مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة17%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234450 / تحميل: 8795
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

فعل يزيد واستنكار بعض الحاضرين:

لقد سخطت كلّ الضمائر الحُرَّة أشدّ السخط على يزيد وأفعاله، وأنكرت عليه ما ارتكبه في حقّ رأس سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وفيما يلي نذكر بعضهم:

١ - أبو برزة الأسلمي:

قال سبط ابن الجوزي: ( وأمّا المشهور عن يزيد في جميع الروايات، أنّه لما حضر الرأس بين يديه، جمع أهل الشام وجعل ينكت عليه بالخيزران... قال ابن أبي الدُّنيا: وكان عنده أبو برزة الأسلمي، فقال له: يا يزيد، ارفع قضيبك، فوالله، لطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبِّل ثناياه )(١) .

وروي عنه أيضاً أنّه ( لما ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وأنشد للحصين بن الحمام المرّي، فلم يبقَ أحد إلاّ عابه وتركه، وكان عنده أبو برزة الأسلمي، فقال له: ارفع قضيبك، فطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقبّل ثناياه، أما إنّك ستجيء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد، ويجيء الحسين وشفيعه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(٢) .

وروى المزي(٣) ، والطبري(٤) ، وابن الجوزي(٥) ، والذهبي(٦) ، وابن كثير(٧) ، أنّه بعدما وضِع الرأس الشريف بين يدي يزيد جعل ينكت بالقضيب على فيهعليه‌السلام وتمثّل بالأبيات، فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك، فوالله، لربّما رأيت فاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦١ - ٢٦٢.

(٢) مرآة الزمان: ٩٩ - مخطوط - (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥).

(٣) تهذيب الكمال ٦/ ٤٢٨.

(٤) تاريخ الطبري ٤/ ٢٩٣.

(٥) المنتظم ٥/ ٣٤٢؛ الردّ على المتعصّب العنيد:٤٧.

(٦) سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٩.

(٧) البداية والنهاية ٨/ ١٩٤ و١٩٩.

١٢١

على فيه يلثمه.

وقال البلاذري: (قالوا: وجعل يزيد ينكت بالقضيب ثغر الحسين حين وضع رأسه بين يديه، فقال أبو برزة الأسلمي: أتنكت بالقضيب ثغر الحسين؟! لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً ربّما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرشفه، أما إنّك - يا يزيد - تجيء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد، ويجيء الحسين وشفيعه محمّد.

ثمّ قام: ويُقال: إنّ هذا القائل رجلٌ من الأنصار )(١) .

وقد بسط السيّد ابن طاووس وابن نما أنّه أقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال: ( ويحك! يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسينعليه‌السلام ابن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول:( أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، قتل الله قاتلكما ولعنه، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً ) ، قال الراوي: فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأُخرج سحباً )(٢) .

وفي هذا الموقف يستند أبو برزة - بصفته أحد الصحابة(٣) - إلى فعل

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦. وروي نحوه في البدء والتاريخ ٦/ ١٢؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤؛ جواهر المطالب ٢/ ٦٤.

(٢) الملهوف: ٢١٤؛ مُثير الأحزان: ١٠٠ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٢. وانظر: الفتوح ٢/ ١٨١ ومقتل الخوارزمي ٢/ ٥٧، مع تفصيل أكثر، قالا: - واللفظ للثاني -: ثمّ دعا يزيد بقضيب خيزران، فجعل ينكث به ثنايا الحسينعليه‌السلام وهو يقول: لقد كان أبو عبد الله حسن المضحك. (وفي الفتوح: حسن المنطق)، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي - أو غيره من الصحابة - وقال له: ويحك! يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمة؟ (في الفتوح: أتنكث بقضيبك ثنايا الحسين وشعره؟ لقد أخذ قضيبك هذا مأخذاً من ثغره، أشهد... ) ثمّ ذكر ما نقلناه عن ابن طاووس.

(٣) هو نضلة بن عبيد بن الحارث الأسلمي، غلبت عليه كُنيته، اختلف في اسمه. صحابي من سكّان المدينة ثمّ البصرة، شهد مع عليّعليه‌السلام النهروان، مات بخراسان سنة ٦٥، انظر تهذيب التهذيب ١٢/ ١٨ رقم ٨٢٨٤؛ الإصابة ٣/ ٥٥٧ ترجمة رقم ٨٧١٨؛ الأعلام ٨/ ٣٣.

١٢٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى لزوم حُبّ الحسينعليه‌السلام ، وقوله بالنسبة إلى حبّه والبراءة من أعدائه وقاتله، وهو موقف جليل في أهمّ زمان وأخطر مكان؛ ولأجل ذلك لم يتحمّل الطاغية هذا الموقف، فغضب عليه وأمر بإخراجه، فأُخرج سحباً.

ملاحظتان:

الملاحظة الأُولى:

قيل: إنّ ابن تيميّة - الضالّ المضلّ - نفى حضور أبي برزة الأسلمي مجلس يزيد، بدليل وجوده بالكوفة حينما أُحضر الأُسارى من آل البيت(١) .

فنقول: الدليل عليل من وجوه:

الأوّل: المشهور حضور أبي برزة في الشام وفي مجلس يزيد، وقد ذكر ذلك الجمّ الغفير من المؤرِّخين، مثل البلاذري، والطبري، وابن أعثم، وابن الأثير، والذهبي، وابن كثير، وابن الجوزي، وسبطه، والباعوني، والمزّي والخوارزمي وغيرهم، كما أسلفناه. وهذا أمر لا يمكن لأحد أن يتغافل عنه إلاّ إذا كان أعور!

الثاني: على فرض وجوده بالكوفة زمن وجود الأسرى فيها، فوجوده بالشام زمن وجودهم فيها ليس بأمر مُستبعد؛ لأنّه قد ذكرنا أنّ ابن زياد جهّزهم وأرسلهم إلى الشام ومعهم جماعة، فمن الممكن أن يكون منهم، أو أنّه ذهب بنفسه إلى الشام.

الثالث: أنّ ابن تيمية لم ينفِ هذا فحسب، بل ينفي أموراً بديهيّة ضروريّة ومسلّمة تاريخيّاً، ممّا يدعو إلى السخرية والاستهزاء به؛ فإنّه قال: ( فيزيد لم يأمر بقتل الحسين! ولا حمل رأسه بين يديه، ولا نكت بالقضيب على ثناياه، بل الذي

____________________

(١) اُنظُر حول رأس الحسين ١٧١.

١٢٣

جرى هذا منه هو عبيد الله بن زياد، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، ولا طيِفَ برأسه في الدُّنيا ولا سُبي أحد من أهل الحسين )!!(١) .

إنّ الناظر فيما أوردناه، والمتتبّع في السير يعلم بأنّ ابن تيمية - لكونه من أصلب المدافعين عن يزيد - كيف يُبالغ بحرارة في الدفاع عن هذه الجرثومة الفاسدة، وكيف يُعرض عن جميع ما ذكره أرباب السير والتاريخ من اقتراف يزيد لهذه الجريمة النكراء، فهذا هو ابن كثير الدمشقي - الذي تلوح شقاوته في تاريخه - من جملة مَن اعترف بذلك وقال: ( وقد ورد في ذلك آثار كثيرة )(٢) ، فلأجل ذلك لا يُعتنى بكلامه في المقام.

الرابع: أنّ المهمّ هو اتّخاذ هذا الموقف من أحد الصحابة في المجلس - أيّاً كان ذلك الصحابيّ - وهو ثابت.

الملاحظة الثانية:

قال الخوارزمي: ( وقيل: إنّ الذي ردّ على يزيد ليس أبا برزة، بل هو سمرة بن جندب صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال ليزيد: قطع الله يدك يا يزيد! أتضرب ثنايا طالما رأيت رسول الله يُقبّلهما ويلثم هاتين الشفتين؟

فقال له يزيد: لو لا صحبتك لرسول الله لضربت - والله - عنقك!

فقال سمرة: ويلك! تحفظ لي صحبتي من رسول الله! ولا تحفظ لابن رسول الله بنوّته؟! فضجّ الناس بالبكاء وكادت أن تكون فتنة )(٣) .

ففيه:

____________________

(١) اُنظُر: سؤال في يزيد بن معاوية لابن تيمية: ١٦؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

(٢) البداية والنهاية ٨/ ١٩٤.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

١٢٤

أوّلاً: أنّه خبر مُرسل لا يذكره غيره، ولا يثبت عند الخوارزمي أيضاً، ولذلك يذكره بقوله: (قيل).

وثانياً: إنّ المشهور أنّ سمرة بن جندب قد مات قبل وقعة الطف(١) ، فالمسألة مُنتفية بانتفاء موضوعها رأساً.

وثالثاً: قيل: إنّ سمرة كان عامل معاوية وشريكاً في جرمه، وهو من شرطة ابن زياد الذين حرّضوا الناس على قتال أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، فمن كان هذا حاله يُستبعد منه اتّخاذ مثل هذا الموقف - على فرض حياته وحضوره بالشام آنذاك - وإن لم نستبعد بالمرّة أن يتّخذ إنسان فاسد موقفاً جليلاً في زمنٍ ما.

ونرجع إلى المقصود ونقول: بأنّ المهمّ هو محض اتّخاذ هذا الموقف من أحد الصحابة، وإن لم نعرفه على وجه التحديد.

٢ - زيد بن أرقم:

قال القطب الراوندي: (فدخل عليه (أي على يزيد) زيد بن أرقم، ورأى الرأس في الطشت، وهو يضرب بالقضيب على أسنانه، فقال: ( كفّ عن ثناياه، فطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبّلها )!

فقال يزيد: لو لا أنّك شيخ خَرِفْت لقتلتك )(٢) .

وإلى ذلك أشار الحميري بقوله:

لم يزل بالقضيب يعلو ثنايا

في جناها الشفاء من كلّ داء

قال زيد ارفعن قضيبك ارفع

عـن ثنايا غُرٍّ غذي باتّقاء

طالما قد رأيت أحمد يلثمها

وكم لي بذاك من شهداء(٤)

____________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢/ ٦٤ط دار أنوار الهدى.

(٢) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨.

(٣) المناقب ٤/ ١١٤.

١٢٥

إنّ زيد هو الذي روى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن سبطه سيّد الشهداءعليه‌السلام أنّه قال:( اللّهمّ، إنّي أُحبّه فأحبّه ) (١) ، فلذلك إذا صدر منه هذا الموقف فليس بغريب.

روى ابن الجوزي، عن زيد بن أرقم أنّه قال: ( كنت عند يزيد بن معاوية، فأُتي برأس الحسين بن علي، فجعل ينكت بالخيزران على شفتيه وهو يقول:

يُفلِّقن هاماً من رجال أعزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقلت له: ارفع عصاك!

فقال: تُرابيٌّ؟!

فقلت: أشهد لقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضعاً حسناً على فخذه اليمنى، واضعاً حسيناً على فخذه اليسرى، وهو يقول:( اللّهمّ، إنّي أستودعكهما وصالح المؤمنين ) ، فكيف كان حفظك يا يزيد وديعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! )(٢) .

٣ - نعمان بن بشير:

روي عن محمّد بن أبي بكر التلمساني المشهور بالبري أنّه قال: ( وأُتي يزيد برأس الحسينعليه‌السلام ، فلما وضِع بين يديه جعل ينكت أسنانه بقضيب كان في يده ويقول: ( كان أبو عبد الله صبيحاً ).

فقال النعمان بن بشير: ( ارفع يدك - يا يزيد - عن فمٍ طالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقبّله)، فاستحيى يزيد وأمر برفع الرأس )(٣) .

٤ - صحابيّ لم يُسمَّ:

روى ابن الأثير، عن عبد الواحد القرشي قال: ( لما أُتي يزيد برأس الحسين

____________________

(١) إحقاق الحقّ ١١/ ٣٠١، عن سير أعلام النبلاء ٣/ ٢١٢ ط مصر.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٦.

(٣) الجوهرة ٢/ ٢١٩ على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٠.

١٢٦

ابن علي (رضي الله عنهما) تناوله بقضيب، فكشف عن ثناياه، فوالله، ما أبرد بأبيض منها، وأنشد:

يُفلِّقن هاماً من رجال أعزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقال له رجل عنده: يا هذا، ارفع قضيبك، فوالله، ربّما رأيت شفتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكأنّه يُقبّله.

فرفع مُتذمِّراً عليه مُغضباً )(١) .

قال ابن سعد: (ثمّ مال بالخيزرانة بين شفتي الحسين، فقال له رجل من الأنصار حضره: ارفع قضيبك هذا، فإنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقبِّل الموضع الذي وضعته عليه )(٢) .

٥ - يحيى بن الحَكم أو عبد الرحمان بن الحَكم:

وممّن اعترض على فعل يزيد يحيى بن الحَكم أخو مروان بن الحَكم، فإنّه لما رأى ما فعل يزيد برأس الحسين وتمثُّله بالأبيات قال:

لهامٌ بأدنى الطف أدنى قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الرذل

أُميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل

فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحَكم وقال: اسكُت!

رواه كثير من أرباب السير منهم الشيخ المفيد والطبرسي(٣) .

____________________

(١) أُسد الغابة ٥/ ٣٨١. وروى نحوه عن تاريخ دمشق، وفيه: رجل له صحبة كان عند يزيد بن معاوية حين أُتي برأس الحسين بن علي، إن لم يكن أبا برزة الأسلمي، أو زيد بن أرقم فهو غيرهما (عبرات المصطفين ٢/ ٣٢١ عن تاريخ دمشق المجلّد الأخير: ٥٧، انظر مختصر تاريخ دمشق ٢٩/ ٢٢٠).

وجاء في مقتل الخوارزمي (٢/ ٥٨): فقال له - أي ليزيد - بعض جلسائه: ارفع قضيبك، فوالله، ما أُحصي ما رأيت شفتي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكان قضيبك يُقبّله.

(٢) الطبقات الكبرى ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ): ٨٢.

(٣) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

١٢٧

وجاء في بعض الكتب أنّه قال:

لهامٌ بجنب الطفّ أدنى قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سُميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وليس لآل المصطفى اليوم من نسل(١)

ونُسب هذا الموقف وهذه الأبيات وموقف يزيد منها إلى أخيه عبد الرحمان بن الحَكم أيضاً (٢) ، ووصفه سبط ابن الجوزي أنّه كان شاعراً فصيحاً، فلعلّ الراجح نسبتها إليه لا إلى أخيه يحيى.

وعن سبط ابن الجوزي، أنّه بعدما أنشد الأبيات صاح وبكى، فضرب يزيد صدره، وقال له: يا بن الحمقاء!، ما لكَ ولهذا؟!(٣) .

وفي البحار عن المناقب بعد ذكر ما أنشده عبد الرحمان بن الحَكم قال يزيد: نعم، فلعن الله ابن مرجانة إذ أقدم على مثل الحسين بن فاطمة، لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلاّ أعطيته إيّاها! ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، لكن قضى الله أمراً فلم يكن له مردّ.

وفي رواية أنّ يزيد أسرّ إلى عبد الرحمان وقال: سبحان الله! أنّى هذا الموضع؟! أما يسعك السكوت؟!(٤) .

٦ - الحسن المثنّى:

روى ابن نما أنّ الحسن بن الحسن لما رآه يضرب بالقضيب موضع فم رسول الله قال: وا ذلاّه!

____________________

(١) اُنظُر تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٩؛ المناقب ٤/ ١١٤؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٤.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤٢١؛ تاريخ الإسلام (للذهبي): ١٨؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٨؛ مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥)؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٠.

(٣) مخطوطة مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥).

(٤) بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٠.

١٢٨

سُميَّة أمسى نسلها عدد الحَصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل(١)

ولقد ذكرنا أنّ الحسن البصري أيضاً قال ذلك حينما سمع بالخبر(٢) . ولعلّه حصل خبط في النقل.

يزيد في موضع الانفعال:

قال سبط ابن الجوزي: ( ولما فعل يزيد برأس الحسين ما فعل تغيّرت وجوه أهل الشام، وأنكروا عليه ما فعل، فقال: أتدرون من أين دهى أبو عبد الله؟!

قالوا: لا.

قال: من الفقه والتأويل، كأنّي به قد قال:أبي خيرٌ من أبيه، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّه، فأنا أحقّ بهذا الأمر منه. ولم يلحظ قوله تعالى:( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ... ) الآية(٣) . فسرى عن وجوه أهل الشام )(٤) .

قال ابن أعثم والخوارزمي: (ثمّ أقبل (يزيد) على أهل مجلسه وقال: هذا يفخر عليَّ ويقول:( أبي خير من أبي يزيد، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّ يزيد، وأنا خير من يزيد ) ، فهذا الذي قتله! فأمّا قوله: (إنّ أبي خير من أبي يزيد)، فقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه! وأمّا قوله: (إنّ أُمّي خير من أُمّ يزيد) فلعَمْرِي، إنّه صادق! إنّ فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خيرٌ من أُمّي، وأمّا قوله: (إنّ جدّي خير من جدّ يزيد) فليس أحد يؤمن الله واليوم الآخر يقول: إنّه خيرٌ من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا قوله: (أنا) خيرٌ منّي. فلعلّه لم يقرأ هذه الآية:( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ... قَدِيرٌ ) (٥) .

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠٠.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧.

(٣) آل عمران: ٢٦.

(٤) مرآة الزمان ١٠ - مخطوط - على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٤.

(٥) الفتوح ٢/ ١٨١؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٧؛ تاريخ الطبري ٤/ ٢٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٥.

١٢٩

ومن المعلوم أنّ يزيد التجأ إلى هذا القول بعد اعتراض كثير من الحاضرين، وفيهم بعض الصحابة وأقاربه أيضاً، فصار مُحرجاً، فسعى لتشويه أهداف نهضة الحسين بهذا القياس السخيف، وإلاّ فأين الثرى من الثُّريّا؟! أين معاوية الطليق ابن الطليق من عليّ أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين؟! وأين هند آكلة الأكباد من فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين؟! وأين أبو سفيان الطليق من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله سيد الأوّلين والآخرين؟! وأين يزيد اللعين من الحسينعليه‌السلام وهو سيّد شباب أهل الجنّة أجمعين؟!

وبعبارة أخصر: أين الشجرة الملعونة في القرآن من الشجرة المباركة، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؟!

ويختم يزيد كلامه بذكر مشيئة الله وقضائه وقدره، وهو لا يعلم منها شيئاً، وهذا هو سلاح المتجبّرين أن يُنهوا كلّ شيء إلى هذه النقطة ويروّجوا لمسلك الجبر في المقام، ويُسكتوا أصوات مخالفيهم والساذجين من الناس.

نعم، التجأ يزيد إلى هذا الموقف المنفعل، بعدما رأى فضاعة إساءته إلى رأس سبط الرسول وثمرة البتول، ولذلك ذكروا أنّه قال بهذا المقال بعدما اعترضه أبو برزة الأسلمي(١) ، أو ابن الحَكم(٢) ، وبعد ذلك تمثّل بأبيات ابن الزبعرى.

ويزيد نفسه يعلم مَن هو الحسينعليه‌السلام ومكانته في قلوب الناس العارفين.

إنّ ابن كثير - مع ما فيه - يعترف بعلوّ مكانة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام في عيون الناس، ويقول: ( بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين لأنّه السيّد الكبير وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحدٌ يُسايره ولا يُساويه )(٣) .

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٥؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٥/ ١٣١.

(٣) البداية والنهاية ٨/ ١٥١.

١٣٠

تمثُّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى:

قال الخوارزمي: ( ثمّ كشف (يزيد) عن ثنايا رأس الحسين بقضيبه ينكته به وأنشد.. فقال بعض جلسائه: ارفع قضيبك! فوالله، ما أُحصي ما رأيت شفتي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكان قضيبك يُقبّله! فأنشد يزيد:

يا غراب البين ما شئت فقُل

إنّـما تـندب أمـراً قد فُعِل

كـلّ مُـلك ونـعيم زائـل

وبـنات الـدهر يلعبن بكلّ

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ثـمّ قـالوا يـا يزيد لا تُشلّ

لـست من خِندف إن لم أنتقم

مـن بـني أحمد ما كان فعل

لـعبت هـاشم بـالملك فلا

خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

قـد أخـذنا مـن عليٍّ ثارنا

وقـتلنا الفارس الليث البطل

وقـتلنا الـقُرم مـن ساداتهم

وعـدلناه بـبدرٍ فاعتدل(١)

عدّة ملاحظات:

١ - إنّ يزيد تمثّل بأبيات ابن الزبعرى في المقام. صرّح بذلك الكثير.

منهم: أبو الفرج الأصفهاني(٢) ، وابن أعثم الكوفي(٣) ، وسبط ابن الجوزي(٤) ، وابن شهر أشوب(٥) ، والخوارزمي(٦) ..

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

(٢) مقاتل الطالبيين: ١١٩.

(٣) الفتوح ٢/ ١٨٢.

(٤) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٦) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٦.

١٣١

وابن نما(١) ، وابن عساكر(٢) ، والباعوني(٣) ، والسيّد ابن طاووس(٤) ، وابن أبي الحديد المعتزلي(٥) ، وابن عبد ربّه(٦) ، والبدخشاني(٧) ، وغيرهم. وادّعى سبط ابن الجوزي الشهرة في ذلك(٨) .

أمّا أصل الأشعار، فقد ذكرها ابن هشام (المتوفَّى سنة ٢١٣ أو ٢١٨)(٩) ، ومحمّد بن سلام الجمهي ( المتوفّى سنة ٢٣١)(١٠) ، والجاحظ (المتوفّى سنة ٢٥٥)(١١) ، وأقدمها وأكملها في سيرة ابن هشام.

وأمّا ابن الزبعرى، فهو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، أبو سعد، شاعر قريش من الجاهلية، كان شديداً على المسلمين، قيل: إنّه أسلم في الفتح سنة ثمان، ومات سنة ١٥ من الهجرة(١٢) .

قال الخوارزمي: ( قال الحاكم: الأبيات التي أنشدها يزيد بن معاوية هي

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠١.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٢٠.

(٣) جواهر المطالب ٢/ ٢٩٩.

(٤) الملهوف: ٢١٤.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٤/ ٢٨٠.

(٦) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

(٧) نُزل الأبرار: ١٥٩.

(٨) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٩) السيرة النبوية ٣/ ١٤٣.

(١٠) طبقات الشعراء: ٥٧.

(١١) الحيوان ٥/ ٥٦٤.

(١٢) الإصابة ٢/ ٣٠٨ - ترجمة رقم ٤٦٧٩؛ المؤتلف: ١٣٢.

قال محمّد بن سلام الجمهي: وبمكّة شعراء، فأعبرهم شعراً عبد الله بن الزبعرى، والزبعرى في اللغة السيّئ الخُلق والغليظ. (طبقات الشعراء: ٥٧).

١٣٢

لعبد الله بن الزبعرى، أنشدها يوم أُحد لما استُشهد حمزة عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجماعة من المسلمين، وهي قصيدة طويلة )(١) .

قال ابن هشام: (قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعرى في يوم أُحد:

يـا غراب البين أسْمَعْتَ فقل

إنّـما تـنطق شـيئاً قد فُعل

إنّ لـلـخير ولـلشرّ مـدىً

وكـلا ذلـك وجـدٌ وقُـبِل

والـعطيّات خـساس بـينهم

وسـواء قـبر مُـثْرٍ ومُقل

كـلّ عـيش ونـعيم زائـل

وبـنات الـدهر يلعبن بكل

أبـلغا حـسّان عـنّي آيـة

فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كـم ترى بالجرّ من جمجمة

وأكُـفّ قـد أمـرَّت ورجل

وسـرابيل حِـسان سـريت

عن كماة أهلكوا في المنتزل

كـم قـتلنا مـن كـريمٍ سيِّد

مـاجد الـجدّين مقدام بطل

صـادق الـنجدة قَـرم بارع

غـير مُلتاث لدى وقع الأسل

فـسل الـمِهراس من ساكنه

بـين أقـحاف وهام كالجحل

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

حـين حـكّت بـقباء بركها

واستحرّ القتل في عبد الأشل

ثـمّ خـفّوا عند ذاكم رُقّصا

رقص الحفّان يعلو في الجبل

فـقتلنا الضعف من أشرافهم

وعـدلنا مـيل بـدر فاعتدل

لا ألــوم الـنفس إلاّ أنّـنا

لـو كـررنا لـفعلنا المفتعل

فأجابه حساّن بن ثابت الأنصاري (رضي الله عنه) بقصيدة مطلعها:

____________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢/ ٧٤ (ط دار أنوار الهدى).

١٣٣

ذهبت يا بن الزبعرى وقعة

كان منّا الفضل فيها لو عدل (١)

ورواه الخوارزمي بهذا التفصيل مع تفاوت يسير(٢) .

٢ - إنّ يزيد قد زاد على أبيات ابن الزبعرى ما يدلّ على كفره وخبث باطنه وسريرته، ويكشف عمّا في قلبه من الإلحاد والحقد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.

قال ابن أعثم: ثمّ زاد فيها هذا البيت من نفسه:

لستُ من عُتبة إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل (٣)

وقال سبط ابن الجوزي: قال الشعبي: وزاد فيها يزيد فقال:

لعبت هاشم بالملك... الأبيات(٤) .

وعنه أنّه قال: وقيل: إنّ يزيد زاد فيها هذه الأبيات:

لاسـتهلّوا ثـمّ طـاروا فرحاً

ثـمّ قـالوا يـا يزيد لا تُشل

لـعبت هـاشم بـالملك فـلا

خـبرٌ جـاء ولا وحـيٌ نزل

لـست من خِندف إن لم أنتقم

من بني هاشم ما كان فعل(٥)

ولذلك اتّخذ كثير من علماء المسلمين موقفاً جليّاً وصلباً، أمام هذا الطاغي الملحد؛ استناداً إلى هذه الأبيات - وإلى غيرها من أعماله السيّئة - كما ذكرنا ذلك بالتفصيل في المباحث السابقة، ومنه على سبيل المثال:

____________________

(١) أحجمنا عن ذكر القصيدة بكاملها لطولها، فمَن شاء فليُراجع: السيرة النبويّة ٣/ ١٤٣.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٦.

(٣) الفتوح ٢/ ١٨٢.

(٤) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٥) مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥).

١٣٤

قال مجاهد: ( نافق فيها، ثمّ والله ما بقي من عسكره أحد إلاّ تركه )(١) .

٣ - لقد أوضحنا أنّ أرباب كُتب السير والتاريخ قد ذكروا تمثّل يزيد بهذه الأبيات، وإن كان هناك اختلاف يسير في كيفيّة النقل وعدد الأبيات، فبعضهم لم يذكر إلاّ بيتاً واحداً(٢) ، وبعضهم اثنين(٣) ، وبعضهم ثلاثة(٤) ، وبعضهم أربعة(٥) ، وبعضهم خمسة(٦) ، وبعضهم ستّة(٧) ، وبعضهم سبعة(٨) ، وبعضهم ثمانية أبيات منها(٩) .

٤ - لقد استندت العقيلة السيّدة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى إنشاد يزيد لهذه الأبيات في المجلس بقولها:

( ألا إنّها نتيجة خلال الكفر، وضبّ يُجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يُستبطئ في بغضنا أهل البيت مَن كان نظره إلينا شنفاً وشناناً، وإحناً وأضغاناً، يُظهر كفره برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويُفصح ذلك بلسانه، وهو يقول - فرحاً بقتل ولده وسبي ذريّته غير متحوّب ولا مُستعظم يهتف بأشياخه -:

____________________

(١) المنتظم ٥/ ٣٤٣؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧؛ تذكرة الخواص: ٢٦١؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤.

(٢) أمالي الصدوق: ٢٣١.

(٣) مقاتل الطالبيّين: ١١٩؛ المنتظم ٥/ ٣٤٣؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٩؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٦.

(٤) مُثير الأحزان: ١٠١.

(٥) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨٠؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤؛ تفسير القمّي (على ما في بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٧ ح١٣.

(٦) مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥)؛ الملهوف: ٢١٤؛ المناقب ٤/ ١١٤.

(٧) بلاغات النساء: ٢١؛ الفتوح ٢/ ١٨٢؛ الاحتجاج ٢/ ١٢٢.

(٨) روضة الواعظين ١/ ١٩١.

(٩) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

١٣٥

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ولقالوا يا يزيد لا تُشل

مُنتحياً على ثنايا أبي عبد الله - وكان مُقبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ينكتها بمِخصرته، قد التمع السرور بوجهه(١) .. فلترِدَنّ وشيكاً موردهم، ولتودنّ أنّك شُللت وبُكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت )(٢) .

٥ - قال ابن أبي الحديد المعتزلي، في جملة أبيات ذكرها عن ابن الزبعرى، أنّه قالها لوصف يوم أحُد:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حطّت بقباء بركها

واستحرّ القتل في عبد الأشل

ثمّ قال: (كثير من الناس يعتقدون أنّ هذا البيت ليزيد بن معاوية، وقال مَن أكره التصريح باسمه: هذا البيت ليزيد؟

فقلت له: إنّما قاله يزيد مُتمثِّلاً، لما حُمل إليه رأس الحسينعليه‌السلام وهو لابن الزبعرى.

فلم تسكن نفسه إلى ذلك، حتّى أوضحته له فقلت: ألا تراه قال: (جزع الخزرج من وقع الأسل) والحسينعليه‌السلام لم تُحارب عنه الخزرج، وكان يليق أن يقول: جزع بني هاشم من وقع الأسل.

فقال بعض مَن كان حاضراً: لعلّه قاله يوم الحرّة، فقلت: المنقول أنّه أنشده لما حُمل إليه رأس الحسينعليه‌السلام ، والمنقول أنّه شعر ابن الزبعرى، ولا يجوز أن يُترك المنقول إلى ما ليس بمنقول )(٣) .

أقول: لا ريب في صحّة ما قاله المعتزلي، من أنّ أصل الأبيات لابن الزبعرى

____________________

(١) الاحتجاج ٢/ ١٢٦ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٨.

(٢) الملهوف: ٢١٦ - ٢١٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٤/ ٢٨٠ عنه بحار الأنوار ٣٤/ ١٥٦؛ عوالم ٢٧/ ٣٩٨.

١٣٦

وإن زاد عليها يزيد أبياتاً - كما مرّ - وكذلك لا خلاف في أنّه أنشده لما حُمل إليه رأس الحسينعليه‌السلام بالشام، ولكن ما ادّعاه من عدم نقل إنشاده في وقعة الحرّة، فإنّه غير صحيح؛ فلقد روي ابن عبد ربّه ذلك بقوله: (وبعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحد:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ولـقـالوا لـيزيد لا فـشل

فقال له رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارتدد عن الإسلام يا أمير المؤمنين؟!

قال: بلى، نستغفر الله.

قال: والله، لا ساكنتك أرضاً أبداً! وخرج عنه )(١) .

وهذا اعتراف من يزيد على نفسه، بأنّ قوله يوجب الكفر والارتداد عن الدِّين! وإن أمكن أن يُقال: بأنّها سالبة بانتفاع الموضوع!!

٦ - جاء في تفسير القمّي في ذيل الآية الشريفة:( ... ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) (٢) :

( وأمّا قوله:( ... ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ... ) ، فهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما أخرجته قريش من مكّة، وهرب منهم إلى الغار وطلبوه ليقتلوه، فعاقبهم الله يوم بدر، فقُتل عتبة وشيبة والوليد وأبو جهل وحنظلة بن أبي سفيان

____________________

(١) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

(٢) الحج: ٦٠.

١٣٧

وغيرهم، فلما قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله طُلِب بدمائهم، فقُتل الحسين وآل محمّد بغياً وعدواناً، وهو قول يزيد حين تمثّل بهذا الشعر: ( وذكر الأبيات ثمّ قال: )

وقال الشاعر في مثل ذلك:

وكذاك الشيخ أوصاني به

فاتّبعت الشيخ فيما قد سُئِل

وقال يزيد أيضاً - والرأس مطروح يُقلّبه -:

يا ليت أشياخنا الماضين بالحضر

حتّى يقيسوا قياساً لا يُقاس به

أيّام بدرٍ لكان الوزن بالقدر

فقال الله تبارك وتعالى:( ... وَمَنْ عَاقَبَ... ) يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( ... بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ... ) ، يعني حين أرادوا أن يقتلوه ( ... ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ... ) يعني بالقائمعليه‌السلام من ولْده(١) .

٧ - روى ابن عساكر، بإسناده عن حمزة بن زيد الحضرمي قال: ( رأيت امرأة من أجمل النساء وأعقلهنّ يُقال لها: (ريا) كان بنو أُميّة يُكرمونها، وكان هشام (أي هشام بن عبد الملك) يُكرمها، وكانت إذا جاءت إلى هشام تجيء راكبة، فكلّ مَن رآها من بني أُميّة أكرمها، ويقولون: ريا حاضنة يزيد بن معاوية، فكانوا يقولون: قد بلغت من السنّ مئة سنة، وحُسن وجهها وجمالها باق بنضارته! فلما كان من الأمر الذي كان(٢) استترت في بعض منازل أهلنا، فسمعتها - وهي تقول وتعيب بني أميّة مداراة لنا - قالت: دخل بعض بني أُميّة على يزيد، فقال: ( أبشِر! يا أمير المؤمنين، فقد أمكنك الله من عدوّ الله! وعدوّك - يعني الحسين بن علي - قد قُتل ووُجِّه برأسه إليك )، فلم يلبث إلاّ أيّاماً حتّى جيء برأس الحسين، فوضِع بين يدي يزيد في طشت، فأمر الغلام، فرفع الثوب كان عليه، فحين رآه خمّر وجهه بكمه -

____________________

(١) تفسير القمّي ٣/ ٨٦؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٧.

(٢) من زوال ملك بني أُميّة ونقله إلى بني العبّاس.

١٣٨

كأنّه يشمّ منه رائحة(١) - وقال: الحمد لله الذي كفانا المؤونة بغير مؤونة! كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.

قالت ريا: فدنوت منه، فنظرت إليه وبه ردع من حنّا.

قال حمزة: فقلت لها: أقَرَعَ ثناياه بالقضيب كما يقولون؟

قالت: إي والذي ذهب بنفسه وهو قادر على أن يغفر له، لقد رأيته يقرع ثناياه بالقضيب في يده، ويقول أبياتاً من شعر ابن الزبعرى(٢) .

أقول: ليس بغريب أن يتمثّل يزيد بتلك الأبيات في مواطن عديدة، ومواقف مختلفة ومتعدّدة، ومن المحتمل أنّ ما روته ريا حصل في مجلسه الخاص، كما جرى ذلك في مجلسه العام، كذلك استند إليها في وقعة الحرّة كما مرّ ذكره.

٨ - أنكر ابن تيمية - في رسالته (سؤال في يزيد بن معاوية) التي كتبها بعد قرون من وقعة الطف مُنتصراً ليزيد - كونه المردِّد لشعر ابن الزبعرى(ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا) (٣) .

وإنكار ابن تيميّة لمثل هذه المسألة الواضحة المسلّمة تأريخيّاً - التي ادّعى سبط ابن الجوزي حصول الشهرة عليها(٤) - ليس إلاّ إنكار أمر بديهي، وليس الداعي لذلك إلاّ نصرة يزيد، حشره الله معه، ولقد ذكرنا مصادر البحث شافياً فلا نُعيد.

____________________

(١) روى الشبراوي عنها أنّها قالت: دنوت من رأس الإمام الحسين حين شمّ يزيد منه رائحة لم تُعجبه فإذا تفوح منه رائحة من ريح الجنّة كالمسك الأذفر بل أطيب.. انظر الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٦.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٢٠ ترجمة ريا حاضنة يزيد بن معاوية. وروي في سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٩؛ البداية والنهاية ٨/ ٢٠٥؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٦ بتفاوت.

(٣) أُنظر: سؤال في يزيد بن معاوية: ١٤.

(٤) تذكرة الخواص: ٢٦١.

١٣٩

مُحاورات الإمام السجّادعليه‌السلام مع يزيد:

لقد بلغت الحرب النفسيّة الذروة بعد وقعة الطف الأليمة، ولم تكن بأقلّ من الحرب في ظلّ السيوف، فيزيد يريد أن يظهر بمظهر الغالب الظافر في جميع المجالات، وأن يرى انتهاء الأمر بتمامه، لكي يتمّ بذلك كلّ شيءٍ له! وهو يعلم أنّه لا يصل إليه إلاّ بظفره في هذه الحرب النفسيّة، فثمّ يتمّ ترجيح إحدى كفّتي المعادلة.

وفي جبهة الحق نرى أنّها تسير على مسير قائدها، وتتحرّك نحو تحقق أهدافها.

وللإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام القدح المعلّى في ذلك؛ لأنّه هو الحجّة على الأرض بعد أبيه، ولذلك نرى أنّ زينب الكبرى تقف خلفه في جميع المواقف، ومنها ما روي أنّه قال يزيد لزينب: تُكلّميني؟!

فقالت: هو - أي الإمام زين العابدينعليه‌السلام - المتكلِّم(١) ، نعم، ولعمّته زينب الكبرى (سلام الله عليها) الدور الأوفى بعده كما نذكره إن شاء الله.

كان الإمامعليه‌السلام يواجه مشاكل عديدة ينبغي له أن يتغلّب عليها:

١ - طاغوتاً يُسمَّى بيزيد مُتستّر بستار الخلافة الإسلامية، لابدّ أن يُفتضح على رؤوس الأشهاد، ويكشف الغطاء عن واقعه الرذل، ليُكسِّر أمام مُحبّيه ومواليه.

٢ - حُكماً دمويّاً تحت غطاء ديني، فيزيد يستند إلى بعض الآيات القرآنية! ولابدّ للإمام أن يواجه ذلك، ويتمسّك بالقرآن في الإجابة، أو يفسّره بواقعه.

٣ - إعلاماً مضلّلُاً وبيئة مسمومة، فلقد عرّفوا الحسينعليه‌السلام بأنّه رجل خارجيّ! فعلى الإمام أن يواجه ذلك بكلّ صلابة ويُعرِّف أباه ونفسه وأهل بيته بأنّهم أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يتكرّر ذلك في مواطن عديدة.

____________________

(١) المناقب ٤/ ١٧٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النقص الحادث في المبيع ، فكذلك عدم المشروط. ولأنّ الإعسار يثبت به فسخ البيع بغير شرطٍ ، ولا يثبت مثل ذلك في الحوالة ، فاختلفا(١) .

ونمنع كون الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط ، وقد سبق. ونمنع الملازمة بين ثبوته بالشرط وبعدمه ، ونحن لا ندّعي مساواة الحوالة للبيع في جميع أحكامه.

تذنيب : لو كان المحال عليه معسراً ولم يعلم المحتال ثمّ تجدّد اليسار وعلم سبق الفقر ، احتُمل ثبوت الخيار ؛ للاستصحاب‌. وعدمُه ؛ لزوال المقتضي.

مسألة ٦٠٢ : إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط ، انتقل المال إلى ذمّة المحال عليه ، وبرئ المحيل‌ ، سواء أبرأه المحتال أو لا - وهو قول عامّة الفقهاء(٢) - لأنّ الحوالة مأخوذة من التحويل للحقّ ، وإنّما يتحقّق هذا المعنى لو انتقل المال من ذمّةٍ إلى أُخرى ، وليس هنا إلّا ذمّة المحيل والمحال عليه ، فإذا تحوّل الحقّ من ذمّة أحدهما إلى الآخَر مع اليسار أو علم الإعسار ، لم يعد الحقّ إليه ؛ لعدم المقتضي.

وقال شيخنارحمه‌الله في النهاية : ومَنْ كان له على غيره مالٌ فأحال به على غيره ، وكان الـمُحال عليه مليّاً به في الحال وقَبِل الحوالة وأبرأه منه ، لم يكن له الرجوعُ عليه ، ضمن ذلك المـُحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قَبِل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة إلاّ بعد ضمان المـُحال عليه ولم يضمن مَنْ أُحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة الـمُحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال أنّ الذي أُحيل به عليه غير ملي بالمال ، بطلت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣ ، المغني ٥ : ٦٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦٢.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٤١

الحوالة ، وكان له الرجوعُ على المديون بحقّه عليه ، ومتى لم يُبرئ الـمُحال له بالمال الـمُحيل في حال ما يُحيله ، كان له أيضاً الرجوعُ عليه في أيّ وقت شاء(١) .

وكان الحسن البصري أيضاً لا يرى الحوالة مبرئةً إلّا أن يُبرئه(٢) .

واحتجّ الشيخرحمه‌الله بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو الباقرعليهما‌السلام : في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ [ آخَر ] ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، قال : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله »(٣) .

وهذه الرواية لا بأس بها ؛ لصحّة السند ، لكنّ المشهور عند الأصحاب والعامّة البراءة بمجرّد الحوالة ، فلابدَّ من حمل الرواية على شي‌ء ، وليس ببعيدٍ من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة ، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه ، أو نقول : إذا لم يُبرئه ، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبيّن له إعساره وقت الحوالة.

النظر الثاني : في الرضا بالحوالة.

مسألة ٦٠٣ : يشترط في الحوالة رضا المحيل - وهو الذي عليه الحقّ - إجماعاً‌ ، فلو أُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه ، لم تصحّ الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافاً ؛ لأنّ مَنْ عليه الحقّ مخيَّر في جهات القضاء ، فله أن يقضي من أيّ جهة شاء ، فلا يُعيَّن عليه بعض الجهات قهراً ، فلا يلزمه‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١١ - ٢١٢ / ٤٩٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤٤٢

أداؤه من جهة الدَّيْن الذي له على المحال عليه ، إلّا في صورةٍ واحدة لا يُعتبر فيها رضا المحيل ، وهي ما إذا جوّزنا الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه لو قال للمستحقّ : أحلت بالدَّيْن الذي لك على فلان على نفسي ، فقَبِل ، صحّت الحوالة ، فإذَنْ لا يشترط هنا رضا المحيل ، بل رضا المحتال والمحال عليه خاصّةً.

مسألة ٦٠٤ : يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع‌ - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - لأنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أُخرى ، إلّا برضاه ، كما أنّه لا يجوز أن يُجبر على أن يأخذ بالدَّيْن عوضاً ، وكما إذا ثبت حقّه في عينٍ ، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه. وقال داوُد وأحمد : لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليّاً ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٢) والأمر للوجوب(٣) .

ونحن نمنع الوجوب ، بل المراد به الإرشاد.

مسألة ٦٠٥ : يشترط عندنا رضا المحال عليه‌ ، فلو لم يرض المحال عليه أو لم يُعلم هل رضي أم لا؟ لم تصحّ الحوالة ، وبه قال أبو حنيفة والزهري والمزني(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٢٥ ، ضمن ح ٩٦٥٥.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

٤٤٣

وقال أبو العبّاس ابن القاص : نصّ الشافعي في الإملاء على أنّها تفتقر إلى رضا المحال عليه - وإليه ذهب أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة - لأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة ، فأشبه المحتال والمحيل. ولأنّ الناس يختلفون في الاقتضاء والاستيفاء سهولةً وصعوبةً. ولأنّ الأصل بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.

وأصحّ القولين عند الشافعي : أنّه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت الحوالة على مَنْ عليه دَيْنٌ للمحيل - وبه قال مالك وأحمد - لأنّ المحيل أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة ، فلم يفتقر إلى رضا مَنْ عليه الحقّ ، كما لو كان وكيلاً في قبضه ، بخلاف المحتال ، فإنّه ينتقل حقّه ، وتبرأ ذمّته منه. ولأنّ المحال عليه محلّ الحقّ والتصرّف ، فلا يعتبر رضاه ، كما لو باع عبداً ، لا يعتبر رضاه(١) .

وبنوا الوجهين على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأوّل ، فلا يشترط ؛ لأنّه حقٌّ للمحيل ، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. وإن قلنا بالثاني ، يشترط ؛ لتعذّر إقراضه من غير رضاه(٢) .

وإن كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم تصحّ عند الشافعي إلّا برضا المحال عليه ؛ لأنّا لو صحّحناه ، لألزمناه قضاء دَيْن الغير قهراً. وإن رضي ، ففي صحّة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور(٣)

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، التلقين ٢ : ٤٤٣ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٩ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٤

وسيأتي(١) .

فقد ظهر من هذا الإجماعُ على اعتبار رضا المحيل إلّا في الصورة التي ذكرناها في أوّل النظر ، وأنّ أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة : المحيل والمحتال والمحال عليه.

النظر الثالث : في الدَّيْن.

مسألة ٦٠٦ : إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف ، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ(٢) مشغولةً بالألف لعمرو ، أو لا‌ ، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون بكر بري‌ء الذمّة منها أو مشغولها ، فالأقسام أربعة :

أ - أن تكون ذمّة زيدٍ وبكرٍ مشغولتين ، ولا خلاف هنا في صحّة الحوالة.

ب - قسيم هذا ، وهو أن تكون ذمّتهما بريئةً ، فإذا أحال زيد - وهو بري‌ء الذمّة - عمراً - ولا دَيْن له عليه - على بكر ، وهو بري الذمّة ، لم يكن ذلك إحالةً صحيحة ؛ لأنّ الحوالة إنّما تكون بدَيْنٍ ، وهنا لم يوجد ، بل يكون ذلك وكالةً في اقتراضٍ ، وإنّما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة ؛ لاشتراكهما في المعنى ، وهو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكّل من الاقتراض ، وأن يطالبه من المحال عليه ، كما يستحقّ المحتال مطالبة المحال عليه.

ج - أن يكون المحيلُ بري‌ءَ الذمّة والمحالُ عليه مشغولَها ، ( فيحيل‌

____________________

(١) في ص ٤٤٥ ، القسم « د » من الأقسام المذكورة في المسألة ٦٠٦.

(٢) في « ج » : « ذمّته » بدل « ذمّة زيد ».

٤٤٥

مَنْ لا دَيْن عليه مَنْ لا دَيْن له على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ )(١) بقبضه ، فلا يكون ذلك أيضاً حوالةً ؛ لأنّ الحوالة مأخوذة من تحوّل الحقّ وانتقاله ، ولا حقّ [ هاهنا ](٢) ينتقل ويتحوّل ، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالةً في الاستيفاء ؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة مَنْ عليه الدَّيْن ، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه ، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحيل.

د - أن يكون المحيل مشغولَ الذمّة والمحالُ عليه برئَ الذمّة.

وفي صحّة هذه الحوالة إشكال أقربه : الصحّة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(٣) - لأنّ المحال عليه إذا قَبِلها ، صار كأنّه قضى دَيْن غيره بذمّته ؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الحقّ المقبوض ، وإذا قبض حقّاً من غيره ، صحّ وسقط عن غيره ، كذا هنا ، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تصحّ ؛ لأنّه ليس له على المحال عليه شي‌ء نجعله عوضاً عن حقّ المحتال. وإن قلنا : إنّها استيفاء حقٍّ ، صحّت(٤) ، كأنّه أخذ المحتال حقّه وأقرضه من المحال عليه(٥) .

قال الجويني : الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنّه‌

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « فيحيل مَنْ لا دَيْن له عليه على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ ». وكذا في « ر » بإسقاط « له » من « لا دَيْن له عليه ».

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع : فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٧٣ و ٧٤ ، وبدائع الصنائع ٦ : ١٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « صحّ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٦

هل يصحّ الضمان بشرط براءة الأصيل؟ بل هذه(١) الصورة غير(٢) تلك الصورة ؛ فإنّ الحوالة تقتضي براءة المحيل ، فإذا قَبِل الحوالة ، فقد التزم على أن يُبرئ المحيل(٣) .

وهذا ذهابٌ منه إلى براءة المحيل وجَعْلها أصلاً مفروغاً عنه.

لكن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ على قياس الحوالات.

والثاني - وبه قال أكثرهم - : أنّه لا يبرأ ، وقبول الحوالة ممّن لا دَيْن عليه ضمانٌ مجرّد(٤) .

ثمّ فرّعوا فقالوا : إن قلنا : لا تصحّ هذه الحوالة ، فلا شي‌ء على المحال عليه ، فإن تطوّع وأدّاه ، كان كما لو قضى دَيْنَ الغير. وإن قلنا : تصحّ ، فهو كما لو ضمنه ، فيرجع على المحيل إن أدّى بإذنه(٥) .

وكذا إن أدّى بغير إذنه عندنا وعلى أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٦) ؛ لجريان الحوالة بإذنه.

وللمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٧) - لأنّ المحيل يبرأ ، فينتقل الحقّ إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « هنا » بدل « هذه ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر « عين » بدل « غير ». وفي « ر » : « على غير ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ - ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٧

والثاني : ليس له ذلك بناءً على أنّ المحيل لا يبرأ ، كما أنّ الضامن لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء(١) .

وإذا طالبه المحتال بالأداء ، فله مطالبة المحيل بتخليصه.

وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ الأقوى عندي : ذلك.

وللشافعيّة وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن(٢) .

ولو أبرأه المحتال ، لم يرجع على المحيل بشي‌ء.

ولو قبضه المحتال ثمّ وهبه منه ، فالأقوى : الرجوع ؛ لأنّه قد غرم عنه ، وإنّما عاد المال إليه بعقدٍ مستأنف.

وللشافعيّة وجهان يُنظر في أحدهما إلى أنّ الغُرْم لم يستقر عليه ، فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئاً. وفي الثاني إلى أنّه عاد إليه بتصرّفٍ مبتدأ(٣) .

وهُما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثمّ طلّقها قبل الدخول.

ولو ضمن عنه ضامنٌ ، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال المالَ منه أو من ضامنه.

ولو أحال المحتال على غيره ، نُظر إن أحاله على مَنْ عليه دَينٌ ، رجع على محيله بنفس الحوالة ؛ لحصول الأداء بها. وإن أحال على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.

مسألة ٦٠٧ : الأقوى عندي أنّه لا يشترط في الدَّيْن المحال به اللزومُ‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٨

- وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - كما لو أحال بالثمن في مدّة الخيار بأن يحيل المشتري البائعَ على رجلٍ أو يحيل البائع رجلاً على المشتري. ولأنّه صائرٌ إلى اللزوم ، والخيار عارضٌ فيه ، فيعطى حكم اللازم.

والثاني لهم : المنع ؛ لأنّه ليس بلازم(٢) .

وهو مصادرة على المطلوب.

قال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ إن قلنا معاوضة ، فهي كالتصرّف في المبيع في زمان الخيار. وإن قلنا : استيفاء ، فتجوز(٣) .

قالوا : فإن قلنا بالمنع ، ففي انقطاع الخيار وجهان :

أحدهما : أنّه لا ينقطع ؛ لحكمنا ببطلانه ، وتنزيلنا إيّاه منزلة العدم.

والثاني : نعم ؛ لأنّ التصرّف في عوض العقد يتضمّن الرضا بإبطال الخيار(٤) .

وإن قلنا بالجواز ، لم يبطل الخيار عند بعضهم(٥) .

وقال آخَرون : يبطل ؛ لأنّ قضيّة الحوالة اللزوم ، ولو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها ، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم(٦) .

والأقوى : بقاء الخيار.

مسألة ٦٠٨ : إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثمّ انفسخ البيع‌

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، الوسيط ٣ : ٢٢٢ - ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩.

(٤ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٤٩

بفسخ صاحب الخيار ، بطل الثمن ، وبطلت الحوالة المترتّبة عليه ، فلو أحال البائع على المشتري بالثمن رجلاً له عليه دَيْنٌ ثمّ فسخ المشتري بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لأنّها فرع البيع ، والبيع قد بطل.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ البيع لم يبطل من أصله ، وإنّما تجدّد له البطلان ، فلا يؤثّر في الحوالة التي جرت منهما.

ولو أحال المشتري البائعَ على غيره ثمّ فسخ البيع بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لترتّبها على البيع ، والبيع قد بطل.

ويُحتمل قويّاً عدم بطلان الحوالة.

وعلى قول الشافعيّة ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائعَ على ثالثٍ ، يبطل خيارهما جميعاً ؛ لتراضيهما. ولو أحال البائع رجلاً على المشتري ، لم يبطل خيار المشتري ، إلاّ أن يقبل ويرضى بالحوالة(١) .

مسألة ٦٠٩ : لو أحال زيد على عمرو بكراً بمالٍ فأدّاه عمرو - بعد قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر‌ ، ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر ، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بما لَه عليه ، وأنكر عمرو ذلك وأنّه احتال ولا شي‌ء لزيد عليه ، كان القولُ قولَ عمرو ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ويُحتمل أن يقال : إن قلنا بصحّة الحوالة على مَنْ لا مال عليه ، كان القولُ قولَ المحال عليه قطعاً. وإن قلنا : إنّها لا تصحّ ، كان القولُ قولَ المحيل ؛ لاعترافهما بالحوالة ، وادّعاء المحال عليه بطلانها ، والأصل الصحّة.

مسألة ٦١٠ : لو أحال السيّد على مكاتَبه بمال النجوم‌ ، فإن كان بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٥٠

حلوله ، صحّ ؛ لثبوته في ذمّة المكاتَب. وإن كان قبل الحلول ، فكذلك على الأقوى.

ويجي‌ء على قول الشيخرحمه‌الله المنع(١) ؛ لأنّ مال الكتابة غير واجبٍ - عنده(٢) - على المكاتَب ؛ إذ له أن يُعجّز نفسه ، فله أن يمتنع من أدائه.

وللشافعيّة وجهان فيما إذا أحال السيّد غيره على مكاتَبه بالنجوم.

أحدهما : الجواز - كما قلناه - لأنّ النجوم دَيْنٌ ثابت على المكاتَب ، فأشبه سائر الديون.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لأنّ النجوم غير لازمة على المكاتَب ، وله إسقاطها متى شاء ، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال(٣) .

وعلى ما اخترناه - من صحّة الحوالة - لو أعتق السيّد عبده المكاتَب ، بطلت الكتابة ، ولم يسقط عن المكاتَب مال الحوالة ؛ لأنّ المال بقبوله الحوالة صار لازماً له للمحتال ، ولا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

ولو كان للسيّد عليه دَيْنُ معاملةٍ غير مال الكتابة ، صحّت الحوالة به قطعاً ؛ لأنّ حكمه حكم الأحرار في المداينات.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه مبنيّ على أنّ المكاتَب لو عجّز نفسه ، هل يسقط ذلك الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الحوالة ، وإلّا صحّت(٤) .

والمعتمد ما قلناه ، وهو قول أكثر الشافعيّة وقول أكثر العامّة(٥) .

ولو أحال المكاتَبُ السيّدَ على إنسانٍ بمال الكتابة ، صحّت الحوالة‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٢١.

(٢) الخلاف ٦ : ٣٩٣ ، المسألة ١٧ ، المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٥) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

٤٥١

عندنا وعند أكثر الشافعيّة وأكثر المانعين من حوالة السيّد عليه بالنجوم(١) ، وتبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة ، ويتحرّر ، ويكون ذلك بمنزلة الأداء ، سواء أدّى المحال عليه أو مات مفلساً ؛ لأنّ ما أحاله عليه مستقرّ ، والكتابة لازمة من جهة السيّد ، فمتى أدّى المحال عليه وجب على السيّد القبول أو الإبراء.

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ هذه الحوالة أيضاً(٢) .

فللشافعيّة إذَنْ ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين :

أحدها : جواز إحالة المكاتَب بالنجوم ، وإحالة السيّد على النجوم ، وهو قول ابن سريج.

والثاني : منعهما جميعاً.

والثالث : أظهرها عندهم ، وهو : جواز إحالة المكاتَب بها ، ومنع إحالة السيّد عليها(٣) .

ولو أحال السيّد بأكثر مال الكتابة ثمّ أعتقه ، سقط عن المكاتَب الباقي ، ولم تبطل الحوالة.

مسألة ٦١١ : مال الجُعْل في الجُعالة إن استحقّ بالعمل ، صحّت الحوالة به إجماعاً.

وإن لم يشرع في العمل ، فالأقرب : الجواز ؛ لأنّا نجوّز الحوالة على بري‌ء الذمّة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠.

٤٥٢

وقياس الشافعيّة أنّه يجي‌ء في الحوالة به وعليه الخلافُ المذكور في الرهن به وفي ضمانه(١) .

وقال بعض الشافعيّة : تجوز الحوالة به وعليه بعد العمل ، لا قبله(٢) .

ولو أحال مَنْ عليه الزكاة الساعيَ على إنسانٍ بالزكاة ، جاز ، سواء قلنا : إنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض ؛ لأنّه دَيْنٌ ثابت في الذمّة ، فجازت الحوالة.

وعندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها ، فجاز الاعتياض فيها.

أمّا الشافعيّة فإنّهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة ومن الاعتياض عنها(٣) ، فهنا قالوا : إن قلنا : إنّ الحوالة استيفاء ، صحّت الحوالة هنا. وإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تجز ؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة(٤) .

ولو أحال الفقير المديون صاحبَ دَيْنه بالزكاة على مَنْ وجبت عليه ، لم تصح ؛ لأنّها لم تتعيّن له إلّا بالدفع إليه.

ولو قَبِل مَنْ وجبت عليه ، صحّ ، ولزمه الدفع إلى المحتال.

مسألة ٦١٢ : تجوز الحوالة بكلّ مالٍ لازمٍ ثابتٍ في الذمّة معلومٍ‌ ؛ لأنّها إمّا اعتياض ، فلا تصحّ على المجهول ، كما لا يصحّ بيعه ، وإمّا استيفاء ، وإنّما يمكن استيفاء المعلوم ، أمّا المجهول فلا. ولاشتماله على الغرر.

فلو قال : أحلتك بكلّ ما لك عَلَيَّ ، فقَبِل ، لم تصح.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٢) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٥٧ ، المجموع ٥ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، و ٦ : ١٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٦٥ ، المغني ٢ : ٦٧١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢١.

(٤) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٣

ويحتمل الصحّة ، ويكون على المحال عليه للمحتال كلّ ما تقوم به البيّنة ، كما قلناه في الضمان.

ولا يشترط اتّفاق الدَّيْنين في سبب الوجوب ، فلو كان أحدهما ثمناً والآخَر أُجرةً أو قرضاً أو بدلَ متلفٍ أو أرشَ جنايةٍ وما أشبهه ، جازت الحوالة ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٦١٣ : تصحّ الحوالة بكلّ دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة‌ ، سواء كان مثليّاً ، كالذهب والفضّة والحبوب والأدهان ، أو من ذوات القِيَم ، كالثياب والحيوان وغيرهما - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه حقٌّ لازمٌ ثابتٌ في الذمّة ، فأشبه ما لَه مِثْلٌ.

والثاني : المنع ؛ لأنّ الغرض من الحوالة إيصال الحقّ إلى مستحقّه من غير تفاوتٍ ، وهذا الغرض لا يتحقّق فيما لا مِثْل له ؛ لأنّ المثل لا يتحرّز(٢) ، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف(٣) .

والأوّل أصحّ. والوصول إلى الحقّ قد يكون بالمثل ، وقد يكون بالقيمة ، وكما يجوز إبراء المديون منه بالأداء ، كذا المحال عليه.

ولو كان المال ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه ، ففي جواز الحوالة به إشكال أقربه : الجواز ؛ لأنّ الواجب في الذمّة حينئذٍ القيمة ، وتلك العين لا تثبت في الذمّة ، فلا تقع الحوالة بها ولا بمثلها ؛ لعدمه ، بل بالقيمة.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « لا يتحرّر » بالراءين المهملتين.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٤

ولو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلاً ، وله على آخَر مثلها ، فأحاله بها ، فالأقرب : الصحّة ؛ لأنّها تنحصر بأقلّ ما يقع عليه الاسم في السنّ والقيمة وسائر الصفات ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

والثاني : لا تجوز ؛ لأنّ صفاتها مجهولة(٢) .

وهو ممنوع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أحال بإبل الدية وعليها وفرّعنا على جواز الحوالة في المتقوّمات ، فوجهان أو قولان مبنيّان على جواز المصالحة والاعتياض عنها.

والأصحّ عندهم : المنع ؛ للجهل بصفاتها(٣) .

ولو كان الحيوان صداقاً ودخل بها ، جازت الحوالة عند بعض الشافعيّة ؛ لأنّه لا يكون مجهولاً(٤) .

ومَنَعه بعضهم ؛ لأنّه لا تجوز المعاوضة معها(٥) .

النظر الرابع : في تساوي الجنسين.

مسألة ٦١٤ : من مشاهير الفقهاء(٦) وجوب تساوي الدَّيْنين‌ - أعني الدَّيْن الذي للمحتال على المحيل ، والذي للمحيل على المحال عليه - جنساً ووصفاً ، فلو كان له دنانير على شخصٍ فأحال عليه بدراهم ، لم تصحّ ؛ لأنّ الحوالة إن جعلناها استيفاءً ، فلأنّ مستحقّ الدراهم إذا‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، ولاحظ : حلية العلماء ٥ : ٣٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٤ و ٥) راجع : التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢.

(٦) بداية المجتهد ٢ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، المغني ٥ : ٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٥٥

استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقّه إلى الدنانير.

وإن جعلناها معاوضةً ، فلأنّها وإن كانت معاوضةً فليست هي على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مالٍ أو زيادة قدرٍ أو صفة ، وإنّما هي معاوضة إرفاقٍ ومسامحة للحاجة ، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة ؛ لئلّا يتسلّط على المحال عليه ، كما في القرض.

ولأنّا نجبر المحال عليه عند مَنْ لا يشترط رضاه ، ولا يمكن إجباره مع الاختلاف.

ولأنّ الحوالة لا يُطلب بها الفضل ، ولهذا جازت دَيْناً بدَيْن ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو جوّزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس أو الوصف ، لكان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن.

ومع هذا فقد قال المشترطون للتساوي : إنّه تصحّ الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، والأحرى جواز الإحالة على مَنْ عليه دَيْن مخالف. لكنّ الغرض بقولهم : « إذا تغاير الدَّيْنان جنساً أو وصفاً أو قدراً ، لم تصحّ الحوالة » أنّ الحقّ لا يتحوّل بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ، لكنّها إذا جرت فهي حوالة على مَنْ لا دَيْن له عليه ، وحكمه ما تقدّم(١) .

مسألة ٦١٥ : لو كان عليه إبل من الدية وله على آخَر مثلها قرضاً ، فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية‌ ، فإن قلنا : يردّ في القرض مثلها ، صحّت الحوالة ؛ لأنّه يمكن استيفاء الحقّ على صفته من المحال عليه. ولأنّ الخيرة في التسليم إلى مَنْ عليه الدَّيْن ، وقد رضي بتسليم ما لَه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٦

في ذمّة المقترض ، وهو مثل الحقّ ، فكانت الحوالة صحيحةً.

وإن قلنا : إنّه يردّ في القرض القيمة ، لم تصحّ الحوالة ؛ لاختلاف الجنس.

وكذا ما يثبت في الذمّة قيمته في القرض - كالجواهر واللآلئ وغيرهما ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه - لا تصحّ الحوالة به.

ولو احتال المقرض بإبل الدية ، لم تصح ؛ لأنّا إن قلنا : تجب القيمة في القرض ، فقد اختلف الجنس. وإن قلنا : يجب المثل ، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.

مسألة ٦١٦ : يجب تساوي الدَّيْنين في القدر‌ ، فلا يحال بخمسة على عشرة ، ولا بعشرة على خمسة ؛ لما قلنا من أنّ هذا العقد للإرفاق ، ولإيصال كلّ حقٍّ إلى مستحقّه ، ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حطّ شي‌ء.

والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، وإلّا فلو كان له عشرة فأحال بخمسة منها ، أو كان له خمسة فأحال بها وبخمسةٍ أُخرى ، فإنّه تصحّ.

وللشافعيّة وجهٌ في الإحالة بالقليل على الكثير : أنّها جائزة ، وكأنّ المحيل تبرّع بالزيادة(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج : الحوالة بيع إلّا أنّه غير مبنيّ على المكايسة والمغابنة وطلب الربح والفضل ، بل جُعل رفقاً ، كالقرض ، وإن كان نوعَ معاوضةٍ ، فلا تجوز إلّا مع اتّفاق الجنس جنساً وقدراً وصفةً ، وقد قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى : وإن حلّ عليه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٧

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إيّاه ، لم تجز من قِبَل أنّ هذا الطعام لـمّا لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به ؛ لأنّه بيع ، وهذا نصٌّ منه(١) .

وقيل : ليست بيعاً(٢) - وهو ما اخترناه نحن أوّلاً - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ندب إليها ، فقال : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٣) . ولأنّها لا تصحّ بلفظ البيع ، ولا تجوز الزيادة فيها ولا النقصان ، ولما جازت في النقود إلّا مع التقابض في المجلس ، إلّا أنّ هذا القائل لا يجوّز الحوالة بالـمُسْلَم فيه ، وهذا تشمير(٤) لقول مَنْ قال : إنّه بيع.

لا يقال : لو كان بيعاً ، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه ؛ لأنّه عوض من جهته ، كما إذا باع شيئاً في يد غيره ، فإنّه يطالبهما به المشتري.

لأنّا نقول : أجاب مَنْ قال : « إنّه بيع » : بأنّه لـمّا استحقّ مطالبة المحال عليه به لم يستحقّ مطالبة المحيل ؛ لأنّه لو استحقّ مطالبتهما ، لكان قد حصل له بالحوالة زيادة في حقّ المطالبة ، وقد ثبت أنّ الحوالة مبنيّة على أنّه لا يستحقّ بها إلّا مثل ما كان يستحقّه ، بخلاف البيع ؛ لأنّه تجوز فيه الزيادة.

وفائدة الاختلاف : ثبوت خيار المجلس إن قلنا : إنّها بيع.

والحقّ ما تقدّم ، والاعتذار باطل ؛ لأنّ تخلّف لازم البيع يقضي بانتفائه.

____________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، وراجع : الأُم ٣ : ٧٣.

(٢) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦.

(٣) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ٧٩ / ٢٤٤٥.

(٤) التشمير : التقليص والإرسال. لسان العرب ٤ : ٤٢٨ « شمر ».

٤٥٨

مسألة ٦١٧ : الأقرب : أنّه لا يشترط تساوي المالَيْن في الحلول والتأجيل‌ ، فيجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّ للمحيل أن يُعجّل ما عليه ، فإذا أحال به على الحالّ فقد عجّل.

وكذا يجوز أن يحيل بالحالّ على المؤجَّل.

ثمّ إن رضي المحال عليه بالدفع معجَّلاً ، جاز ، وإلاّ لم يجز ، ووجب على المحتال الصبر ، كما لو احتال مؤجّلاً.

وللشافعيّة قولان :

أصحّهما عندهم : أنّه يشترط التساوي في الحلول والتأجيل ؛ إلحاقاً للوصف بالقدر.

والثاني : أنّه يجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز العكس ؛ لأنّ حقّ المحتال حالٌّ ، وتأجيل الحالّ لا يلزم(١) .

ونحن نمنع عدم اللزوم مطلقاً ، بل إذا تبرّع به ، لم يلزم ، أمّا إذا شرطه في عقدٍ لازم ، فإنّه يلزم ، والحوالة عقد لازم ، والمحيل إنّما أحال بالمؤجَّل ، والمحال عليه إنّما قَبِل على ذلك ، فلم يكن للمحتال الطلبُ معجَّلاً.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْنان مؤجَّلين ، فإن تساويا في الأجل ، صحّت الحوالة قطعاً.

وإن اختلفا ، صحّت عندنا أيضاً.

وللشافعيّة وجهان بناءً على الوجهين في الحالّ والمؤجَّل ، فإن منعناه هناك ، منعناه هنا. وإن جوّزناه هناك ، جاز هنا على حدّ ما جاز هناك على معنى أنّه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٩

العكس ؛ لأنّه تأجيل الحالّ(١) .

ب - لو كان أحدهما صحيحاً والآخَر مكسَّراً‌ ، قالت الشافعيّة : لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأوّل ، وعلى الثاني يحال بالمكسَّر على الصحيح ، ويكون المحيل متبرّعاً بصفة الصحّة ، ولا يحال بالصحيح على المكسَّر ، إلَّا إذا كان المحتال تاركاً لصفة الصحّة ، ويرضى بالمكسَّرة رشوةً ليحيله المحيل.

ج - يُخرّج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في كلّ جنسٍ ، وبالعكس‌(٢) .

والأقرب عندي : جواز ذلك كلّه.

د - لو أدّى المحال عليه الأجود إلى المحتال ، وجب القبول‌. وكذا الصحيح عوض المكسَّر.

أمّا تعجيل المؤجَّل فلا يُجبر عليه ، خلافاً للشافعيّة ، فإنّهم أوجبوه(٣) ، حيث يجبر المستحقّ على القبول(٤) .

وهذا يتفرّع على الصحيح في أنّ المديون إذا جاء بأجود ممّا عليه من ذلك النوع ، يُجبر المستحقّ على قبوله ، ولا يكون ذلك معاوضةً؟(٥) .

ه- لو كان الدَّيْنان حالَّيْن فشرط في الحوالة أنّ المحتال يقبض حقّه أو بعضه بعد شهرٍ ، صحّ عندنا‌ - خلافاً لأحمد(٦) - لعموم قولهعليه‌السلام :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ - ١٣٢.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « جوّزوه » بدل « أوجبوه ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢.

(٦) المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٦٠