مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة17%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234207 / تحميل: 8786
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الجهة الثامنة: حول العلم الحادث

وهي مشتملة على ذكر ما تتضمّنه جملة من الآيات العلم الحادث له تعالى، وإليك نقلها بلا إيفائها:

1 - ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) (1) .

2 - ( لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ ) (2).

3 - ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) (3).

4 - ( لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا ) (4).

5 - ( إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ... ) (5).

6 - ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) (6).

7 - ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (7).

فهذه الآيات الشريفة وغيرها تدلّ على إثبات العلم الحادث له تعالى، وقد مرّ أنّ علمه بالأشياء أزلاً كعلمه بها بعدها، فيمكن أن تُحمل على العلم الشهودي، على ما قال به جمع كثير في سمعه وبصره كما يأتي، ونحن وإن لا نوافقهم في ذلك في هاتين الصفتين؛ لجهة غير جارية هي في المقام، لكنّا نقول هنا: إنّ له علمينِ، وهما: العلم غير الشهودي الذي هو عين ذاته على ما تقدّم، والعلم الشهودي الحادث بعد وجود المعلوم خارجاً، أو أن تُحمل على المشاكلة، وجرى الكلام مع المخاطبين على ما هو مقتضى أحوالهم وطبائعهم، من تحصّل علمهم بالشيء بعد وجوده.

هذا، ولكن في النفس من هذه الآيات شيء، ولا أذكر عاجلاً مَن تعرّض لهذه المشكلة تفصيلاً. نسأل الله التوفيق من فضله.

____________________

(1) آل عمران 3 / 141.

(2) المائدة 5 / 94.

(3) الحديد 57 / 26.

(4) الجن 72 / 28.

(5) سبأ 34 / 21.

(6) الكهف 18 / 12.

(7) الملك 67 / 2.

١٨١

الفصل الثالث

في سمعه وبصره تعالى

المورد الأَوّل: في أصل ثبوت سمعه وبصره شرعاً وعقلاً

المورد الثاني: في معنى سمعه وبصره

المورد الثالث: في تخصيص السمع والبصر بالذكر شرعاً

المورد الرابع: في الروايات الواردة حولهما

١٨٢

الفصل الثالث

في سمعه وبصره تعالى

والكلام فيه في موارد:

المورد الأَوّل: في أصل ثبوت سمعه وبصره شرعاً وعقلاً.

أمّا شرعاً فاتّصافه تعالى بالسمع والبصر والإدراك قطعي، بل ضروري والكتاب والسُنة به مشحونان، وأمّا عقلاً فلوجوه:

الأَوّل: ما ذكره المحقّق الطوسي قدّس سره (1) بقوله: ويدلّ عليه إحاطته بما يصحّ أن يسمع ويبصر؛ فلهذا المعنى وللإذن الشرعي بإطلاق هاتين الصفتين عليه يوصف بهما.

الثاني: ما ذكر العلاّمة في الباب الحادي عشر (2) بقوله: لأنّه حيّ فيصحّ أن يدرك، وقد ورد القرآن بثبوته له فيجب إثباته له.

الثالث: ما ذكره بعض الأشاعرة (3) ، بأنّه تعالى حيّ وكلّ حي يصحّ اتّصافه بالسمع والبصر، ومَن صحّ اتّصافه بصفة اتّصف بها أو بضدّها، وضدّ السمع والبصر هو الصمم والعمى وأنّهما من صفات النقص، فامتنع اتّصافه تعالى بهما، فوجب اتّصافه بالسمع والبصر.

الرابع: ما استدلّ به بعضهم - كما يظهر من الشوارق (4) - من أنّه حيّ وكلّ حيّ يصح أن يسمع ويبصر، وما أمكن في حقّ الواجب تعالى واجب له.

أقول: إن كان المراد بهما هو العلم بالمسموعات والمبصرات فالمقام داخل في المسألة المتقدّمة، فيتمّ الوجه الأَوّل والرابع، ولكن لابدّ أن يقال في الوجه الرابع: إنّ اتّصاف الواجب بهما ممكن، فهما ثابتان بلا توسيط الحياة، فإنّها عندهم بمعنى اتّصافه بالعلم والقدرة، ومفاد التقرير يكون هكذا: المتّصف بالعلم والقدرة يمكنه العلم، وهو كما ترى!

وإن كان شيئاً آخر فلا؛ إذ ليس حياته كحياة الممكن، حتى أمكن في حقّه ما أمكن في حقّنا،

____________________

(1) شرح قواعد العقائد / 48.

(2) شرح الباب الحادي عشر / 18.

(3) شرح المواقف 3 / 72.

(4) الشوارق 2 / 263.

١٨٣

فلا تكفي قاعدة الملازمة ولا إحاطته بما يصحّ أن يبصر ويسمع، فإنّ علمه به غير سمعه وبصره به.

وأمّا الوجه الثاني فهو راجع إلى الرابع؛ لأنّ ما أمكن في حقّه واجب بلا حاجة إلى توسيط النقل.

وأمّا الوجه الثالث فهو ضعيف جداً؛ لأنّ الحياة المأخوذة في الصغرى غير المأخوذة في الكبرى، وإلاّ فهي مصادرة، والصمم والعمى من قبيل عدم المَلَكة بالنسبة إلى السمع والبصر، لا أنّهما ضدان لهما، فيمكن خلو الواجب عن كليهما. وبالجملة: إن قلنا بتضمّن هاتين الصفتين ما يزيد على العلم الثابت له بالأدلة المتقدمة، فلا سبيل للعقل إلى إثباتهما، وإلاّ فيجري فيه الأدلّة المذكورة، ولا يحتاج إلى ذكر هذه الوجوه أو تكرارها.

هذا ومن الناس مَن نفى هاتين الصفتين اللتينِ دلّ عليهما الكتاب والسُنة، وتمسّكوا له بوجهين:

الأَوّل: إنّهما تأثر الحاسة عن المسموع والمبصَر أو مشروطان به كسائر الإحساسات، وهو محال في حق الله تعالى.

ورُدّ بمنع كونهما كذلك في الواجب؛ لأنّ صفاته مخالفة بالحقيقة لصفاتنا.

الثاني: إثبات السمع والبصر في الأزل ولا مسموع ولا مبصَر فيه خروج عن المعقول.

وأُجيب عنه، بأنّ انتفاء التعلّق أزلاً لا يستلزم انتفاء الصفة، كما في سمعنا وبصرنا، فإنّ خلوّهما عن الإدراك في وقت لا يوجب انتفاءهما أصلاً في ذلك الوقت، وفي الجوابين كلام لعلّه سينجلي فيما بعد.

المورد الثاني: في تفسير سمعه وبصره

وفيه أقوال:

الأَوّل: إنّهما عبارة عن العلم بالمسموعات والمبصرات، فهما فردان لمطلق العلم، قال به الفلاسفة كما قيل، أو الفلاسفة النافون لعلمه بالجزئيات على وجه جزئي كما في الأسفار، والكعبي أبو الحسين البصري.

أقول: وهذا هو مختار المفيد في كتابه أوائل المقالات (1) ، والعلاّمة في شرح قواعد العقائد، وبعض آخر من أصحابنا، قال شيخنا المفيد - بعدما فسّر السمع والبصر والإدراك، وكونه راءٍ بالعلم خاصّة دون ما زاد عليه في المعنى -: ولست أعلم من متكلّمي الإمامية في هذا الباب

____________________

(1) أوائل المقالات / 21.

١٨٤

خلافاً، وهو مذهب البغداديين من المعتزلة وجماعة عن المرجئة ونفر من الزيدية، ويخالف فيه المشبّهة وإخوانهم من أصحاب الصفات، والبصريون من أهل الاعتزال. انتهى.

أقول: دليلهم واضح فإنّ زيادة معنى البصر والسمع على العلم، ترجع إلى الإحساس المنفي عنه تعالى، فلابدّ من إرجاعهما إلى العلم، وإليه ذهب أبو الحسن الأشعري، كما في شرح القوشجي والأسفار.

الثاني: إنّهما زائدتان على العلم كما عن جمهور الأشاعرة والمعتزلة والكرامية، فإنّه إذا علم شيء علماً جلياً ثمّ وقع عليه البصر، يوجد بين الحالتين تفرقة ضرورةً، فإنّ الحالة الثانية تشتمل على زيادة مع حصول العلم فيهما، فذلك الزائد هو الإبصار، واحتياجنا إلى الآلة إنّما هو؛ لعجزنا وقصورنا، وأمّا الواجب فيحصل له الإبصار بلا آلة، وهذا هو الذي ذهب إليه السهروردي -فأرجع علمه إلى بصره- وصاحب الأسفار ومَن تبعه، وقد بيّنه في أسفاره فلاحظ.

الثالث: إنّهما نوعان من الإدراك لا يتعلّقان إلاّ بالموجود العيني، فهما من توابع الفعل، فليكونان حادثين بعد الجود (1) . قال به طائفة (2) .

وبالجملة: البصر والسمع عندهم عبارة عن تعلّق العلم بالمسموع والمبصر الخارجيينِ.

الرابع: التوقّف كما عن المحقّق الطوسي قدّس سره في نقد المحصّل، قال: والأَولى أن يقال: لمّا ورد النقل آمنا بذلك، وعرفنا أنّهما لا يكونان إلاّ بالآلتين المعروفتين، واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما.

أقول: وكلام العلاّمة في شرح التجريد أيضاً مشعر بذلك.

أقول: القول الثاني هو الأوفق بمدلول لفظ البصير والسميع، فإنّ الإدراك ليس هو العلم المطلق، ولا العلم بالجزئيات، بل ولا العلم المتعلّق بالمحسوسات بأي طريق كان، بل هو الكشف المحسوس الذي إذا كان صادراً عنّا يسمّى إحساساً.

وهذا النحو من الإدراك أشدّ في المحسوسات من العلم الحضوري الذي تخيّله السهروردي، أَلا ترى أنّ الصور الحالة فينا معلومة لنا بالعلم الحضوري، ولو أدركناها بالإحساس كان انكشافها حينئذٍ أشدّ من علمنا الحضوري بالفعل؟ فهذا المعنى إمّا هو المعنى الحقيقي للفظة الإدراك والسمع والبصر، على تقدير عدم مداخلة العضو في معانيها، أو هو أقرب المعاني المجازية على تقدير مداخلته فيها.

غير أنّ الذي يوجب رفضه، بل وكذا رفض القول الثالث، هو ما دلّ على قِدم هذه الصفات

____________________

(1) كما نقله في البحار 4 / 73.

(2) شرح المواقف 3 / 73.

١٨٥

إن تمّت صحّة أسانيدها، وكونها من الصفات الذاتية؛ إذ لا موجود محسوس أزلاً حتى يتعلّق به هذا الإدراك، فإذن لابدّ من إرجاعه إلى العلم كما قال الأَوّلون.

وأمّا الاعتذار المتقدّم في جواب الإيراد الثاني للنافين فهو في موضع منع؛ إذ ليس حالهما حال العلم المطلق حتى لا يضرهما فقدان المتعلّق، فتلخّص أنّ الأظهر هو القول الأَوّل، والأحوط هو القول الرابع، فإنّه مقتضى التثبّت الديني.

وأمّا الروايات الواردة في المقام فلم استفد منها شيئاً يترجّح به أحد المعنيين، سوى ذكر السمع والبصر في مقابل العلم المشعر بالتعدّد، وفوق كلّ ذي علم عليم، نعم قول أمير المؤمنين عليه‌السلام - على ما في خطبته المشهورة (1) -: (أحاط بالأشياء علماً قبل كونها، فلم يزدد بكونها علماً، علمه بها قبل أن يكوّنها كعلمه بعد تكوينها) يؤيّد القول الأَوّل، بل يمكن أن يُجعل أكثر ما تقدّم من الروايات الدالة على عموم علمه مؤيّداً له. والله الهادي.

المورد الثالث: في تخصيص

السمع والبصر بالذكر شرعاً

قالوا: إنّ عدم اتّصافه تعالى بالشمّ واللمس والذوق؛ لأجل عدم وروده من الشرع، وأسماء الله توقيفية.

ولعلّ النكتة في تخصيص السمع والبصر بالذكر شرعاً دون البقية، هو ردع المكلّفين عن المعاصي، فإنّ اعتقاد عامّة الناس بهما يمنعهم من الاقتحام في الجرائر والجرائم، ونفي توهّم الجسمية في حقّه تعالى، فإنّ تلك البقية أشدّ ارتباطاً بالجسم كما لا يخفى، وإلاّ فهو تعالى كما يعلم المسموعات والمبصرات، كذلك يعلم المشمومات والمذوقات والملموسات، إلاّ أن يقال: إنّ هذا يتمّ على التفسير الأَوّل وأمّا على التفسير الثاني فلا؛ إذ المفروض أنّ المعنى الزائد المذكور على العلم غير ثابت بالعقل، بل بالنقل وهو مختص بهما، ويمكن إثباته في البقية بقاعدة الملازمة بعد إمكانه، بل وقوعه في المبصرات والمسموعات، فتدبّر جيداً.

المورد الرابع: الروايات

الواردة في السمع والبصر

إنّ ما وجدته من الروايات الواردة حول هاتين الصفتين عاجلاً هو سبع نذكر واحدة منها، وهي: ما رواه ثقة الإسلام الكليني، بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام - والسند

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 135.

١٨٦

صحيح - أنّه قال في صفة القديم: (إنّه واحد، صمد، أحدي المعنى، ليس بمعاني كثيرة مختلفة، قال: قلت: جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق، أنّه يسمع بغير الذي يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع، قال: فقال: كذبوا وألحدوا وشبّهوا، تعالى الله عن ذلك، إنّه سميع بصير، يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع، قال: قلت: يزعمون أنّه بصير على ما يعقلونه. قال: فقال: تعالى الله عن ذلك، إنّما يعقل ما كان بصفة المخلوق وليس الله كذلك) (1) .

وربّما تشعر الرواية بالقول الأَوّل. والله العالم.

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 108.

١٨٧

الفصل الرابع

إنّه تعالى حيّ

١٨٨

الفصل الرابع

إنّه تعالى حيّ

قد علم بالضرورة من الدين، وثبت بالكتاب والسُنّة، واتّفاق أهل الملل، أنّه تعالى حي، وحيث إنّ الحياة المتحقّقة في الحيوان - وهي صفة تقتضي الحس والحركة مشروطة باعتدال المزاج - غير ممكنة في حقه تعالى، اختلفوا في تفسيرها على أقوال:

1 - إنّها عبارة عن عدم استحالة كونه عالماً وقادراً. نُسب (1) إلى المتكلّمين من الإمامية والمعتزلة، وقيل (2) : إنّه مذهب الحكماء وأبي الحسين البصري، ومرجعها إذن إلى الصفات السلبية كما لا يخفى.

2 - إنّها صفة توجب صحّة العلم والقدرة، فهي إذن صفة زائدة على ذاته المتّصفة بالعلم والقدرة. نُقل هذا عن الأشاعرة وجمهور المعتزلة، أي قدمائهم القائلين بزيادة الصفات (3) .

3 - إنّها بمعنى الدرك والفعل، فكونه تعالى حياً أنّه درّاك فعّال، أي كون ذاته بحيث تكون درّاكةً وفعّالة، وإلاّ فهذا القول ظاهر الفساد، فإنّ حياته التي هي من صفاته الذاتية لا تكون نفس الفعل. وحكى هذا القول من الحكماء، المجلسي (4) وغيره.

4 - معنى كونه حيّاً هو الفعّال المدبّر اختاره الصدوق في كتابه التوحيد (5) .

أقول: الحياة والممات كالحركة والسكون، والقيام والجلوس منفية عنه تعالى بانتفاء موضوعها، أعني الجسم والجسماني، فلو كنّا نحن وعقولنا لمّا جوّزنا اتّصافه بالحياة أصلاً، ولكن لمّا ورد النقل به جوّزناه تعبّداً.

وعليه فجميع هذه الأقوال بلا شاهد ودليل عليها، بل هي - باستثناء الأَوّل - ثابتة العدم، فإنّ القول الثاني يبطل بالمذهب الصحيح من عينية الصفات، والثالث والرابع مستلزمان قِدم

____________________

(1) بحار الأنوار 4 / 69.

(2) المواقف 3 / 66 وغيرها.

(3) المصدر نفسه.

(4) بحار الأنوار 4 / 68.

(5) بحار الأنوار 4 / 192.

١٨٩

العالم فيبطلان ببطلان لازمها، والعجب من الصدوق فإنّه مع اعتقاده بحدوث العالم فسّر حياته تعالى - وهي من صفاته الذاتية - بما يلزم قِدم العالم، وبالجملة لابدّ أن يقول إمّا بقِدم العالم أو بحدوث الحياة، وكلا الأمرين باطل عنده.

وأمّا القول الأَوّل، فاتّصافه بالعلم والقدرة إنّما يُستكشف عن وجوده تعالى، وأنّه موجود غير معدوم لا عن حياته، فإنّها لا تكون شرطاً للعلم والقدرة مطلقاً كما لا يخفى.

فالإنصاف أنّه لم يتّضح لنا معنى الحياة الواردة في حقّه تعالى شرعاً، نعم لو قلنا بأنّ معنى الحياة في الحيوان يتمّ بإدراك وفعل، كما ادّعاه صاحب الأسفار لكان القول الثالث حقاً، وحينئذٍ يمكن إثباته عقلاً بقاعدة الملازمة المتقدّمة، لكن على نحو لا يستلزم قِدم العالم، إلاّ أنّه غير ظاهر.

ويمكن أن يقال: إنّ هذه الصفة حيث وردت في الكتاب والسنة الملقيَين على عامة الناس حسب عقولهم، أُريد بها ما هو متفاهم عندهم، فلا يكون معناها بمجمل، فيكون حياته بمعنى أنّه يتمكّن من الفعل، وأنّه يمكن أن يصدر منه آثاره اختياراً، وليس كالميت حيث لا أثر له، أو بمعنى أنّه موجود غير معدوم والله العالم.

وأعلم أنّ الحياة على أقسام بحياة الإنسان، وحياة الحيوان - ولعلّها على درجات - حياة الملائكة، وحياة الجن، حياة الموجودات الحية في المجرّات والسماوات، ولعلّها على أقسام متباينة، وهناك أقسام أُخر للحياة، كحياة الخلايا، وحياة أعضاء البدن، وحياة الشعر وغيرها، كما ذكرها الطب الجديد ولقلّتها في كتابنا (الفقه ومسائل طبيّة) الذي ألّفناه بعد أكثر من أربعين عاماً أو أكثر من تأليف هذا الكتاب، ونحن لا نعرف حقيقة حياة هذه المخلوقات، بل لا نعلم حقيقة حياتنا إلاّ بمقدار أنّها حصلت من تعلّق الروح بالبدن تعلّقاً تدبيرياً، وأمّا حقيقة حياتنا فهي مجهولة لنا، إلاّ بآثارها من التغذية، والنمو، والحسّ والحركة، والإدراك، والتكاثر ونحو ذلك، كما بُيّنت في علم الإحياء الحديث (البايولوجيا)، فكيف نحيط بحياته تعالى، حتى نحرّفها في الكلام والفلسفة! والأقوى ردّ جميع الأقوال المذكورة في الكتاب وغيره، والتوقّف في معرفتها، وإنّ المذكورات من آثارها الحياة لا منها ولا من لوازمها (1) .

إلحاق وإتمام

قد برهنّا - إلى الآن - على وجوده، ووجوبه، وقدرته، واختياره، وبصره وسمعه، وحياته، ولكن يرجع اختياره إلى قدرته، وأمّا سمعه وبصره فقد مرّ أنّهما من أفراد علمه أو من توابعه،

____________________

(1) ذكرنا هذه الزيادة عند طبع الكتاب مرّة ثالثة في سنة 1385 هـ. ق = 1427 هـ. ق.

١٩٠

على تردّد في ذلك، وأمّا الوجوب فليس إلاّ الوجود الغير المسبوق بالعدم، فأُصول صفاته ثلاثة: بعد وجوده: الحياة والعلم والقدرة، والبقية راجعة إليها.

فإلى الوجود يرجع الأزلية، والأبدية، السرمدية، والبقاء، والحقّية، والسالمية، والدوام، وأمثالها.

وإلى العلم يرجع رؤيته، (1) وإحاطته، وحكمته على أحد الوجهين، وعينه، وأمثالها.

وإلى القدرة يرجع قوته، وبطشه، وشدّته، ويده، وقهره، ونظائرها.

وستقف إن شاء الله على أنّ هذا التعدّد الثلاثي إنّما يجول في ميدان المفهوم وساحة الاعتبار فقط، وإلاّ ففي واقع المصداق ليس إلاّ الذات الأحدية البسيطة، فكلّه الوجود والقدرة والعلم، وعلمه قدرته ووجوده، وقدرته علمه ووجوده، ووجوده علمه وقدرته ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (2) .

____________________

(1) كما قال تعالى: ( وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) .

(2) طه 20 / 111.

١٩١

الموقف الثاني

في صفاته المدحيّة

١٩٢

الموقف الثاني

في صفاته المدحيّة

قد مضى أنّ صفاته الثبوتية إمّا ذاتية قائمة بذاته تعالى قياماً ذاتياً، وإمّا فعلية قائم بها قياماً صدورياً.

وهنا قسم آخر لم يلتفت إليه الباحثون، أو أهملوه لعدم الخلاف فيه، وسمّيناه نحن بـ (الصفات المدحيّة) وهي قائمة به تعالى قياماً وقوعياً (1) مثل: محمود، مقصود، مطلوب، وكيل - بمعنى مَن يُعتمد عليه - مرجع، ظاهر - أي معلوم للممكن بآثاره - باطن أي مجهول بحقيقته، إلى غير ذلك.

فإنّ أمثال هذه النعوت ليست بذاتية ولا بفعلية، صدرت مباديها عنه تعالى وهو ظاهر.

____________________

(1) وسنذكر أقسام القيام في مبحث تكلّمه من الموقف الثالث إن شاء الله.

١٩٣

الموقف الثالث

في صفاته الفعلية

الفريدة الأُولى: في إرادته تعالى

الفريدة الثانية: في أسباب فعله تعالى

الفريدة الثالثة: في حكمته

الفريدة الرابعة: في تكلّمه

الفريدة الخامسة: في صدقه تعالى

الفريدة السادسة: في رحمته

الفريدة السابعة: في أنّه جبّار وقهّار

الفريدة الثامنة: في رضاه وسخطه

الفريدة التاسعة: في جملة من صفاته الفعلية الأُخرى

خاتمة: في حدوث أفعاله (حدوث العالَم)

١٩٤

الموقف الثالث

في صفاته الفعلية

قالت اليهود: ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (1) فهو كلّ يوم في شأن جديد، وإحداث بديع لم يكن، يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، ولا رادع عن فعله، ولا مانع من قضائه، فله الإحياء والإمحاء، والرحم والغفران، والغضب والجود، والرزق والتدبير، والكفالة والهداية، والفصل والوصل، والإغناء والحفظ، وغير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يُحصى، فسبحان الذي يفعل ما يشاء، ولا يفعل ما يشاء أحد غيره (2) .

وقد مضى أنّ انحصار الصفات في الثمانية بلا أساس، غير أنّ التعرّض والبحث يخصّ بعضها دون الجميع؛ إمّا لأجل الأهمية، أو لوقوع الخلاف فيه.

ثمّ إنّ الفلاسفة اصطلحوا على تخصيص لفظ (الإبداع)، بإفادة موجود غير مسبوق بالمادة والمدّة كالعقول، وقالوا: إنّه أفضل أنحاء الإيجاد.

والتكوين، بإفادة شيء مسبوق بالمادةّ كالماديات.

والإحداث بإفادة شيء مسبوق بالمدّة كالحوادث اليومية.

والاختراع بإيجاد شيء بلا مِثال له في الخارج.

وأمّا الفعل والخلق والصنع فهي بمعنىً واحد أعم.

ويطلقون على جميع الموجودات الممكنة ألفاظ المخلوق والمصنوع والمفعول. كما ذكره المحقّق اللاهيجي (3) .

ولكن في شرح المنظومة (4) : المفعول إمّا أن يكون مسبوقاً بالمادّة والمدّة وهو الكائن، وإمّا أن لا يكون مسبوقاً بشيء منهما وهو المبتدَع، وإمّا أن يكون بالمادّة وهو المخترَع، وإمّا عكسه فاحتمال في بادي الرأي غير متحقّق في الخارج، ومثّل للثالث بالفَلك والفلكيات، فإنّها مسبوقة بالمادة دون الزمان المتأخّر عن حركة الفَلك المتأخّرة عن نفسه.

أقول: لا مشاحّة في الاصطلاح، غير أنّ الصحيح مسبوقية نوع فعله بالعدم، كما سيأتي بحثه إن شاء الله.

____________________

(1) المائدة 5 / 64.

(2) مأخوذ من حديث معتبر سنداً.

(3) گوهر مراد / 200.

(4) شرح المنظومة / 181.

١٩٥

وكيفما كان، فلنرجع إلى بيان صفاته الفعلية المناسبة للذكر؛ مزيداً للمعرفة بشؤونه تعالى، وتوضيحاً لمداليلها، والله وليّ السداد والتأييد.

وتمام الكلام في ضمن فرائد:

١٩٦

الفريدة الأُولى

في إرادته تعالى

الناحية الأُولى: الإرادة بمعنى القصد

الناحية الثانية: في إثبات إرادته تعالى

الناحية الثالثة: جريان التعبّد في الإرادة

الناحية الرابعة: في بيان الأقوال في الإرادة وتحقيق الحق

١٩٧

الفريدة الأُولى

في إرادته تعالى

وهي من مهمّات هذا الفن، فإنّ اختياره تعالى وحدوث العالَم مرتبطان بها، والكلام فيها من نواحٍ:

الناحية الأُولى: الإرادة بمعنى القصد

الأظهر أنّ الإرادة بمعنى القص كما هو المتبادر منها، والتبادر علامة الحقيقة، وبالجملة، هي من صفات النفس فاستعمالها في الطلب وإن كان جائزاً بل واقعاً، لكنّه مجازي، فإنّ الطلب مبرِز للإرادة لا نفسها، ولا يبعد أنّها باقية على معناها اللغوي بلا اصطلاح جديد، فإنّ التعاريف المذكورة في أَلسنة القوم شرح لفظي تبيّن مفهومها.

وبالجملة: القصد من الصفات الوجدانية، وهي معلومة لكلّ أحد فلا حاجة إلى تعريفه، غير أنّ الباحثين اختلفوا في معنى الإرادة اختلافاً واسعاً، وقد تعرّض لنقله الحكيم الشيرازي، في مبحث قدرة الله وإرادته من كتاب الأسفار مفصّلاً، والأحسن ما ذكرنا، وسيأتي ما يرتبط بالمقام في بعض مباحث العدل إن شاء الله.

وهنا اختلاف آخر، وهو اتّحاد الإرادة والطلب مفهوماً ومصداقاً وعدمه، فعن الأشعريين اختيار الثاني، وعن العدلية اختيار الأَوّل، والمسألة محرّرة في أًُصول الفقه من كتب أصحابنا على وجه مفصّل.

هذا كلّه في إرادة الإنسان، وأمّا إرادة الواجب فيمتنع تفسيرها بالقصد المذكور؛ فإنّها من الصفات النفسانية الموقوفة على الجسم والجسمانيات، وأيضاً القصد مسبوق بالتصوّر والتصديق، الملازمين للجهل السابق، ولحلول الحادث فيه تعالى، ولاستكماله، فتأمّل وكل ذلك عليه من المحالات، وأيضاً القصد لا يبقى بعد حصول المقصود فيلزم التغيّر فيه تعالى؛ ولذا اختلف أهل النظر في معناها على أقوال يأتي ذكرها.

١٩٨

الناحية الثانية: في إثبات إرادته تعالى

لا ريب في إثبات إرادته تعالى، فإنّ القرآن والسنّة تدلاّن عليه دلالةً قطعية، وقد نقلوا اتّفاق أهل الملل والنحل عليه، بل وإطباق العقلاء أيضاً، وقالوا: إنّه من الضروريات الدينية.

واستدلّوا عليه مضافاً إلى ذلك من العقل، بأنّ الله تعالى أوجد بعض الممكنات دون بعض، وفي زمان دون زمان، فلابدّ لهذا التخصيص من مخصّص وهو الإرادة؛ إذ وجوده وقدرته وعلمه وحياته متساوية إلى وجود الأشياء وعدمها، إلى تمام الأزمان.

وهذا الدليل تامّ حتى عند مَن يرى جواز الترجيح بلا مرجّح، فإنّه لا ينكر الإرادة بل ما يدعو إلى العمل من اعتقاد نفع أو غيره؛ ولذا يصرّح بأنّ الهارب من السبع يرجّح أحد الطريقين المتساويين بإرادته بلا مرجّح آخر، فما ذكره المحقّق الطوسي - من عدم جريانه على القول الأخير - غير تامّ (1) ، لكن مَن يفسّر إرادته تعالى بنفس الإيجاد والإحداث، فلا يرى لهذا الاستدلال صحّةً؛ ولذا صرّح شيخنا المفيد بأنّ إثبات الإرادة لله تعالى من جهة النقل دون العقل (2) .

الناحية الثالثة: جريان التعبّد في الإرادة

ذكرنا في المباحث السابقة المعيار في جريان التعبّد الشرعي وعدمه، في الأُصول الاعتقادية وفروعها، وعليه لا شكّ في جريان التعبّد في هذه المسألة، فإذا ثبت من الشرع ما يُفسّر به مفهوم إرادته تعالى، ولم يكن من العقل على خلافه محذور، يتّبع لا محالة.

الناحية الرابعة: في بيان الأقوال في الإرادة

فعن الحكماء كما في جملة من كتبهم: أنّها العلم بالنظام الأصلح.

وعن متكلّمي الإمامية (3) ، أو جمهورهم، (4) أو مشهورهم، (5) وجماعة من رؤساء المعتزلة (6) : أنّها العلم بما في الفعل من المصلحة، ويسمّونه بالداعي.

وعن الأشاعرة وجمهور معتزلة البصرة: أنّها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة، وهي توجب

____________________

(1) شرح قواعد العقائد / 41.

(2) أوائل المقالات / 19.

(3) مرآة العقول / 76.

(4) حاشية الآشتياني على رسائل الشيخ / 35.

(5) بحار الأنوار 4 / 136.

(6) شرح المواقف 3 / 67.

١٩٩

أحد المقدورين لذاتها.

وعن الكعبي: أنّها في فعله علمه بما في الفعل من المصلحة.

وعن البلخي: أنّها فيه إيجاده، وأمّا في أفعال غيره فقالا: إنّها أمره بها.

وعن ضرار: كونه تعالى مريداً، نفس ذاته.

عن الكرامية: أنّها حادثة قائمة به تعالى.

وعن الجبائية: أنّها حادثة لا في محلّ.

وعن الحسين النجّار معنى مريديته كونه غير مغلوب ولا مكره.

فهذه أقوال تسعة، لكن الثاني يرجع إلى الأَوّل؛ إذ لا فرق بينهما من جهة أنّ التأثير من العلم بالأصلح، وإنّا يفترقان في أنّ الأصلح المذكور هل هو علّة غائية لفعله تعالى كما يقوله المتكلّمون، أو لا بل العلة الغائيّة هو نفس ذاته المقدّسة دون سواها؟ فإنّ العالي لا يُقصد لأجل السافل كما يتوهّمه الفلاسفة. وبكلمة واضحة: الاختلاف بينهما في العلّة الغائية دون العلّة الفاعلية، التي هي المبحوث عنها في المقام، فما به التخصيص وعنه التأثير، هو علمه تعالى بالأصلح على كلا القولين، فافهم جيّداً.

وأمّا القول الثالث فهو مبني على أصل فاسد وهو زيادة صفاته تعالى وقِدمها، فإذا هدّمناه - كما يأتي في المقصد الرابع إن شاء الله - ينهدم القول المذكور، نعم يحتمل أن تكون الإرادة بلا رجوعها إلى العلم وغيره، من الصفات الذاتية على نحو العينية، وهذا يحتاج إلى جواب آخر وسيأتي بحثه. وأمّا ما نُقل عن ضرار فهو مجمل إلاّ أن يرجع إلى القول الأَوّل، ومن رواية سليمان المروزي المنقولة في توحيد الصدوق، يظهر أنّ له قولاً آخر نُسب إليه.

وأمّا القول الرابع فهو أيضاً راجع إلى الثاني، وتفسيره إرادة الله المتعلّقة بأفعالنا بالأمر؛ إمّا من جهة إبطال شبهة الجبر، وإمّا للإشارة إلى تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية، وبه يظهر حال تفصيل القول الخامس أيضاً، فإنّه قول بحدوث إرادته تعالى، وإنّه نفس الإيجاد، وحيث إنّ إيجاده أفعال غيره غير معقول، وإلاّ كانت الأفعال أفعاله لا أفعال غيره، فسّرها بالأمر بها.

وأمّا القول السابع فأُورد عليه أنّه مستلزم لكونه تعالى محلاًّ للحوادث.

وأمّا الثامن فردّ باستحالة صفةٍ لا في محلّ فينتقص به حدّ الجوهر والعرض.

هذا وأوردوا على القولين معاً لزوم التسلسل في الإرادات، فإنّ الإرادة حادثة، وكلّ حادث لابدّ له من إرادة، وهذا ظاهر.

وأمّا القول الأخير فهو تعريف للإرادة بلوازمها لا بنفسها.

فالمتحصّل أنّ ما يصحّ تفسير إرادته تعالى به أُمور ثلاثة:

٢٠٠

يعلم أنّك فرع الشجرة الملعونة، وإذا قلت: إنّه جدّي. فلماذا قتلت عترته وسبطه، وسبيت أهله؟!

قال بعض المؤرِّخين: لقد أثّر خطاب الإمام تأثيراً بالغاً في أوساط المجتمع الشامي؛ فقد جعل بعضهم ينظر إلى بعض ويُسِرُّ بعضهم إلى بعض بما آلوا إليه من الخيبة والخسران، حتّى تغيَّرت أحوالهم مع يزيد(١) ، وأخذوا ينظرون إليه نظرة احتقار وازدراء.

الإمامعليه‌السلام مع مكحول صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ذكر الطبرسي - بعد نقله خُطبة الإمام زين العابدينعليه‌السلام - قال: ( فنزل - أي نزل عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن المنبر - فأخذ ناحية باب المسجد، فلقيه مكحول(٢) صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له: كيف أمسيت يا بن رسول الله؟ قال:

____________________

(١) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: ١٢٨ - على ما في ( حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ) ٣/ ٣٨٨.

(٢) هو - على ما ذكره المزّي -: مكحول الشامي أبو عبد الله، ويُقال: أبو أيّوب، ويُقال: أبو مسلم، والمحفوظ أبو عبد الله الدمشقي الفقيه، وكانت داره بدمشق عند طرف سوق الأحد... وقال محمد بن المنذر الهري: إنّ أصله من هرات... وذكره محمّد بن سعد في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام... وقال: محمّد بن عبد الله بن عمّار الموصلي: مكحول إمام أهل الشام... وعن الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيّب بالمدينة، وعامر الشعبي بالكوفة، والحسن بن أبي الحسن بالبصرة، ومكحول بالشام. (تهذيب الكمال ٢٨/ ٤٦٤).

وقال المامقاني: مكحول غير مذكور في كُتب رجالنا، وإنّما عدّه أبو موسى من الصحابة، واصفاً له بمولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج أنّه كان من المبغضين لأمير المؤمنينعليه‌السلام . (تنقيح المقال ٣/ ٢٤٦ رقم ١٢١٠٨).

وقال المحدّث القمّي: مكحول من علماء التابعين بالشام... وعدّه ابن أبي الحديد من المبغضين لعلي... وفي كتاب الاختصاص، عن سعيد بن عبد العزيز أنّه قال: كان الغالب على مكحول عداوة علي بن أبي طالب، وكان إذا ذكر عليّاً لا يُسمّيه ويقول: أبو زينب. (مُستدرك سفينة البحار ٩/ ٧٢).

٢٠١

( أمسينا بينكم مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يُذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم ) (١) .

زين العابدينعليه‌السلام مع منهال (٢) :

روى المحدّث الجليل عليّ بن إبراهيم القمّي، بإسناده عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:( لقي المنهال بن عمر [ عليّ (٣) ] بن الحسين بن عليّ عليهم‌السلام ، فقال له: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟

قال: ويحك! أما آن لك أن تعلم كيف أصحبت؟! أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يُذبِّحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا (٤) ،وأصبح خير البريّة بعد محمّد يُلعَن على المنابر، وأصبح عدوّنا يُعطى المال والشرف، وأصبح مَن يُحبّنا محقوراً منقوصاً حقّه، وكذلك لم يزل المؤمنون، وأصبحت العَجم تعرف للعرب حقّها بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحت

____________________

(١) الاحتجاج ٢/ ١٣٤ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٢.

(٢) هو المنهال بن عمرو الأسدي، عدّه الشيخ بهذا العنوان تارة في أصحاب الحسينعليه‌السلام ، وعدّه في أصحاب الصادقعليه‌السلام أيضاً قائلاً: المنهال بن عمرو الأسدي مولاهم كوفي، روى عن عليّ بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد اللهعليهم‌السلام ، وعدّه البرقي في أصحاب عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، روى عن الأصبغ، وروى عنه علي بن عبّاس... كذا في مُعجم رجال الحديث ٢٠/ ١٠ رقم ١٢٧٢٥.

(٣) سقط في النسخة المطبوعة، وذكره المجلسي عنه عن الإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

(٤) إشارة إلى الآية الشريفة:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (القصص: ٤).

٢٠٢

قريش تفتخر على العرب بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقّها بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحنا أهل البيت لا يُعرف لنا حقّ، فكهذا أصبحنا يا منهال ) )(١) .

وقال ابن أعثم الكوفي: وخرج عليّ بن الحسين ذات يوم، فجعل يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو الطائي، فقال له: كيف أمسيت يا بن رسول الله؟

قال:( أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون، يُذبِّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، يا منهال، أمست العرب تفتخر على العَجم بأنّ محمّداً عربيٌّ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منهم، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون، مقهورون منقتلون، مثبورون مطرودون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال ) (٢) .

ذكر هذه المحادثة عدّة من أرباب الأخبار والسير بتفاوت يسير، منهم المحدّث الجليل فرات الكوفي(٣) ، وأبو جعفر الكوفي(٤) ، والخوارزمي(٥) ، وابن نما(٦) ، وابن شهر آشوب(٧) ، وابن طاووس(٨) ، وابن عساكر(٩)

____________________

(١) تفسير القمّي ٢/ ١٣٤ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٨٤.

(٢) الفتوح ٢/ ١٨٧.

(٣) تفسير فرات الكوفي: ١٤٩، ح١٨٧.

(٤) المناقب: ١٣٨.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧١.

(٦) مُثير الأحزان: ١٠٥.

(٧) المناقب ٤/ ١٦٩.

(٨) الملهوف: ٢٢٢.

(٩) مختصر تاريخ دمشق ١٧/ ٢٤٤.

٢٠٣

مُلاحظة:

ذكر ابن شهر آشوب ما جرى بين الإمام السجّادعليه‌السلام وكلام السائل، على نحو ما أورده فرات الكوفي في تفسيره، إلاّ أنّه قال في بدايته: ( فقام إليه رجل من شيعته، يُقال له: المنهال بن عمرو الطائي. وفي رواية: مكحول صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(١) .

ولكنّ الظاهر تكرّر الواقعة والمحادثة لا وحدتها، خاصّة وأنّ المروي كون مُحادثة مكحول عند ناحية المسجد، ومكالمة منهال في سوق دمشق، وليس بغريب أن يتكرّر ويتقارب جواب في سؤال واحد.

وكيف كان، فالإمام يتأوّه ويسترجع على ما رأى بأُمّ عينيه من المصائب والمآسي، التي لم يتحمّلها أحدٌ من الناس.

قال ابن نما: ولله درّ مهيار(٢) بقوله في العترة الطاهرة:

يُعظِّمون له أعواد منبره

وتحت أرجلهم أولاده وضعوا

بأيّ حُكم بَنُوه يتبعونكم

وفخركم أنّكم صحبٌ له تبع(٣)

مع الرأي العام المضلَّل... مرّة أُخرى!

لقد اهتمّ الإمامعليه‌السلام بمسألة تنوير الأفكار وكشف الحقائق أكثر من أيّ شيء،

____________________

(١) الفتوح ٢/ ١٨٧.

(٢) مهيار بن مرزويه، أبو الحسن أو أبو الحسين الديلمي، شاعر كبير، في معانيه ابتكار، وفي أسلوبه قوّة، قال الحرّ العاملي: جمع مهيار بين فصاحة العرب ومعاني العَجم، وقال الزبيدي: شاعر زمانه. فارسي الأصل، من أهل بغداد، أسلم على يد الشريف الرضيّ، وهو شيخه وعليه تخرّج في الشعر والأدب... توفّي في بغداد سنة ٤٢٨هـ (الأعلام ٧/ ٣١٧، وذَكر من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد ١٣/ ٢٧٦؛ المنتظم ٨/ ٩٤؛ البداية والنهاية ١٢/ ٤١؛ ابن خلكان ٢/ ١٤٩).

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٦؛ الملهوف: ٢٢٣.

٢٠٤

ولقد ذكرنا شيئاً من كلامه ومُحادثاته، وخُطبه التي تُعالج هذا الجانب.

وفيما يلي نذكر بعض الأسئلة التي طُرحت على الإمام، ونرى كيف اهتمّ الإمام بالمسألة، وذلك في ضمن أجوبته.

روى فرات بن إبراهيم الكوفي، بإسناده عن يحيى بن مساور، قال: ( أتى رجل من أهل الشام إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، فقال له: أنت عليّ بن الحسين؟

قال:( نعم ).

قال: أبوك قتل المؤمنين!

فبكى عليّ بن الحسين، ثمّ مسح وجهه وقال:( ويلك! وبما قطعت على أبي أنّه قتل المؤمنين؟! ) .

قال: بقوله:( إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم على بغيهم ) .

قال:( أما تقرأ القرآن؟! ) .

قال: إنّي أقرأ.

قال:( أما سمعت قوله: ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً... وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً... وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ) (١) ؟! ) .

قال: بلى.

قال:( كان أخاهم في عشيرتهم أو في دينهم؟! ) .

قال: في عشيرتهم.

قال:( فرّجت عنّي فرّج الله عنك ) )(٢) .

وروى نحوه العيّاشي(٣) .

____________________

(١) هود: ٥٠ و٨٤ و٦١.

(٢) تفسير فرات الكوفي: ١٩٢ ح٢٤٨.

(٣) تفسير العيّاشي ٢/ ١٥٢ ح٤٣ - عنه البرهان في تفسير القرآن ٢/ ٢٢٤ بتفاوت.

٢٠٥

حبس الإمام زين العابدينعليه‌السلام !

قال المدائني: ( وموضع حبس زين العابدين هو اليوم مسجد )(١) .

أقول: لعلّه هو المسجد الواقع في جنب مقام رأس الحسينعليه‌السلام في جوار المسجد الأُموي حاليّاً.

قال ابن الحوراني: ( قال الكمال الدميري في (حياة الحيوان الكبرى): قال ابن عساكر: ومسجد عليّ بن الحسين هو زين العابدين في جامع دمشق معروف.

قلت: هو في المسجد الشرقي الشمالي، كان (رضي الله عنه) يُصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة، وهو مسجد لطيف، عليه جلالة وهيبة، يُزار ويُتبرّك به )(٢) .

وروى الشيخ الصدوق، عن فاطمة بنت عليّ (صلوات الله عليهما) قالت: ( ثمّ إنّ يزيد (لعنه الله) أمر بنساء الحسينعليه‌السلام ، فحُبسن مع عليّ بن الحسينعليهما‌السلام في محبس لا يُكنّهم من حرٍّ ولا قَرٍّ، حتّى تقشّرت وجوههم )(٣) .

مُحاولات اغتيال الإمام زين العابدينعليه‌السلام !

وزين العابدين بقيد ذلٍّ

وراموا قتله أهل الخؤونا(٤)

لقد تعرّض الإمام السجّادعليه‌السلام للقتل والاغتيال في عدّة مواطن، ولكن أبى الله ذلك؛ حفظاً لبقاء حُججه على أرضه.

فمن تلك المواطن كربلاء:

قال سبط ابن الجوزي: ( وإنّما استبقوا عليّ بن

____________________

(١) المناقب ٤/ ١٧٣.

(٢) الإشارات إلى أماكن الزيارات المسمّى زيارات الشام: ٢٠.

(٣) أمالي الصدوق: ٢٣١، مجلس ٣١، ح٢٤٣ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٠.

(٤) من أشعار لأُمّ كلثوم بنت الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قالتها حينما توجّهت إلى المدينة، اُنظُر: بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٨.

٢٠٦

الحسين لأنّه لما قُتل أبوه كان مريضاً، فمرّ به شمر فقال: اقتلوه. ثمّ جاء عمر بن سعد، فلما رآه قال: لا تتعرّضوا لهذا الغلام، ثمّ قال لشمر: ويحك! مَن للحرم؟! )(١) .

ومنها في الكوفة:

قال الطبرسي - بعد ذكر ما جرى بين الإمامعليه‌السلام وابن زياد من الكلام -: فغضب ابن زياد وقال: ( لك جرأة على جوابي! وفيك بقيّة للردّ عليَّ؟! اذهبوا واضربوا عنقه! )، فتعلّقت به زينب...(٢) .

ومنها في الشام:

وذلك في عدّة مواقف:

منها: ما ذكره الفقيه القطب الراوندي: ( وروي أنّه لما حُمل عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى يزيد لعنه الله هَمَّ بضرب عنقه )(٣) .

ومنها: ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: (كان عليّ بن الحسين مقيّداً مغلولاً، فقال يزيد لعنه الله: يا عليّ بن الحسين، الحمد لله الذي قتل أباك!

فقال عليّ بن الحسين:( لعنة الله على من قتل أبي ) ). قال: ( فغضب يزيد وأمر ضرب عنقه، فقال عليّ بن الحسين:( فإذا قتلتني، فبنات رسول الله مَن يردّهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟!... ) (٤) .

ومنها: ما رواه صاحب الاحتجاج، بعد ذكره الخطبة السجّادية ورجوع الإمام السجّادعليه‌السلام إلى المنزل، فبعده قال ليزيد:( يا يزيد، بلغني أنّك تُريد قتلي، فإن كنت لابدّ قاتلي فوجّه مع هؤلاء النسوة مَن يردّهن ) (٥) .

ومنها: ما رواه ابن شهر آشوب عن المدائني: (لما انتسب السجّاد إلى النبيّ

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٥٨.

(٢) إعلام الورى: ٢٤٧.

(٣) بحار الأنوار ٤٥/ ٢٠٠.

(٤) بحار الأنوار، ٤٥/ ١٦٨.

(٥) بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٢.

٢٠٧

قال يزيد لجلوازه: أدْخِله في هذا البستان واقتله وادفنه فيه. فدخل به إلى البستان، وجعل يحفر والسجّاد يصلّي، فلما همّ بقتله ضربته يد من الهواء، فخرّ لوجهه وشهق ودهش، فرآه خالد بن يزيد وليس لوجهه بقيّة، فانقلب إلى أبيه وقصّ عليه، فأمر بدفن الجلواز في الحفرة وإطلاقه، وموضع حبس زين العابدين هو اليوم مسجد )(١) .

ومنها: ما رواه المسعوديّ، بعد ذكر المحادثة بين الإمامعليه‌السلام ويزيد، قال: ( فشاور يزيد جلساءه في أمره، فأشاروا بقتله )(٢) .

ومنها: ما رواه ابن كثير بقوله: وروي أنّ يزيد استشار الناس في أمرهم، فقال رجل ممّن قبّحهم الله: ( يا أمير المؤمنين، لا يتّخذن من كلبِ سوءٍ جرواً، اقتُل عليّ بن الحسين؛ حتّى لا يبقى من ذرّية الحسين أحد )، فسكت يزيد...(٣) .

ومنها: ما رواه ابن عساكر، بإسناده عن حمزة بن زيد الحضرمي، عن ريّا حاضنة يزيد أنّها قالت: ( ولقد جاءه (أي يزيد) رجل من أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) فقال له: قد أمكنك الله من عدوّ الله وابن عدوّ أبيك! فاقتل هذا الغلام ينقطع هذا النسل، فإنّك لا ترى ما تُحبّ وهم أحياء، آخر مَن يُنازَع فيه - يعني عليّ بن حسين بن علي - لقد رأيت ما لقي أبوك من أبيه، وما لقيت أنت منه، وقد رأيت ما صنع مسلم بن عقيل، فاقطع أصل هذا البيت، فإنّك إن قتلت هذا الغلام انقطع نسل الحسين خاصّة، وإلاّ فالقوم ما بقي منهم أحد طالبك بهم، وهم قوم ذو مكر، والناس إليهم مائلون، وخاصّة غوغاء أهل العراق يقولون: ابن رسول الله(صلَّى الله عليه وسلَّم)، ابن عليّ وفاطمة. اقتُله فليس هو بأكرم من صاحب هذا الرأس.

____________________

(١) المناقب ٤/ ١٧٣. ولعلّ ما ذكره صاحب الاحتجاج هو بعد حصول هذه المسألة.

(٢) إثبات الوصيّة: ١٤٥.

(٣) البداية والنهاية ٨/ ١٩٨.

٢٠٨

فقال: لا قمت ولا قعدت، فإنّك ضعيف مهين، بل أدعهم، كلّما طلع منهم طالع أخذته سيوف آل أبي سفيان!

قال: إنّي قد سمَّيت الرجل الذي من أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم)، ولكن لا أُسمّيه ولا أذكره )(١) .

تأمّل وملاحظات:

نجد في هذه الرواية موارد للتأمّل والتوقّف عليها:

١ - إصرار بالغ من رجل - قيل: إنّه صاحب رسول الله! - على قتل سبطه الوحيد المتبقّي من ذُرّيته، ولم يكتفِ بذكر اقتراحه مرّة واحدة، بل كرّره مرّة بعد أُخرى.

٢ - بطلان نظرية عدالة جميع الصحابة! فهل من العدالة أن يُصرّ رجل على قتل سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! إلاّ أن يُقال: إنّه ما أكثر هذا السنخ من الصحابة العدول في شيعة آل أبي سفيان!

٣ - اعتراف هذا الرجل العدوّ بميل الناس إلى آل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يقول: والناس إليهم مائلون، يريد بذلك أن يُحرّك يزيد على قتل الإمام.

٤ - والعَجب من راوي الخبر! أنّه يكتم اسم هذا الصحابي العدل! أيرى أنّ ذلك يوجب حفظ مكانته؟!

تجلّي مكارم الأخلاق!

روي أنّ يزيد أمر بردّ ما أُخذ من أهل البيتعليهم‌السلام ، وزاد عليه مئتي دينار، فأخذها زين العابدينعليه‌السلام ، وفرّقها على الفقراء والمساكين(٢) .

____________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٢٠، ذيل ترجمة ريا. أُنظر: البداية والنهاية ٨/ ٢٠٤؛ تاريخ الإسلام للذهبي ٣/ ١٢؛ الجوهرة للتلمساني ٢/ ٢١٨.

(٢) الملهوف: ٢٢٤، مُثير الأحزان: ١٠٦.

٢٠٩

مأساة الشام

رأس الحسينعليه‌السلام في دمشق!

الجسم منه بكربلاء مُضرَّج

والرأس منه على القناة يُدار

إنّ للرأس الشريف دوراً هامّاً في استمرار رسالة النهضة الحسينيّة، فقد ذكرنا أنّ الرأس الشريف تلا القرآن وتكلّم في دمشق. وهذه هي من أكبر الحُجج وأحسن الأدلّة على منزلته الرفيعة، وعلوّ مقامه عند الله تبارك وتعالى.

ولم تنحصر معجزة الرأس الشريف بما ذُكر، بل هناك أُمور وشواهد أُخرى:

روى البيهقي، بإسناده عن أبي معشر قال: ( وقُتل الحسين (رضي الله عنه) وجميع مَن معه رحمهم الله، وحُمل رأسه إلى عبيد الله بن زياد، فوضع بين يديه على ترس، فبعث به إلى يزيد، فأمر بغسله وجعله في حريرة وضُرِب عليه خيمة ووُكِّل به خمسين رجلاً.

فقال واحد منهم: نمت وأنا مُفكّر في يزيد وقتله الحسينعليه‌السلام ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت سحابة خضراء، فيها نور قد أضاءت ما بين الخافقين، وسمعت صهيل الخيل ومُنادياً يُنادي:( يا أحمد، اهبط ) . فهبط رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) ومعه جماعة من الأنبياء والملائكة، فدخل الخيمة، وأخذ الرأس، فجعل يُقبِّله ويبكي ويضمّه إلى صدره، ثمّ التفت إلى مَن معه، فقال:( انظروا إلى ما كان من أُمّتي في ولدي، ما بالهم لم يحفظوا فيه وصيّتي، ولم يعرفوا حقّي؟! لا أنالهم الله شفاعتي ) .

قال: وإذا بعدّة من الملائكة يقولون:( يا محمّد، الله تبارك وتعالى يُقرئك السلام، وقد أمرنا بأن نسمع لك ونُطيع، فمُرْنا أن نقلب البلاد عليهم ).

فقال(صلَّى الله عليه وسلَّم):( خلّوا عن أُمّتي، فإنّ لهم بُلغةً وأمداً ) .

٢١٠

قالوا:( يا محمّد، إنّ الله جلّ ذكره أمرنا أن نقتل هؤلاء النفر ) .

فقال:( دونكم وما أُمِرتم به ) .

قال: فرأيت كلّ واحد منهم قد رمى كلّ واحد منّا بحربة، فقتل القوم في مضاجعهم غيري، فإنّي صِحت يا محمّد.

فقال: وأنت مُستيقظ؟

قلت: نعم.

قال: خلّوا عنه يعيش فقيراً ويموت مذموماً.

فلما أصبحت دخلت على يزيد وهو مُنكسر مهموم، فحدّثته بما رأيت، فقال: امضِ على وجهك، وتُبْ إلى ربّك!! )(١) .

وعن الشبلنجي أنّه قال: ( روى سليمان الأعمش (رضي الله عنه) قال: خرجنا ذات سنة حُجَّاجاً لبيت الله الحرام وزيارة قبر النبيّعليه‌السلام ، فبينا أنا أطوف بالبيت، إذا رجل مُتعلّق بأستار الكعبة وهو يقول: (اللّهمَّ، اغفر لي وما أظنّك تفعل )، فلما فرغتُ من طوافي قلت: سبحان الله العظيم! ما كان ذنب هذا الرجل؟! فتنحّيت عنه.

ثمّ مررت به مرّة ثانية، وهو يقول: ( اللّهمَّ، اغفر لي، وما أظنّك تفعل! ).

فلما فرغتُ من طوافي قصدتُ نحوه فقلت: يا هذا، إنّك في موقف عظيم، يغفر الله فيه الذنوب العظام، فلو سألت منه عزّ وجلّ المغفرة والرحمة لرجوت أن يفعل، فإنّه مُنعم كريم.

فقال: يا عبد الله، مَن أنت؟

فقلت: أنا سليمان الأعمش.

____________________

(١) المحاسن والمساوئ: ٦٢.

٢١١

فقال: يا سليمان، إيّاك طلبت، وقد كنت أتمنّى مثلك.

فأخذ بيدي، وأخرجني من داخل الكعبة إلى خارجها، فقال لي: يا سليمان، ذنبي عظيم.

فقلت: يا هذا، أذنبك أعظم أم السماوات؟ أم الأرضون؟ أم العرش؟

فقال لي: يا سليمان، ذنبي أعظم! مهلاً حتّى أُخبرك بعَجب رأيته.

فقلت له: تكلّم رحمك الله.

فقال لي: يا سليمان، أنا من السبعين الذين أتوا برأس الحسين بن علي (رضي الله عنهما) إلى يزيد بن معاوية، فأمر بالرأس، فنُصِب خارج المدينة، وأُمِر بإنزاله ووضِع في طست من ذهب، ووضِع ببيت منامه، فلما كان في جوف الليل انتبهتْ امرأة يزيد بن معاوية، فإذا شعاع ساطع إلى السماء، ففزعتْ فزعاً شديداً، وانتبه يزيد من منامه، فقالت له: يا هذا، قم، فإنّي أرى عَجباً.

قال: فنظر يزيد إلى ذلك الضياء، فقال لها: اسكُتي، فإنّي أرى كما ترين.

قال: فلما أصبح من الغد أمر بالرأس، فأُخرج إلى فسطاط وهو من الديباج الأخضر، وأمر بالسبعين رجلاً فخرجنا إليه نحرسه، وأمر لنا بالطعام والشراب حتّى غربت الشمس، ومضى من الليل ما شاء الله ورقدنا، فاستيقظتُ ونظرتُ نحو السماء، وإذا بسحابة عظيمة ولها دويّ كدويّ الجبال وخفقان أجنحة، فأقبلتْ حتّى لصقتْ بالأرض، ونزل منها رجل وعليه حُلّتان من حُلل الجنّة، وبيده درانك وكراسي، فبسط الدرانك، وألقى عليها الكراسي، وقام على قدميه ونادى:( انزل يا أبا البشر، انزل يا آدم! ) .

فنزل رجل أجمل ما يكون من الشيوخ شيباً، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال:( السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا بقيّة الصالحين، عشت سعيداً، وقُتلت طريداً، ولم تزل عطشاناً حتّى ألحقك الله بنا،

٢١٢

رحمك الله ولا غفر لقاتلك، الويل لقاتلك غداً من النار، ثمّ نزل وقعد على كرسي من تلك الكراسي ) .

قال: يا سليمان، ثمّ لم ألبث إلاّ يسيراً، وإذا بسحابة أُخرى أقبلت حتّى لصقت بالأرض، فسمعت مُنادياً يقول:( انزل يا نبيّ الله، انزل يا نوح! ).

وإذا برجل أتمّ الرجال خَلقاً، وإذا بوجهه صفرة، وعليه حُلّتان من حُلل الجنّة، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال:( السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بقيّة الصالحين، قُتلت طريداً، وعشت سعيداً، ولم تزل عطشاناً حتّى ألحقك الله بنا، غفر الله لك، ولا غفر لقاتلك، الويل لقاتلك غداً من النار ) ، ثمّ زال فقعد على كرسي من تلك الكراسي.

قال: يا سليمان، ثمّ لم ألبث إلاّ يسيراً، وإذا بسحابة أعظم منها، فأقبلت حتّى لصقت بالأرض، فقام الأذان، وسمعت مُنادياً يُنادي:( انزل يا خليل الله، انزل يا إبراهيم! ) .

وإذا برجل ليس بالطويل العالي، ولا بالقصير المتداني، أبيض الوجه، أملح الرجال شيباً، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال:( السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بقيّة الصالحين، قُتلت طريداً وعشت سعيداً، ولم تزل عطشاناً حتّى ألحقك الله بنا، غفر الله لك، ولا غفر لقاتلك، الويل لقاتلك غداً من النار ) .

ثمّ تنحّى، فقعد على كرسي من تلك الكراسي.

ثمّ لم ألبث إلاّ يسيراً، فإذا بسحابة عظيمة، فيها دويّ كدويّ الرعد وخفقان أجنحة، فنزلت حتّى لصقت بالأرض، وقام الأذان فسمعت قائلاً يقول:( انزل يا نبيّ الله، انزل يا موسى بن عمران! ) .

قال: فإذا برجل أشدّ الناس في خَلقه وأتمّهم في هيبته، وعليه حُلّتان من حُلل الجنّة، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال مثل ما تقدّم، ثمّ تنحّى فجلس على كرسيّ من تلك الكراسي.

٢١٣

ثمّ لم ألبث يسيراً، وإذا بسحابة أُخرى، وإذا فيها دويّ عظيم وخفقان أجنحة، فنزلت حتّى لصقت بالأرض، وقام الأذان، فسمعت قائلاً يقول:( انزل يا عيسى، انزل يا روح الله! ) . فإذا أنا برجل مُحمرّ الوجه، وفيه صفرة، وعليه حُلّتان من حُلل الجنّة، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال مثل مقالة آدم ومَن بعده، ثمّ تنحّى فجلس على كرسي من تلك الكراسي.

ثمّ لم ألبث إلاّ يسيراً وإذا بسحابة عظيمة فيها دويّ كدويّ الرعد والرياح وخفقان أجنحة، فنزلتْ حتّى لصقتْ بالأرض، فقام الأذان، وسمعت مُنادياً يُنادي:( انزل يا محمّد، انزل يا أحمد! ).

وإذا بالنبيّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) وعليه حُلّتان من حُلل الجنّة، وعن يمينه صفّ من الملائكة، والحسن وفاطمة (رضي الله عنهما)، فأقبل حتّى دنا من الرأس، فضمّه إلى صدره، وبكى بكاءً شديداً، ثمّ دفعه إلى أُمّه فاطمة، فضمّته إلى صدرها، وبكت بكاءً شديداً، حتّى علا بكاؤها وبكى لها مَن سمعها في ذلك المكان.

فأقبل آدمعليه‌السلام حتّى دنا من النبيّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، فقال:( السلام على الولد الطيّب، السلام على الخُلق الطيّب، أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك في ابنك الحسين ) .

ثمّ قام نوح وإبراهيم وموسى وعيسىعليهم‌السلام ، فقالوا كقوله، كلّهم يُعزّونه (صلَّى الله عليه وسلَّم) في ابنه الحسين.

ثمّ قال النبيّ (صلَّى الله عليه وسلَّم):( يا أبي آدم، ويا أبي نوح، ويا أبي إبراهيم، ويا أخي موسى، ويا أخي عيسى، اشهدوا وكفى بالله شهيداً على أُمّتي بما كافأوني في ابني وولدي من بعدي ) .

فدنا منه مَلَك من الملائكة، فقال:( قطعت قلوبنا يا أبا القاسم، أنا الملك الموكّل بسماء الدُّنيا، أمرني الله تعالى بالطاعة لك، فلو أذِنت لي أنزلتها على

٢١٤

أُمّتك، فلا يبقى منهم أحد ) .

ثمّ قام مَلك آخر فقال:( قطعت قلوبنا يا أبا القاسم، أنا الموكّل بالبحار، أمرني الله بالطاعة لك، فإن أذِنتَ لي أرسلتها عليهم، فلا يبقى منهم أحد ) .

فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وسلَّم):( يا ملائكة ربّي، كفُّوا عن أُمّتي، فإنّ لي ولهم موعداً لن أخلفه ) .

فقام إليه آدمعليه‌السلام فقال:( جزاك الله خيراً من نبيّ أحسن ما جوزي به نبيّ عن أُمّته ) .

فقال له الحسن:( يا جدّاه، هؤلاء الرقود هم الذين يحرسون أخي، وهم الذين أتوا برأسه ) .

فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وسلَّم):( يا ملائكة ربّي، اقتلوهم بقتلهم ابني ) .

فوالله، ما لبثت إلاّ يسيراً حتّى رأيت أصحابي قد ذُبحوا أجمعين.

قال: فلصق بي مَلك ليذبحني، فناديته: يا أبا القاسم، أجرني! وارحمني يرحمك الله.

فقال:( كفّوا عنه ) .

ودنا منّي وقال:( أنت من السبعين رجلاً؟! ) .

قلت: نعم.

فألقى يده في منكبي، وسحبني على وجهي، وقال:( لا رحمك الله! ولا غفر لك! أحرق الله عظامك بالنار ) .

فلذلك أيست من رحمة الله.

فقال الأعمش: إليك عنّي؛ فإنّي أخاف أن أُعاقب من أجلك )(١) .

____________________

(١) نور الأبصار: ١٢٥ - على ما في إحقاق الحقّ ١١/ ٣٣٥. اُنظُر: بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٧ نقلاً عن الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨١ بتفاوت، خاصّة فيما يتعلّق بمصير الرأس الشريف.

٢١٥

صلب الرأس الشريف في دمشق!

روى الذهبي، عن حمزة بن يزيد الحضرمي أنّه قال: ( وقد حدّثني بعض أهلنا: أنّه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيّام )(١) .

وقال الشبراوي: قال أبو الفضل: ( وبعد أن وصل الرأس الشريف إلى دمشق، وُضِع في طست بين يدي يزيد، وصار يضرب ثناياه الشريفة بقضيب، ثمّ أمر بصلبه، فصُلِب ثلاثة أيّام بدمشق )(٢) .

وذكر الباعوني: أنّ الرأس نُصب بدمشق ثلاثة أيّام، ثمّ وضِع بخزانة السلاح(٣) .

ونقل العلاّمة المجلسي: أنّ رأس الحسينعليه‌السلام صُلب بدمشق ثلاثة أيّام، ومكث في خزائن بني أُميّة(٤) .

هذا بالنسبة إلى أصل صلب الرأس الشريف في دمشق، وأمّا بالنسبة إلى مكان صلبه، ففيه روايتان:

١ - على باب مسجد دمشق:

روى الشيخ الصدوق وابن الفتّال، قالا: ( ثمّ أمر (يزيد) برأس الحسينعليه‌السلام ، فنُصِب على باب مسجد دمشق )(٥) .

٢ - على باب دار يزيد:

قال العلاّمة المجلسي: وقال صاحب المناقب: (وذكر أبو مخنف وغيره: أنّ

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٩.

(٢) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٩.

(٣) جواهر المطالب ٢/ ٢٩٩.

(٤) بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٥.

(٥) أمالي الصدوق: ٢٣١ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٤ - روضة الواعظين ١/ ١٩١.

٢١٦

يزيد لعنه الله أمر بأن يصُلب الرأس على باب داره )(١) .

الرأس الشريف في بيت يزيد:

قال البلاذري: ( وبعث يزيد برأس الحسين إلى نسائه، فأخذته عاتكة ابنته، وهي أُمّ يزيد بن عبد الملك، فغسّلته ودهنته وطيّيبته، فقال لها يزيد: ما هذا؟!

قالت: بعثت إليّ برأس ابن عمّي شَعِثاً، فلممتُه وطيّيبته )(٢) .

إطافة الرأس الشريف في مدائن الشام:

قال القاضي نعمان: ( ثمّ أمر يزيد اللعين برأس الحسينعليه‌السلام ، فطيف به في مدائن الشام وغيرها )(٣) .

أوّل رأس حُمِل في الإسلام!

لقد حملوا رأس الحسينعليه‌السلام ، وقد صرّح المؤرِّخون بأنّه هو أوّل رأس حُمِل على رمح في الإسلام(٤) .

إسلام يهودي ببركة الرأس الشريف:

قال الخوارزمي: ( وروي أنّ رأس الحسينعليه‌السلام لما حُمِل إلى الشام، جنّ عليهم الليل، فنزلوا عند رجل من اليهود، فلما شربوا وسكروا قالوا له: عندنا رأس الحسين، فقال لهم: أروني إيّاه، فأروه إيّاه بصندوق يسطع منه النور إلى السماء،

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٢.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦.

(٣) شرح الأخبار ٣/ ١٥٩.

(٤) المعجم الكبير (للطبراني) ٣/ ١٣٤ ح٢٨٧٦؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٠؛ كشف الغمّة ٢/ ٥٤؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٦؛ الجوهر الثمين: ٧٨.

٢١٧

فعجب اليهودي واستودعه منهم، فأودعوه عنده، فقال اليهودي للرأس - وقد رآه بذلك الحال: اشفع لي عند جدّك.

فأنطق الله الرأس وقال:( إنّما شفاعتي للمحمّديّين، ولست بمحمّدي! ) .

فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمِسك والعنبر، ثمّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد.

ثمّ قال: وا لهفاه! لم أجد جدّك محمّداً فأُسلم على يديه، ثمّ وا لهفاه! لم أجدك حيّاً فأُسلم على يديك، وأُقاتل دونك، فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟

فأنطق الله الرأس، فقال بلسانٍ فصيح:( إن أسلمت فأنا لك شفيع ) ، قالها ثلاث مرّات، وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه.

قال: أقول: لعلّ هذا الرجل اليهودي كان راهب (قنسرين)؛ لأنّه أسلم بسبب رأس الحسينعليه‌السلام ، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري والجرجاني في مراثي الحسين )(١) .

رباب ترثي الحسين:

وعن تاريخ الفرماني: أنّ رباب بنت امرئ القيس رثت الحسينعليه‌السلام في الشام، بعد أن أخذت رأسه وقبّلته ووضعته في حجرها وهي تقول:

واحسيناً فلا نسيت حسيناً

أقصدته أسنّة الأعداء

غادروه بكربلاء صريعاً

لا سقى الله جانبي كربلاء (٢)

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي ٢/ ١١٥، ح٤٩ط دار أنوار الهدى - عنه إحقاق الحقّ ١١/ ٤٩٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٧٢ ح٢٠؛ العوالم ١٧/ ٤١٧، ح١٨.

(٢) تاريخ الفرماني: ٤، على ما في هامش شرح الأخبار ٣/ ١٧٨.

٢١٨

رأس الحسينعليه‌السلام عند يتيمته!

روى عماد الدِّين الطبري، عن كتاب الحاوية لقاسم بن محمّد بن أحمد المأموني: ( أنّ نساء أهل بيت النبوّة أخفين على الأطفال شهادة آبائهم، وقلن لهم: إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا، وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد بأن يدخلن داره، وكان للحسينعليه‌السلام بنت صغيرة لها أربع سنين، قامت ليلة من منامها وقالت: أين أبي الحسين؟ فإنّي رأيته في المنام مُضطرباً شديداً.

فلما سمع النسوة ذلك بكين وبكى معهنّ سائر الأطفال، وارتفع العويل، فانتبه يزيد من نومه، وقال: ما الخبر؟

ففحصوا عن الواقعة وقصّوها عليه، فأمر لعنه الله بأن يذهبوا برأس أبيها إليها، فأتوا بالرأس الشريف وجعلوه في حجرها، فقالت: ما هذا؟!

قالوا: رأس أبيك! ففزعت الصَّبيَّة وصاحت، فمرضت وتوفّيت في أيّامها بالشام )(١) .

وفي (الإيقاد) للسيّد الجليل السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيمي (رحمه الله)، عن العوالم وغيره ما مُلخّصه:

( إنّه كان للحسينعليه‌السلام بنت صغيرة يُحبّها وتُحبّه، وقيل: كانت تُسمّى رقيّة، وكان لها ثلاث سنين، وكانت مع الأسراء في الشام، وكانت تبكي لفراق أبيها ليلاً ونهاراً، وكانوا يقولون لها: هو في السفر(٢) .

فرأته ليلةً في النوم، فلما انتبهت جزعت جزعاً شديداً، وقالت: ايتوني بوالدي وقرّة عيني، وكلّما أراد أهل البيت إسكاتها ازدادت حزناً وبكاءً، ولبكائها هاج حزن أهل البيت، فأخذوا في البكاء، ولطموا الخدود، وحثّوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصياح، فسمع يزيد [صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟

قيل له: إنّ بنت الحسين الصغيرة

____________________

(١) كامل البهائي ٢/ ١٧٩، عنه نفس المهوم؛ معالي السبطين ٢/ ١٧٠.

(٢) أي سفر الآخرة.

٢١٩

رأت أباها بنومنها، فانتبهت وهي تطلبه وتبكي وتصيح، فلما سمع يزيد ذلك ](١) ، فقال: ارفعوا إليها رأس أبيها، وحطّوه بين يديها تتسلّى.

فأتوا بالرأس في طبق مُغطّى بمنديل، ووضعوه بين يديها، فقالت: يا هذا(٢) ، إنّي طلبت أبي ولم أطلب الطعام.

فقالوا: إنّ هنا أباك!

فرفعت المنديل ورأت رأساً، فقالت: ما هذا الرأس؟!

قالوا: رأس أبيك.

فرفعت الرأس ووضعته(٣) إلى صدرها وهي تقول: يا أبتاه، مَن ذا الذي خضّبك بدمائك؟! يا أبتاه، مَن ذا الذي قطع وريدك(٤) ؟! يا أبتاه، مَن ذا الذي أيتمني على صغر سنّي؟ يا أبتاه، مَن لليتيمة حتّى تكبر؟! يا أبتاه، مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه، مَن للأرامل المسبيّات؟! يا أبتاه، مَن للعيون الباكيات؟! يا أبتاه، مَن للضائعات الغريبات؟! يا أبتاه، مَن للشعور المنشورات؟! يا أبتاه، مِن بعدك وا خيبتاه! يا أبتاه، مِن بعدك وا غربتاه! يا أبتاه، ليتني لك الفداء! يا أبتاه، ليتني قبل هذا اليوم عمياء! يا أبتاه، ليتني وسُدِّت(٥) التراب ولا أرى شيبك مُخضّباً بالدماء!

ثمّ وضعت فمها على فم الشهيد المظلوم، وبكت حتّى غُشي عليها، فلما حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحها الدُّنيا، فارتفعت أصوات أهل البيت بالبكاء، وتجدّد الحزن والعزاء، ومَن سمع من أهل الشام بكاءهم بكى، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلاّ باكٍ أو باكية، فأمر يزيد بغسلها وكفنها ودفنها )(٦) .

____________________

(١) أوردناه من معالي السبطين.

(٢) ما هذا / معالي السبطين.

(٣) وضمّته / معالي السبطين.

(٤) وريديك / معالي السبطين.

(٥) توسّدت / معالي السبطين.

(٦) الإيقاد: ١٧٩ ( ولكنّا لم نجده في عوالم البحراني في النسخة التي بأيدينا ). ورواه الشيخ الحائري المازندراني (معالي السبطين ٢/ ١٧٠) عنه وعن مُنتخب الطريحي، ولم نعثر عليه فيه أيضاً.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460