُمرائه لم يُلبِّ دعوته لنُصرته حين كتب عثمان إليه: إنّ أهل المدينة قد كفروا! وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة؛ فابعث إليّ من قِبَلك من مُقاتلة أهل الشام على كلّ صعب وذلول.

ولقد أخطأ صاحب الخُطط؛ إذ زعم أنّ معاوية تربّص به وكره إظهار مُخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم، فأبطأ أمره على عثمان حتّى قُتل(٢) .

وإنّما أراد معاوية أن يُبدّل الإمارة بالخلافة.

____________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين، محمّد فريد وجدي ١/ ٦٢٢.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٠٣.

٢٠

وبعد قتل عثمان تستّر بقميصه، وبه رسّخ أركان حُكمه وحكومة أُسرته، وبثّ الفتنة في أوساط المجتمع الإسلامي، وحمل راية الشقاق والخلاف ضدّ خليفة المسلمين الشرعي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

قال في الخُطط: ( اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان؛ ليعيد الأمر إلى بني أُميّة ويُصبحوا أُمراء في الإسلام!.. وكان النعمان بن بشير أتاه إلى دمشق بقميص عثمان الذي قُتل فيه مُخضّباً بدمه، وبأصابع نائلة زوجته، فوضع القميص على منبر دمشق، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع مُعلّقة في أردانه، وتعاهد الرجال من أهل الشام على قتل قتلة عثمان ومَن عرض دونهم بشيء أو تُفنى أرواحهم، وكان ستّون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان.. وكان عمرو بن العاص - لما نشب الناس في أمر عثمان - في ضيعة له بالسبع من حيّز فلسطين قد اعتزل الفتنة! فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه، ووعده بمُلك مصر إن هو ظفر بعليّ، فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكنديّ رأس أهل الشام، فسار هذا يستقري مدنها مدينةً مدينةً، يُحرّض الناس على الأخذ بدم عثمان، فأجابه الناس كلّهم إلاّ نفراً من أهل حمص نُسَّاكاً، فإنّهم قالوا: نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منّا... )(١) .

ومن هنا انطلقت شرارة حرب صِفِّين، ولا مجال لذكر تفاصيلها الآن.

إسلام أُمويّ وحكم دمويّ!

هنا إسلام أُمويّ ينطق بمنطق القهر والقوّة، برهانه السلاح، ودليله قمع كلّ مَن يقوم بالكفاح، يُنفّذه أرباب السلطة والسيف، ويُزيِّنه البائعون دينهم بدنياهم، المشترون سخط الخالق برضى المخلوق.

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ١٠٥.

٢١

ترى مظاهر الإسلام من الصلاة والصوم والحجّ و..، لكنّها قشر بلا لُبٍّ، وجسد بلا روح؛ فالطليق ابن الطليق يدّعي الخلافة الإسلامية، ولا يعرف الناس حقّ عليّعليه‌السلام حتى تشتبه المسألة على العامّة ويتأوّه أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذه الكلمات:

( فيا عجباً للدهر! إذ صِرتُ يُقرن بي مَن لم يسعَ بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يُدلي أحدٌ بمثلها... )(١) .

وللمال دوره الهامّ في تثبيت ما يُريده الحُكّام؛ فلقد بثّوه ووزّعوه على أوساط الضعفاء والمحبّين لحلاوة الدُّنيا، الناسين مرارة حساب العُقبى، فأصبحوا ساكتين صامتين، كأن لم يحصل شيء ولم يحدث أيّ أمر!

( خَطَبَ معاوية يوماً بمسجد دمشق، وفي الجامع يومئذٍ من الوفود علماء قريش وخطباء ربيعة ومدارهها، وصناديد اليمن وملوكها، فقال معاوية: إنّ الله تعالى أكرم خلفاءه فأوجب لهم الجنّة، فأنقذهم من النار، ثمّ جعلني منهم! وجعل أنصاري أهل الشام، الذابّين عن حرم الله! المؤيَّدين بظفر الله! المنصورين على أعداء الله!!...

وفي الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان، فقال الأحنف لصعصعة: (أتكفيني أم أقوم أنا إليه؟ (فقال صعصعة:) بل أكفيكه أنا )، ثمّ قام صعصعة فقال: يا بن أبي سفيان، تكلّمت فأبلغت ولم تُقصِّر دون ما أردت، وكيف يكون ما تقول وقد غَلَبْتنا قسراً وملكتنا تجبُّراً ودِنتنا بغير الحقّ، واستوليت بأسباب الفضل علينا؟!

فأمّا إطراؤك أهل الشام، فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم! قوم ابتعتَ منهم دينهم وأبدانهم بالمال، فإن أعطيتهم حاموا عنك ونصروك! وإن

____________________

(١) نهج البلاغة، كتاب ٩.

٢٢

منعتهم قعدوا عنك ورفضوك... )(١) .

وأكثروا وضع الأحاديث في فضل الشام، حتّى كأن ليس لله تعالى بشيء من الأرض حاجة إلاّ بها - كما قال محمد الصغاني(٢) - ونشروا لزوم اتّباع كلّ أمير وحُرمة الخروج عليه، ودعوا إلى الصلاة خلف كلّ إمام، برّاً كان أو فاجراً، وبثّوا فضل الغزو في البحر، وتركوا الواقع الثابت، وصار حُبّ عليّ وآله أكبر جُرم لا يُغتفر، وسبُّه على المنابر يجهر(٣) .

نعم، إنّ معاوية تمكّن من بسط حُكمه الجائر، بفضل المال الوافر، وحدّة سيفه الشاهر، وقتله الأفاضل من الصحابة والتابعين الأكابر، مثل عمرو بن الحمق، وحجر بن عديّ وأصحابه، كما احتجّ به الإمام الحسينعليه‌السلام في ضمن رسالته التي أرسلها إلى معاوية:

( ألستَ قاتل حجر بن عديّ أخي كندة وأصحابه الصالحين العابدين، كانوا يُنكرون الظلم ويستعظمون المنكر والبِدَع، ويؤثرون حُكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكَّدة، لا تأخذهم بحدَث كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في صدرك عليهم؟!

أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفّرت لونه ونحّلت جسمه بعد أن أمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجل

____________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسي، ٥، ح٤، المجلس الأوّل.

(٢) دائرة المعارف ١٠/ ٣٩٤.

(٣) للمزيد من معرفة الوثائق والتفاصيل حول هذا الموضوع راجع الجزء الأول من هذه الموسوعة: الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة، تأليف: علي الشاوي، ص١١٦ - ١٢٨.

٢٣

وميثاقه ما لو أعطيته العُصْم ففهمته لنزلت إليك من شغف الجبال، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ، واستخفافاً بذلك العهد؟! ...

أوَ لست صاحب الحضرميّين، الذين كتب إليك فيهم ابن سميّة: أنّهم على دين عليّ ورأيه. فكتبت إليه: اقتل كلَّ مَن كان على دين عليّ ورأيه. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ - والله - وابن عليّ الذي كان يضرب عليه أباك... )(١) .

فبمنطق القوّة أخذ معاوية البيعة لولَده يزيد، كما اعترف بذلك الجميع، ومنهم صاحب خُطط الشام بقوله:

( أوعز معاوية سرّاً إلى ولاة الأمصار، أن يوفِدوا الوفود إليه يُزيّنون له إعطاء العهد لابنه يزيد، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعوه، والسيوف مسلولة - فيما قيل - على رقاب الصحابة في مسجد الرسول، وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها، وجعلها كالملك يورِّثها الأب ابنه أو مَن يراه أهلاً لها من خاصّته، أو كسرويّة أو قيصريّة، على سنّة كسرى وقيصر كما قالوا )(٢) .

ذكر علماء السِّيَر، عن الحسن البصريّ أنّه قال: ( قد كانت في معاوية هنات لو لقي أهل الأرض ببعضها لكفاهم: وثُوبه على هذا الأمر واقتطاعه من غير مشورة من المسلمين، وادّعاؤه زياداً، وقتله حجر بن عديّ وأصحابه، وبتوليته مثل يزيد على الناس )(٣) .

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ٢/ ٩٠ - ٩١.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٠٩.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٨٦.

٢٤

مَن هو يزيد؟

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأُمّه ميسون بنت بجدل بن دلجة بن قنافة أحد بني حارثة بن جناب.

ولِد سنة ٢٥هـ، وكان آدم جعداً مهضوماً أحور العين، بوجهه آثار جدريّ، حسن اللحية خفيفها(١) .

لهوه:

قال البلاذريّ: ( المدائني والهيثم وغيرهما قالوا: كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه أبا قيس، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل، أصاب خطيئة فمُسخ، وكان يسقيه النبيذ ويضحك ممّا يصنع! وكان يحمله على أتان وحشيّة ويُرسلها مع الخيل فيسبقها، فحمله عليها يوماً وجعل يقول:

تمسَّك أبا قيس بفضل عنانها

فليس عليها إن هلكت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلَّها

وخيل أمير المؤمنين أتان

قال المسعودي: وكان على أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مُشمّر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش مُلمع بأنواع الألوان.

قالوا: وكان يزيد همّ بالحجّ ثمّ إتيان اليمن، فقال رجل من تنوخ:

يزيد صديق القرد ملَّ جوارنا

فحنَّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود )(٢)

وروى الباعوني نحوه عن الفوطي في تاريخه، وفيه: أنّ يزيد كان يسقي قرده

____________________

(١) العقد الفريد ٥/ ١٢٤. ونحوه في: الجوهر الثمين: ٨٠؛ التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٢) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٥

فضل كأسه، وفيه أيضاً: وجاء يوماً سابقاً فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، وأمر أهل الشام أن يُعزّوه فيه! وأنشأ يقول:

كمْ قوم كـرام ذو مـحافظة

إلاّ أتـانا يُـعزّي فـي أبـي قيس

شـيخ الـعشيرة أمـضاها وأجملها

إلى المساعي على الترقوس والريس

لا يُـبعد الله قـبراً أنـت سـاكنه

فـيه جـمال وفيه لحية التيس(١)

فسقه:

قال ابن الصبان: ( وأمّا فسقه فقد أجمعوا عليه )(٢) .

روى السيّد ابن طاووس، عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال:( لما أتوا برأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين عليه‌السلام ويضعه بين يديه ويشرب عليه ) (٣) .

وفي التنبيه والإشراف: ( كان (يزيد) يُبادر بلذَّته، ويُجاهر بمعصيته، ويستحسن خطأه، ويهوّن الأمور على نفسه في دينه إذا صحّت له دنياه )(٤) .

وعن المدائني: كان يزيد يُنادم على الشراب سرجون مولى معاوية، وليزيد شعر منه قوله:

ولها بالماطرون إذا

أكل النمل الذي جمعا

منزل حتّى إذا ارتبعت

سكنت من جلّق بيعا

في جنان ثَمّ مؤنقة

حولها الزيتون قد ينعا(٥)

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٣.

(٢) إسعاف الراغبين: ١٩٣.

(٣) الملهوف: ٢٢٠.

(٤) التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٥) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠١.

٢٦

وقال المسعوديّ: ( وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومثالب كثيرة، من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول، ولعن الوصيّ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء، والفسق، والفجور... )(١) .

وقال الكيا الهراسي في شأنه: ( لو مُددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل... كيف لا وهو اللاّعب بالنرد والمتصيّد بالفهود ومُدمن الخمر؟!... )(٢) .

وقال الذهبي: ( كان ناصبيّاً فظّاً، يتناول المسكر ويفعل المنكر... )(٣) .

وقال أبو علي مسكويه الرازي: ( وظهر في المدينة، أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يُشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتّى خلعوه وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل )(٤) .

وعن ابن حجر: ( أنّ يزيد قد بلغ من قبايح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه )(٥) .

قال المسعودي: ( ولما شمل الناس جورُ يزيد وعمّاله، وعمّهم ظلمه وما ظهر من فسقه، من قتله ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيّته، وأنصف منه لخاصّته وعامّته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم، وهو عثمان بن محمّد بن أبي سفيان، ومروان بن الحَكم، وسائر بني أُميّة )(٦) .

____________________

(١) مروج الذهب ٣/ ٧٢.

(٢) هامش تاريخ نيسابور: ٥٩٨ في ترجمته.

(٣) شذرات الذهب ١/٦٨.

(٤) تجارب الأُمم ٢/ ٧٦

(٥) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨ عن شرح الهمزية لابن حجر.

(٦) مروج الذهب ٣/ ٦٨.

٢٧

وقال المنذر بن الزبير - لما قدم المدينة -: ( إنّ يزيد قد أجازني بمئة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أُخبركم خبره، والله، إنّه ليشرب الخمر، والله، إنّه ليسكر حتّى يدَع الصلاة )(١) .

قال اب ن حجر: ( وعلى القول: بأنّه مُسلم. فهو فاسق شرّير سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

وذكر البلاذري في أنساب الأشراف: ( وذكر لي شيخ من أهل الشام: أنّ سبب وفاة يزيد، أنّه حمل قرده على الأتان وهو سكران، ثمّ ركض خلفها فاندقّت عنقه أو انقطع في جوفه شيء )(٣) .

كتب الأستاذ عبّاس محمود العقّاد: ( الروايات لم تُجمِع على شيء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذّات، وتوانيه عن العظائم.. وقد مات بذات الجنب وهو لما يتجاوز السابعة والثلاثين، ولعلّها إصابة الكبد من إدمان الشراب، والإفراط في اللذات، ولا يُعقل أن يكون هذا كلّه اختلاقاً واختراعاً من الأعداء؛ لأنّ الناس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص، وهما بغيضان أشدّ البغض إلى أعداء الأُمويّين..؛ ولأنّ الذين حاولوا ستره من خدّام دولته لم يُحاولوا الثناء على مناقب فيه تحلّ عندهم محلّ مساوئه وعيوبه، كأنّ الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان، ولم يكن هذا التخلّف في يزيد من هزال في البُنية أو سقم اعتراه كذلك السقم الذي يعتري أحياناً بقايا السلالات التي تهمُّ بالانقراض والدثور، ولكنّه كان هزالاً في الأخلاق وسقماً في الطويّة.. قعد به العظائم مع

____________________

(١) الغدير ١٠/ ٢٥٦ عن كامل ابن الأثير ٤/ ٤٥، وتاريخ ابن كثير ٨/ ٢١٦.

(٢) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٣) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٨

وثوق بنيانه، وضخامة جثمانه، واتّصافه ببعض الصفات الجسدية التي تزيد في وجاهة الأُمراء، كالوسامة وارتفاع القامة، وقد أُصيب في صباه بمرض خطير - وهو الجدريّ - بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنّه مرض كان يشيع في البادية، ولم يكن من دأبه أن يقعد بكلّ مَن أُصيب به عن الطموح والكفاح )(١) .

كفره:

(الارتداد هو الكفر بعد الإسلام، ويتحقّق بالبيّنة، وبالإقرار على النفس بالخروج من الإسلام، أو ببعض أنواع الكفر - وبكلّ فعل دالّ صريحاً على الاستهزاء بالدِّين والاستهانة به ورفع اليد عنه - وبالقول الدالّ صريحاً على جحد ما عُلم ثبوته من الدِّين ضرورة أو على اعتقاده ما يحرم اعتقاده بالضرورة من الدِّين... )(٢) .

إذا حكمنا بظاهر الإسلام في حقّ أبي سفيان ومعاوية بعد فتح مكّة - وإن كان للتوقّف في ذلك مجال واسع، تؤيّده الشواهد التاريخية في حياتهما السوداء - فإنّنا نحكم بارتداد يزيد عنه؛ وذلك استناداً إلى أشعاره التي أفصح بها عن الإلحاد، وأبان عن خبث ضميره وعدم الاعتقاد، وفيها:

لـعبتْ هـاشم بـالملك فلا

خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ولـقالوا يـا يـزيد لا تُشل

فـجـزيناهم بـبدرٍ مـثلها

وأقـمنا مـثل بـدرٍ فاعتدل

____________________

(١) أبو الشهداء الحسين بن علي: ٦٨.

(٢) أُنظر جواهر الكلام ٤١/ ٦٠٠ - ٦٠١.

٢٩

لستُ من خِندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل(١)

وفيها:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني(٢)

ما قالته زينب الكبرى:

وأوّل مَن استند إلى أشعاره وأثبت كفره - في مجلسه وأمامه - هي العقيلة زينب الكبرى، بنت الإمام أمير المؤمنينعليهما‌السلام التي وصفها الإمام زين العابدينعليه‌السلام : بأنّها(... عالمة غير مُعلَّمة... ) (٣) . فإنّها قالت ليزيد: ( أنسِيتَ قول الله عزّ وجلّ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (٤) .. ولا غرو منك ولا عجب من فعلك، وأنّى يُرتجى الخير ممّن لفظ فوه أكباد الشهداء! ونبت لحمه بدماء الشهداء! ونبت لحمه بدماء السعداء! ونصب الحرب لسيّد الأنبياء! وجمعَ الأحزاب! وشهرَ الحراب! وهزّ السيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! أشدّ العرب لله جحوداً! وأنكرهم لرسوله! وأظهرهم له عدواناً وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً! ألا إنّها نتيجة خِلال الكفر! وضبّ يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر! فلا يستبطئ في بغضنا أهلَ البيت مَن كان نظره إلينا شنفاً وشنآناً وإحناً وأضغاناً! يُظهر كفره برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! ويُفصح ذلك بلسانك وهو يقول - فرحاً بقتل ولده وسبي ذرّيته - غير متحوّب ولا مُستعظم، يهتف بأشياخه:

____________________

(١) يأتي الكلام حول أشعاره وتمثُّله بأبيات ابن الزبعرى مُفصّلاً.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) العوالم ١٧/ ٣٧٠.

(٤) آل عمران: ١٧٨.

٣٠

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ولقالوا يا يزيد لا تُشل

مُنتحياً على ثنايا أبي عبد الله - وكان مُقبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ينكتها بمِخصرته، وقد التمع السرور بوجهه، لعَمْرِي، لقد نكأتَ القرحة، واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دمَ سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطّلب، وهتفتَ بأشياخك، وتقرّبتَ بدمه إلى الكفرة من أسلافك... )(١) .

ما قاله بعض الصحابة:

واستند إلى تلك الأبيات بعض الصحابة، وأثبت ارتداد يزيد بتمثّله لها.

ذكر ابن عبد ربّه: ( بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحُد: ليت أشياخي... الأبيات.

فقال له رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ارتددت عن الإسلام - يا أمير المؤمنين -؟ قال: ( بلى، نستغفر الله )، قال: ( والله، لا ساكنتك أرضاً أبداً ). وخرج عنه )(٢) .

أقوال العلماء في كفره:

صرّح كثير من العلماء والمؤرِّخين، وأرباب الفكر بكفر يزيد بن معاوية، نكتفي بذكر بعضهم:

رأي الإمام أحمد بن حنبل:

قال الشبراوي: ( قال العلاّمة ابن حجر في شرح الهمزية: إنّ يزيد قد بلغ من قبائح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه، بل قال الإمام أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به علماً وورعاً يقضيان، بأنّه لم يقل ذلك إلاّ لقضايا وقعت منه صريحة في ذلك ثبتت

____________________

(١) الاحتجاج ٢/ ١٢٤ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٨.

(٢) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

٣١

عنده )(١) .

رأي ابن القفطي:

قال الباعوني: ( وذكر ابن القفطي في تأريخه قال: إنّ السبي لما ورد على يزيد بن معاوية خرج لتلقّيه، فلقي الأطفال والنساء من ذرّية علي والحسن والحسين، والرؤوس على أسنّة الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة العقاب، فلما رآهم أنشد:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرقت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني بذلك: أنّه قتل الحسين بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، مثل عُتبة جدّه ومَن مضى من أسلافه، وقائل مثل هذا بريء من الإسلام، ولا يُشكّ في كفره )(٢) .

رأي الباعوني:

قال: وما أظنّ أنّ مَن استحلّ ذلك ( قتل الحسينعليه‌السلام )، وسلك مع أهل النبيّ هذه المسالك شمّ ريحة الإسلام، ولا آمن بمحمّد عليه الصلاة والسلام، ولا خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولا آمن طرفة [عين] بربّه، والقيامة تجمعهم وإلى ربّهم مرجعهم.

ستعلم ليلى أيّ دين تداينت

وأيّ غريمٍ في التقاضي غريمها(٣)

رأي ابن عقيل:

ذكر سبط ابن الجوزيّ، عن ابن عقيل أنّه قال: وممّا يدلّ على كفره (يزيد) وزندقته - فضلاً عن سبّه ولعنه - أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) المصدر ٢/ ٣١١.

٣٢

عـليّة هـاتي واعـلني وتـرنَّمي

بـدلّـك إنّـي لا أُحـبّ الـتناجيا

حـديث أبـي سفيان قِدْماً سمى بها

إلـى أُحُـدٍ حـتّى أقـام الـبواكيا

ألا هـات فـاسقيني على ذاك قهوةً

تـخيَّرها الـعنسي كـرماً شـاميا

إذا مـا نـظرنا فـي أُمـورٍ قديمة

وجـدنا حـلالاً شـربها مُـتواليا

وإن مُـتّ يـا أُمّ الأُحيمر فانكحي

ولا تـأملي بـعد الـفراق تـلاقيا

فـإنّ الـذي حُـدِّثْتِ عن يوم بعثنا

أحـاديث طسم تجعل القلب ساهيا

ولابـدّ لـي مـن أن أزور محمّداً

بمشمولة صفراء تروي عظاميا(١)

رأي اليافعي:

وعن اليافعي: وأمّا حُكم مَن قتل الحسين، أو أمر بقتله ممّن استحلّ ذلك فهو كافر، وإن لم يستحلّ ففاسق فاجر، والله أعلم(٢) .

رأي القاضي أبي يعلى وابن الجوزي:

قال الآلوسيّ: وقد جزم بكفره - أي يزيد بن معاوية - وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم الحافظ ناصر السنّة ابن الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى(٣) .

رأي الكيا الهراسي:

قال: هو (يزيد) اللاّعب بالنرد، المتصيّد بالفهد، والتارك للصلوات، والمدمن للخمر، والقاتل لأهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمصرّح في شعره بالكفر الصريح(٤) .

رأي سبط ابن الجوزي:

قال سبط ابن الجوزيّ - بعد ذكره استناد ابن عقيل

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩٠.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

(٣) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٤) جواهر المطالب ٢/ ٣٠١.

٣٣

بأشعار يزيد على كفره وزندقته(١) - قلت: ومنها قوله:

ولو لم يمسَّ الأرض فاضل بردها

لما كان عندي مَسحة في التيمّم

ومنها: لما بدت تلك الحمول وأشرقت - وقد ذكرناها -.

ومنها قوله:

مـعشر الـنُّدمان قوموا

واسمعوا صوت الأغاني

واشـربوا كـأس مدام

واتـركوا ذكر المغاني

أشـغلتْني نغمة العيدان

عن صـوت الأذانِ

وتـعوّضتُ عن الحور

خـموراً فـي الـدنان

إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه، ولهذا تطرّق إلى هذه الأُمّة العار بولايته عليها، حتّى قال أبو العلاء المعرّي - يُشير بالشنار إليها -:

أرى الأيّام تفعل كلّ نُكر

فما أنا في العجائب مُستزيد

أليس قريشكم قتلت حسيناً

وكان على خلافتكم يزيد

رأي ابن عساكر:

حُكي عن ابن عساكر أنّه قال: نُسب إلى يزيد قصيدة منها:

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لـعبت هـاشم بـالملك فلا

مَـلَكٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

فإن صحّت عنه فهو كافر بلا ريب، انتهى معناه(٢) .

رأي الأجهوري:

قال: وقد اختار الإمام محمّد بن عرفة والمحقّقون من أتباعه

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩١.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

٣٤

كفر الحجّاج، ولا شكّ أنّ جريمته كجريمة يزيد، بل دونها(١) .

رأي السعد التفتازاني:

قال: والحقّ أنّ رضى يزيد بقتل الحسين، وإهانته أهل بيت رسول الله ممّا تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً، فنحن لا نتوقّف في شأنه، بل في إيمانه، فلعنة الله عليه، وعلى أنصاره، وعلى أعوانه.

قال الشبراويّ: وقول السعد: بل في إيمانه. أي بل لا نتوقّف في عدم إيمانه، بقرينة ما بعده وما قبله(٢) .

رأي الحافظ البدخشاني:

قال: وجعل (يزيد) ينكت رأسه ( الحسينعليه‌السلام ) بالخيزران، وأنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا إلى آخره، والأبيات مشهورة، وزاد فيها بيتين مُشتملين على صريح الكفر(٣) .

رأي الشبراوي:

قال - بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى -: خزّاه الله في هذه الأبيات، إن كانت صحيحة، فقد كفر فيها بإنكار الرسالة(٤) .

رأي الآلوسي:

قال في تفسيره: وفي تاريخ ابن الوردي، وكتاب الوافي بالوفيات: أنّ السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرّية عليّ والحسين (رضي الله تعالى عنهما)، والرؤوس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة جيرون، فلما رآهم نعب غراب، فأنشأ يقول:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفتْ

تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٧.

(٢) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٢، تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٣) نزل الأبرار: ١٥٩.

(٤) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٧.

٣٥

يعني أنّه قتل بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، كجدّه عتبة وخالد ولد عتبة وغيرهما، وهكذا كفر صريح، فإذا صحّ عنه فقد كفر به، ومثله تمثّله بقول عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه: ليت أشياخي... الأبيات..

رأي عبد الباقي أفندي العمري:

أشار إلى أبيات يزيد، شاعرُ العراق عبد الباقي أفندي العمري، فيما حُكي عن الباقيات الصالحات بقوله:

نقطع في تكفيره إن صحّ ما

قد قال للغراب لما نعبا(١)

تأمُّل ابن حجر:

تأمَّل ابن حجر في صواعقه، واتّخذ طريقاً آخر حول هذه المسألة، قال: ( اعلم أنّ أهل السنّة اختلفوا في تكفير يزيد بن معاوية ووليِّ عهده من بعده، فقالت طائفة: إنّه كافر؛ لقول سبط ابن الجوزي - وغيره المشهور -: إنّه لما جاءه رأس الحسين (رضي الله عنه)، جمع أهل الشام وجعل ينكت رأسه بالخيزران، ويُنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا الأبيات المعروفة، وزاد فيهما بيتين مُشتملين على صريح الكفر.. وقالت طائفة: ليس بكافر؛ لأنّ الأسباب الموجبة للكفر لم يثبت عندنا منها شيء، والأصل بقاؤه على إسلامه حتّى يُعلم ما يُخرِجه عنه، وما سبق أنّه المشهور يُعارضه ما حُكي أنّ يزيد لما وصل إليه رأس الحسين قال: رحمك الله يا حسين، لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام، وتنكّر لابن زياد، وقال: قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر. وردّ نساء الحسين ومَن بقي من بنيه مع رأسه إلى المدينة ليُدفن الرأس بها.

وأنت خبير بأنّه لم يثبت موجب واحدة من المقالتين، والأصل أنّه مُسلم،

____________________

(١) هامش الإتحاف: ٥٦.

٣٦

فنأخذ بذلك الأصل حتّى يثبت عندنا ما يوجب الإخراج عنه؛ ومن ثَمّ قال جماعة من المحقّقين: إنّ الطريقة الثابتة القويمة في شأنه، التوقّف فيه وتفويض أمره إلى الله سبحانه؛ لأنّه العالم بالخفيّات والمطّلع على مكنونات السرائر وهواجس الضمائر، فلا نتعرّض لتكفيره أصلاً؛ لأنّ هذا هو الأحرى والأسلم، وعلى القول: بأنّه مسلم، فهو فاسق شرّير، سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

نقول: إنّ هذه الطريقة غير قويمة؛ وذلك لعدّة أمور:

أوّلاً: إنّه بعدما نقل المؤلّف الشهرة في المقام عن سبط ابن الجوزيّ وغيره، بزيادة يزيد بيتين مُشتملين على صريح الكفر، فلا مجال له أن يقول: والأصل أنّه مسلم، فنأخذ بذلك حتى يثبت عندنا ما يوجبه الإخراج.

فأيّ موجب أدلّ من كلامه الصريح، ولو لا التواتر في النقل فالشهرة القائمة كافية لإثبات ذلك، كما نقلها؟!

أضف إلى ذلك ما قاله الآلوسي: ( وما صدر منه من المخازي، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر )(٢) .

ثانياً: وأمّا ما ادّعاه من تعارض الشهرة بالمحكي - مع فرض صحّة المحكيّ - فلا تعارض في البين؛ لأنّنا نقول: إنّه تمثّل بالأبيات، وزاد فيها البيتين المشتملين على صريح الكفر، ومع ذلك لما رأى انقلاب الأمر وتغيّر الأوضاع، وخاف الفتنة، ورأى الزلزال في مُلكه تفوّه بهذه الكلمات؛ والدليل على ذلك ما نقله المؤلّف في هذه المقالة، أنّ يزيد تنكّر لابن زياد وقال: ( قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر )، هذا يؤيّد أنّه اتّخذ هذا الموقف بعدما ثبت لديه استنكار الرأي العام.

____________________

(١) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٢) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٣. سيأتي قوله تفصيلاً في رأيه في لعن يزيد.

٣٧

ثالثاً: إنّ الاحتياط في المسألة أن يتّخذ الإنسان موقفاً مناسباً في هذه المأساة الكبرى، إنّها فاجعة قتل الحسينعليه‌السلام ، الذي بكى الرسول على قتله قبل مقتله كراراً، ولعن قاتله مراراً، فما فعله ابن الحجر من الاحتياط هو خلاف الاحتياط.

توقّف البيهقي:

ذكر الخوارزميّ: قال شيخ السنّة أحمد بن الحسين، حول تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى: وآخر كلام يزيد لا يُشبه أوّله، ولم أكتبه من وجه يثبت مثله، فإن كان قاله فقد ضَمَّ إلى فعل الفجّار - في قتل الحسين وأهل بيته - أقوال الكفّار )(١) .

علّق العلاّمة المحمودي عليه بهذا الكلام:

( أقول: إنّ البيهقي لم يُعجبه أن يُفتّش عن كفر إمامه، كي يثبت له كفره، ويفتضح عند العقلاء، ولو كان بذل جهده حول أقوال يزيد لكان يثبت له أنّه قال بالكفر مراراً، كما عمل بأعمال الكفّار مراراً )(٢) .

مع مجاهد: ذكر سبط ابن الجوزي أنّ مجاهد قال حول أبيات ( لعبت هاشم بالملك فلا ): نافق(٣) .

وفي مقتل الخوارزمي أنّه قال: فلا نعلم الرجل إلاّ قد نافق في قوله هذا(٤) .

وللعلاّمة المحمودي تعليق في المقام أعجبني ذكره، قال:

( النفاق: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وإسراره، فإن كان قول يزيد:

لعبتْ هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٩.

(٢) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩١.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٤) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

٣٨

هو إظهار الإيمان، فما هو إظهار الكفر والإعلان به؟! وهل فرق بين قول يزيد هذا في كونه صريحاً بالكفر ببعث الرسول، وبين قول الدهريّين الذي حكى الله تعالى عنهم بقوله:( مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) (١) ؟! فكما أنّ هذا القول من الدهريّين صريح في إنكار المبدأ، كذلك قول يزيد صريح في إنكار الرسالة التي هي الركن الثاني من الدِّين، وكذلك ما حكاه الله عزّ وجلّ عن فرعون في قوله:( ... أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (٢) ، وهل يمكن لمن يعرف العربية ومعنى الكفر والنفاق أن يقول: إنّ هذا القول من فرعون ليس صريحاً في الكفر، وإنّما هو نفاق، أي إبطان الكفر؟! وما أظنّ الفرق بين الأمرين غمض على مجاهد، أو لم يعرف الفرق بينهما!

الظاهر أنّه حينما تكلّم بهذا الكلام، وفسّر الكفر الصريح بالنفاق، كان في جوّ من المعاندين التابعين للنزعات الأُمويّة، ففسّر الكفر الصريح بالكفر غير الصريح، المسمّى بالنفاق كي يستريح من مُشاغبتهم ومُجادلتهم الجاهلية. والأمر واضح غير محتاج إلى التطويل )(٣) .

جوره:

إنّ حكومة آل أبي سفيان قامت على أساس الجور والعدوان، ونجد ذروة ذلك في زمن مُلك يزيد بن معاوية؛ لأنّ اللعين لم تدُمْ سلطته إلاّ ثلاث سنين، قتل في السنة الأُولى منها الإمام الحسين وأصحابهعليهم‌السلام ، وفي السنة الثانية غزا المدينة المنوّرة، وأباحها على جنده ثلاثاً، وهم بجوار قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وسُمّيت بوقعة الحرّة - وفي الثالثة منها هدم الكعبة،

أمّا مأساة كربلاء، فقد قرأت تفاصيلها. وأمّا

____________________

(١) الجاثية: ٢٤.

(٢) النازعات: ٢٤.

(٣) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩٢.

٣٩

وقعة الحرّة وقضايا ابن الزبير، فتفاصيلها خارجة عن عهدة هذا الكتاب، إلاّ أنّنا نذكر نُبذة عن صفحة تاريخه السوداء في وقعة الحرّة.

قال سبط ابن الجوزيّ: ( وذكر المداينيّ في كتاب الحرّة عن الزهريّ قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس، من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وأمّا من لم يُعرف، من عبدٍ أو حرٍّ أو امرأة فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتّى وصلت الدماء إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وامتلأت الروضة والمسجد.

قال مجاهد: التجأ الناس إلى حُجرة رسول الله ومنبره، والسيف يعمل فيهم..

وذكر أيضاً المداينيّ عن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد الحرّة من غير زوج.

وغير المدايني يقول: عشرة آلاف امرأة.

قال الشعبيّ: أليس قد رضي يزيد بذلك وأمر به، وشكر مروان بن الحَكم على فعله؟! )(١) .

يقول ابن قتيبة: ( فوجّه يزيد مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فسار بهم حتّى نزل المدينة، فقاتل أهلها وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيّام، فهي وقعة حرّة )(٢) .

وقال اليعقوبي: ( فوجّهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرّة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً.. حتى دخلتُ المدينة فلم يبقَ بها كثير أحد إلاّ قُتل، وأباح حرم رسول الله حتّى وَلدت الأبكار لا يُعرف مَن أولدهنّ )(٣) .

وقال ابن حجر: ( فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري، وأمره أن يستبيح

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٨٩، وبعضه في الردّ على المتعصّب العنيد: ٥٤.

(٢) المعارف: ١٩٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460