مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234377 / تحميل: 8791
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

فعل يزيد واستنكار بعض الحاضرين:

لقد سخطت كلّ الضمائر الحُرَّة أشدّ السخط على يزيد وأفعاله، وأنكرت عليه ما ارتكبه في حقّ رأس سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وفيما يلي نذكر بعضهم:

١ - أبو برزة الأسلمي:

قال سبط ابن الجوزي: ( وأمّا المشهور عن يزيد في جميع الروايات، أنّه لما حضر الرأس بين يديه، جمع أهل الشام وجعل ينكت عليه بالخيزران... قال ابن أبي الدُّنيا: وكان عنده أبو برزة الأسلمي، فقال له: يا يزيد، ارفع قضيبك، فوالله، لطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبِّل ثناياه )(١) .

وروي عنه أيضاً أنّه ( لما ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وأنشد للحصين بن الحمام المرّي، فلم يبقَ أحد إلاّ عابه وتركه، وكان عنده أبو برزة الأسلمي، فقال له: ارفع قضيبك، فطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقبّل ثناياه، أما إنّك ستجيء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد، ويجيء الحسين وشفيعه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(٢) .

وروى المزي(٣) ، والطبري(٤) ، وابن الجوزي(٥) ، والذهبي(٦) ، وابن كثير(٧) ، أنّه بعدما وضِع الرأس الشريف بين يدي يزيد جعل ينكت بالقضيب على فيهعليه‌السلام وتمثّل بالأبيات، فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك، فوالله، لربّما رأيت فاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦١ - ٢٦٢.

(٢) مرآة الزمان: ٩٩ - مخطوط - (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥).

(٣) تهذيب الكمال ٦/ ٤٢٨.

(٤) تاريخ الطبري ٤/ ٢٩٣.

(٥) المنتظم ٥/ ٣٤٢؛ الردّ على المتعصّب العنيد:٤٧.

(٦) سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٩.

(٧) البداية والنهاية ٨/ ١٩٤ و١٩٩.

١٢١

على فيه يلثمه.

وقال البلاذري: (قالوا: وجعل يزيد ينكت بالقضيب ثغر الحسين حين وضع رأسه بين يديه، فقال أبو برزة الأسلمي: أتنكت بالقضيب ثغر الحسين؟! لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً ربّما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرشفه، أما إنّك - يا يزيد - تجيء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد، ويجيء الحسين وشفيعه محمّد.

ثمّ قام: ويُقال: إنّ هذا القائل رجلٌ من الأنصار )(١) .

وقد بسط السيّد ابن طاووس وابن نما أنّه أقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال: ( ويحك! يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسينعليه‌السلام ابن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول:( أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، قتل الله قاتلكما ولعنه، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً ) ، قال الراوي: فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأُخرج سحباً )(٢) .

وفي هذا الموقف يستند أبو برزة - بصفته أحد الصحابة(٣) - إلى فعل

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦. وروي نحوه في البدء والتاريخ ٦/ ١٢؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤؛ جواهر المطالب ٢/ ٦٤.

(٢) الملهوف: ٢١٤؛ مُثير الأحزان: ١٠٠ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٢. وانظر: الفتوح ٢/ ١٨١ ومقتل الخوارزمي ٢/ ٥٧، مع تفصيل أكثر، قالا: - واللفظ للثاني -: ثمّ دعا يزيد بقضيب خيزران، فجعل ينكث به ثنايا الحسينعليه‌السلام وهو يقول: لقد كان أبو عبد الله حسن المضحك. (وفي الفتوح: حسن المنطق)، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي - أو غيره من الصحابة - وقال له: ويحك! يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمة؟ (في الفتوح: أتنكث بقضيبك ثنايا الحسين وشعره؟ لقد أخذ قضيبك هذا مأخذاً من ثغره، أشهد... ) ثمّ ذكر ما نقلناه عن ابن طاووس.

(٣) هو نضلة بن عبيد بن الحارث الأسلمي، غلبت عليه كُنيته، اختلف في اسمه. صحابي من سكّان المدينة ثمّ البصرة، شهد مع عليّعليه‌السلام النهروان، مات بخراسان سنة ٦٥، انظر تهذيب التهذيب ١٢/ ١٨ رقم ٨٢٨٤؛ الإصابة ٣/ ٥٥٧ ترجمة رقم ٨٧١٨؛ الأعلام ٨/ ٣٣.

١٢٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى لزوم حُبّ الحسينعليه‌السلام ، وقوله بالنسبة إلى حبّه والبراءة من أعدائه وقاتله، وهو موقف جليل في أهمّ زمان وأخطر مكان؛ ولأجل ذلك لم يتحمّل الطاغية هذا الموقف، فغضب عليه وأمر بإخراجه، فأُخرج سحباً.

ملاحظتان:

الملاحظة الأُولى:

قيل: إنّ ابن تيميّة - الضالّ المضلّ - نفى حضور أبي برزة الأسلمي مجلس يزيد، بدليل وجوده بالكوفة حينما أُحضر الأُسارى من آل البيت(١) .

فنقول: الدليل عليل من وجوه:

الأوّل: المشهور حضور أبي برزة في الشام وفي مجلس يزيد، وقد ذكر ذلك الجمّ الغفير من المؤرِّخين، مثل البلاذري، والطبري، وابن أعثم، وابن الأثير، والذهبي، وابن كثير، وابن الجوزي، وسبطه، والباعوني، والمزّي والخوارزمي وغيرهم، كما أسلفناه. وهذا أمر لا يمكن لأحد أن يتغافل عنه إلاّ إذا كان أعور!

الثاني: على فرض وجوده بالكوفة زمن وجود الأسرى فيها، فوجوده بالشام زمن وجودهم فيها ليس بأمر مُستبعد؛ لأنّه قد ذكرنا أنّ ابن زياد جهّزهم وأرسلهم إلى الشام ومعهم جماعة، فمن الممكن أن يكون منهم، أو أنّه ذهب بنفسه إلى الشام.

الثالث: أنّ ابن تيمية لم ينفِ هذا فحسب، بل ينفي أموراً بديهيّة ضروريّة ومسلّمة تاريخيّاً، ممّا يدعو إلى السخرية والاستهزاء به؛ فإنّه قال: ( فيزيد لم يأمر بقتل الحسين! ولا حمل رأسه بين يديه، ولا نكت بالقضيب على ثناياه، بل الذي

____________________

(١) اُنظُر حول رأس الحسين ١٧١.

١٢٣

جرى هذا منه هو عبيد الله بن زياد، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، ولا طيِفَ برأسه في الدُّنيا ولا سُبي أحد من أهل الحسين )!!(١) .

إنّ الناظر فيما أوردناه، والمتتبّع في السير يعلم بأنّ ابن تيمية - لكونه من أصلب المدافعين عن يزيد - كيف يُبالغ بحرارة في الدفاع عن هذه الجرثومة الفاسدة، وكيف يُعرض عن جميع ما ذكره أرباب السير والتاريخ من اقتراف يزيد لهذه الجريمة النكراء، فهذا هو ابن كثير الدمشقي - الذي تلوح شقاوته في تاريخه - من جملة مَن اعترف بذلك وقال: ( وقد ورد في ذلك آثار كثيرة )(٢) ، فلأجل ذلك لا يُعتنى بكلامه في المقام.

الرابع: أنّ المهمّ هو اتّخاذ هذا الموقف من أحد الصحابة في المجلس - أيّاً كان ذلك الصحابيّ - وهو ثابت.

الملاحظة الثانية:

قال الخوارزمي: ( وقيل: إنّ الذي ردّ على يزيد ليس أبا برزة، بل هو سمرة بن جندب صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال ليزيد: قطع الله يدك يا يزيد! أتضرب ثنايا طالما رأيت رسول الله يُقبّلهما ويلثم هاتين الشفتين؟

فقال له يزيد: لو لا صحبتك لرسول الله لضربت - والله - عنقك!

فقال سمرة: ويلك! تحفظ لي صحبتي من رسول الله! ولا تحفظ لابن رسول الله بنوّته؟! فضجّ الناس بالبكاء وكادت أن تكون فتنة )(٣) .

ففيه:

____________________

(١) اُنظُر: سؤال في يزيد بن معاوية لابن تيمية: ١٦؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

(٢) البداية والنهاية ٨/ ١٩٤.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

١٢٤

أوّلاً: أنّه خبر مُرسل لا يذكره غيره، ولا يثبت عند الخوارزمي أيضاً، ولذلك يذكره بقوله: (قيل).

وثانياً: إنّ المشهور أنّ سمرة بن جندب قد مات قبل وقعة الطف(١) ، فالمسألة مُنتفية بانتفاء موضوعها رأساً.

وثالثاً: قيل: إنّ سمرة كان عامل معاوية وشريكاً في جرمه، وهو من شرطة ابن زياد الذين حرّضوا الناس على قتال أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، فمن كان هذا حاله يُستبعد منه اتّخاذ مثل هذا الموقف - على فرض حياته وحضوره بالشام آنذاك - وإن لم نستبعد بالمرّة أن يتّخذ إنسان فاسد موقفاً جليلاً في زمنٍ ما.

ونرجع إلى المقصود ونقول: بأنّ المهمّ هو محض اتّخاذ هذا الموقف من أحد الصحابة، وإن لم نعرفه على وجه التحديد.

٢ - زيد بن أرقم:

قال القطب الراوندي: (فدخل عليه (أي على يزيد) زيد بن أرقم، ورأى الرأس في الطشت، وهو يضرب بالقضيب على أسنانه، فقال: ( كفّ عن ثناياه، فطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبّلها )!

فقال يزيد: لو لا أنّك شيخ خَرِفْت لقتلتك )(٢) .

وإلى ذلك أشار الحميري بقوله:

لم يزل بالقضيب يعلو ثنايا

في جناها الشفاء من كلّ داء

قال زيد ارفعن قضيبك ارفع

عـن ثنايا غُرٍّ غذي باتّقاء

طالما قد رأيت أحمد يلثمها

وكم لي بذاك من شهداء(٤)

____________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢/ ٦٤ط دار أنوار الهدى.

(٢) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨.

(٣) المناقب ٤/ ١١٤.

١٢٥

إنّ زيد هو الذي روى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن سبطه سيّد الشهداءعليه‌السلام أنّه قال:( اللّهمّ، إنّي أُحبّه فأحبّه ) (١) ، فلذلك إذا صدر منه هذا الموقف فليس بغريب.

روى ابن الجوزي، عن زيد بن أرقم أنّه قال: ( كنت عند يزيد بن معاوية، فأُتي برأس الحسين بن علي، فجعل ينكت بالخيزران على شفتيه وهو يقول:

يُفلِّقن هاماً من رجال أعزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقلت له: ارفع عصاك!

فقال: تُرابيٌّ؟!

فقلت: أشهد لقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضعاً حسناً على فخذه اليمنى، واضعاً حسيناً على فخذه اليسرى، وهو يقول:( اللّهمّ، إنّي أستودعكهما وصالح المؤمنين ) ، فكيف كان حفظك يا يزيد وديعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! )(٢) .

٣ - نعمان بن بشير:

روي عن محمّد بن أبي بكر التلمساني المشهور بالبري أنّه قال: ( وأُتي يزيد برأس الحسينعليه‌السلام ، فلما وضِع بين يديه جعل ينكت أسنانه بقضيب كان في يده ويقول: ( كان أبو عبد الله صبيحاً ).

فقال النعمان بن بشير: ( ارفع يدك - يا يزيد - عن فمٍ طالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقبّله)، فاستحيى يزيد وأمر برفع الرأس )(٣) .

٤ - صحابيّ لم يُسمَّ:

روى ابن الأثير، عن عبد الواحد القرشي قال: ( لما أُتي يزيد برأس الحسين

____________________

(١) إحقاق الحقّ ١١/ ٣٠١، عن سير أعلام النبلاء ٣/ ٢١٢ ط مصر.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٦.

(٣) الجوهرة ٢/ ٢١٩ على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٠.

١٢٦

ابن علي (رضي الله عنهما) تناوله بقضيب، فكشف عن ثناياه، فوالله، ما أبرد بأبيض منها، وأنشد:

يُفلِّقن هاماً من رجال أعزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقال له رجل عنده: يا هذا، ارفع قضيبك، فوالله، ربّما رأيت شفتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكأنّه يُقبّله.

فرفع مُتذمِّراً عليه مُغضباً )(١) .

قال ابن سعد: (ثمّ مال بالخيزرانة بين شفتي الحسين، فقال له رجل من الأنصار حضره: ارفع قضيبك هذا، فإنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُقبِّل الموضع الذي وضعته عليه )(٢) .

٥ - يحيى بن الحَكم أو عبد الرحمان بن الحَكم:

وممّن اعترض على فعل يزيد يحيى بن الحَكم أخو مروان بن الحَكم، فإنّه لما رأى ما فعل يزيد برأس الحسين وتمثُّله بالأبيات قال:

لهامٌ بأدنى الطف أدنى قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الرذل

أُميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل

فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحَكم وقال: اسكُت!

رواه كثير من أرباب السير منهم الشيخ المفيد والطبرسي(٣) .

____________________

(١) أُسد الغابة ٥/ ٣٨١. وروى نحوه عن تاريخ دمشق، وفيه: رجل له صحبة كان عند يزيد بن معاوية حين أُتي برأس الحسين بن علي، إن لم يكن أبا برزة الأسلمي، أو زيد بن أرقم فهو غيرهما (عبرات المصطفين ٢/ ٣٢١ عن تاريخ دمشق المجلّد الأخير: ٥٧، انظر مختصر تاريخ دمشق ٢٩/ ٢٢٠).

وجاء في مقتل الخوارزمي (٢/ ٥٨): فقال له - أي ليزيد - بعض جلسائه: ارفع قضيبك، فوالله، ما أُحصي ما رأيت شفتي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكان قضيبك يُقبّله.

(٢) الطبقات الكبرى ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ): ٨٢.

(٣) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

١٢٧

وجاء في بعض الكتب أنّه قال:

لهامٌ بجنب الطفّ أدنى قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سُميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وليس لآل المصطفى اليوم من نسل(١)

ونُسب هذا الموقف وهذه الأبيات وموقف يزيد منها إلى أخيه عبد الرحمان بن الحَكم أيضاً (٢) ، ووصفه سبط ابن الجوزي أنّه كان شاعراً فصيحاً، فلعلّ الراجح نسبتها إليه لا إلى أخيه يحيى.

وعن سبط ابن الجوزي، أنّه بعدما أنشد الأبيات صاح وبكى، فضرب يزيد صدره، وقال له: يا بن الحمقاء!، ما لكَ ولهذا؟!(٣) .

وفي البحار عن المناقب بعد ذكر ما أنشده عبد الرحمان بن الحَكم قال يزيد: نعم، فلعن الله ابن مرجانة إذ أقدم على مثل الحسين بن فاطمة، لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلاّ أعطيته إيّاها! ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، لكن قضى الله أمراً فلم يكن له مردّ.

وفي رواية أنّ يزيد أسرّ إلى عبد الرحمان وقال: سبحان الله! أنّى هذا الموضع؟! أما يسعك السكوت؟!(٤) .

٦ - الحسن المثنّى:

روى ابن نما أنّ الحسن بن الحسن لما رآه يضرب بالقضيب موضع فم رسول الله قال: وا ذلاّه!

____________________

(١) اُنظُر تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٩؛ المناقب ٤/ ١١٤؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٤.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤٢١؛ تاريخ الإسلام (للذهبي): ١٨؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٨؛ مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥)؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٠.

(٣) مخطوطة مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥).

(٤) بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٠.

١٢٨

سُميَّة أمسى نسلها عدد الحَصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل(١)

ولقد ذكرنا أنّ الحسن البصري أيضاً قال ذلك حينما سمع بالخبر(٢) . ولعلّه حصل خبط في النقل.

يزيد في موضع الانفعال:

قال سبط ابن الجوزي: ( ولما فعل يزيد برأس الحسين ما فعل تغيّرت وجوه أهل الشام، وأنكروا عليه ما فعل، فقال: أتدرون من أين دهى أبو عبد الله؟!

قالوا: لا.

قال: من الفقه والتأويل، كأنّي به قد قال:أبي خيرٌ من أبيه، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّه، فأنا أحقّ بهذا الأمر منه. ولم يلحظ قوله تعالى:( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ... ) الآية(٣) . فسرى عن وجوه أهل الشام )(٤) .

قال ابن أعثم والخوارزمي: (ثمّ أقبل (يزيد) على أهل مجلسه وقال: هذا يفخر عليَّ ويقول:( أبي خير من أبي يزيد، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّ يزيد، وأنا خير من يزيد ) ، فهذا الذي قتله! فأمّا قوله: (إنّ أبي خير من أبي يزيد)، فقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه! وأمّا قوله: (إنّ أُمّي خير من أُمّ يزيد) فلعَمْرِي، إنّه صادق! إنّ فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خيرٌ من أُمّي، وأمّا قوله: (إنّ جدّي خير من جدّ يزيد) فليس أحد يؤمن الله واليوم الآخر يقول: إنّه خيرٌ من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا قوله: (أنا) خيرٌ منّي. فلعلّه لم يقرأ هذه الآية:( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ... قَدِيرٌ ) (٥) .

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠٠.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧.

(٣) آل عمران: ٢٦.

(٤) مرآة الزمان ١٠ - مخطوط - على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٤.

(٥) الفتوح ٢/ ١٨١؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٧؛ تاريخ الطبري ٤/ ٢٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٥.

١٢٩

ومن المعلوم أنّ يزيد التجأ إلى هذا القول بعد اعتراض كثير من الحاضرين، وفيهم بعض الصحابة وأقاربه أيضاً، فصار مُحرجاً، فسعى لتشويه أهداف نهضة الحسين بهذا القياس السخيف، وإلاّ فأين الثرى من الثُّريّا؟! أين معاوية الطليق ابن الطليق من عليّ أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين؟! وأين هند آكلة الأكباد من فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين؟! وأين أبو سفيان الطليق من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله سيد الأوّلين والآخرين؟! وأين يزيد اللعين من الحسينعليه‌السلام وهو سيّد شباب أهل الجنّة أجمعين؟!

وبعبارة أخصر: أين الشجرة الملعونة في القرآن من الشجرة المباركة، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؟!

ويختم يزيد كلامه بذكر مشيئة الله وقضائه وقدره، وهو لا يعلم منها شيئاً، وهذا هو سلاح المتجبّرين أن يُنهوا كلّ شيء إلى هذه النقطة ويروّجوا لمسلك الجبر في المقام، ويُسكتوا أصوات مخالفيهم والساذجين من الناس.

نعم، التجأ يزيد إلى هذا الموقف المنفعل، بعدما رأى فضاعة إساءته إلى رأس سبط الرسول وثمرة البتول، ولذلك ذكروا أنّه قال بهذا المقال بعدما اعترضه أبو برزة الأسلمي(١) ، أو ابن الحَكم(٢) ، وبعد ذلك تمثّل بأبيات ابن الزبعرى.

ويزيد نفسه يعلم مَن هو الحسينعليه‌السلام ومكانته في قلوب الناس العارفين.

إنّ ابن كثير - مع ما فيه - يعترف بعلوّ مكانة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام في عيون الناس، ويقول: ( بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين لأنّه السيّد الكبير وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحدٌ يُسايره ولا يُساويه )(٣) .

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٥؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٥/ ١٣١.

(٣) البداية والنهاية ٨/ ١٥١.

١٣٠

تمثُّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى:

قال الخوارزمي: ( ثمّ كشف (يزيد) عن ثنايا رأس الحسين بقضيبه ينكته به وأنشد.. فقال بعض جلسائه: ارفع قضيبك! فوالله، ما أُحصي ما رأيت شفتي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكان قضيبك يُقبّله! فأنشد يزيد:

يا غراب البين ما شئت فقُل

إنّـما تـندب أمـراً قد فُعِل

كـلّ مُـلك ونـعيم زائـل

وبـنات الـدهر يلعبن بكلّ

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ثـمّ قـالوا يـا يزيد لا تُشلّ

لـست من خِندف إن لم أنتقم

مـن بـني أحمد ما كان فعل

لـعبت هـاشم بـالملك فلا

خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

قـد أخـذنا مـن عليٍّ ثارنا

وقـتلنا الفارس الليث البطل

وقـتلنا الـقُرم مـن ساداتهم

وعـدلناه بـبدرٍ فاعتدل(١)

عدّة ملاحظات:

١ - إنّ يزيد تمثّل بأبيات ابن الزبعرى في المقام. صرّح بذلك الكثير.

منهم: أبو الفرج الأصفهاني(٢) ، وابن أعثم الكوفي(٣) ، وسبط ابن الجوزي(٤) ، وابن شهر أشوب(٥) ، والخوارزمي(٦) ..

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

(٢) مقاتل الطالبيين: ١١٩.

(٣) الفتوح ٢/ ١٨٢.

(٤) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٦) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٦.

١٣١

وابن نما(١) ، وابن عساكر(٢) ، والباعوني(٣) ، والسيّد ابن طاووس(٤) ، وابن أبي الحديد المعتزلي(٥) ، وابن عبد ربّه(٦) ، والبدخشاني(٧) ، وغيرهم. وادّعى سبط ابن الجوزي الشهرة في ذلك(٨) .

أمّا أصل الأشعار، فقد ذكرها ابن هشام (المتوفَّى سنة ٢١٣ أو ٢١٨)(٩) ، ومحمّد بن سلام الجمهي ( المتوفّى سنة ٢٣١)(١٠) ، والجاحظ (المتوفّى سنة ٢٥٥)(١١) ، وأقدمها وأكملها في سيرة ابن هشام.

وأمّا ابن الزبعرى، فهو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، أبو سعد، شاعر قريش من الجاهلية، كان شديداً على المسلمين، قيل: إنّه أسلم في الفتح سنة ثمان، ومات سنة ١٥ من الهجرة(١٢) .

قال الخوارزمي: ( قال الحاكم: الأبيات التي أنشدها يزيد بن معاوية هي

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠١.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٢٠.

(٣) جواهر المطالب ٢/ ٢٩٩.

(٤) الملهوف: ٢١٤.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٤/ ٢٨٠.

(٦) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

(٧) نُزل الأبرار: ١٥٩.

(٨) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٩) السيرة النبوية ٣/ ١٤٣.

(١٠) طبقات الشعراء: ٥٧.

(١١) الحيوان ٥/ ٥٦٤.

(١٢) الإصابة ٢/ ٣٠٨ - ترجمة رقم ٤٦٧٩؛ المؤتلف: ١٣٢.

قال محمّد بن سلام الجمهي: وبمكّة شعراء، فأعبرهم شعراً عبد الله بن الزبعرى، والزبعرى في اللغة السيّئ الخُلق والغليظ. (طبقات الشعراء: ٥٧).

١٣٢

لعبد الله بن الزبعرى، أنشدها يوم أُحد لما استُشهد حمزة عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجماعة من المسلمين، وهي قصيدة طويلة )(١) .

قال ابن هشام: (قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعرى في يوم أُحد:

يـا غراب البين أسْمَعْتَ فقل

إنّـما تـنطق شـيئاً قد فُعل

إنّ لـلـخير ولـلشرّ مـدىً

وكـلا ذلـك وجـدٌ وقُـبِل

والـعطيّات خـساس بـينهم

وسـواء قـبر مُـثْرٍ ومُقل

كـلّ عـيش ونـعيم زائـل

وبـنات الـدهر يلعبن بكل

أبـلغا حـسّان عـنّي آيـة

فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كـم ترى بالجرّ من جمجمة

وأكُـفّ قـد أمـرَّت ورجل

وسـرابيل حِـسان سـريت

عن كماة أهلكوا في المنتزل

كـم قـتلنا مـن كـريمٍ سيِّد

مـاجد الـجدّين مقدام بطل

صـادق الـنجدة قَـرم بارع

غـير مُلتاث لدى وقع الأسل

فـسل الـمِهراس من ساكنه

بـين أقـحاف وهام كالجحل

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

حـين حـكّت بـقباء بركها

واستحرّ القتل في عبد الأشل

ثـمّ خـفّوا عند ذاكم رُقّصا

رقص الحفّان يعلو في الجبل

فـقتلنا الضعف من أشرافهم

وعـدلنا مـيل بـدر فاعتدل

لا ألــوم الـنفس إلاّ أنّـنا

لـو كـررنا لـفعلنا المفتعل

فأجابه حساّن بن ثابت الأنصاري (رضي الله عنه) بقصيدة مطلعها:

____________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢/ ٧٤ (ط دار أنوار الهدى).

١٣٣

ذهبت يا بن الزبعرى وقعة

كان منّا الفضل فيها لو عدل (١)

ورواه الخوارزمي بهذا التفصيل مع تفاوت يسير(٢) .

٢ - إنّ يزيد قد زاد على أبيات ابن الزبعرى ما يدلّ على كفره وخبث باطنه وسريرته، ويكشف عمّا في قلبه من الإلحاد والحقد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.

قال ابن أعثم: ثمّ زاد فيها هذا البيت من نفسه:

لستُ من عُتبة إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل (٣)

وقال سبط ابن الجوزي: قال الشعبي: وزاد فيها يزيد فقال:

لعبت هاشم بالملك... الأبيات(٤) .

وعنه أنّه قال: وقيل: إنّ يزيد زاد فيها هذه الأبيات:

لاسـتهلّوا ثـمّ طـاروا فرحاً

ثـمّ قـالوا يـا يزيد لا تُشل

لـعبت هـاشم بـالملك فـلا

خـبرٌ جـاء ولا وحـيٌ نزل

لـست من خِندف إن لم أنتقم

من بني هاشم ما كان فعل(٥)

ولذلك اتّخذ كثير من علماء المسلمين موقفاً جليّاً وصلباً، أمام هذا الطاغي الملحد؛ استناداً إلى هذه الأبيات - وإلى غيرها من أعماله السيّئة - كما ذكرنا ذلك بالتفصيل في المباحث السابقة، ومنه على سبيل المثال:

____________________

(١) أحجمنا عن ذكر القصيدة بكاملها لطولها، فمَن شاء فليُراجع: السيرة النبويّة ٣/ ١٤٣.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٦.

(٣) الفتوح ٢/ ١٨٢.

(٤) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٥) مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥).

١٣٤

قال مجاهد: ( نافق فيها، ثمّ والله ما بقي من عسكره أحد إلاّ تركه )(١) .

٣ - لقد أوضحنا أنّ أرباب كُتب السير والتاريخ قد ذكروا تمثّل يزيد بهذه الأبيات، وإن كان هناك اختلاف يسير في كيفيّة النقل وعدد الأبيات، فبعضهم لم يذكر إلاّ بيتاً واحداً(٢) ، وبعضهم اثنين(٣) ، وبعضهم ثلاثة(٤) ، وبعضهم أربعة(٥) ، وبعضهم خمسة(٦) ، وبعضهم ستّة(٧) ، وبعضهم سبعة(٨) ، وبعضهم ثمانية أبيات منها(٩) .

٤ - لقد استندت العقيلة السيّدة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى إنشاد يزيد لهذه الأبيات في المجلس بقولها:

( ألا إنّها نتيجة خلال الكفر، وضبّ يُجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يُستبطئ في بغضنا أهل البيت مَن كان نظره إلينا شنفاً وشناناً، وإحناً وأضغاناً، يُظهر كفره برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويُفصح ذلك بلسانه، وهو يقول - فرحاً بقتل ولده وسبي ذريّته غير متحوّب ولا مُستعظم يهتف بأشياخه -:

____________________

(١) المنتظم ٥/ ٣٤٣؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧؛ تذكرة الخواص: ٢٦١؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤.

(٢) أمالي الصدوق: ٢٣١.

(٣) مقاتل الطالبيّين: ١١٩؛ المنتظم ٥/ ٣٤٣؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٩؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٦.

(٤) مُثير الأحزان: ١٠١.

(٥) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨٠؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤؛ تفسير القمّي (على ما في بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٧ ح١٣.

(٦) مرآة الزمان: ٩٩ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٥)؛ الملهوف: ٢١٤؛ المناقب ٤/ ١١٤.

(٧) بلاغات النساء: ٢١؛ الفتوح ٢/ ١٨٢؛ الاحتجاج ٢/ ١٢٢.

(٨) روضة الواعظين ١/ ١٩١.

(٩) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

١٣٥

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ولقالوا يا يزيد لا تُشل

مُنتحياً على ثنايا أبي عبد الله - وكان مُقبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ينكتها بمِخصرته، قد التمع السرور بوجهه(١) .. فلترِدَنّ وشيكاً موردهم، ولتودنّ أنّك شُللت وبُكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت )(٢) .

٥ - قال ابن أبي الحديد المعتزلي، في جملة أبيات ذكرها عن ابن الزبعرى، أنّه قالها لوصف يوم أحُد:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حطّت بقباء بركها

واستحرّ القتل في عبد الأشل

ثمّ قال: (كثير من الناس يعتقدون أنّ هذا البيت ليزيد بن معاوية، وقال مَن أكره التصريح باسمه: هذا البيت ليزيد؟

فقلت له: إنّما قاله يزيد مُتمثِّلاً، لما حُمل إليه رأس الحسينعليه‌السلام وهو لابن الزبعرى.

فلم تسكن نفسه إلى ذلك، حتّى أوضحته له فقلت: ألا تراه قال: (جزع الخزرج من وقع الأسل) والحسينعليه‌السلام لم تُحارب عنه الخزرج، وكان يليق أن يقول: جزع بني هاشم من وقع الأسل.

فقال بعض مَن كان حاضراً: لعلّه قاله يوم الحرّة، فقلت: المنقول أنّه أنشده لما حُمل إليه رأس الحسينعليه‌السلام ، والمنقول أنّه شعر ابن الزبعرى، ولا يجوز أن يُترك المنقول إلى ما ليس بمنقول )(٣) .

أقول: لا ريب في صحّة ما قاله المعتزلي، من أنّ أصل الأبيات لابن الزبعرى

____________________

(١) الاحتجاج ٢/ ١٢٦ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٨.

(٢) الملهوف: ٢١٦ - ٢١٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٤/ ٢٨٠ عنه بحار الأنوار ٣٤/ ١٥٦؛ عوالم ٢٧/ ٣٩٨.

١٣٦

وإن زاد عليها يزيد أبياتاً - كما مرّ - وكذلك لا خلاف في أنّه أنشده لما حُمل إليه رأس الحسينعليه‌السلام بالشام، ولكن ما ادّعاه من عدم نقل إنشاده في وقعة الحرّة، فإنّه غير صحيح؛ فلقد روي ابن عبد ربّه ذلك بقوله: (وبعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحد:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ولـقـالوا لـيزيد لا فـشل

فقال له رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارتدد عن الإسلام يا أمير المؤمنين؟!

قال: بلى، نستغفر الله.

قال: والله، لا ساكنتك أرضاً أبداً! وخرج عنه )(١) .

وهذا اعتراف من يزيد على نفسه، بأنّ قوله يوجب الكفر والارتداد عن الدِّين! وإن أمكن أن يُقال: بأنّها سالبة بانتفاع الموضوع!!

٦ - جاء في تفسير القمّي في ذيل الآية الشريفة:( ... ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) (٢) :

( وأمّا قوله:( ... ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ... ) ، فهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما أخرجته قريش من مكّة، وهرب منهم إلى الغار وطلبوه ليقتلوه، فعاقبهم الله يوم بدر، فقُتل عتبة وشيبة والوليد وأبو جهل وحنظلة بن أبي سفيان

____________________

(١) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

(٢) الحج: ٦٠.

١٣٧

وغيرهم، فلما قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله طُلِب بدمائهم، فقُتل الحسين وآل محمّد بغياً وعدواناً، وهو قول يزيد حين تمثّل بهذا الشعر: ( وذكر الأبيات ثمّ قال: )

وقال الشاعر في مثل ذلك:

وكذاك الشيخ أوصاني به

فاتّبعت الشيخ فيما قد سُئِل

وقال يزيد أيضاً - والرأس مطروح يُقلّبه -:

يا ليت أشياخنا الماضين بالحضر

حتّى يقيسوا قياساً لا يُقاس به

أيّام بدرٍ لكان الوزن بالقدر

فقال الله تبارك وتعالى:( ... وَمَنْ عَاقَبَ... ) يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( ... بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ... ) ، يعني حين أرادوا أن يقتلوه ( ... ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ... ) يعني بالقائمعليه‌السلام من ولْده(١) .

٧ - روى ابن عساكر، بإسناده عن حمزة بن زيد الحضرمي قال: ( رأيت امرأة من أجمل النساء وأعقلهنّ يُقال لها: (ريا) كان بنو أُميّة يُكرمونها، وكان هشام (أي هشام بن عبد الملك) يُكرمها، وكانت إذا جاءت إلى هشام تجيء راكبة، فكلّ مَن رآها من بني أُميّة أكرمها، ويقولون: ريا حاضنة يزيد بن معاوية، فكانوا يقولون: قد بلغت من السنّ مئة سنة، وحُسن وجهها وجمالها باق بنضارته! فلما كان من الأمر الذي كان(٢) استترت في بعض منازل أهلنا، فسمعتها - وهي تقول وتعيب بني أميّة مداراة لنا - قالت: دخل بعض بني أُميّة على يزيد، فقال: ( أبشِر! يا أمير المؤمنين، فقد أمكنك الله من عدوّ الله! وعدوّك - يعني الحسين بن علي - قد قُتل ووُجِّه برأسه إليك )، فلم يلبث إلاّ أيّاماً حتّى جيء برأس الحسين، فوضِع بين يدي يزيد في طشت، فأمر الغلام، فرفع الثوب كان عليه، فحين رآه خمّر وجهه بكمه -

____________________

(١) تفسير القمّي ٣/ ٨٦؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٧.

(٢) من زوال ملك بني أُميّة ونقله إلى بني العبّاس.

١٣٨

كأنّه يشمّ منه رائحة(١) - وقال: الحمد لله الذي كفانا المؤونة بغير مؤونة! كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.

قالت ريا: فدنوت منه، فنظرت إليه وبه ردع من حنّا.

قال حمزة: فقلت لها: أقَرَعَ ثناياه بالقضيب كما يقولون؟

قالت: إي والذي ذهب بنفسه وهو قادر على أن يغفر له، لقد رأيته يقرع ثناياه بالقضيب في يده، ويقول أبياتاً من شعر ابن الزبعرى(٢) .

أقول: ليس بغريب أن يتمثّل يزيد بتلك الأبيات في مواطن عديدة، ومواقف مختلفة ومتعدّدة، ومن المحتمل أنّ ما روته ريا حصل في مجلسه الخاص، كما جرى ذلك في مجلسه العام، كذلك استند إليها في وقعة الحرّة كما مرّ ذكره.

٨ - أنكر ابن تيمية - في رسالته (سؤال في يزيد بن معاوية) التي كتبها بعد قرون من وقعة الطف مُنتصراً ليزيد - كونه المردِّد لشعر ابن الزبعرى(ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا) (٣) .

وإنكار ابن تيميّة لمثل هذه المسألة الواضحة المسلّمة تأريخيّاً - التي ادّعى سبط ابن الجوزي حصول الشهرة عليها(٤) - ليس إلاّ إنكار أمر بديهي، وليس الداعي لذلك إلاّ نصرة يزيد، حشره الله معه، ولقد ذكرنا مصادر البحث شافياً فلا نُعيد.

____________________

(١) روى الشبراوي عنها أنّها قالت: دنوت من رأس الإمام الحسين حين شمّ يزيد منه رائحة لم تُعجبه فإذا تفوح منه رائحة من ريح الجنّة كالمسك الأذفر بل أطيب.. انظر الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٦.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٢٠ ترجمة ريا حاضنة يزيد بن معاوية. وروي في سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٩؛ البداية والنهاية ٨/ ٢٠٥؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٦ بتفاوت.

(٣) أُنظر: سؤال في يزيد بن معاوية: ١٤.

(٤) تذكرة الخواص: ٢٦١.

١٣٩

مُحاورات الإمام السجّادعليه‌السلام مع يزيد:

لقد بلغت الحرب النفسيّة الذروة بعد وقعة الطف الأليمة، ولم تكن بأقلّ من الحرب في ظلّ السيوف، فيزيد يريد أن يظهر بمظهر الغالب الظافر في جميع المجالات، وأن يرى انتهاء الأمر بتمامه، لكي يتمّ بذلك كلّ شيءٍ له! وهو يعلم أنّه لا يصل إليه إلاّ بظفره في هذه الحرب النفسيّة، فثمّ يتمّ ترجيح إحدى كفّتي المعادلة.

وفي جبهة الحق نرى أنّها تسير على مسير قائدها، وتتحرّك نحو تحقق أهدافها.

وللإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام القدح المعلّى في ذلك؛ لأنّه هو الحجّة على الأرض بعد أبيه، ولذلك نرى أنّ زينب الكبرى تقف خلفه في جميع المواقف، ومنها ما روي أنّه قال يزيد لزينب: تُكلّميني؟!

فقالت: هو - أي الإمام زين العابدينعليه‌السلام - المتكلِّم(١) ، نعم، ولعمّته زينب الكبرى (سلام الله عليها) الدور الأوفى بعده كما نذكره إن شاء الله.

كان الإمامعليه‌السلام يواجه مشاكل عديدة ينبغي له أن يتغلّب عليها:

١ - طاغوتاً يُسمَّى بيزيد مُتستّر بستار الخلافة الإسلامية، لابدّ أن يُفتضح على رؤوس الأشهاد، ويكشف الغطاء عن واقعه الرذل، ليُكسِّر أمام مُحبّيه ومواليه.

٢ - حُكماً دمويّاً تحت غطاء ديني، فيزيد يستند إلى بعض الآيات القرآنية! ولابدّ للإمام أن يواجه ذلك، ويتمسّك بالقرآن في الإجابة، أو يفسّره بواقعه.

٣ - إعلاماً مضلّلُاً وبيئة مسمومة، فلقد عرّفوا الحسينعليه‌السلام بأنّه رجل خارجيّ! فعلى الإمام أن يواجه ذلك بكلّ صلابة ويُعرِّف أباه ونفسه وأهل بيته بأنّهم أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يتكرّر ذلك في مواطن عديدة.

____________________

(١) المناقب ٤/ ١٧٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وأمّا ما صدر عن الخضر ـ لو سلّم عدم نبوّته ـ فليس من القطع بالأحكام ، بل في الموضوعات ، وهو خارج عن المقام ، فإنّ قتل مثل الغلام جائز في شريعة موسى ٧ لكنّ موسى لم يعلم أنّه من الأشخاص الّذين يجوز قتلهم ؛ ولذا ، بعد العلم ترك الإنكار.

مع إنّ كلام اليافعي خارج عن محلّ النزاع ؛ لأنّ الكلام في دعوى أنّ من شهد الحقيقة سقطت عنه الأحكام بحسب الشرع الأحمدي ، ويكون شرعا كالطفل في عدم التكليف له ، لا في إمكان أن يحصل لشخص يقين بأنّه غير مكلّف بأحكام المسلمين ، كنبيّ جاءه شرع جديد!

ولا ريب أنّ الأوّل ، بل الثاني ، مخالف لضرورة الدين ، وقائله كافر واجب القتل ، كما قال الغزّالي.

هذا ، وينقل عن الصوفية ضلال آخر ، وهو القول بالتناسخ(١) ، قاتلهم الله تعالى ، وعطّل ديارهم.

* * *

__________________

وقد ورد مضمون هذا الحديث ومعناه في مصادر الجمهور ، فانظر مثلا :

صحيح مسلم ٤ / ١٠٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣ ـ ٤ ح ١ ـ ٣ ، مسند أحمد ٢ / ٢٥٨ ، سنن الدارقطني ٢ / ٢٢٠ ذ ح ٢٦٧٩ ، السنن الكبرى ١ / ٣٨٨ وج ٤ / ٣٢٦ وج ٧ / ١٠٣ ، تفسير القرطبي ١٨ / ١٣ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٣٧ في تفسير آية (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )[ سورة الحشر ٥٩ : ٧ ].

(١) انظر : دائرة معارف القرن العشرين ١٠ / ١٧٧ مادّة « نسخ ».

٢٢١
٢٢٢

في حقيقة الكلام

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

المبحث السابع

في أنّه تعالى متكلّم

وفيه مطالب :

[ المطلب ] الأوّل

في حقيقة الكلام

الكلام عند العقلاء : عبارة عن المؤلّف من الحروف المسموعة.

وأثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا ، مغايرا لهذه الحروف والأصوات ، ( وهذه الحروف والأصوات )(٢) دالّة عليه(٣) .

وهذا غير معقول ، فإنّ كلّ عاقل إنّما يفهم من الكلام ما قلناه

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٠ ، شرح العقائد النفسية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣ ـ ٩٤.

٢٢٣

فأمّا ما ذهبوا إليه ، فإنّه غير معقول لهم ولغيرهم ألبتّة ، فكيف يجوز إثباته لله تعالى؟!

وهل هذا إلّا جهل عظيم؟! لأنّ الضرورة قاضية بسبق التصوّر على التصديق.

وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم ، على معنى أنّه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة ، قائمة بالأجسام الجمادية ، كما كلّم الله موسى من الشجرة ، فأوجد فيها الحروف والأصوات.

والأشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافّة البشر ، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم.

وإثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه ـ مع إنّه غير متصوّر ألبتّة ، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه ـ معلوم البطلان ؛ ومع ذلك ، فإنّه صادر منّا أو فينا [ عندهم ] ، ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوته!

٢٢٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى متكلّم ؛ والدليل عليه : إجماع الأنبياء : عليه ، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يثبتون له الكلام ، ويقولون : إنّه تعالى أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ، فثبت المدّعى(٢) .

ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك ، تارة يطلقونه على المؤلّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون : هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته [ تعالى ](٣) .

ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلّا المؤلّف من الحروف والأصوات

فنقول أوّلا : ليرجع الشخص إلى نفسه ، أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر(٤) ويرتّب معاني ، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم ، فإنّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ، ويقول في نفسه : سأتكلّم بهذا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٩١.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٨ و ٢٤٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣.

(٤) تزوير الكلام : إصلاح الكلام أو تهيئته وتقديره ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١١٢ ـ ١١٣ مادّة « زور ».

٢٢٥

فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتّة ؛ فهذا هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول ـ على طريقة الدليل ـ : إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها ، لها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول : هذه المدلولات هي الكلام النفسي.

فإن قال الخصم : تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني.

قلنا : هي غير العلم ؛ لأنّ من جملة الكلام الخبر ، وقد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالخبر عن الشيء غير العلم به.

فإن قال : هو الإرادة.

قلنا : هو غير الإرادة ؛ لأنّ من جملة الكلام الأمر ، وقد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ؛ وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه.

واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ؛ إذ لا طلب فيهما أصلا ، كما لا إرادة قطعا.

وأقول : لا نسلّم عدم الطلب فيهما ؛ لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب ، وهو الطلب.

ثمّ إنّ في الصورتين لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر ؛ لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين : الطلب منه ، مع عدم الفعل من المأمور ؛ وكلاهما لا بدّ [ من ] أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار.

قال صاحب « المواقف » هاهنا : « ولو قالت المعتزلة : إنّه ـ أي المعنى

٢٢٦

النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر ـ هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلّم بما أخبر به ، أو يصير سببا لاعتقاده إرادته ـ أي إرادة المتكلّم ـ لما أمر به ، لم يكن بعيدا ؛ لأنّ إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ، ومغايرة لما يدلّ عليها من الأمور المتغيّرة والمختلفة ، وليس يتّجه عليه أنّ الرجل قد يخبر بما لا يعلم ، أو يأمر بما لا يريد ، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدلّ عليه بالعبارات مغاير للإرادة كما تدّعيه الأشاعرة »(١) .

هذا كلام صاحب « المواقف ».

وأقول : من أخبر بما لا يعلمه ، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا ، بل يصدر عنه الإخبار وهو يدلّ على مدلول ؛ هو الكلام النفسي ، من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء.

وأمّا في الأمر ، وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب ، الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب.

فإذا تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي ، الذي هو الطلب في هذا الأمر ، وهو المطلوب.

ولمّا ثبت أنّ ها هنا صفة هي غير الإرادة والعلم ، فنقول : هو الكلام النفساني ؛ فإذا هو متصوّر عند العقل ، ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور ، فمن ادّعى بطلانه وعدم كونه متصوّرا ، فهو مبطل.

وأمّا من ذهب إلى أنّ كلام الله تعالى هو أصوات وحروف يخلقها الله

__________________

(١) المواقف : ٢٩٤ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٩٥.

٢٢٧

تعالى في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرئيل ، أو النبيّ ، وهو حادث(١)

فيتّجه عليه : إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، وخالق الكلام لا يقال : إنّه متكلّم ، كما إنّ خالق الذوق لا يقال : إنّه ذائق.

وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف ، فضلا عن أهل التحقيق.

نعم ، الأصوات والحروف دالّة على كلام الله تعالى ، ويطلق عليها « الكلام » أيضا ، ولكنّ « الكلام » في الحقيقة : هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتناه.

__________________

(١) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٥٢٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، وانظر : المواقف : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، شرح المواقف ٨ / ٩٢ ـ ٩٣.

٢٢٨

وأقول :

لا يخفى أنّه إذا صدر من المتكلّم خبر فليس هناك إلّا خمسة أمور :

الأوّل : اللفظ الصادر عنه.

الثاني : معاني مفردات اللفظ ، ومعنى هيئته.

الثالث : تصوّر الألفاظ والمعاني.

الرابع : مطابقة النسبة للواقع ، وعدمها.

الخامس : التصديق ، والعلم بالنسبة الثبوتية والسلبية حيث يكون معتقدا بها.

كما أنّه إذا صدر منه أمر أو نهيّ لم يكن هناك إلّا أربعة أمور : الثلاثة الأول ، ورابع هو : الإرادة والكراهة ، ومقدّماتهما ؛ كتصوّر المرجّحات والتصديق بها.

ومن الواضح أنّ الكلام النفسي الذي يعنونه في الخبر مخالف للأمر الأوّل.

وكذا للثاني ؛ لأنّ معاني المفردات والهيئة أمور خارجية غالبا غير قديمة ، فكيف تكون هي المراد بالكلام النفسي؟!

ومخالف أيضا للرابع ، ضرورة أنّه غير المطابقة للواقع وعدمها.

وللثالث والخامس ؛ لأنّه غير تصوّر الأطراف والعلم بالنسبة بإقرارهم.

فلا يكون الكلام النفسي في الخبر معقولا.

٢٢٩

وأمّا ما ذكره من صورة التزوير ، فلا يدلّ على وجود غير المذكورات الخمسة ، فإنّ ترتيب أجزاء الكلام أو معانيه في الذهن لا يقتضي أكثر من تصوّرها قبل النطق.

كما إنّ انتفاء العلم عن المخبر الشاكّ أو العالم بالخلاف لا يقتضي إلّا انتفاء التصديق بالمخبر به ، لا ثبوت أمر آخر غير الخمسة.

وكذا الحال في الكلام النفسي في الأمر والنهي ؛ لأنّه لا يصحّ أن يراد به الأوّلان ، أعني : اللفظ ومعاني مفرداته وهيئته ، وهو ظاهر

ولا الثالث ، أعني : تصوّر الألفاظ والمعاني

ولا الرابع ، أعني : الإرادة والكراهة ومقدّماتهما ؛ لأنّ هذين الأمرين ليسا بكلام نفسي عندهم ، ولا نعقل أمرا غير المذكورات يكون كلاما نفسيا.

وأمّا خلوّ صورتي الاعتذار والاختبار عن الإرادة والكراهة ، فلا يدلّ على وجود طلب آخر حتّى يكون كلاما نفسيا ، فإنّا لا نجد في الصورتين طلبا في النفس أصلا ، كما لا نجد في غيرهما إلّا طلبا واحدا يعبّر عنه بالطلب مرّة ، وبالإرادة والكراهة أخرى.

وأمّا ما قاله من وجود الطلب في الصورتين ، بدليل وجوده عند المخاطب ، وبدليل صحّة اعتذار المتكلّم واختباره الدالّة على حصولطلب منه

ففيه : إنّ معنى وجود الطلب عند المخاطب إنّما هو تصوّره وفهمه إيّاه ، فلا يتوقّف على حصوله عند المتكلّم في الواقع ، نظير ما يفهمه السامع للخبر الكاذب ، فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في الواقع.

٢٣٠

وأمّا صحّة الاعتذار والاختبار ، فلا تتوقّف إلّا على إظهار ثبوت الطلب ، فلا يكون الموجود في الصورتين إلّا صيغة الطلب وصورته لا حقيقته.

فإن قلت : فعلى هذا يخلو الأمر والنهي عن المعنى واقعا في الصورتين.

قلت : إن أريد من الخلوّ عن المعنى انتفاء ذاته واقعا وعند المتكلّم ، فنحن نلتزم به ، ولا يضرّ في الدلالة ، كما في الخبر الكاذب.

وإن أريد انتفاؤه في مقام الدلالة عند السامع ، فهو ممنوع ؛ لأنّ ثبوت المعنى عند السامع إنّما يكون بتصوّره له ، وهو حاصل عند سماع اللفظ للعالم بمعناه ، ولا يتوقّف على العلم بإرادة المتكلّم له.

على إنّه قد يقال : إنّ معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة القائمتين بالنفس حتّى يلزم انتفاء المعنى في صورتي الاختبار والاعتذار ، بل هو الإرادة والكراهة القائمتان باللفظ بإنشائه لهما ؛ لأنّ صيغ الإنشاء منشئة وموجدة لمعانيها ، لا حاكية عن أمور نفسية.

غاية الأمر : إنّ الأمور النفسية إذا ثبتت في الواقع تكون داعية لإنشاء الطلب والإرادة والكراهة وإذا لم تثبت ، يكون الداعي غيرها ، كالاختبار وإظهار العذر في الصورتين.

فحينئذ يكون المعنى في الصورتين موجودا حقيقة ، كغيرهما ، إلّا أنّه موجود بوجود إنشائي في الجميع ، ومثله الكلام في سائر الصيغ الإنشائية.

وكيف كان ، فنحن في غنى عمّا ذكره الفضل عن « المواقف » ، فلا حاجة إلى الإطالة بتحقيق أمره والنظر في ما أورده عليه.

٢٣١

وأمّا قوله : « إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم »

فقد خالف به الأشاعرة ، حيث قالوا : « المتكلّم من قام به الكلام » كما ذكره القوشجي(١) ، وقد فرّ بذلك عمّا أورد عليهم ، وذكره الشريف الجرجاني ـ على ما نقل عنه ـ وهو أنّ الكلام هيئات وكيفيات عارضة للصوت القائم بالهواء(٢) .

فيكون الكلام قائما بالهواء ، والهواء ليس قائما بالمتكلّم حتّى يقال :

ما قام به قائم بالمتكلّم بالوساطة.

فإذا ، نسبة الكلام إلى المتكلّم ليست لقيامه فيه ، بل بأن يعيّن حروفه وكلماته ، ويميّز بعضها عن بعض فلو كان المتكلّم من قام به الكلام ، لم يصحّ إطلاقه على الإنسان.

فالتجأ الشريف وتبعه الفضل إلى القول بأنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، ولم يعلما أنّ التكلّم حينئذ يكون بمعنى تعيين الحروف وإيجادها ، والمتكلّم بمعنى موجدها.

فيكون التكلّم قائما بذاته تعالى قيام صدور ، بلا حاجة إلى المعنى النفسي ، كما يقوم بالبشر ، ويوصف كلّ منهما بالمتكلّم بمعنى واحد.

هذا لو حملنا كلامه على ما أراده الشريف.

وأمّا إذا أخذنا بظاهره ، حيث عرّف « المتكلّم » ـ بحسب النسخ التي وجدناها ـ بمن قامت به صفة المتكلّم ، بصيغة اسم الفاعل لا المصدر ،

__________________

(١) شرح التجريد : ٤١٩.

(٢) انظر مؤدّاه في تعريف الصوت من كتابه التعريفات : ١٣٥.

٢٣٢

كانت هذه المقدّمة لاغية ، والمدار على قوله بعدها : « وخالق الكلام لا يقال إنّه متكلّم » ، وهو دعوى مجرّدة يردّها أيضا ما سبق.

فالحقّ أنّ المتكلّم من تلبّس بالتكلّم ، وتلبّسه به من حيث إيجاده للكلام في الهواء بمباشرة لسان المتكلّم ـ كما في كلام الإنسان ـ ، أو بمباشرة شجرة ونحوها ـ كما في كلام الله تعالى ـ ، وهذا نحو من أنحاء التلبّس ، فإنّها مختلفة :

إذ قد تكون بنحو الإيجاد ، كما عرفت ، ومثله الخطّاط والصبّاغ ، فإنّ تلبّسهما بالخطّ والصبغ ، بإيجادهما لهما في الثوب والقرطاس مثلا.

وقد تكون بنحو الحلول ، كالحيّ والميّت.

وقد تكون بنحو الانتزاع ، كما في صفات الباري جلّ وعلا ، بناء على قول أهل الحقّ من كون صفاته تعالى عين ذاته خارجا ، منتزعة منها مفهوما.

.. إلى غير ذلك من أنحاء التلبّس ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.

فلا يلزم أن يكون التلبّس مخصوصا بالحلول ، حتّى يقال بثبوت الكلام النفسي بناء على تصوّره.

ثمّ إنّ هذه الملابسات لا تجعل المشتقّات قياسية ، بل تتبع الورود ، فربّ مشتقّ يستعمل مع ملابسة لا يستعمل الآخر معها ، ولا يستعمل هو بدونها.

فلا يرد على دعوى إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى بملابسة الإيجاد ، النقض بالذائق والمتحرّك ، حيث لا يطلقان عليه تعالى مع إيجاده الذوق والحركة.

٢٣٣

على إنّه لو تمّ ما ذكره الفضل من كون « المتكلّم » وضعا هو من قام المبدأ به قيام حلول ، فهو بحث لفظي لا يلتفت إليه مع امتناعه عقلا ، فيلزم أن يراد به معنى الموجد.

مضافا إلى أنّه لم يعلم إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى في الكتاب والسنّة ، وإن أطلق عليه فيهما أنّه أخبر وأمر ونهى وقال وكلّم ويكلّم

بل إطلاق « المتكلّم » عليه عرفيّ مستفاد من إطلاق تلك الأمور في الكتاب والسنّة عليه تعالى ، فلا ينفع الخصم بوجه سديد ألبتّة.

ثمّ إنّه على ما ذكرنا من كون المتكلّم موجد الكلام ، يكون التكلّم من الصفات الإضافية الآتية من جهة القدرة : كالرازق والخالق ، لا من الصفات الذاتية القديمة التي هي في عرض القدرة : كالحيّ والعالم ، خلافا للأشاعرة.

هذا ، والأعجب من الأشاعرة : الحنابلة ، فإنّهم وافقوا الأشاعرة في قدم كلامه ، لكن قالوا : هو حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ؛ كما نقله عنهم في « المواقف » و« شرح التجريد » للقوشجي(١) .

ونقلا عن بعضهم أنّه قال : « الجلد والغلاف قديمان » أيضا(٢) .

وهذا هو الجهل المفرط!

وسيذكر المصنّف ; دلالة العقل على حدوث الحروف ، فانتظر.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦.

(٢) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦ ؛ أي : « فضلا عن المصحف » كما جاء في شرح التجريد وشرح المواقف ٨ / ٩٢.

٢٣٤

كلامه تعالى متعدّد

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

[ المطلب ] الثاني

في أنّ كلامه تعالى متعدّد

المعقول من الكلام ـ على ما تقدّم ـ أنّه الحروف والأصوات المسموعة ، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام ، وذلك بأن يكون : خبرا ، أو أمرا ، أو نهيا ، أو استفهاما ، أو تنبيها ؛ وهو الشامل للتمنّي ، والترجّي ، والتعجّب ، والقسم ، والنداء ؛ ولا وجود له إلّا في هذه الجزئيات.

والّذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا ، فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه [ تعالى ] واحد مغاير لهذه المعاني ؛ وذهب آخرون : إلى تعدّده(٢) .

والّذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيء

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥١ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١١٠ ـ ١١١ ، شرح المواقف ٨ / ٩١ ـ ٩٤ ، شرح التجريد : ٤١٨ ـ ٤١٩.

٢٣٥

لا يتصوّرونه هم ولا خصومهم!

ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره ، كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ، ويناط به الأحكام؟!

* * *

٢٣٦

وقال الفضل(١) :

الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات ، مثل :

العلم والقدرة ، فكما إنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة ، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء.

وهذا بحسب التعلّق ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر [ أ ] وعلى وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي.

وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يكون متعدّدا عنده.

فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني ، فإن ثبت ، فهو قديم واحد كسائر الصفات ؛ وإن انحصر الكلام في اللفظي ، فهو حادث متعدّد ؛ وقد أثبتنا الكلام النفسي ، فطامّات الرجل ليست إلّا التّرّهات.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢١٦.

٢٣٧

وأقول :

صرّح الفضل وغيره أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي ، ومعه كيف يكون اللفظي متعدّدا دون النفسي؟! وإلّا لخرج عن كونه مدلولا مرتّبا في النفس على حسب ترتيب اللفظي!

على إنّه لا وجه لأن يحصل مفهوم الكلام بمجرّد تعلّقه بأنواع الكلام من دون أن يكون في نفسه على أحد الهيئات المخصوصة.

ثمّ ما أراد بتعلّقه بالأمر والنهي وأخواتهما؟!

فإن أراد به إيجاده لها ، فلا نعرف صفة ذاتية بها الإيجاد سوى القدرة.

وإن أراد كونه جنسا لها ، لزم وجود الجنس في القدم بدون الفصل ، وهو باطل.

وإن أراد به عروضه عليها ، لزم عروض القديم في قدمه على الحادث في حدوثه ، وهو ممتنع ؛ ولا يمكن وجوده قبلها ؛ لامتناع قيام العرض بلا معروض.

وإن أراد العكس ، وأنّه معروض لها ، فإن كان عروضها في القدم ، نافى فرض حدوثها ، ولزم عروض الحادث في حدوثه على القديم في قدمه وإن كان عروضها حال حدوثها ، لزم أن لا يكون في القدم كلاما لعدم العروض حينئذ ؛ ولا نتصوّر وجها لكونه كلاما حقيقيا قبل العروض.

وإن أراد به ما هو من نحو الانكشاف وتعلّق العلم بالمعلوم ، فقد

٢٣٨

صار علما ؛ وهو كما ترى.

وإن أراد غير ذلك ، فليبيّنه أصحابه حتّى نعرف صحّته من فساده.

وبالجملة : كما لا نعقل معنى للكلام النفسي ، لا نعقل وجها صحيحا لتعلّقه ، لا سيّما مع حفظ دلالة الكلام اللفظي عليه على نحو دلالة اللفظ على معناه المطابقي.

* * *

٢٣٩
٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460