مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234428 / تحميل: 8792
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إنّ كلّ ذلك يحتاج إلى اتّخاذ مواقف بطولية، وشجاعة علوية، وصمود فاطميّ، وقد تمثّلت في زين العابدين وزينب الكبرى (سلام الله عليهما).

وحينها سوف ترى مَن هو الغالب؟!

قال ابن سعد: (ثمّ أُتي يزيد بن معاوية بثقل الحسين ومَن بقي من أهله، فأُدخلوا عليه قد قُرنوا في الحبال، فوقفوا بين يديه، فقال له عليّ بن الحسين:( أنشدك بالله يا يزيد، ما ظنّك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو رآنا مُقرّنين في الحبال، أما كان يرقّ لنا؟! ) .

فأمر يزيد بالحبال، فقُطّعت، وعُرف الانكسار فيه! )(١) .

وهكذا تمكَّن الإمامعليه‌السلام - في أوّل موقف وقفه أمام هذا الطاغي - أن يُجرّده من السلاح، فهوعليه‌السلام لم يكسره نفسياً فحسب، بل جعل الانكسار يبين ويُعرف فيه، كما صرّح بذلك ابن سعد، وسبط ابن الجوزي - في المرآة .

قال سبط ابن الجوزي: ( وكان عليّ بن الحسين والنساء موثّقين في الحبال، فناداه علي:( يا يزيد، ما ظنّك برسول الله لو رآنا موثّقين في الحبال، عرايا على أقتاب الجمال؟! ) ، فلم يبقَ في القوم إلاّ مَن بكى )(٢) .

وهذه الرواية تُصرّح بتغيير وضع المجلس بهذه الكلمة.

قال ابن نما: ( فقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :( وأنا مغلول، فقلت: أتأذن لي في الكلام؟

____________________

(١) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين من القسم غير المطبوع): ٨٣. روى مضمونه: الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٩؛ تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٨؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦؛ تاريخ دمشق ١٩/ ٤٩٣؛ مُثير الأحزان: ٩٨؛ الملهوف: ٢١٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٤؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤ وفيه: (... وكان أوّل مَن دخل شمر بن ذي الجوشن على يزيد بعليّ بن الحسينعليه‌السلام مغلولة يده إلى عنقه... ).

(٢) تذكرة الخواص: ٢٦٢.

١٤١

فقال: قل ولا تقل هُجْراً !

قلت: لقد وقفت موقفاً لا ينبغي لمثلي أن يقول الهُجْر، ما ظنّك برسول الله لو رآني في الغِلّ؟!

فقال لمن حوله: حلّوه ) (١) .

قال ابن أعثم: ( ثمّ أُتي بهم - الأسرى من آل البيت - حتّى أُدخلوا على يزيد، وعنده يومئذٍ وجوه أهل الشام، فلما نظر إلى عليّ بن الحسين (رضي الله عنه) قال: مَن أنت يا غلام؟!

فقال:( أنا عليّ بن الحسين ) .

فقال: يا عليّ، إنّ أباك الحسين قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال عليّ بن الحسين:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (٢) .

فقال يزيد لابنه خالد: (اردد عليه يا بُني)، فلم يدرِ خالد ماذا يقول، فقال يزيد قل له:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (٣) )(٤) .

____________________

(١) مُثير الأحزان: ٩٩.

أقول: لو لم يتجرّأ ذلك القائل بقوله في يوم الرزيّة: إنّ النبيّ ليهجر، أو أنّه قد غلبه الوجع - والعياذ بالله - لما كان يتجرّأ هذا الخبيث أن يتفوّه بمثل هذه الكلمات في حقّ أبنائه.

(٢) الحديد: ٢٢.

(٣) الشورى: ٣٠.

(٤) الفتوح: ٢/ ١٨٤. وروي مضمونه في: أنساب الأشراف ٣/ ٤١٩؛ الطبقات الكبرى - من القسم غير المطبوع - ٨٣؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢؛ الكامل ٤/ ٨٦؛ الإرشاد ٢/ ١٢٠؛ إعلام الورى: ٢٤٩؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٣؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٩؛ عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٨.

١٤٢

يُستفاد من هذه الرواية استشهاد يزيد بالآية الشريفة، دون أن يردّه الإمام، وفيه تأمّل واضح، فكيف يستند الطاغي إلى آية شريفة في المقام - وهو يريد المغالطة في البين - والإمام قادر على الجواب ولا يفعل!

فلذلك نرى حصول خلل في النقل.

فبعضهم لم يذكر شيئاً عن إجابة يزيد لكلام الإمام، مثل ما أورده ابن الجوزي في المنتظم(١) ، ولا بأس به.

ولنِعْمَ ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني في المقام! قال: ( ثمّ دعا يزيد - لعنه الله - بعليّ بن الحسين، فقال: ما اسمك؟

فقال:( عليّ بن الحسين ) .

قال: أوَ لم يقتل الله عليّ بن الحسين؟!

قال:( قد كان لي أخ أكبر منّي يُسمّى علياً فقتلتموه! ) .

قال: بل الله قتله.

قال علي:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا... ) (٢) .

قال له يزيد:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ... ) (٣) .

فقال علي:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (٤) .

فوثب رجل من أهل الشام فقال: دعني أقتله، فألقت زينب نفسها عليه )(٥) .

فتحصّل أنّه بناءً على ما ذكره أبو الفرج ينتهي الكلام بما استند به الإمامعليه‌السلام ، وهو المطلوب المختار.

____________________

(١) المنتظم ٥/ ٣٤٣.

(٢) الزمر: ٤٢.

(٣) الشورى: ٣٠

(٤) الحديد: ٢٢ - ٢٣.

(٥) مقاتل الطالبيين: ١٢٠.

١٤٣

والدليل عليه ما رواه علي بن إبراهيم القمّي، عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، قال: قال الصادقعليه‌السلام :

(لما أُدخِل رأس الحسين بن عليّعليهما‌السلام على يزيد لعنه الله، وأُدخل عليه عليّ بن الحسين وبنات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان عليّ بن الحسينعليه‌السلام مُقيّداً مغلولاً، فقال يزيد: يا عليّ بن الحسين، الحمد لله الذي قتل أباك.

فقال عليّ بن الحسين:( لعن الله مَن قتل أبي ) .

فغضب يزيد وأمر بضرب عُنقه.

فقال عليّ بن الحسين:( فإذا قتلتني فبنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن يردّهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟ ) .

فقال: أنت تردّهم إلى منازلهم!

ثمّ دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده.

ثمّ قال له: يا عليّ بن الحسين، أتدري ما الذي أريد بذلك؟

قال:( بلى، تُريد أن لا يكون لأحد عليَّ منّة غيرك ) .

فقال يزيد: هذا - والله - ما أردت أفعله.

ثمّ قال يزيد: يا عليّ بن الحسين( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ... ) (١) .

فقال عليّ بن الحسين:( كلاّ، ما هذه فينا نزلت، إنّما نزلت فينا: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ... وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ... ) (٢) ،

____________________

(١) الشورى: ٣٠.

(٢) الحديد: ٢٢ - ٢٣.

١٤٤

فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا، ولا نفرح بما أتانا منها ) (١) .

نعم، ذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد ذكر استشهاد يزيد بآية:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ... ) كلاماً للإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام يكون بمنزلة تفسير هذه الآية.

قال: فقال عليّعليه‌السلام :( هذا في حقّ مَن ظَلَم، لا في مَنْ ظُلم ) (٢) ، فالإمام يهدم أصل استناد يزيد من الأساس، ويُبيّن عدم فقهه بمعنى الآية الشريفة.

قالوا: ( ثمّ دعا بالنساء والصبيان، فأُجلِسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة فقال: قبّح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم هكذا )(٣) .

وهذا أيضاً موضع آخر لتبيِّن الانكسار في وجه يزيد، والتجائه للتفوّه بهذه الكلمات الواهية، وهو يريد أن يتخلّى عن المسؤولية، ويرميها على عاتق فاسق مثله هو ابن زياد.

ملاحظات:

ذكر بعضٌ وقوع المكالمة بين يزيد والإمام زين العابدينعليه‌السلام والاستناد بتلك الآيات الشريفة في هذه المواقف:

١ - قال ابن قتيبة: (وذكروا أنّ أبا معشر قال: حدّثني محمّد بن الحسين بن علي(٤) قال:

____________________

(١) تفسير القمّي ٢/ ٣٥٢ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٨ ح١٤.

(٢) الفصول المهمّة: ١٩٥.

(٣) أُنظر تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٢؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٦؛ اعلام الورى: ٢٤٩.

(٤) الظاهر هنا سقط، وهو كلمة عليّ بن، والصحيح هو محمّد بن عليّ بن الحسين بن علي الذي ينطبق على الإمام محمّد الباقر الذي كان حاضراً في مجلس يزيد.

١٤٥

( دخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر غلاماً مُغلّلين في الحديد، وعلينا قُمُصٌ، فقال يزيد: أخلصتم أنفسكم بعبيد أهل العراق؟! وما علمت بخروج أبي عبد الله حين خرج ولا بقتله حين قُتل، فقال عليّ بن الحسين: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) .

فغضِب يزيد وجعل يعبث بلحيته، وقال: ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير ٍ ) (٢) ،يا أهل الشام، ما ترون في هؤلاء؟

فقال رجل من أهل الشام: لا تتّخذنّ من كلب سوء جرواً... ) (٣) .

فبناءً على ما ذكره ابن قتيبة لم يفسح المجال للإمام حتّى يقوم بالجواب.

٢ - ذكر ابن عبد ربّه عن، عليّ بن عبد العزيز، عن محمّد بن الضحّاك بن عثمان الخرامي، عن أبيه قال: ( فقتله ( أي الإمام الحسينعليه‌السلام ) عبيدُ الله، وبعث برأسه وثقله إلى يزيد، فلما وُضِع الرأس بين يديه تمثّل بقول حصين بن الحمام المرّي:

يُفلِّقن هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال له عليّ بن الحسين - وكان في السبي -:( كتاب الله أولى بك من الشِّعر،

____________________

(١) الحديد: ٢٢ - ٢٣.

(٢) الشورى: ٣٠.

(٣) الإمامة والسياسة ٢/ ٨. وروى مضمونه: العقد الفريد ٥/ ١٣١؛ شرح الأخبار ٣/ ٢٦٨، ح١١٧٢؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٧٢؛ وذكره تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥ بتفاوت.

١٤٦

يقول الله: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) .

فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته، ثمّ قال: غير هذا من كتاب الله أولى بك وبأبيك، قال الله:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (٢) ، ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟... )(٣) .

فبناءً على هذا الخبر - أيضاً - لم يفسح يزيد المجال لإجابة الإمامعليه‌السلام .

أورد الحافظ الطبراني، بإسناده عن الليث قال: ( أبى الحسينُ بن علي (رضي الله عنهما) أن يُستأسر(٤) ، فقاتلوه فقتلوه، وقتلوا بنيه وأصحابه الذين قاتلوا معه بمكان يُقال له: الطف. وانُطلِق بعليّ بن حسين وفاطمة بنت حسين وسكينة بنت حسين إلى عبيد الله بن زياد، وعليّ يومئذٍ غلام قد بلغ، فبعث بهم إلى يزيد بن معاوية، فأمر بسكينة فجعلها خلف سريره لئلاّ ترى رأس أبيها، وذو قرابتها وعليّ بن الحسين (رضي الله عنهما) في غلّ فوضع رأسه، فضرب على ثنيتي الحسين (رضي الله عنه) فقال:

نُفلِّق هاماً من رجالٍ أحبَّة

إلينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقال عليّ بن الحسين (رضي الله عنه):( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن

____________________

(١) الحديد: ٢٢ - ٢٣.

(٢) الشورى: ٣٠.

(٣) العقد الفريد ٥/ ١٣١. انظر: تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ كفاية الطالب: ٤٣٢؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٧١.

(٤) جاء في المصدر أن يستأنس، وهو تصحيف، والصحيح ما أثبتناه، كذا في تاريخ الإسلام للذهبي ١٨ وسير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٩ وتاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٩٣ ومجمع الزوائد ٩/ ١٩٥..

١٤٧

قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (١) .

فثقل على يزيد أن يتمثّل ببيت شعر وتلا عليّ آية من كتاب الله عزّ وجلّ، فقال يزيد: بل( ... بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (٢) .

فقال عليّعليه‌السلام :( أما والله، لو رآنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغلولين لأحبّ أن يُخلِّينا من الغِلّ ) .

قال: صدقت، فخلّوهم من الغِل.

قال:( ولو وقفنا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأحبّ أن يُقرّبنا ) .

قال: صدقت، فقرّبوهم.

فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لتريان رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر عنهما رأس أبيهما... )(٣) .

التأمّل الذي ذكرناه يجري في هذا النقل، وعلى فرض صحّته، فالكلام الواقع بين الإمام ويزيد محمول على إرادة الإمام تجريد يزيد من سلاحه، وذلك بتعريف نفسه وأهل بيته بأنّهم أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ ما يجري باسم الخلافة الإسلامية هو على خلاف سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نجح الإمامعليه‌السلام في ذلك.

قال ابن أعثم والخوارزمي - واللفظ للأوّل -:

( فتقدّم عليّ بن الحسين حتّى وقف بين يدي يزيد بن معاوية، وجعل يقول:

____________________

(١) الحديد: ٢٢.

(٢) الشورى: ٣٠.

(٣) المعجم الكبير ٣/ ١٠٩، ح٢٨٠٦. وروى ذلك تاريخ مدينة دمشق - ترجمة فاطمة بنت الحسين - ١٩/ ٤٩٣؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٩؛ تاريخ الإسلام: ١٨؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٥.

١٤٨

لا تطمعوا أن تُهينونا ونُكرمكم

وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

فالله يـعـلم أنّـا لا نـحبّكُم

ولا نـلومكُم إن لـم تـحبّونا

فقال يزيد: صدقت يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي أذلّهما وسفك دماءهما!

فقال له عليّ بن الحسين:( يا بن معاوية وهند وصخر، لم يزل آبائي وأجدادي فيهم الإمرة من قبل أن تلد [تولد]، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -يوم بدر وأُحد والأحزاب في يده راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفر ) .

ثمّ جعل عليّ بن الحسين يقول:

مـاذا تـقولون إن قال النبيّ لكم

مـاذا فـعلتم وأنـتم آخـر الأُمم

بـعترتي وبـأهلي بـعد مُنقلبي

مـنهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم

أكـان هـذا جزائي أن نصحتكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

ثمّ قال عليّ بن الحسين:( ويلك - يا يزيد -! إنّك لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي، وأخي وعمومتي، إذاً لهربت في الجبال، وفرشت الرمال، ودعوت بالويل والثبور، أن يكون رأس الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب المدينة، وهو وديعة رسول الله فيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبشِر بالخزي والندامة غداً، إذا جُمِع الناس ليومٍ لا ريبَ فيه! ) (١) .

____________________

(١) الفتوح ٢/ ١٨٤. اُنظُر: مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٢؛ تسلية المجالس ٢/ ٢٨٦؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٥.

١٤٩

وفيه نقاط للبحث والتأمّل:

١ - صلابة موقف الإمام وصموده في المقام.

٢ - جعل الإمام مسؤولية قتل الإمام الحسينعليه‌السلام - وما جرى في وقعة الطف وبعده - على عاتق يزيد وتنبيهه لعمق الفاجعة الكبرى، ووعيده بنار جهنّم.

٣ - تبيين موضع جبهة يزيد، بأنّه وأباه وجدّه كانوا على خطِّ الباطل، وفي قِباله هو وأبوه وجدّه على نهج الحقّ، وأنّ النهضة الحسينيّة هي استمرار لتلك المواجهة والمقابلة.

٤ - وفي هذا الخبر أيضاً ما يفضح يزيد نفسه، فقد رأينا أنّه يُحاول أحياناً أن يتخلّى عن مسؤولية قتل الإمام الحسين ويدّعي - كذباً وزوراً - بعدم علمه بقتل الحسينعليه‌السلام وعدم رضاه بذلك، بينما نراه - في هذا الخبر - يُفصح عمّا في ضميره، ويُصرّح بفرحه وسروره بقتل سيّد الشهداء ويحمد الله على ذلك!

يزيد يهمُّ بقتل الإمامعليه‌السلام !

قال الفقيه المحدّث قطب الدين الراوندي: ( وروي أنّه لما حُمِل عليّ بن الحسينعليهما‌السلام إلى يزيد عليه اللعنة همَّ بضرب عنقه، فوقفه بين يديه وهو يُكلّمه ليستنطقه بكلمة يوجب بها قتله، وعليّعليه‌السلام يُجيبه حسب ما يُكلّمه، وفي يده سبحة صغيرة يُديرها بأصابعه، وهو يتكلّم، فقال له يزيد عليه ما يستحقّه: أنا أُكلّمك وأنت تُجيبني وتُدير أصابعك بسبحة في يدك! فكيف يجوز ذلك؟!

فقالعليه‌السلام :( حدّثني أبي عن جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه كان إذا صلّى الغداة وانفتل لا يتكلّم حتّى يأخذ سبحة بين يديه، فيقول: اللّهم، إنّي أصبحت أُسبّحك وأحمدك، وأُهلّلك وأُكبّرك، وأُمجّدك بعدد ما أُدير به سبحتي، ويأخذ السبحة في

١٥٠

يده ويُديرها وهو يتكلّم بما يُريد من غير أن يتكلّم بالتسبيح، وذكر أنّ ذلك مُحتسب له، وهو حرز إلى أن يأوي إلى فراشه، فإذا آوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول، ووضع سبحته تحت رأسه، فهي محسوبة له من الوقت إلى الوقت، ففعلت هذا اقتداءً بجدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) .

فقال له يزيد عليه اللعنة مرّة أُخرى: لست أُكلِّم أحداً منكم إلاّ ويُجيبني بما يفوز به.

وعفا عنه ووصله وأمر بإطلاقه )(١) .

إشارة بعض الحاضرين بقتل الإمام!

قال المسعودي: ( فلما استُشهد (أي الإمام الحسينعليه‌السلام ) حُمِل عليّ بن الحسين مع الحرم، وأُدخل على اللعين يزيد، وكان لابنه أبي جعفرعليه‌السلام سنتان وشهور، فأُدخِل معه، فلما رآه قال له: كيف رأيت يا عليّ بن الحسين؟!

قال:( رأيت ما قضاه الله عزّ وجلّ قبل أن يخلق السماوات والأرض ) .

فشاور يزيد جلساءه في أمره، فأشاروا بقتله وقالوا له: لا تتّخذ من كلبِ سوءٍ جرواً.

فابتدر أبو محمّد الكلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال ليزيد لعنه الله:( لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه، حيث شاورهم في موسى وهارون، فإنّهم قالوا له: أرْجِه وأخاه، وقد أشار هؤلاء عليك لقتلنا، ولهذا سبب ) .

____________________

(١) الدعوات: ٦١ ح١٥٢، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٢٠٠.

١٥١

فقال يزيد: وما السبب؟

فقالعليه‌السلام :( إنّ أولئك كانوا الرشدة، وهؤلاء لغير رشدك، ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلاّ أولاد الأدعياء ) .

فأمسك يزيد مُطرقاً، ثمّ أمر بإخراجهم على ما قُصّ وروي )(١) .

وحيث كان هذا الكلام يحتوي على أحسن برهان وأتقن دليل، لم يجد يزيد أيّ ملجأ يهرب إليه.

مُجابهة الإمام زين العابدين مع الرجل الشامي!

قال ابن سعد: ( فقام رجل من أهل الشام فقال: ( إنّ سباءهم لنا حلال! ).

فقال عليّ بن حسين:( كذبت ولؤمت، ما ذاك لك إلاّ أن تخرج من ملّتنا وتأتي بغير ديننا ) .

فأطرق يزيد مليّاً، ثمّ قال للشامي: اجلس )(٢) .

وروى القاضي نعمان، عن عليّ بن الحسينعليهما‌السلام قال: ( ووجّه بي إلى يزيد لعنه الله مع سائر حرم الحسينعليه‌السلام وحرم مَن أُصيب معه، فلما صرنا بين يدي يزيد اللعين قام رجل من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين، نساؤهم لنا حلال.

فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( كذبت إلاّ أن تخرج من ملّة الإسلام، فتستحلّ ذلك بغير دين ) .

فأطرق يزيد ملياً، وأمر بالنسوة، فأدخلن إلى نسائه... )(٣) .

____________________

(١) إثبات الوصية: ١٤٥.

(٢) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين من القسم غير المطبوع): ٨٣؛ الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام علي بن الحسينعليهما‌السلام ) ٥/ ٢١٢. ونحوه في: المنتظم ٥/ ٣٤٥؛ عبرات المصطفين؛ شرح الأخبار ٣/ ٢٥٣، وفيه: ( فأطرق يزيد، ولم يقل في ذلك شيئاً )؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٣ بتفاوت.

(٣) شرح الأخبار ٣/ ١٥٨ ح١٠٨٩.

١٥٢

زينب الكبرى في مجلس يزيد:

إنّها بنت عليّ وفاطمة، وأُخت الحسن والحسين، قد تربَّت في أحضان النبوّة والولاية، وهي اليوم بطلة المعركة، تقف أمام الطاغي بكلّ صلابة، وتُكلِّمه بتمام الشجاعة؛ لأنّها ترى الواقع الثابت عند الله، وتعلم بأنّ أخاها ومسيره الغالبان، والطاغي هو المخذول المغلوب على أمره، ولأجل ذلك نرى أنّه لم يُدركها الهول والفزع، وتقوم برسالتها وبواجبها امتداداً لثورة كربلاء، وتجسيداً رائعاً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية.

فهي تتكلّم في وقت الكلام، وتسكت في وقت السكوت، حينما يسألها يزيد بكلامه ( تُكلّميني؟! ) تجعل المسؤولية على عاتق عليّ بن الحسينعليه‌السلام بقولها: هو المتكلِّم(١) ، حتّى تُعرِّف الإمام والحجّة وقائد المسيرة، وحينما يكون الوقت مُقتضياً نرى أنّها تأخذ بزمام الكلام وتنطق بكلمات عالية، تكشف عن كونها تربّت في مدرسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

قال القندوزي: ( ثمّ أمر يزيد الملعون أن يُحضِروا عنده حرم الحسين وأهل بيته، قالت زينب:

يا يزيد، أما تخاف الله ورسوله من قتل الحسين؟! وما كفاك ذلك حتّى تستجلب بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العراق إلى الشام؟! وما كفاك حتّى تسوقنا إليك كما تُساق الإماء على المطايا بغير وطاء؟! وما قتل أخي الحسين (سلام الله عليه) أحدٌ غيرُك يا يزيد، ولو لا أمرك ما يقدر ابن مرجانة أن يقتله؛ لأنّه كان أقلّ عدداً وأذلّ نفساً، أما خشيت من الله بقتله وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه وفي أخيه:( الحسن والحسين

____________________

(١) المناقب ٤/ ١٧٣.

١٥٣

سيّدا شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين ) ؟، فإن قلت: لا. فقد كذبت، وإن قلت: نعم. فقد خصمت نفسك واعترفت بسوء فعلك.

فقال: (ذرّية يتبع بعضها بعضاً). وبقي يزيد خجلاً ساكتاً )(١) .

وفي هذا الخطاب نقاط لابدّ من الالتفات إليها:

١) التركيز على الانتساب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأجل كسر حاجز الخوف الإعلامي المشوّه والمسموم.

٢) التركيز على جعل مسؤولية قتل الإمام الحسينعليه‌السلام على عاتق يزيد، وعدم إمكانه من التخلّي عنه، وأنّه لولاه لما تمكّن ابن مرجانة أن يرتكبه.

٣) تأثير كلام زينب الكبرى، بحيث إنّ يزيد لم يحِرْ جواباً.

بين يدي رأس الإمام!

نرى أنّ زينب الكبرى (سلام الله عليها) تتّخذ موقفاً عاطفياً، حينما تواجه رأس أخيها سيّد الشهداء (سلام الله عليه)، ومع ذلك تؤثّر على المجلس تأثيراً تامّاً، بحيث ينقلب المجلس، حتّى يبكي كلُّ مَن كان حاضراً في المجلس ويزيد ساكت.

قال السيّد ابن طاووس: ( وأمّا زينب، فإنّها لما رأته ( رأس الحسينعليه‌السلام ) أهوت إلى جيبها فشقّته، ثمّ نادت بصوت حزين يُقرح القلوب: يا حسيناه! يا حبيب رسول الله! يا بن مكّة ومنى! يا بن فاطمة الزهراء سيّدة النساء! يا بن بنت المصطفى! ).

قال الراوي: ( فأبكت - والله - كلّ مَن كان حاضراً في المجلس، ويزيد ساكت )(٢) .

____________________

(١) ينابيع المودّة ٣/ ٩٢.

(٢) الملهوف: ٢١٣. ونحوه: مُثير الأحزان: ١٠٠؛ الاحتجاج ٢/ ١٢٣؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤.

١٥٤

خُطبة زينب الكبرى:

إنّ من أروع الخطب التي سجّلها التأريخ، فصارت من متمِّمات النهضة الحسينيّة المباركة، هي الخطبة التي ألقتها زينب الكبرى في مجلس يزيد.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: ( فقد دمّرت فيه حفيدة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جبروت الطاغية، وألحقت به الهزيمة والعار، وعرّفته أنّ دعاة الحقّ لا تنحني جباههم أمام الطغاة والظالمين )(١) .

ولقد ذكر كثيرٌ تلك الخُطبة الغرّاء، أقدمهم ابن طيفور (ت: ٢٨٠) نذكرها حسب نقله؛ لقدمته وعلوّ مضامينه، ثمّ نردف ما نقله بالصيغة التي رواها الخوارزمي؛ وذلك لأجل وجود فروق كثيرة في نقل الأخير، ولاشتماله على مطالب راقية ومضامين عالية.

قال ابن طيفور - بعد ذكر تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى -:

فقالت زينب بنت عليّعليهما‌السلام :

صدق الله ورسوله يا يزيد( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (٢) ، أَظَنَنْتَ - يَا يَزِيدُ - حين أُخِذ عَلَيْنَا بأَطراف الأَرْضِ وَأكناف السَّمَاءِ، فَأَصْبَحْنَا نُسَاقُ كَمَا تُسَاقُ الأُسارى أَنَّ بِنَا هَوَاناً عَلَى اللهِ، وَبِكَ عَلَيْهِ كَرَامَةً، وَأَنَّ هذا لِعَظِيمِ خَطَرِكَ؟! فَشَمخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ في عِطْفِكَ، جَذلان فرحاً حينَ رِأَيْتَ الدُّنْيَا مُسْتَوْسِقَةً لكَ، وَالأُمُورَ مُتَّسِقَةً عليك،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين ٣/ ٣٨٠.

(٢) الروم: ١٠.

١٥٥

وقد أُمْهِلت ونُفِّست، وهو قول الله تبارك وتعالى:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (١) ، أمِنَ العدل - يا بن الطُّلقاء - تخديرك نساءك وإماءَك وسوقك بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هتكت ستورهن وأصحلت صوتهن، مكتئبات تحذي بهنّ الأباعر ويحدو بهنّ الأعادي من بلدٍ إلى بلد، لا يُراقبن ولا يؤوين، يتشوفهنّ القريب والبعيد، ليس معهنّ وليّ من رجالهنّ؟! وكيف يُستبطأ في بُغضنا مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟! أتقول: ( ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ) غير مُتأثِّم ولا مُستعظم، وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟! ولِمَ لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشافة بإهراقك دماء ذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب؟! ولتردنّ على الله وشيكاً موردهم ولتودَنّ أنّك عميت وبُكمت، وأنّك لم تقل: (فاستهلّوا وأهلّوا فرحاً).

اللّهمَّ، خُذْ بحقّنا وانتقم لنا ممّن ظلمنا! والله، ما فريت إلاّ في جلدك ولا حززت إلاّ في لحمك، وسترد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برغمك وعترته ولحُمته في حظيرة القدس، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث، وهو قول الله تبارك وتعالى:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ

____________________

(١) آل عمران: ١٧٨.

١٥٦

اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) ، وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المؤمنين، إذا كان الحَكَم الله والخصم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجوارحك شاهدة عليك، فبِئْسَ للظالمين بدلاً! أيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً؟! مع أنّي - والله - يا عدوّ الله وابن عدوّه أستصغر قَدرك وأستعظم تقريعك، غير أنّ العيون عبرى! والصدور حرّى! وما يجزي ذلك أو يُغني عنّا، وقد قُتل الحسينعليه‌السلام ، وحزب الشيطان يُقرِّبنا إلى حزب السفهاء ليُعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذه الأفواه تتحلَّب من لحومنا، وتلك الجُثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات، فلئن اتّخذتنا مغنماً لتتّخذنّ مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك، تستصرخ ابن مرجانة ويستصرخ بك، وتتعاوى وأتباعُك عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذرّية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوالله، ما اتّقيتُ غير الله، ولا شكواي إلاّ إلى الله، فكِدْ كيدك واسْعَ سعيك وناصب جهدك، فوالله، لا يدحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً، والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبّان الجنان، فأوجب لهم الجنّة، أسأل الله أن يرفع لهم الدرجات، وأن يوجب لهم المزيد من فضله، فإنّه وليٌّ قدير(٢) .

____________________

(١) آل عمران: ١٦٩.

(٢) بلاغات النساء: ٣٥.

١٥٧

وأمّا ما ذكره الخوارزمي فهو:

فقامت زينب بنت علي - وأُمّها فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فقالت:

( الْحَمْدُ للهِ ربّ العالمين، والصلاة والسلام على(١) سيّد المرسلين، صدق الله تعالى إذ يقول:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) (٢) . أظننت - يا يزيد - حيث أخذت علينا أقطار الأرض(٣) ، وآفاق السّماء وأصبحنا(٤) نُساق كما تُساق الأُسارى(٥) أنّ بنا على الله(٦) هواناً (٧) ، وبك عليه كرامة(٨) ، وأنّ ذلك لعُظم خِطرك عنده(٩) ؟! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك(١٠) ، جَذلان مسروراً، حين رأيت الدّنيا لك مستوسقة، والأُمور(١١) مُتَّسقةً، وحين صفا لك مُلكنا(١٢) وسلطاننا، فمهلاً

____________________

(١) في الاحتجاج: على جدّي سيّد المرسلين.

(٢) الروم: ١٠.

(٣) في الاحتجاج: وضيّقت علينا آفاق السماء.

(٤) في الاحتجاج: فأصبحنا لك في أسار نُساق إليك سَوْقَ في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار.

(٥) في الملهوف: الإماء.

(٦) في الاحتجاج: من الله.

(٧) في الاحتجاج: وعليك منه كرامة وامتناناً.

(٨) في مصير الأحزان: وبك على الله كآبة، فشمخت.

(٩) في الاحتجاج: وأنّ ذلك لعظم خطرك وجلالة قدرك.

(١٠) في الاحتجاج: تضرب أصدريك فرحاً وتنقض مذرويك مرحاً.

(١١) في الاحتجاج: الأُمور لديك.

(١٢) في الاحتجاج: مُلكنا وخلص لك سلطاننا.

١٥٨

مهلاً(١) ! أنسيت قول الله تعالى: ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (٢) ؟!

أمِنَ العدل - يا بن الطّلقاء - تخديرك إماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، يُحدى(٣) بهنّ من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل(٤) والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد(٥) ، والدّنيّ والشّريف(٦) ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليٌّ، ولا من حماتهنّ حميّ(٧) . وكيف تُرجى المراقبة مَن لفظ فوه أكباد السّعداء(٨) ، ونبت لحمه بدماء الشُهداء(٩) ؟!

____________________

(١) في الاحتجاج: لا تطِشْ جهلاً.

(٢) آل عمران: ١٧٨.

(٣) في الملهوف: تحدو بهنّ الأعداء، وفي الاحتجاج: يحدو بهنّ الأعداء.

(٤) في الاحتجاج: أهل المنازل والمناهل.

(٥) في الاحتجاج: والغائب والشهيد، والشريف والوضيع.

(٦) في الاحتجاج: والرفيع.

(٧) في الاحتجاج: حميم عتوّاً منك على الله، وجحوداً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودفعاً لما جاء به من عند الله، ولا غَرْوَ منك! ولا عَجب من فعلك! وأنّى يُرتجى الخير ممّن لفظ فوه.

(٨) في الملهوف: الأزكياء، وفي الاحتجاج: الشهداء.

(٩) السعداء، ونصَبَ الحرب لسيّد الأنبياء، وجمع الأحزاب وشهر الحراب وهزّ السيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أشدّ العرب لله جحوداً وأنكرهم له رسولاً، وأظهرهم له عدواناً وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً، ألا أنّها نتيجة الكفر، وضبّ يُجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يَستبطئ.

١٥٩

وكيف(١) لا يَستبطئ في بُغضنا أهل البيت(٢) من نظر إلينا بالشّنف والشّنآن والإحن والأضغان؟! ثُمّ تقول(٣) غير مُتأثّم ولا مُستعظم(٤) :

لأهلُّوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشل

مُنتحياً(٥) على ثنايا أبي عبد اللهعليه‌السلام (٦) تنكتها بمخصرتك(٧) !

وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشافة، بإراقتك(٨) دماء ذرِّيَّة آل(٩) محمّد(١٠) ونجوم الأرض من آل عبد المطَّلب؟!

____________________

(١) في الملهوف: وكيف يستظلّ في ظلّنا أهل البيت مَن نظر.

(٢) في الاحتجاج: مَن كان نظره إلينا شنعاً وشنآناً، وإحناً وأضغاناً، يُظهر كفره برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويُفصح ذلك بلسانه وهو يقول - فرحاً بقتل ولده وسبي ذرّيته غير مُتحوّب ولا مُستعظم يهتف بأشياخه -: لأهلّوا.

(٣) في الملهوف: ثمّ تقول، وفي الاحتجاج: وهو يقول.

(٤) في الاحتجاج: يهتف بأشياخه.

(٥) في الاحتجاج والملهوف، ومُثير الأحزان: مُتنحّياً.

(٦) في الملهوف: سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها، وفي الاحتجاج: وكان مُقبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينكتها.

(٧) في الاحتجاج: بمِخصرته قد التمع السرور بوجهه، لعمري لقد نكأت.

(٨) دم سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب الدِّين والعرب، وشمس آل عبد المطّلب، وهتفت بأشياخك وتقرّبت بدمه إلى الكَفرة من أسلافك، ثمّ صرخت بندائك، ولعَمْرِي، لقد ناديتهم لو شهدوك ووشيكاً تشهدهم ولم يشهدوك، ولتودّ يمينك كما زعمت شُلّت بك عن مرفقها وجُذَّت. و[أحببت] أُمّك لم تحملك وأباك لم يلدك حين تصير إلى سخط الله ومُخاصمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللّهمّ، خُذْ...

(٩) في الملهوف: ذرّيّة محمّد.

(١٠) مُثير الأحزان: الذريّة الطاهرة، وتهتف بأشياخك لتردنّ موردهم، اللّهمَّ، خُذْ...

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ليكون بمنجاة من شرور الأمويّين.

كلمة الإمام الحسن :

وبادر ريحانة رسول الله 6 الإمام الحسن 7 فصافح عمّه أبا ذرّ وألقى عليه هذه الكلمات :

« يا عمّاه ، لو لا أنّه ينبغي للمودّع أن يسكت ، وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدّنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتّى تلقى نبيّك وهو عنك راض ».

وألمّت هذه الكلمات بما يحمل الإمام الحسن من أسى بالغ على ما حلّ بعمّه أبي ذرّ من الخطوب التي كانت من أجل إحقاق الحقّ ورفع كلمة الإسلام.

كلمة الإمام الحسين :

و ألقى الإمام الحسين 7 نظرة الوداع على أبي ذرّ وخاطبه بهذه الكلمات :

« يا عمّاه ، إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى ، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم ، فاسأل الله الصّبر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإنّ الصّبر من الدّين والكرم ، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقا ، والجزع لا يؤخّر أجلا ».

وألقت هذه الكلمات الأضواء على ثورة أبي ذرّ التي كانت من أجل الصالح العامّ ، وحكت خوف الأمويّين منه ، فقد خافوه على مناصبهم ، وخافوه على الأموال التي اختلسوها من المسلمين.

كلمة عمّار :

وتقدّم الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر وعيناه تفيض من الدموع ، فخاطب صاحبه وخليله أبا ذرّ بهذه الكلمات :

٢٦١

« لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك ، أما والله! لو أردت دنياهم لآمنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا والجزع من الموت ، ومالوا إلى سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم فخسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين ».

كلمة أبي ذرّ :

وقابل أبو ذرّ الاسرة النبوية وعيناه تفيضان دموعا ، وخاطبهم بهذه الكلمات قائلا :

« رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله 6 ، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ـ الكوفة والبصرة ـ فأفسد الناس عليهما ، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله ، والله! ما اريد إلاّ الله صاحبا وما أخشى مع الله وحشة ».

وتحرّكت راحلة أبي ذرّ تطوي البيداء حتى انتهت إلى الربذة ليموت فيها جوعا وفي يد عثمان ذهب المسلمين يصرفه على بني أميّة وآل أبي معيط ، ويحرمه على أبي ذرّ المصلح العظيم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

غضب عثمان على الإمام :

ولمّا قفل الإمام 7 راجعا من توديع أبي ذرّ استقبلته جماعة من الناس فأخبروه بغضب عثمان لأنّه خالف أوامره التي حرّم فيها توديع أبي ذرّ ، فأجابهم الإمام : « غضب الخيل على اللّجم » (1) ، وبادر عثمان فصاح بالإمام :

__________________

(1) يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به.

٢٦٢

ما حملك على ردّ رسولي؟ ..

« أمّا مروان فإنّه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي ، وأمّا أمرك فلم أردّه ».

أولم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن تشييع أبي ذرّ؟

« أو كلّ ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله والحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟!! ».

أقد مروان ..

« وما أقيده؟ ».

ضربت بين اذني راحلته ..

« أمّا راحلتي فهي تلك ، فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأمّا أنا فو الله! لئن شتمني لأشتمنّك أنت بمثلها ، لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّا ».

ولم لا يشتمنّك إذ شتمته ، فو الله! ما أنت عندي بأفضل منه ..

وتألّم الإمام من عثمان الذي ساوى بينه وبين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، ونسي جهاد الإمام ومنزلته من النبيّ وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى ، وردّ الإمام على عثمان بأعنف القول قائلا له :

« إليّ تقول هذا القول ، وبمروان تعدلني؟ فأنا والله! أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمّي أفضل من امّك ، وهذه نبلي قد نثلتها » (1) .

وسكت عثمان ولم يطق جوابا ، وتركه الإمام يموج في تيارات من الغضب ، قد ورم أنفه وانتفخت أوداجه.

3 ـ عبد الله بن مسعود :

وعبد الله بن مسعود القارئ من ألمع الصحابة ومن خيارهم ، وهو من الناقمين

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 375 ـ 377.

٢٦٣

على عثمان لمّا استقرض الوليد من بيت المال فطالبه ابن مسعود بردّ ما استقرضه ، فأبى الوليد وكتب إلى عثمان يخبره بذلك ، فغضب عثمان وكتب إلى ابن مسعود إنّما أنت خازن لنا ، وغاظ ذلك ابن مسعود وألقى المفاتيح وقفل راجعا إلى يثرب ، فلمّا انتهى إليها وجد عثمان على المنبر يخطب ، فلمّا رأى ابن مسعود قال يخاطب الحاضرين :

قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ..

وردّ عليه ابن مسعود قائلا :

لست كذلك ، ولكنّي صاحب رسول الله 6 يوم بدر ويوم بيعة الرضوان ..

واندفعت عائشة منكرة على عثمان قائلة له :

أي عثمان ، أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ ..

وأمر عثمان جلاوزته بإخراج ابن مسعود من الجامع إخراجا عنيفا ، وانبرى إليه أبو عبد الله بن زمعة فضرب به الأرض ، وقيل بل احتمله ( يحموم ) غلام عثمان فاحتمله ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فانكسر ضلعه ، و ثار الإمام 7 فخاطب عثمان بعنف قائلا :

« يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول الله بقول الوليد بن عقبة؟ ».

فقال عثمان :

ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكنّي وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال ..

وأنكر عليه الإمام أن يأخذ بقول زبيد قائلا :

« أحلت عن زبيد على غير ثقة » (1) .

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 36.

٢٦٤

وحمل الإمام ابن مسعود إلى منزله ، وقام برعايته حتى أبل من مرضه ، وقاطعه عثمان وهجره ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، وقطع عنه عطاءه ..

ومرض ابن مسعود مرضه الّذي توفّي فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

ما تشتكي؟

ذنوبي؟

ما تشتهي؟

رحمة ربّي.

أدعو لك طبيبا؟

الطبيب أمرضني.

آمر لك بعطائك؟

منعتني عنه وأنا محتاج إليه ، وتعطينيه وأنا مستغني عنه! يكون لولدك.

رزقهم على الله! استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

اسأل الله أن يأخذ لي منك بحقّي (1) .

وانصرف عثمان ولم يفز برضا ابن مسعود ولمّا ثقل حاله أوصى أن لا يصلّي عليه عثمان ، وأن يصلّي عليه صاحبه وخليله عمّار بن ياسر ولمّا توفّي قامت الصفوة من صحابة النبيّ 6 بتجهيزه ودفنه ، ولم يعلموا عثمان بذلك ، فلمّا علم غضب ، وقال : سبقتموني؟ فردّ عليه عمّار :

إنّه أوصى أن لا تصلّي عليه ..

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 253 ـ 254.

٢٦٥

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي (1)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض المعارضين لعثمان والناقمين عليه وكان من أهمّ ما نقموا عليه من أعماله ما يلي :

1 ـ استبداده بأموال الدولة وإنفاقها على اسرته وذويه في حين أنّ المجاعة والحرمان قد عمّتا البلاد.

2 ـ منحه المناصب العالية في الدولة لبني أميّة وآل أبي معيط.

3 ـ تنكيله بخيار الصحابة الذين طالبوه بالعدل والكفّ عن سياسته الملتوية ، ولم يستجب لهم وإنّما نكّل بهم أفظع التنكيل وأقساه ، كما ذكرنا ذلك.

الثورة على عثمان :

وكان من الطبيعي أن تندلع الثورة على عثمان بعد ما اقترفه من الأحداث الجسام ، ولم تكن عفوية ، وإنّما كانت نتيجة للنضج الاجتماعي وكانت إصلاحية إلى حدّ كبير ـ كما يقول العلاّمة العلائلي ـ :

لقد شاع التنافر في جميع الأوساط وأخذت الأندية والمجالس تتحدّث عن مظالم عثمان ، وسوء سياسته (2) .

مذكرة المهاجرين لأهل مصر :

ورفع المهاجرون وخيار الصحابة مذكّرة لأهل مصر يستنجدون بهم للقيام بتغيير نظام الحكم القائم ، وهذا نصّ مذكّرتهم :

__________________

(1) مستدرك الحاكم 7 : 163. البداية والنهاية 3 : 13.

(2) الإمام الحسين 7 : 66.

٢٦٦

من المهاجرين الأوّلين وبقيّة الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين.

أمّا بعد ، أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله 6 قبل أن يسلبها أهلها ، فإنّ كتاب الله قد بدّل ، وسنّة رسوله قد غيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بدّلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقيّة أصحاب رسول الله 6 والتابعين بإحسان إلاّ أقبل إلينا ، وأخذ الحقّ لنا وأعطاناه ، فاقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحقّ على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقّنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبيّنا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله (1) .

وحفلت هذه المذكرة بالأخطاء التي ارتكبها عثمان وهي :

1 ـ تبديل كتاب الله وإلغاء أحكامه ونبذ نصوصه.

2 ـ تغيير سنّة الرسول.

3 ـ تبديل أحكام الخليفتين.

4 ـ استئثار السلطة بالفيء.

5 ـ صرف الخلافة الإسلامية عن مفاهيمها الخيرة إلى ملك عضوض (2) .

وتحفّز المصلحون حينما انتهت إليهم هذه المذكّرة إلى إرسال وفد للاطّلاع على أوضاع الخليفة والتعرف عليها.

مذكرة أخرى لأهل الثغور :

وأرسل صحابة الرسول 6 مذكّرة أخرى لأهل الثغور جاء فيها :

إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ تطلبون دين محمّد 6 ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 : 35.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 378 ـ 380.

٢٦٧

فإنّ دين محمّد قد أفسده خليفتكم فأقيموه (1) .

كما أوفدت الجبهة المعارضة مذكّرة أخرى لأهل الأمصار ، وقد أشاعت النقمة والسخط على حكومة عثمان.

وفود الأمصار :

واستجابت الأمصار الإسلامية لنداء الصحابة ، فأرسلت وفودها إلى المدينة للاطّلاع على حال عثمان ، أمّا الوفود فهي :

1 ـ الوفد المصري :

وأرسلت مصر وفدا كبيرا قدّر بأربعمائة شخص ، وقيل بأكثر ، بقيادة المؤمن محمّد بن أبي بكر وعبد الرحمن بن عديس البلوي.

2 ـ الوفد الكوفي :

وأرسلت الكوفة وفدا بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر ، وزيد بن صوحان العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الأصمّ العامري ، وعمرو بن الأهثم.

3 ـ الوفد البصري :

وأوفدت البصرة مائة رجل بقيادة حكيم بن جبلة ، ثمّ أوفدت خمسين رجلا وفيهم ذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح القيسي وغيرهم من الوجوه والأعيان (2) .

واستقبلت الصحابة الوفود بمزيد من الحفاوة والتكريم وحرّضتها على استقالة عثمان والاطاحة بحكومته.

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 115. الكامل في التاريخ 5 : 70.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 381 ـ 382.

٢٦٨

مذكّرة المصريّين لعثمان :

ورفع الوفد المصري مذكّرة لعثمان يدعوه فيها إلى الاستقامة في سلوكه والتوازن في سياسته ، وهذا نصّها :

أمّا بعد ، فاعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ، فالله الله ، ثمّ الله الله ، فإنّك على دنيا زائلة فاستقم معها ، ولا تنس نصيبك من الآخرة ، فلا تسوّغ لك الدنيا ، وأعلم أنّا لله ، ولله نغضب ، وفي الله نرضى ، وأنّا لا نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة أو ضلالة مجلحة مبلجة (1) ، فهذه مقالتنا لك ، وقضيتنا إليك ، والله عذيرنا منك والسلام » (2) .

وحوت هذه المذكّرة الدعوة إلى الاصلاح والاستقامة ، وقد قرأها عثمان بإمعان ، وحوله المصريّون قد أحاطوا به ، فبادر المغيرة بن شعبة فطلب منه أن يتكلّم مع المصريّين ، فأذن له ، ولمّا أراد أن يفتح معهم صاحوا جميعا :

يا أعور وراءك.

يا فاجر وراءك.

يا فاسق وراءك.

ورجع المغيرة خائبا لم تفلح وساطته ، ودعا عثمان عمرو بن العاص وطلب منه أن يكلّم القوم ، فبادر تجاههم وسلّم عليهم ، فلم يردّ أحد منهم 7 لعلمهم بفسقه وصاحوا به :

ارجع يا عدوّ الله ..

ارجع يا ابن النابغة ، لست عندنا بأمين ولا مأمون ..

__________________

(1) مجلحة : هي الإقدام على الشيء. مبلجة : واضحة بيّنة.

(2) تاريخ الطبري 5 : 111. أنساب الأشراف 5 : 64 ـ 65.

٢٦٩

ورجع ابن العاص خائبا في وفادته ، فقد قوبل بمزيد من الاستهانة.

استجارته بالإمام :

وسدّت على عثمان جميع الوسائل ، فلم ير هناك طريقا مفتوحا ليتخلّص به ممّا هو فيه من المحنة ، ورأى أنّه لا ملجأ له إلاّ الإمام أمير المؤمنين 7 ، فاستغاث به ، فأجابه الإمام بعد أن شرط عليه أن يدعو القوم ويلتزم لهم بالسير على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأجابه إلى ذلك ، وانطلق الإمام صوب الثوّار وهو يحمل لهم الضمان والالتزام بجميع ما طلبوه ، فلمّا رأوا الإمام قالوا له :

وراءك؟

فأجابهم الإمام بالالتزام الكامل بجميع مطالبهم قائلا :

« تعطون كتاب الله ، وتعتبون من كلّ ما سخطتم عليه ».

أتضمن ذلك؟ ..

« نعم ».

رضينا.

وأقبل وجوه الوفد وأشرافهم مع الإمام فدخلوا على عثمان وعاتبوه على سياسته ، وطلبوا منه أن يغيّر سلوكه ويسير بين المسلمين بسياسة قوامها العدل الخالص والحقّ المحض ، فأجابهم إلى ذلك.

كتاب عثمان :

وكتب عثمان إلى الوفود التي أحاطت به هذا الكتاب والتزم بتنفيذ ما فيه ، وهذا نصّه : هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين ، إنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، يعطى المحروم ، ويؤمن الخائف ، ويردّ المنفي ، ولا يجمر في البعوث ، ويوفّر الفيء ، وعليّ بن أبي طالب

٢٧٠

ضمين للمؤمنين ، وعلى عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب.

وشهد فيه كلّ من الزبير بن العوّام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيّوب خالد بن زيد ، وكان توقيعه والشهادة عليه سنة ( 35 ه‍ ) (1) .

واستلم الثوّار الكتاب ، وانصرفوا إلى جماعتهم ، وطلب الإمام من عثمان أن يخرج إلى الناس ويعلن لهم تنفيذ ما أرادوا ، ففعل عثمان ذلك ، وقد أعطاهم عهد الله وميثاقه أن يسير فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، ويوفّر لهم الفيء ولا يؤثر به أحدا من بني أميّة ، وقفل المصريون راجعين إلى بلادهم.

نقضه للعهد :

ومن المؤسف أنّ عثمان نقض ما قطعه على نفسه ولم يف للمسلمين بما عاهدهم عليه ، أمّا سبب ذلك فتعزوه مصادر التاريخ إلى مروان الذي كان وزيرا ومستشارا له ، فقد لامه على ما أعطاه للمصريّين من العهد وطلب منه نقض ذلك ، فامتنع من إجابته إلاّ أنّه أصر عليه ، فاستجاب له ، فخرج إلى الناس واعتلى المنبر وقال : أمّا بعد ، إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر ، فلمّا تيقّنوا أنّه باطل ما بلغهم رجعوا إلى بلادهم وقطع عليه ابن العاص كلامه وقال له :

اتّق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير (2) وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب معك.

فصاح به عثمان :

وإنّك هناك يا ابن النابغة! قملت والله! جبّتك منذ تركتك من العمل ..

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 383 ـ 384.

(2) النهابير : المهالك.

٢٧١

وارتفعت أصوات الانكار من جميع جنبات المسجد وهي ذات لهجة واحدة :

اتّق الله يا عثمان! اتّق الله يا عثمان! (1) .

وانهار أمام هذا الحشد الهائل من الانكار ولم يدر ما يقول ، ولم يجد بدّا من إعلان التوبة مرّة ثانية ، فتاب وندم على ما فرّط في أمر نفسه.

استنجاده بمعاوية :

وأحاط الثوّار بعثمان لأنّه لم يقلع عن سياسته ، ولا يغيّر ولا يبدّل أي شيء منها ، وطالبوه بالاستقالة من منصبه فأبى ، ورأى أنّ خير وسيلة له أن يستنجد بابن عمّه معاوية ليبعث له قوّة عسكرية من أهل الشام تحميه من الثوّار ، فكتب إليه :

أمّا بعد ، فإنّ أهل المدينة قد كفروا ، وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة ، فابعث إليّ من قبلك مقاتلة أهل الشام على صعب وذلول (2) .

وحمل الكتاب مسوّر بن مخرمة ، وأخذ يجدّ في السير حتى انتهى إلى معاوية ، فناوله الكتاب وقال له :

يا معاوية ، انّ عثمان مقتول ، فانظر فيما كتب به إليك.

وسخر منه معاوية وأجابه :

يا مسوّر ، إنّي مصرّح أنّ عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ورسوله ويرضاه ، ثمّ غيّر فغيّر الله عليه ، أفيتهيّأ لي أن أردّ ما غيّر الله عزّ وجلّ (3) ؟

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 110. أنساب الأشراف 5 : 74.

(2) الكامل في التاريخ 5 : 67. تاريخ اليعقوبي 2 : 150.

(3) فتوح البلدان 2 : 218.

٢٧٢

ولم يبد معاوية أي اهتمام بشأن عثمان ، وكان يترقّب قتله ليتّخذ من دمه ورقة رابحة يطلب بها المطالبة بدمه.

وقد تنكّر معاوية لعثمان ، ولم يستجب له في وقت محنته.

يقول الدكتور محمّد طاهر دروش :

وإذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره على معاوية ودمه في عنقه ، ومسئوليّته عن ذلك لا تدفع ، فهو أولى الناس به ، وأعظم الرجال شأنا في دولته ، وقد دعاه فيمن دعا ، يستشيره في هذا الأمر ، وهو داهية الدهاة ، فما نهض إليه برأيه ، ولا دافع عنه بجنده ، وكأنّه قد استطال ـ كما استطال غيره ـ حياته ، فترك الأيام ترسم بيدها مصيره ، وتحدّد نهايته ، فإذا جاز لأحد أن يظنّ بعلي أو بطلحة والزبير تقصيرا في حقّ عثمان فمعاوية هو المقصّر ، وإذا جاز أن يلام أحد غير عثمان فيما جرى فمعاوية هو الملوم (1) .

وكتب عثمان رسائل أخرى إلى أهل الأمصار يستنجد بهم ويطلب منهم المعونة لرفع الحصار عنه ، إلاّ أنّه لم يستجب أي أحد منهم لعلمهم بالأحداث الجسام التي اقترفها ..

الحصار على عثمان :

وفرض الثوّار الحصار على عثمان ، وأحاطوا بداره وهم يهتفون بسقوطه ، ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وفي أثناء تلك المحنة الحازية التي أحاطت بعثمان انبرى مروان إلى الثوّار فأشعل نار الثورة في نفوسهم ودفعهم إلى الاطاحة بحكم عثمان قائلا لهم :

ما شأنكم؟ كأنّكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه تريدون أن تنزعوا ملكنا

__________________

(1) الخطابة في صدر الإسلام 2 : 23.

٢٧٣

من أيدينا أخرجوا عنّا ..

وكانت هذه الكلمات الطائشة قد أشعلت فتيل الحرب على عثمان ، ونقلت إلى الإمام أمير المؤمنين 7 ، فخفّ مسرعا إلى عثمان وقال له :

« أما رضيت من مروان ، ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك ، مثل جمل الظّعينة يقاد حيث يشاء ربّه ، والله! ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وأيم الله لأراه يوردك ولا يصدرك ، وما أنا عائذ بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغلبت على أمرك ».

وتركه الإمام وانصرف عنه ، والثوّار قد أحاطوا به ، والتفتت نائلة زوج عثمان إلى مروان وبني أميّة فقالت لهم :

أنتم والله! قاتلوه وميتّموا أطفاله ..

والتفتت إلى زوجها تحذّره من مروان قائلة له :

إنّك متى أطعت مروان قتلك ..

لقد كان مروان من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى قتل عثمان ، فقد أطاعه عثمان إطاعة عمياء ، وهو يدفع به إلى مهالك من دون أن يحسّ عثمان بذلك.

يوم الدار :

واندلعت نيران الثورة فقد نفد صبر الثوّار ، فلم يستقل عثمان من منصبه ، وقد أحاطوا بداره ، وقد شهروا سيوفهم ، فخرج إليهم مروان مدافعا عنه ، فبرز إليه عروة بن شيم الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخر لوجهه صريعا ، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ، فأراد أن يقطع رأسه فعذلته فاطمة الثقيفة وقالت له :

إن كنت تريد قتله ، فقد قتلته ، فما تصنع بلحمه أن تبضعه ، فاستحى منها وتركه.

٢٧٤

وتسلّق الثوّار عليه الدار ، ولم يكن عنده أحد يدافع عنه ، فقد ورمت منه القلوب ، ومجّته النفوس ، ورماه الناس بالحجار ونادوه :

لسنا نرميك ، بل الله يرميك ..

واحتفّ به بعض الأمويّين يدافعون عنه وقد نشب بينهم وبين الثوّار قتال عنيف ، وقد فرّ وانهزم خالد بن عقبة بن أبي معيط من ساحة القتال ، وإليه يشير عبد الرحمن بن سيحان بقوله :

يلومونني في الدار إن غبت عنهم

وقد فرّ عنهم خالد وهو دارع

وقتل من أصحاب عثمان زياد بن نعيم الفهري ، والمغيرة بن الأخنس ، ونيار بن عبد الله الأسلمي وجماعة.

مصرع عثمان :

وانهزم بنو أميّة وآل أبي معيط وتركوا عثمان وحده ، فأجهز عليه جماعة من المسلمين في مقدّمتهم محمّد بن أبي بكر ، فقد قبض على لحيته وقال له :

أخزاك الله يا نعثل (1) .

فردّ عليه عثمان :

لست بنعثل ، ولكنّي عبد الله وأمير المؤمنين.

فقال له محمّد بعنف :

ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان ، وأخذ يعدّد بني أميّة ..

__________________

(1) نعثل : هو طويل اللحية ، وقيل : هو رجل من أهل الكتاب كان طويل اللحية ، وكان يشبه عثمان ، ولذلك سمّي به ، جاء ذلك في حاشية لطائف المعارف : 35.

٢٧٥

وتضرّع عثمان إلى محمّد قائلا له :

يا ابن أخي ، دع عنك لحيتي ، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه ..

فأجابه محمّد بعنف :

ما أريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك ..

وطعن محمّد جبينه بمشقص كان في يده ، ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اذنه حتى دخلت في حلقه ، ثمّ علاه بالسيف ، ووثب عليه عمرو بن الحمق الخزاعي ، فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات ، وكسر عمير بن ضابئ ضلعين من أضلاعه ، وحاولوا حزّ رأسه ، فألقت زوجتاه نائلة وابنة شبيبة بن ربيعة بأنفسهما عليه ، فأمر ابن عديس بتركه لهما (1) .

وألقيت جثّة عثمان ملطّخة بدمه على الأرض لم يفزع إليه أحد من الأمويّين وآل أبي معيط لمواراته في مقرّه الأخير ، وقد بالغ الثوّار في إهانته ، فقد ألقوا جثمانه على المزيلة ثلاثة أيام (2) مبالغة في توهينه وتحقيره ، وكلّم بعض خواصه الإمام 7 أن يتوسّط إلى الثوّار فيواروه ، فكلّمهم الإمام فأذنوا له في دفنه ، ووصف جولد تسهير كيفيّة دفنه بقوله :

وبسط جثمانه دون أن يغسّل على باب ، فكان رأسه يقرع قرعا ، يقابل بخطوات سريعة من حامليه ، وهم يسرعون في ظلام الليل ، والأحجار ترشفه ، واللعنات تتبعه ، ودفنوه في حش كوكب (3) ، ولم يسمح الأنصار بمواراته في مقابر المسلمين (4) ، وأمّا غلاماه اللذان قتلا معه فقد سحبوهما وألقوهما على التلّة

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 390.

(2) تمام المتون ـ الصفدي : 79.

(3) حش كوكب : اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه.

(4) العقيدة والشريعة في الإسلام : 45.

٢٧٦

فأكلتهما الكلاب (1) .

وبذلك فقد انتهت حياة عثمان بهذه الصورة المروّعة ، وقد امتحن بها المسلمون كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان ، وأخلدت لهم الفتن والمصاعب ، وألقتهم في شرّ عظيم ، فقد ربح الأمويّون بقتله ، فقد طالبوا بدمه ، كما تذرّعت بالمطالبة بدمه القوى النفعية أمثال : طلحة والزبير وعائشة ، فقد رفعوه شعارا لهم ، وهم الذين أجهزوا عليه.

وعلى أي حال ، فقد مني العالم الإسلامي بحكومة عثمان وبمصرعه بمصاعب وفتن ، وقد تحدّثنا عنها في كتابنا ( حياة الإمام الحسين 7 ) فلا نرى حاجة لإعادتها ، وقد اقتبسنا معظم هذه الفصول منه ، وذلك لأنّها ترتبط ببحثنا ارتباطا موضوعيا لا غنى عنها ، فإنّها وإن ذكرت في كتاب ( حياة الإمام الحسن 7 ) وكتاب ( الإمام الحسين 7 ) فهي على سبيل الاستطراد لأنّها تمثّل الحياة الاجتماعية والسياسية في عصر الإمامين 8 ، أمّا ذكرها هنا فإنّها من صميم الموضوع.

__________________

(1) تاريخ الطبري 3 : 241. البداية والنهاية 7 : 214.

٢٧٧

٢٧٨

المحتويات

مع النبيّ 9

في جهاده وغزواته 9

واقعة بدر : 12

استنجاد أبي سفيان بقريش : 12

رؤيا عاتكة : 12

نصيحة عتبة بن ربيعة : 13

سقاية الإمام للجيش : 14

دعاء النبيّ للأنصار : 15

دعاء النبيّ على قريش : 15

النبي مع أصحابه : 15

المعركة : 16

بسالة الإمام : 16

أسماء من قتلهم الإمام : 17

وقوف النبيّ على قتلى بدر : 19

الأسرى من قريش : 20

حزن القرشيّين على قتلاهم : 20

انتصار الإسلام : 21

واقعة أحد : 22

الحرب : 23

هزيمة المسلمين : 24

مصرع الشهيد حمزة : 25

٢٧٩

مصرع الشهيد مصعب : 26

حماية الإمام للنبيّ : 26

تشفّي هند : 27

تشفّي أبي سفيان : 28

حزن النبيّ : 28

ملاحقة النبيّ للقرشيّين : 30

سرور القرشيّين : 30

واقعة الخندق : 30

دور اليهود في المعركة : 31

النبيّ مع نعيم : 32

حفر الخندق : 33

مبارزة الإمام لعمرو : 34

فتح خيبر : 38

مبارزة الإمام لمرحب : 40

غزوة بني قريظة : 41

نصيحة كعب لبني قريظة : 42

نزولهم على حكم الرسول : 43

تحكيم سعد : 43

غزوة بني النضير : 44

غزوة وادي القرى : 45

الإمام وفتح اليمن : 45

دعاء الإمام : 45

إسلام همدان : 46

فتح مكّة : 47

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460