مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234269 / تحميل: 8788
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

مُقدِّمة مركز الدراسات الإسلامية

التابع لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، ودليلاً على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد: فهذا هو الجزء السادس والأخير من موسوعتنا التاريخية (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة)، ويدور هذا الجزء حول المقاطع الأخيرة من هذه الدراسة، وهي:

١ - الركب الحسيني في الشام.

٢ - عودة الركب الطاهر إلى كربلاء.

٣ - رجوع أهل البيت إلى المدينة.

إذن؛ هذا الجزء يتناول مرحلة ما بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه؛ ومن ثَمّ فهو يُعنى أيضاً بمعرفة نتيجة هذه المسيرة التي سارها هذا الركب الطاهر، ومَن هو المنتصر حقّاً؛ لذلك أفرد المؤلّف الفاضل فصلاً مُستقلاً تحت عنوان (المظلوم ينتصر)، بيّن فيه كيف أنّ نتيجة هذا الصراع الدامي كانت لصالح الحسين المظلومعليه‌السلام ، وأنّ نقطة انقلاب المعادلة بدأت بمُجرّد وصول الأُسارى من آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشام وقصر يزيد؛ ومن هنا استحقّت أن يطلق عليها اسم (المسيرة المظفّرة).

٣

ولما كانت الشام مركز الحُكم الذي أمر بارتكاب هذه الجريمة النكراء، وبقي آل الرسول فيها مدّة شهدوا خلالها حوادث ووقائع، وألقوا هم فيها - بدورهم - خطباً بقيت تُدوِّي في آذان الدهر، وأدّوا أدواراً...

رأى المؤلّف الفاضل إعطاء صورة عن الشام ووضعها قبل ورود أهل البيت، وكذلك عن حكّامها - ويزيد بالخصوص ومسؤوليّته في الموضوع - ليكون الباحث على معرفة بخلفية القضايا التي يتناولها الكتاب.

وهكذا تمّ في هذا الجزء ربط الختام بالمطلع، كما يُقال.

ونحمد الله تعالى على أن وفّقنا في المبدأ والمآل.

بيد أنّ النقطة التي نرى من واجبنا الإشارة إليها، هي أنّ المؤلّف الفاضل سعى لأن يكون كتابه جامعاً في تناوله لمواضيعه، فالتقط كلّ ما له علاقة بأبحاث الكتاب، ونحن لا يسعنا في هذا المقام إلاّ أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى سماحة المؤلّف المحترم الشيخ الأميني - حفظه الله - وكلّ الإخوة الذين آزرونا في مراجعة وتنظيم هذا البحث القيِّم والأجزاء الأُخرى من هذا الكتاب، ونسأل الله أن يتقبّل منّا جميعاً، وأن يوفّقنا لما فيه رضاه، إنّه خير ناصر ومُعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مركز الدراسات الإسلامية          

التابع لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

٤

مُقدِّمة المؤلّف

المسيرة المظفّرة في فصلها الأخير

٥

٦

مقدمة المؤلف

المسيرة المظفّرة في فصلها الأخير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

إنّها مسيرة مُظفّرة، تحمل رسالة خالدة، إلى أُناس تعرَّفوا على الدِّين من طريق حكّامهم الطواغيت، آخذين بأقوالهم، مُمتثلين أوامرهم، تاركين نواهيهم، مُعتقدين أنّهم خلفاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، زاعمين أنّ كلّ صوت يُرفع بوجههم لابدّ أن يُخمد، وكلّ مَن يقف أمامهم لابدّ أن يُقتل، يحسبون أنّ كلّ حركة تتحرّك نحو إيقاظ شعور الأمّة فتنة، وقادتها أرباب الفتنة! والفتنة لابدّ أن تُخمد! وكلّ مَنْ يُعارض السلطة الحاكمة خارجيٌّ، لابدّ أن يُقطع رأسه ويُدار به بالبلدان! ويُصلب في قلب العاصمة، ويُسبى أهله ويُطاف بهم البلاد؛ لكي يتعلّم الجميع أنّه ليس لديهم إلاّ الصمت والالتزام بما يراه الخليفة المتغلِّب على الحُكم مهما كان، وبلغ ما بلغ!

وإلى أُناس تعرّفوا على إسلام أُمويّ في ظلّ حُكمٍ دمويّ! ولم يعرفوا أيّ حقّ لآل بيت نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل لم يعرفوا مَن هو المقتول! ومَن أبوه وجدّه! فكيف يدرون لماذا قُتل! وما الذي دعاه لهذه النهضة الدامية؟

٧

أجل، إنّهم لم يكونوا يعلمون إلاّ كلمة واحدة تعلّموها من وعّاظ سلاطينهم - أصحاب الزمرة المتسلّطة الجائرة الفاسدة - وهي أنّ هؤلاء القتلى خرجوا على أمير المؤمنين يزيد!

لهذه المسيرة رسالتان؛ الأُولى إلى شعب ضائع جاهل بالواقع، قد تربَّى على نهج بني أُميّة، وأُخرى إلى عامّة الأمّة الإسلامية الكبرى، الزاعمة أنّ الحُكم لمن غلب!

وتهدف الرسالتان لبثّ الروح في ضمير هؤلاء الناس، وإحيائهم بعد أن ماتوا معنويّاً، وإيقاظهم من رقدتهم، واستنهاضهم للوقوف بوجه كلّ حاكم جابر وصل بالغلبة إلى السلطة، فاقد لشرائط الحُكم والإمامة، وذاك - لعَمْرِي - هو الإصلاح في أمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما صرّح به سيّد الشهداء وقائد الأحرار الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام في مقولته الشهيرة:(... وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... ) (١) .

وهذا المهمّ تبنّته هذه المسيرة، وعلى رأسها ابن قائد النهضة، الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، وأُخته العقيلة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، وقد نهضا بها على أحسن وجه وفوق ما يُتصوَّر، حتّى انقلبت المعادلة والركب ما زال في قلب العاصمة، ولم يكن ليزيد اللعين بُدٌّ إلاّ البكاء تصنّعاً، والتظاهر بلعن ابن مرجانة والبراءة منه، وإبراز تأسُّفه على ما جرى! وإعادة بقيّة عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة المنوّرة؛ إبقاءً على حكمه وخوفاً على زوال سلطته، وهذا ما سنتوفّر عليه خلال قراءتنا لهذه القطعة من تاريخ النهضة الحسينيّة المباركة، إن شاء الله. والسلام.

محمّد أمين الأمينيّ ( پور أميني )

____________________

(١) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، العلاّمة المجلسي ٤٤/ ٣٢٩.

٨

المدخل

الشام وحكَّامها الأُمويّون

٩

التعرُّف على الشام من الجهات الجغرافية، والطبيعيّة، والاجتماعية، والتأريخية، ومعرفة حُكّامها في تلك الفترة - أي بني أُميّة - وطبيعة حكمهم، وجذور علاقتهم بالشام، ولا سيّما حاكمها آنذاك يزيد بن معاوية... يُعطينا آفاقاً جديدة ورؤىً واضحة، لمعرفة جذور ما يواجهنا حينما نقرأ هذا المقطع من التاريخ، إذاً من الأجدر أن نتوقّف عند هذه المحطّة قبل متابعة مسيرة الركب الطاهر.

١٠

المدخل

الشام وحُكّامها الأُمويّون

التعريف بالشام:

الشام اسم يتناول عامّة الأقاليم الداخلة اليوم في سورية ولبنان وفلسطين. وللّغويّين والجغرافيّين في سبب تسميته شاماً آراء مختلفة، فقيل: سُمّي بسام بن نوح؛ لأنّه نزل به واسمه بالسريانيّة شام بشين مُعجمة. وقيل: لأنّ أرضه مُختلفة الألوان بالحمرة والسواد والبياض؛ فسُمّي شاماً لذلك كما يُسمَّى الخال في بدن الإنسان شامة. وقيل: سُمّي شاماً؛ لأنّه عن شمال الكعبة، والشام لغة في الشمال(١) .

وهو قطرٌ تأخذ فيه الفصول الأربعة حُكمها، وتتمّ في قيعانه وجباله أسباب النعيم، معتدل الأهوية، مُتهاطل الأمطار والثلوج، مُمرع التربة، فيه الغابات والمعادن، والحمّامات المعدنية والأنهار الجارية، والبحيرات النافعة والأجواء البهيجة، والرباع المنبسطة والمناظر المدهشة، فيه تنبت الحبوب والبقول، والأشجار على اختلاف أنواعها(٢) .

من خواصّ الشام:

قيل: إنّ من خواصّها الطاءات الثلاث: الطعن، والطاعة، والطاعون.

أمّا الطعن فمشهور أنّ أجنادها شجعان، وأمّا الطاعة فما يُضرب به المثل، حتّى قيل: إنّما تمشّى الأمر لمعاوية لأنّه كان في أطوع جند، وكان عليّعليه‌السلام في أعصى جند وهم أهل العراق، وأمّا الطاعون فكثير الحدوث فيها...(٣) .

____________________

(١) خُطط الشام، محمد كرد علي ١/ ٧.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٤.

(٣) دائرة المعارف، المعلم بطرس البستاني ١٠/ ٣٩٥.

١١

ومن الخصائص التي امتازت بها الشام - وما تزال - تعايش أصحاب الديانات والقوميّات المختلفة - كالروم والرومان، والفرس والعرب... - فيه(١) .

الشام مدخل الفاتحين:

جاء الفاتحون الشام بحراً وبرّاً... بل من جهاتها الأربع، فجاءها الفراعنة من البحر والبرّ، والبابليّون والفرس من الشرق والشمال، والإسكندر والصليبيّون والعثمانيّون من الشمال، وغازان وهولاكو وتيمور لنك من الشرق، والعرب الفاتحون من الشرق والجنوب، ونابليون من الجنوب ومن الغرب بحراً و...(٢) .

وخضعت دمشق للآشوريّين إلى سنة ٧٢١ حين استولى البابليّون والفرس عليها، ثمّ جاهر أهلها مع سائر السوريّين بالعصيان على بختنصر...

وفي سنة ٣٣١ ق. م استولى إسكندر ذو القرنين عليها، ثمّ صارت من مملكة السلوقيّين اليونانية إلى زمن استيلاء الرومان عليها سنة ٦٤ق. م.

وفي سنة ٥٩ق. م قُتل فيها كثير من الإسرائيليّين، وفي نحو سنة ٢٠ق. م عاد الإسرائيليّون إليها، وفي نحو سنة ٣٧ للميلاد أتاها بولس، وكان مستولياً عليها وقتئذٍ موقّتاً الحارث الغسّانيّ العربيّ حمو هيرودرس الكبير.. ولما تنصّرت الدولة الرومانية ذاعت النصرانية في دمشق وأمر يثودوسيوس بإبطال عبادة الأصنام.. وفي بُرهة وجيزة تنصّر أهلها جميعاً خلا الإسرائيليّين منهم.

وسنة ٥٤٠ للميلاد فتحها الفرس.. وعادت بعد بُرهة قصيرة إلى المملكة الرومانية، وكان عمّالهم فيها بنو غسان، وسنة ٦٣٣ ميلادية فتحها المسلمون.. واستعمل عليها عمر معاوية بن أبي سفيان، وكانت مدّة إمارته عليها عشرين سنة، وسنة (٤١) بايعه الناس! بالخلافة، فهو مؤسّس الدولة الأُمويّة التي جعلت دمشق قاعدة المماليك الإسلامية، وظلّت كذلك إلى سنة ١٣٢ هجرية..(٣) .

____________________

(١ و٢) خطط الشام ١/ ٢٨.

(٣) دائرة المعارف ٨/ ١٨ (بتلخيص).

١٢

فتح الشام:

كانت الشام من أوّل الأقطار التي فكّر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمرها لنشر كلمة التوحيد وبثّ الدعوة إلى الإسلام، وكانت تحت حُكم الرومان منذ سبعة قرون، وملكها صاحب مملكة بيزنطية أو مملكة الروم الشرقية ويُعرف باسم هرقل، وكانت علائق عرب الحجاز في الجاهلية كثيرة جدّاً مع أهل هذا القطر.

بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بدومة الجندل جمعاً كثيراً يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليالٍ، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ستّ عشرة ليلة، فندب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الناس، واستخلف على المدينة، وخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار.. إلى أن صالحهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الجزية، وذلك في السنة السادسة من الهجرة، ثمّ أرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً إلى هرقل - وهو بالشام - والحارث بن أبي شمر - أمير دمشق - يدعوهما إلى الإسلام.

وفي السنة الثامنة للهجرة، بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سريّة كعب بن عُمير الغفاريّ إلى ذات أطلاح من ناحية الشام، وهي وراء وادي القرى بين تبوك وأذرعات.. وفي هذه السنة استنفر الرسولُ الناسَ إلى الشام، فكانت غزوة ذات السلاسل.. ومن السرايا التي أُرسلت إلى الشام سريّة زيد بن حارثة إلى جذام بحسمى وراء وادي القرى ممّا يلي فلسطين من أرض الشام.. وفيه غزوة مؤتة التي بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله جيشاً مؤلّفاً من ثلاثة آلاف مقاتل، بلغوا تخوم البلقاء فلقيتهم جموع هرقل ومعهم العرب المتنصّرة بقرية من قرى البلقاء يُقال لها: مشارف. فانحاز المسلمون إلى قرية يُقال لها: مؤتة. فلقيتهم الروم في جمع عظيم، فاستُشهد من الأُمراء زيد بن حارثة، ثمّ جعفر بن أبي طالب، ثمّ عبد الله بن رواحة..

وفي السنة التاسعة من الهجرة حصلت غزوة تبوك، وكان مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٣

ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف، والجمال اثنا عشر ألفاً.. إلى أن صالح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نجبة بن رؤبة - أسقف أيلة على البحر الأحمر، صالحه - على الجزية، وصالح الرسولُ أهلَ جربا، وأذرح من أرض الشراة، صالح أهل أذرح على مئة دينار، وأهل مقنا - على مقربة من أيلة - على ثلاثمئة دينار، وعلى ربع عروكهم وغزولهم وربع كراعهم.

وفي أواخر أيّام حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جهّز جيشاً إلى الشام، وأمّر عليه أُسامة بن زيد، وقال:( لعن الله مَن تخلّف عن جيش أُسامة... ) (١) .

هذا خلاصة ما جرى في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى اهتمامه الوافر بهذا القُطْر، ولا يخفى أنّ داعي المسألة لم يكن إلاّ إنقاذ البشرية ووضعهم على جادّة الحقيقة، وإيصالهم إلى رحمة الحقّ، وما كان هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله توسيع رقعة حكمه جغرافياً، بل كان ذلك أمراً عرضيّاً تابعاً لبسط كلمة التوحيد، والتفاف الناس حول راية الإسلام، وإنّما هدفه هو هداية الناس إلى الله تبارك وتعالى.

بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّرت الموازين تدريجيّاً، وانقلبيت الدواعي والحوافز شيئاً فشيئاً، وغرّت الدُّنيا كثيراً من الناس، وأصبحت الغنيمة والحصول على المناصب الدنيوية، وبسط السلطة والنفوذ من أهمّ الدواعي لفتوح البلدان، وهذه نقطة مهمّة لابدّ أن نلتفت إليها ونُميّز بها غزوات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا جرى بعده، خاصّة في ظلّ حُكم بني أميّة وبني العبّاس.

يقول صاحب خُطط الشام: وبعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - بعد قتال أبي بكرٍ أهل الرُّدّة - كتب أبو بكر إلى أهل مكّة، والطائف، واليمن، وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد في الشام، ويُرغّبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارعَ الناس إليه بين

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ٦٩ - ١٧٦ (بتلخيص).

١٤

مُحتسبٍ وطامعٍ، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال، وهم: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص.. وقد شيّع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان راجلاً إلى ما بعد ربض المدينة وأوصاه بوصايا.. إلى أن وصل الجيش إلى مشارف الشام، فنزل في أبل وزيزاء والقسطل، وكان جيش الروم من دون زيزاء بثلث، وطلع ماهان قائد الروم وقدم قدّامه الشماسة والرهبان والقسّيسين يحضّون جيش الروم على القتال، وكان هرقل - وهو من عظام القوّاد - أدرك الخطر، ورأى - لما أتاه الخبر بقرب جيش المسلمين - أن لا يُقاتلهم ويُصالحهم، وقال لقومه: فوالله، لأن تُعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفاً وتقرُّ بكم جبال الروم، خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويُشاركوكم في جبال الروم. فلما رآهم يعصونه ويردّون عليه بعث أخاه تيودورا وأمّر الأُمراء، وأوّل وقعة كانت بين المسلمين والروم بقرية من قرى غزة يُقال لها: دائن. في ١٢هـ، كانت بينهم وبين بِطْريق غزة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهُزم الروم، وتوجّه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق.. وانتهى إليه ستّة من قوّاد الروم.. وهُزم الروم، هزمهم المسلمون..

أمّا أبو عبيدة فصالحهم، وخالد بن الوليد حاربهم.. حتّى أن فتح المسلمون جميع أرض حوران وغلبوا عليها سنة ١٣هـ، وأهمّ الوقائع التي انهزم فيها الروم شرّ هزيمة ولحق فلّهم بالشمال وقعة يرموك - واليرموك نهر - فهي الوقعة الفاصلة التي هان (للمسلمين) بها الاستيلاء على القدس ودمشق وما إليها، ثمّ على حمص وحماة وحلب وما إليها من البُلدان.. في حين ما كان خالد يريد الفتح والغلبة، جاءه البريد يُعرّفه بموت أبي بكر وخلافة عمر وتأمير أبي عبيدة على الشام كلّه وعزل خالد، فأخذ الكتاب منه وتركه في كنانته، ووكّل به مَن يمنعه أن يُخبر الناس من الأمر لئلاّ يضعفوا!

وتوفّي أبو بكر قبل فتح اليرموك بعشر ليالٍ، وبعد أن أُصيب الروم بالهزيمة القاطعة على اليرموك، كانت وقعة فحل من الأردن بعد خلافة عمر بن

١٥

الخطّاب بخمسة عشر شهراً، ولما انتصر المسلمون على اليرموك كان هرقل في البيت المقدّس، جاءها للاحتفال بتخليص الصليب الذي استردّه قبل ذلك فصار إلى أنطاكية، واستنفر الروم وأهل الجزيرة، وبعث عليهم رجالاً من خاصّته وثقاته، فلقوا المسلمين بفحل، فقاتلوهم أشدّ قتال حتّى ظهروا (أي ظهر المسلمون) عليهم، وقُتل بِطْريقهم وزهاء عشرة آلاف معه، وتفرّق الباقون من مُدن الشام، ولحق بعضهم بهرقل.. ثمّ نهض المسلمون إلى الروم وهم بفحل فاقتتلوا، فهُزمت الروم ودخل المسلمون فحل في ذي القعدة سنة ١٣هـ.. وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن عنوة ما خلا طبرية، فإنّ أهلها صالحوه.. وفتح عمرو بن العاص غزّة ثمّ سبسطية ونابلس ويبنى وعمودس و... وظلّت القدس وقيسارية مُحاصرتَين، ولم تُفتح القدس إلّا سنة خمس عشرة أي بعد فتح دمشق بسنة...(١) .

فتح دمشق:

فتحها المسلمون في رجب سنة ١٤ للهجرة بعد حصار ومُنازلة، وكان قد نزل على كلّ باب من أبوابها أمير من المسلمين، فصدّهم خالد بن الوليد من الباب الشرقيّ حتّى افتتحها عنوة، فأسرع أهل البلد إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وكان كلٌّ منهم على ربع الجيش، فسألوهم الأمان فأمنوهم، وفتحوا لهم الباب، فدخل هؤلاء من ثلاثة أبواب بالأمان، ودخل خالد من الباب الشرقي بالقهر وملكوهم...(٢) .

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ٧٧ - ٨٤ (بتلخيص وتصرّف).

(٢) دائرة المعارف ٨/ ٢.

١٦

بنو أُميّة والشام

جذور العلاقة:

أُميّة هو عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب... وعبد شمس - والد أُميّة - هو أخو هاشم - الجدّ الثاني للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله -، قيل: وُلد هاشم وعبد شمس توأمين، وإنّ أحدهما قُبل الآخر وله إصبع مُلتصقة بجبهة صاحبه، فتنجّبت فسال الدم، فقيل: يكون بينهما دم..

وأوّل منافرة كانت بين أُميّة وعمّه هاشم، أنّ هاشماً لما وليَ بعد أبيه عبد مناف ما كان له من السقاية والرفادة، حسده أُميّة على رئاسته وإطعامه، فتكلّف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز فشمَّتت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنِّه وقَدره، فلم تدَعْه قريش حتّى نافره على خمسمئة ناقة والجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضي أُميّة، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعيّ ومنزله بعسفان، فقضى لهاشم بالغلبة. وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها الناس، وغاب أميّة عن مكّة بالشام عشر سنين، فكانت هذه أوّل عداوة بينهما(١) .

لو صحّ هذا النقل، فهذا يعني أنّ هذه المسألة كانت انطلاقاً لأمرين:

الأمر الأوّل: كانت بداية العداوة بين بني أُميّة وبني هاشم، بداعي الحسد، وبعد ظهور الإسلام تغيّرت الدواعي وكثرت، وحصلت آفاق جديدة في البين، وهذا ما سنُبيّنه في الأبحاث الآتية.

الأمر الثاني: بداية علاقة بني أُميّة بالشام، فإنّ الشام بموقعه الخاص، وطبيعته الجميلة، وأنهاره الكثيرة، وتنوّع سُكّانه أصبح موقعاً مُهمّاً للتجارة؛ ولذلك نرى قريشاً - ومنهم أبو سفيان الأُمويّ - أنشأوا الروابط الاقتصادية والتجارية مع الشام.

____________________

(١) دائرة المعارف ٤/ ٤١٩.

١٧

ومن الغريب جدّاً أن نرى بني أُميّة - الطلقاء - يقومون بدور مُهمّ في فتح الشام، ويأخذون بزمام أمرها قبل الفتح، ولم يتركوه حتى غُلبوا على أمرهم.

فأبو سفيان بنفسه يحضر المعركة في مشيخة من قريش، يُحارب تحت راية ابنه يزيد، وكان له ولابنيه يزيد ومعاوية - بل ولجماعة من أُسرته بل للنساء منهنّ - اليد الطولى والكعب المعلّى في فتح الشام!.. ولقد قاتل بعض النساء بالفعل يوم اليرموك، مثل جويرية ابنة أبي سفيان وكانت مع زوجها. وكذلك هند بنت عتبة أمّ معاوية بن أبي سفيان )(١) .

هذا الكلام وإن لم يخلُ من المبالغة؛ بسبب حُبّ المؤلِّف لمعاوية وانحرافه عن الحقّ - كما نلمسه في مطاوي كتابه - بيدَ أنّ دوافع المسألة معلومة إجمالاً، وتتمثَّل في حُبّ بني أُميّة لهذه المنطقة وتعلُّقهم بها، ولا يبعد أن تكون ثمّة خطّة مدروسة بدأوا بتنفيذها شيئاً فشيئاً.

إذنْ؛ حضر المعركة أبو سفيان وابناه وزوجته وبعض بناته وأُسرته، وأصبح يزيد بن أبي سفيان حاكماً على دمشق، بوعدٍ من الخليفة الذي شيّعه راجلاً إلى خارج المدينة، كما مرّ ذكره عن (الخُطط)، وبقي الشام ليزيد بن أبي سفيان، لكنّه لم يطُلْ أمدُ ولايته؛ لأنّه هلك في طاعون عمواس(٢) ، وبعد يأتي دور أخيه معاوية بن أبي سفيان.

معاوية مؤسِّس الحكومة الأُمويّة السوداء:

لما هلك يزيد بن أبي سفيان والي دمشق سنة ١٨ من الهجرة، ولّى عمر بن الخطّاب أخاه معاوية بن أبي سفيان، فلم يزل والياً لعمر حتّى قُتل عمر، ثمّ ولاّه

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ٩٣.

(٢) المصدر: ٩٧. وعمواس من الرملة على أربعة أميال ممّا يلي بيت المقدس ومات فيه ٢٥٠٠٠ إنسان.

١٨

عثمان، وأقرَّ عمّال عمر على الشام، فلما مات عبد الرحمان بن علقمة الكناني - وكان على فلسطين - ضمّ عمله إلى معاوية، وكان عمير بن سعيد الأنصاري في سنة ٢١ على دمشق والثنيَّة وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة، ومعاوية على الأردن وفلسطين، والسواحل وأنطاكية، ومعرّة ومصرين وقيليقية، ثمّ جعل عمير في سنة ٢٣ على حمص ومعاوية على دمشق.

اجتمع الشام على معاوية لسنتين من إمارة عثمان، أضاف عثمان إليه حمص وحماة وقنسرين والعواصم وفلسطين مع دمشق، ورزقه ألف دينار كلّ شهر(١) .

وهكذا ترسّخ الحُكم الأُموي في الشام، في ظلّ قيادةٍ وتوجّهات جاءت خطواتها تنفيذاً لما قاله أبو سفيان، بعد استقرار خلافة عثمان: ( يا بني أُميّة، تلقّفوها تلقّف الكُرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وراثة )(٢) .

يقول صاحب الخُطط: ( وما زال عثمان على شيخوخته مغلوباً لمروان وبني أُميّة، أخذ الناس ينقمون - في الحجاز وغيره - على عثمان لستّ سنين من خلافته، فاجتمع ناس من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتبوا كتاباً ذكروا فيه عدّة أمور، منها ما كان من هبة خُمس أفريقية لمروان، وما كان من تطاوله في البنيان؛ حتّى عدّوا سبع دور بناها بالمدينة، داراً لنائلة، وداراً لعائشة وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان القصور بذي خشب، وعمارة الأموال بها من الخُمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمّه من بني أُميّة أحداث وغُلمة، لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور )(٣) ، إلى أن حصلت فتنة قتل عثمان.

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ١٠٠.

(٢) الغدير ٨/ ٢٧٨.

(٣) خُطط الشام ١/ ١٠٣.

١٩

يقول محمّد فريد وجدي: ( لما قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، وتولَّى الخلافة عليُّ بن أبي طالب وهو من قريش، حدث شِقاق بين الأُسرتين الأُمويّة والقرشية، وتداعى الناس إلى العصبية الجاهلية، وكان في مقدّمة النافخين في نار هذه الفتنة معاوية بن أبي سفيان الأُمويّ والي الشام، فقام يُطالب بدم عثمان مُتّهماً عليّ بن أبي طالب بالإغراء على قتله، ولما كانت ولايته للشام منذ عشرين سنة، وأهل الشام لا يدرون من أمر الخلافة إلاّ ما كان يُريد لهم، التفّت حوله جموع منهم أكثرهم من شذّاذ القبائل العربية وأصحاب المطامع الذاتية، فشقّ عصا الطاعة لعليّ وادّعى لنفسه الخلافة... )(١) .

لقد استفاد معاوية من جهل الناس أقصى ما يمكن، مستنداً إلى مكره وشيطنته، ولقد كان أهل الشام قريبي العهد بالإسلام، ما عرفوه إلاّ من خلال حُكم الخلفاء وإمارة أمرائهم، وما وجدوه إلاّ مجسّداً في شخص معاوية المتستّر بالدين، فهو يؤمّهم بالصلاة وهم يقتدون به، يخطبهم في الجُمع، ويترأسهم باسم الخلافة الإسلامية، ويُدير شؤونهم في الحرب والسِّلْم.

وانتهز معاوية الفرصة في فتنة قتل عثمان.

ومع أنّه كان منصوباً من قِبله على الشام، وأميراً من أُمرائه لم يُلبِّ دعوته لنُصرته حين كتب عثمان إليه: إنّ أهل المدينة قد كفروا! وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة؛ فابعث إليّ من قِبَلك من مُقاتلة أهل الشام على كلّ صعب وذلول.

ولقد أخطأ صاحب الخُطط؛ إذ زعم أنّ معاوية تربّص به وكره إظهار مُخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم، فأبطأ أمره على عثمان حتّى قُتل(٢) .

وإنّما أراد معاوية أن يُبدّل الإمارة بالخلافة.

____________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين، محمّد فريد وجدي ١/ ٦٢٢.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٠٣.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

حول الكعبة، فقال: (هكذا كانوا يطوفون في الجاهليّة، إنما أُمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم ومودّتهم ويعرضوا علينا نصرتهم)، ثم قرأ هذه الآية ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم ) (1) .

وهذا برهان تاريخي وأدياني يؤكّد ضرورة الواسطة في صحّة العبادة وقبولها.

والواسطة هي الطاعة لوليّ اللَّه تعالى، بكلّ ما للطاعة من معنى وتداعيات ومعطيات ومقتضيات تقتضيها تلك الطاعة وعلى جميع مستوياتها، فكما أن بدء التوحيد متوقّف على الشهادتين كذلك بقاؤه في كلّ الأبواب الاعتقادية والعبادية متوقّف على بقاء الشهادتين إلى آخر المطاف.

____________________

(1) السيد هاشم البحراني، تفسير البرهان، ج4، ص337.

٤١

٤٢

الأدلّة التحليلية

نرمي في استعراض هذه الأدلّة تحليل بعض المفاهيم الدينية والاعتقادية، ويكون ذلك بدوره دالّاً على مشروعية التوسّل وضرورته.

1 - مفهوم العبادة:

(مفهوم العبادة ينفي الوسائط المقترحة)

يمكننا عن طريق تحديد المفهوم الاصطلاحي للعبادة وبيان العبادة الخالصة للَّه تعالى والعبادة غير الخالصة استكشاف مشروعية نظرية الوسائط، وأن المستنكَر منها هي الوسائط المقترحة فحسب؛ وذلك بالبيان التالي:

ذُكر للعبادة في اللغة معانٍ متعدّدة، أهمّها: أنها بمعنى الطاعة والخضوع.

والقرآن الكريم أيضاً استعمل مفهوم العبادة في عدّة معان، منها ما يلي:

1 - مملوكية المنفعة.

كقوله تعالى: ( عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْ‏ءٍ ) (1) .

____________________

(1) النحل: 75.

٤٣

وقوله تعالى: ( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ) (1) .

2 - سيادة الطاعة؛ وإن لم تكن أصالة للمطاع.

كقوله تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (2) .

3 - الطاعة والخضوع والانقياد للمعبود على وجه التعظيم والتقديس، وأنه الغني بالذات ومصدر جميع الخيرات والنعم والكمالات مبدءاً وأصالة.

كقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ ) (3) .

وقوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (4) .

وكقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي ) (5) .

وقوله تعالى: ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (6) .

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المباركة، الدالّة على إرادة الانقياد إلى المعبود على وجه التعظيم، وأنه الغني بالذات من مفهوم ومعنى العبادة.

____________________

(1)البقرة: 221

(2). يس: 60.

(3) الرعد: 36.

(4)الذاريات: 56.

(5) طه: 14.

(6)هود: 123.

٤٤

وهذا هو المعنى الاصطلاحي لمفهوم العبادة.

وإذا كان هذا هو المعنى الاصطلاحي للعبادة، فكيف كان توجّه المشركين إلى الوسائط شركاً مع أنهم لا يتوجّهون إليها بما هي مصدر الخيرات أصالة، بل بما هي شفيعة ووسيطة؟ وكيف تتحقّق العبادة لغير اللَّه تعالى؟ وكيف تتحقّق العبادة للَّه عزّ وجل؟

والجواب هو ما تقدم؛ من أن الإنكار ليس إنكاراً للوسيلة بما هي وسيلة، بل بما هي مقترحة ومخترعة من قبل العبيد. وأمَّا إذا كانت الواسطة بجعل من اللَّه تعالى وإرادته وتحكيماً لسلطانه، فلا محالة يكون التوسّل والخضوع لتلك الوسيلة طاعة للباري تعالى؛ لأنه يكون انقياداً له تعالى على وجه الرغبة والخضوع وأنه مصدر الخيرات مبدءاً وأصالة. فأي فعل يكون منطلقه من أمر اللَّه عزّ وجلّ لا يكون شركاً وإن كان ذلك الفعل بالتوجّه والتوسّل بالوسائط، ومن ثمّ يكون سجود الملائكة لآدم - كما سيأتي - عبادة للَّه لا لآدم؛ لأنه خضوع للَّه تعالى وامتثالاً لأمره بما أنه مصدر الخيرات.

إذن المدار في تحقّق العبادة وعدمه ليس على ارتباط الطقوس العبادية بغير اللَّه وعدم الارتباط بغيره، بل المدار في العبادة الخالصة وقوام التوحيد في العبادة على وجود الأمر الإلهي والإرادة الإلهية، وقوام الشرك في العبادة ليس على تعلّق الفعل العبادي بغير اللَّه، بل الشرك في العبادة يتقوّم بعدم وجود الأمر والإرادة الإلهية، وإنما باقتراح من العبد نفسه.

ومن ثمّ لا يكون التوجّه بالكعبة إلى اللَّه عزّ وجلّ في الصلاة شركاً، بل هو شعار التوحيد.

٤٥

فنحن في صلاتنا نتوجّه إلى الكعبة الشريفة - مع أنها حجر - ومع ذلك تكون عبادة للَّه تعالى، وفي صلاة الطواف نتوجّه إلى مقام إبراهيم عليه‌السلام ، وكذا في الطواف نتوجّه إلى الكعبة ونتبرّك بالحجر الأسود ونتمسّح به مع أن ذلك كلّه لم يجعل من الكعبة صنماً ولا من الحجر الأسود وثناً يُعبد من دون اللَّه؛ كلّ ذلك لوجود الأمر الإلهي بالصلاة والطواف حول الكعبة والتمسّح بالحجر الأسود، فيكون الامتثال تحكيماً لسلطان اللَّه تعالى على إرادة العبيد، وذلك بخلاف أصنام الوثنيين، وهذا ممّا اتفق عليه علماء الأصول؛ حيث قرّروا أن العبادة لا تتحقّق إلّا بقصد امتثال الأمر وكون العبد ماثلاً طيّعاً أمام مولاه.

فإن وُجد الأمر تحقّق التوحيد في العبادة ولو مع الواسطة، وإن فقد الأمر كان الإتيان بالفعل شركاً ولو مع نفي الواسطة.

2 - القول بالتجسيم من أسباب جحود التوسّل:

إنّ إنكار التوسّل ورفض الوسائط ناتج إمَّا من القول بالتجسيم أو القول بالنبوءة والتنبُّؤ.

وأمَّا مَن لا يدّعي النبوءة لنفسه وينكر الجسمية في الباري عزّ وجلّ، فلا محالة له من قبول الوسائط والوسائل في كلّ العوالم والنشئآت.

وقبل البرهنة على هذا المدعى لابدّ من بيان بعض الأمور:

الأول: ليس المقصود من دعوانا (إن إنكار التوسّل ناتج من التجسيم أو دعوى النبوءة) هو أن يكون القائل بذلك قد قال بأحدهما عنواناً

وقولاً؛ بل قد يكون في

٤٦

واقعه متبنّياً لحقيقة التنبُّؤ أو التجسيم من دون أن يُسمّيه تنبؤاً أو تجسيماً؛ وذلك لأنهما لا يدوران مدار العنوان والشعار، فالحقائق أو الأمور العدمية الباطلة تدور مدار واقعها، سواء واقعها العدمي في الأمور الباطلة أو واقعها الوجودي في الأمور الوجودية، فمَن ينفي الوسائط فهو لا محالة إما يبني على التجسيم أو يدّعي التنبُّؤ كما سيتّضح، وهذا نظير ما ذكره الفقهاء في بحوث المعاملات؛ من أن الشخص ربّما يقصد ماهية معاملية معيّنة ويسمّيها باسم تلك الماهية المقصودة، ولكنها في واقعها قرض ربويّ أو بالعكس.

الثاني: أن هناك دعاءاً يؤكّد مضمون ما نريد الخوض فيه، وهو من الأدعية المأثورة لتعجيل الفرج، وهو: (اللّهمّ عرّفني نفسك، فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللّهمّ عرّفني رسولك، فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك، فإنك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني) (1) .

ومفاد هذا الدعاء هو أن منظومة المعارف إنما تصحّ وتكون صائبة مع صوابية وحقّانية معرفة الإنسان بربّه، وأن الخلل الناشئ في معرفة الأنبياء والرسل منبعه الخلل في معرفة اللَّه تعالى الصحيحة والتامة، كما أن الخلل في معرفة الحجج والأوصياء والأئمّة منشأه الخلل في معرفة الرسول، وبالتالي يكون ناشئاً من الخلل والنقصان في المعرفة المتعلّقة باللَّه تعالى، كما تشير إلى هذه الحقيقة مجموعة من الآيات القرآنية، منها:

قوله تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ

____________________

(1) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص342.

٤٧

شَيْ‏ءٍ ) (1) ، فإنكار الرسل وعدم الإيمان بهم ناشئ من جهلهم بقدر الباري وقدرته وعظيم حكمته وتدبيره، ومِن خلل المعرفة في أفعال اللَّه عزَّ وجل.

ومن ثَمّ هذا يؤكّد أن الذي ينفي الوسائط والوسائل والرسل والحجج، منشأ نفيه نقصان معرفته باللَّه تعالى؛ إمَّا بالقول بالتجسيم أو القول بالتنبؤ.

والغريب من أصحاب هذه المقالة قولهم بأن التجسيم باطل في النشأة الدنيوية فقط. وأمَّا في الآخرة، فنلاقيه - والعياذ باللَّه - بصورة شابّ أمرد؛ ويستدلّون على ذلك بقوله تعالى: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) (2) ، وبقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (3) ، وبقوله تعالى: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (4) ، فيصوّرون الفوقية على العرش فوقية مكانية، لا فوقية قدرة وهيمنة.

فهم يفترضون أن اللَّه عزّ وجل في الآخرة جسم، وهذا نتاج ضعفهم وقصورهم في المسائل العقلية والاعتقادية؛ إذ لم يلتفتوا إلى أن قولهم هذا يلزم منه كون اللَّه تعالى مادّياً، وكلّ أمر مادّي قابل للانقسام، فله أجزاء متولّدة من جسمه، وهو منافٍ لِمَا نصّت عليه سورة التوحيد التي نفت التولّد والانقسام والتجسيم والمادّية.

ثُم إن الجسم محدود، وهو تعالى خالق الجسم ومهيمن عليه لا يحدّه حدّ.

وأهل البيت عليهم‌السلام يثبتون الرؤية القلبية للَّه عزّ وجلّ، وهو ما أكَّدته الآيات

____________________

(1) الأنعام: 91.

(2) القلم: 42.

(3) القيامة 75: 23 - 22.

(4) طه: 5.

٤٨

القرآنية كقوله تعالى: ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) (1) ، وهم عليهم‌السلام ينفون الرؤية البصرية التي يشترط فيها المحاذاة والمقابلة

الجسمانية، واللَّه عزّ وجلّ منزّه عن الجسم والجسمية في جميع النشآت.

لقاء اللَّه يوم الحساب بآياته وحججه:

وحيث إن حشر الخلائق بأجسامهم، فإن ملاقاة العباد لربّهم تكون بالوسائط والوسائل والآيات، وإلّا للزم أن تكون المقابلة والملاقاة

جسمية؛ أي أن الباري - والعياذ باللَّه - يلاقي أجسام الخلائق بجسمه، وهو باطل بالضرورة.

فإياب الخلائق وحسابهم لابدّ أن يكون عبر الوسائل والوسائط والآيات، وإلّا فإن اللَّه عزّ وجلّ معنا أينما كنّا. وذلك ديدن قرآني في الإسناد، كإسناد الإماتة إلى اللَّه عزّ وجلّ وإلى ملك الموت وإلى الرسل التي يديرها ملك الموت، فإياب الخلق وحسابهم على اللَّه عزّ وجل، ولكن عبر آياته ووسائطه، قال تعالى: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) (2) ، وقال تعالى: ( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (3) .

فإذا ثبت أن اللَّه عزّ وجلّ ليس بجسم، ونحن أجسام في شطر من ذواتنا وشطر من إدراكاتنا التي تتحقق عبر الارتباط بالأجسام، سواء في الدنيا أو البرزخ أو الآخرة، فلا يمكن الارتباط مباشرة بربّ العزّة والجلال، وحيث إن الارتباط باللَّه عزّ وجلّ في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة ليس منقطعاً تماماً؛ لأن

____________________

(1) النجم: 11.

(2) الأنفال: 17.

(3) التوبة: 74.

٤٩

معناه التعطيل في قدرة الباري تعالى، وحيث ثبت بطلان التعطيل، وأنه لا تعطيل لمعرفة ذاته تعالى ولا لصفاته ولا لأفعاله ولا لعبادته ولا للقائه عزّ وجل، فلابدّ من القول إما بالوسائط أو النبوءة.

والمجسّمة قالوا بالتجسيم لأنهم أنكروا الوسائط وخافوا من الوقوع في التعطيل أو دعوى النبوءة، فلا محيص لهم عن القول بالتجسيم.

هذا كلّه على المستوى التحليلي لِمَا ادّعيناه أولاً.

وأمَّا الدليل القرآني على ذلك، فهو قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (1) .

فقوله تعالى: ( لِبَشَرٍ ) للإشارة إلى الجسم والخصوصيات الجسمانية.

وقوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) بمثابة البرهان والاستدلال على مضمون الآية المباركة.

وقوله تعالى: ( مَا كَانَ ) لنفي الشأنية والإمكان، لا لبيان عدم الوقوع فقط، وإلّا لكان حقّ التعبير أن يقال: إن اللَّه لا يكلّم أحداً إلّا بالطرق الثلاثة المذكورة في الآية.

ومعنى الآية الكريمة أنه لا توجد أي مجابهة جسمانية بين اللَّه عزّ وجلّ وبين البشر، المحكومين بأحكام المادّة والجسمية، فتكليمه عزّ وجلّ للبشر إمَّا وحياً؛ أي عن طريق جانب الروح في البشر، أو من وراء حجاب؛ أي عن طريق خلق الصوت وإيجاده في الأمور المادّية، كما في تكليم اللَّه عزّ وجلّ

____________________

(1) الشورى: 51.

٥٠

لموسى عليه‌السلام ، أو يرسل رسولاً؛ أي إرسال الملائكة أو الأنبياء والحجج، بل وكذا التكلّم مع الملائكة، فإنه يكون عن طريق الوحي كما في قوله تعالى: ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) (1) .

إذن لا وجه للمواجهة الجسمانية مطلقاً؛ سواء في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة.

ثم قال تعالى: ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) أي متعال أن يكون جسماً محاطاً ومحدوداً، فإن العلو يستلزم نفي الجسمية، وهو عزّ وجلّ حكيم، أي غير معطّل، فمن حكمته أن يرسل رسلاً ويقيم أئمة ويوسّط وسائط، فلا تجسيم ولا تعطيل.

وهذه الآية ليست دلالتها مقصورة على دار الدنيا فقط، بل هي بلحاظ كلّ النشآت الوجودية والتكونيية، فهو تعالى عليّ متعال على الجسمية ومقابلة الأجسام، وحكيم غير معطّل بينه وبين خلقه عن طريق الوسائط والرسل، فهو عزّ وجلّ يُعرِّف برسله وأدلّته وحُججه.

وبعضهم حيث أنكر التجسيم وفرّ من مغبّة التعطيل ورفض الوسائط - بدعوى أنها صنمية منافية لروح التحرّر - وقع في القول بالتنبؤ، ولجأ إلى الإيمان بقدسية العقل وسعة مدياته وحدوده، وأنه يصيب كلّ صغيرة وكبيرة كما هي مقالة بعض المتعلمنين من الإسلاميين.

وحيث إن التنبؤ والإيحاء إلى الجميع باطل بنصّ القرآن الكريم، وثبت أن التشبيه والتجسيم وكذا التعطيل باطل، فلابدّ من الإيمان بالوسائط والوسائل، ويكون إنكار وليّ اللَّه وحجته تجسيماً أو تعطيلاً أو استكباراً وإكباراً للنفس وصنميّة للعقل، وهي النبوءة المرفوضة في الكتاب والسنّة.

____________________

(1) الأنفال: 12.

٥١

إذن الوسيلة والواسطة أمر برهاني وضروري في كلّ النشئآت، ولذا ورد في الروايات أن الذي بُعث في عالم الذرّ بين اللَّه تعالى وبين باقي الأنبياء هو النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا هو ما قلناه من أن الشهادة الأولى كما أنها مطلوبة في جميع النشئآت، كذلك الشهادة الثانية وأن محمّداً رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية في كلّ النشئآت أبديّة وأزلية، فوصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ليس خاصاً بالدنيا فقط، وإنما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول في إنزال القرآن، وآياته غير مختصّة بالدنيا، بل تحكي كلّ النشئآت وعالم الربوبية والصفات وعالم الذات، بما لم يُنبّئ به نبيّ من الأنبياء، وهذا معنى واسطته صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ العوالم والنشئآت.

والحاصل: إن لم يكن في البين تشبيه ولا تعطيل، فلابدّ من النبوءة أو قبول الوسائط والحجج، وحيث إن التنبؤ للكلّ باطل؛ فلابدّ من الإيمان والإقرار بالوسائط بين اللَّه تعالى وبين مخلوقاته في كلّ العوالم، فاللَّه عزّ وجلّ لا يُتوجّه إليه باتجاه جسماني، بل يُتوجّه إليه بالمعاني والآيات والحجج.

ومن ذلك كلّه يعلم عظم مكانة الآية والحجّة الإلهية، وأن إنكارها في الحقيقة بمنزلة إنكار الباري عزّ وجل كما ورد ذلك في قوله تعالى: ( فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) (1) ، فإنكار خلافة خليفة اللَّه في الأرض ليس ينصبّ على الوسيلة بما هي هي، بل يرجع إلى الكفر باللَّه تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) (2) ؛ وذلك لأن

____________________

(1) الأنعام: 33.

(2) الأنعام: 91.

٥٢

الذات المقدّسة إذا لم يكن بينها وبين المخلوقات أي ارتباط، فإن معناه التعطيل، وهو بمنزلة الإنكار للَّه عزّ وجل؛ لأنه إنكار لقدرة تعالى وتدبيره. فعظمة الوسائط والحجج والآيات بعظمة ذي الآية التي أضيفت إليه، ويكون الاستخفاف بها استخفافاً باللَّه عزّ وجل، فلابدّ من تعظيمها وإجلالها.

ووظيفة الخليفة هي الواسطة والوساطة في تدبير شؤون العباد، وهذا النظر والاعتقاد الحقّ ممَّا امتاز به مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو أن العوالم بجميع نشئآتها لا تخلو عن حجّة وخليفة وواسطة.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها في المقام، هي أن التوسّل والشفاعة والتوسّط والوسيلة تحمل في داخلها عدم المحورية الذاتية للشفيع والوسيط، أي ليس للوسيط والشفيع والوسيلة؛ أي استقلالية عن اللَّه عزّ وجل، وذلك لأن الواسطة معناه أن النظرة إليها آلية وحرفية، ليس لها من ذاتها إلّا الفقر والحاجة إلى سلطان اللَّه وإرادته؛ ولذا نجد أن الوسائط التي اتخذت من دون اللَّه عزّ وجلّ أخفقت في وساطتها ووجاهتها وكانت شركاً باللَّه عزّ وجل، لأنها استقلّت عن سلطانه وإرادته وإذنه.

والغريب في هذا المجال هو أن أصحاب هذه المقالة والجاحدين للتوسل آمنوا بأن الشفاعة والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآخرة ليس شركاً، وكذا التشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حال حياته. وأمَّا التشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله حال موته، فزعموا أنه من الشرك الأكبر.

ويرد عليهم السؤال التالي: إن دائرة الشرك من أين نتجت؟ هل مِن حدّ معنى الشفاعة والواسطة، أو من حدّها التعبّدي، أو من خلال المعنى العقلي؟

٥٣

فإذا كان المعنى عقلياً، فالغيرية إذاً أوجبت الشرك، فإنها توجبه في كلّ نشأة، سواء نشأة الدنيا أو الآخرة، وإذا لم توجب الغيرية الشرك لجهة الوساطة، فما هو الفرق بين أنواع التشفّع في الدنيا والآخرة، أو حال الموت وحال الحياة؟!

لا سيما وأن الشرك الأكبر (1) معنىً عقلي يدركه العقل، ونفيه وإثباته في متناول الأحكام العقلية، وهي لا تقبل التخصيص والاستثناء، لا سيما وأنها من الأحكام التي تقرُب من البداهة.

وبعبارة أخرى: إن الوسيلة والوساطة تعني تقوّم الواسطة والوسيلة باللَّه، وكونها مظهر فعله وظهوره، وهذا عين التوحيد في الأفعال والصفات، فكيف يُجحد تحت قناع أنه الشرك الأكبر، وتسمية ذلك الجحود بأنه توحيد؟! فإن ذلك من التلبيس لأحد العنوانين مكان الآخر، خصوصاً وأنه قد مرّ أن إنكار الوسيلة والتوسّل يؤول إلى إنكار الشهادة الثانية؛ لأنه يؤول إلى إنكار ركنية ودخالة رسالة ومقام خاتم الأنبياء في التوحيد.

____________________

(1) المقصود من الشرك الأكبر أو الشرك الصريح هو الذي يوجب ردّة عن الدين. أمَّا الشرك الأصغر أو الشرك الخفي غير الصريح، فهو الذي لا يوجب ردّة، وهو قلّما ينجو منه أحد إلّا المخلَصين. والشرك الصريح إنما يوجب الردّة؛ لأنه منافٍ لمقررات الدين الإسلامي وثوابته وأولياته والإذعان والإقرار بما هو مناف صراحة لأوليات الدين الإسلامي، وهذا نوع إنشاء فسخ وخروج عن عهود ومواثيق الشهادتين؛ وذلك لأن التشهُّد بالشهادتين لحصول الإسلام أو بالشهادة الثالثة لحصول الإيمان - كما هو عند الإمامية - يلزم منه الالتزام بعدّة عهود ومواثيق، فلو أنشأ الشهادات الثلاث والتزم بما هو منافٍ لها صريحاً، فإنه يخرج عن العهد والميثاق الذي التزم به. وأمَّا عدم إيجاب الشرك الأصغر ردّة في الدين؛ فلأن المتكلم والمدّعي لأمر لا يعي تناقض ذلك الأمر مع الشهادتين، ولا يكون ظاهراً عرفاً في الفسخ للعهود والمواثيق.

٥٤

الفصل الثاني:

الأدلّة القرآنية

٥٥

1 - حقيقة التوسّل في أربع طوائف قرآنية

2 - قصة آدم مع إبليس

3 - الآيات البيّنات في المسجد الحرام

4 - التوجه إلى القبلة طاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

5 - المودة لذرية إبراهيم عليه‌السلام من شرائط الحجّ وغاياته

6 - الولاية من شرائط المغفرة

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ

8 - الأنبياء مصدر البركة

9 - البقعة المباركة

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهية

11 - بناء المساجد على قبور الأولياء

12 - حبط الأعمال وقبولها

13 - آيات القسَم بشخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

14 - الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

15 - آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أُضيفت إلى الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام

خاتمة في:

أ - الروايات الواردة في مشروعية التوسّل.

ب - آراء أعلام السنّة في التوسّل.

٥٦

الأدلة القرآنية

1 - (حقيقية التوسّل في أربع طوائف قرآنية):

إنّ الآيات القرآنية المباركة الدالّة على أنّ الإنكار على المشركين مُنصبّ على الوسائط المقترحة دون الوسائط الإلهيّة على طوائف متعدّدة:

الطائفة الأولى: وهي ما كانت بلسان استنكار الأسماء المقترحة من قبل العبيد ومن سلطانهم وهوى أنفسهم.

1 - قوله تعالى: ( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) (1) .

وهذا الكلام يسجّله اللَّه عزّ وجلّ في قرآنه الكريم على لسان نبيّه هود عليه‌السلام ، حيث يحاجج عاداً قومه وينكر عليهم الوسائط المقترحة من عند أنفسهم والتي لم ينزل اللَّه عزّ وجلّ بها سلطاناً.

وقد تقرّر في علم أصول الفقه أن النهي أو النفي إذا ورد على طبيعة مقيّدة بقيد، فإنما يقع ذلك النفي أو النهي على القيد، لا على ذات

المقيَّد، كقولك: لا رجل طويل في الدار، فإنّ النفي في هذا المثال متوجّه إلى القيد وهو الطول،

____________________

(1) الأعراف:71.

٥٧

وليس المراد نفي أصل وجود الرجل في الدار، وبالنتيجة يكون المنفي الصنف والقيد، وهو الرجل الطويل، لا ذات الطبيعة المقيّدة، وهو عموم الرجل.

كذلك في المقام، فالآية في قوله تعالى: ( مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) تنفي صنفاً خاصّاً من الوسائط والوسائل، وهي الوسائط التي لم ينزّل بها اللَّه تعالى سلطاناً، والأسماء المقترحة والمجعولة من قبل أنفسهم وآبائهم.

فمصبّ الإنكار والتقريع والتخطئة هو كون تلك الأسماء والوسائط مقترحة من غير إذنٍ وسلطان إلهي. ولم تنفِ الآية المباركة أصل وجود الوسائط والوسائل، وإلّا فلو كان أصل الوساطة والتوسيط أمراً مستنكراً، فلا معنى لذكر القيد، بل يكون ذكره لغواً ومخلّاً بالغرض والمراد، مع أن الآية ركّزت على ذكر القيد، وأكّدت على أنّ الأسماء المستنكرة هي التي ( مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) ، لا مطلق طبيعة الأسماء والوسائط. فليس الإشكال في أصل الاسم والوساطة، بل الإشكال في كونها مقترحة منهم ومسندة إليهم، من دون أن يُسمّها اللَّه عزّ وجلّ أو يجعلها واسطة بينه وبين خلقه.

وفي الآية المباركة إشارة لطيفة؛ حيث لم يطلق فيها الاسم على ذات الباري عزّ وجلّ، بل أطلق على ذات الواسطة بينه تعالى وبين عبيده، أي واسطة في النداء ووسيلة في التوجّه، فالاسم الذي يُدعى به هو الوسيلة أو الواسطة التي يُتوسّل بها إليه.

2 - قوله تعالى: ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

٥٨

سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) (1) .

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة بنفس ما تقدّم في الآية السابقة؛ حيث إنها تجعل مركز التخطئة والاستنكار هو التصرّف الاقتراحي من العبيد في سلطان اللَّه تعالى، وليست التخطئة لأصل مقالة الحاجة والضرورة إلى الوسائط.

الطائفة الثانية: وهي ما كانت بلسان حصول الشرك بغير اللَّه عزّ وجلّ بسبب الوسائط التي لم تكن بسلطان اللَّه وحكمه وإرادته.

1 - قوله تعالى: ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) (2) .

2 - قوله تعالى: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ) (3) .

3 - قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (4) .

فسبب الشرك الذي وقعوا فيه هو تحكيم سلطانهم ورغبتهم وهواهم وإرادتهم على إرادة اللَّه تعالى وسلطانه، لا أن أصل الوساطة هو المرفوض في منطق القرآن الكريم.

الطائفة الثالثة: وهي ما كانت بلسان العبادة من دون اللَّه تعالى، وأن التوسّل

____________________

(1) النجم: 23.

(2) آل عمران: 151.

(3) الأنعام: 81.

(4) الأعراف: 33.

٥٩

بالوسائط والشفعاء بغير سلطان وإذن من اللَّه عزّ وجلّ يوجب عبادة مَنْ هو دونه، وهي الوسائط المقترحة.

1 - قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) (1) .

2 - قوله تعالى: ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) (2) .

لا يقال: إذا كانت العبادة المرفوضة هي عبادة المعبود الذي لم ينزّل اللَّه به سلطاناً، فهل هذا يعني أن العبادة لغير اللَّه تعالى تكون جائزة فيما إذا نزّل به اللَّه عزّ وجلّ سلطاناً؟!

لأننا نقول: العبادة لغير اللَّه تعالى ممنوعة مطلقاً، والباري تبارك وتعالى لا يأمر بعبادة غيره، ومضمون هذه الطائفة من الآيات عين المضمون الذي تقدّم في الطوائف السابقة من الآيات؛ وهو أن العبادة من دون اللَّه تعالى تتحقّق فيما إذا كانت الوسيلة بإرادة العبيد واقتراحهم. وأما إذا لم تكن كذلك، فلا تكون عبادة من دون اللَّه، بل هي عبادة للَّه عزّ وجل كما جاء ذلك في سجود الملائكة لآدم؛ فهو سجود وطاعة للَّه تعالى وامتثالٌ لأمره، لا أن السجود لآدم بنحو الاستقلال لكي يكون عبادة وخضوعاً له من دون اللَّه عزّ وجل.

فهذه الطائفة من الآيات تبيّن أن العبادة من دون اللَّه تعالى إنما تتحقّق فيما إذا كان التوجّه إلى الوسائط المقترحة من قبل العبيد، من دون أن ينزّل بها اللَّه

____________________

(1) الحج: 71.

(2) يوسف: 40.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460