مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد أمين الأميني
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 460
المشاهدات: 225190
تحميل: 8088

توضيحات:

الجزء 6
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225190 / تحميل: 8088
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 6

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كلام حول السيّدة رقيّة:

إن قيل: إنّه ما كان للإمام الحسينعليه‌السلام إلاّ بنتان، وهما سكينة وفاطمة.

نقول: المرويّ وإن كان ذلك، ولكنّه ليس بمُتّفق عليه، فهناك بعض الروايات تدلّ على أنّ الإمامعليه‌السلام كان له بنات ثلاث بل - على قول - أربع.

قال الطبري الإماميّ: ( وله - أي للإمام الحسينعليه‌السلام - من البنات زينب، وسكينة، وفاطمة )(١) .

وممّن ذكر القول الآخر العلاّمة الأربلي، وابن الصبّاغ المالكي، فإنّهما قالا - واللفظ للأخير : ( قال الشيخ كمال الدِّين بن طلحة: كان للحسينعليه‌السلام من الأولاد ذكوراً وإناثاً عشرة، ستّة ذكور وأربع إناث، فالذكور: عليّ الأكبر، وعليّ الأوسط وهو زين العابدين، وعليّ الأصغر، ومحمّد، وعبد الله، وجعفر... وأمّا البنات: فزينب، وسكينة، وفاطمة، هذا قول المشهور )(٢) .

ولم يصرّح الأربلي وابن الصبّاغ باسم البنت الرابعة، فلعلّها هي التي عُرِفت باسم رقيّة في أوساط الناس.

إن قيل: لعلّها هي رقيّة بنت الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

قلنا: لكن لا يمكن الاعتماد عليه؛ لأنّ الروايات في شأنها على قسمين:

القسم الأوّل: ما تُصرّح بأنّها ماتت صغيرة، مثل ما ذكره سبط ابن الجوزي في قوله: ( وقد زاد ابن إسحاق في أولاد فاطمة من عليّعليه‌السلام : محسناً، مات صغيراً،

____________________

(١) دلائل الإمامة: ١٨١. وانظر: المناقب ٤/ ٧٧؛ الهداية الكبرى: ٢٠٢؛ كشف الغمّة ٢/ ٣٩؛ إسعاف الراغبين، المطبوع بهامش نور الأبصار: ١٩٥ (على ما في إحقاق الحقّ ١١/ ٤٥١).

(٢) الفصول المهمّة: ١٩٩. ونحوه في كشف الغمّة ٢/ ٣٨، وفيه: هذا قول مشهور، ثمّ قال: وقيل: كان له أربع بنين وبنتان، والأوّل أشهر.

٢٢١

وزاد الليث: رقيّة، ماتت صغيرة أيضاً )(١) .

فبناءً على هذا؛ لا يمكن القول: بأنّها المقصودة بالمقام؛ لأنّ الفاصل الزماني بين وفاة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وما بعد وقعة الطفّ يُخرجها عن كونها صغيرة! هذا إذا فرضنا أنّها ولِدت في آخر أيّام حياة الإمام عليّعليه‌السلام ، وإلاّ فإنّ المسألة أصعب.

القسم الثاني: ما تُصرّح بأنّها كبرت وتزوّجت من مسلم بن عقيل(٢) ، فإنّ المؤرِّخين ذكروا في عِداد أنصار الإمام الحسينعليه‌السلام الذين استُشهدوا معه في كربلاء عبد الله بن مسلم بن عقيل، وقد صرّحوا بأنّ أُمّه كانت رقيّة بنت عليّ بن أبي طالب.

صرّح بذلك ابن حبّان(٣) ، والقاضي نعمان(٤) ، والطبري(٥) عن أبي مخنف، وخليفة بن خياط(٦) ، وابن الأثير(٧) وغيرهم.

ولكن مع هذا لا يمكن القول: بأنّها المقصودة؛ وذلك لعدّة أُمور:

أوّلاً: لا نعلم بحضورها في وقعة الطف، ولكنّ القرائن تؤيّد حضورها؛ وذلك لأسباب مُتعدّدة مثل إرسال زوجها مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وحضور أبنائها مع الحسينعليه‌السلام من البنات والذكور، فبطبيعة الحال هي تُلازم أخاها في

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٣٢٢.

(٢) المجدي في الأنساب: ١٨.

(٣) كتاب الثقات ٢/ ٣١١.

(٤) شرح الأخبار ٣/ ١٩٥.

(٥) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٩.

(٦) تاريخ خليفة بن خيّاط: ١٤٥.

(٧) الكامل في التاريخ ٤/ ٩٣.

٢٢٢

هذه المرحلة الحسّاسة والهامّة جدّاً.

ثانياً: ليس لنا دليل على وفاتها في الشام، بل هناك بعض الأخبار بوجود قبرها بمصر(١) ، - صرّح بذلك ياقوت الحموي وغيره(٢) ، وإلاّ فبطبيعة الحال تكون قد توفّيت بالمدينة.

ثالثاً: القرائن التي نُقلت في شأن وفاة هذه السيّدة، تختلف تماماً عمّا إذا كانت امرأة كبيرة، كما هو واضح.

أضِف إلى ذلك ما نُقل في شأن إصلاح قبر هذه السيّدة وكونها بنتاً صغيرة، روى الشيخ الحائري المازندراني قال: ( وقد أخبرني بعض الصلحاء: أنّ للسيّدة رقيّة بنت الحسينعليهما‌السلام ضريحاً بدمشق الشام، وأنّ جدران قبرها قد تعيّبت، فأرادوا إخراجها منه لتجديده، فلم يتجاسر أحد أن ينزله من الهيبة، فحضر شخص من أهل البيت يدعى السيّد ابن مرتضى، فنزل في قبرها ووضع عليها ثوباً لفّها فيه وأخرجها، فإذا هي بنت صغيرة دون البلوغ، وكان متنها مجروحاً من كثرة الضرب، وقد ذكرتُ ذلك لبعض الأفاضل، فحدّثني به ناقلاً له عن بعض أشياخه )(٣) .

رابعاً: تصريح بعض أرباب الكُتب، مثل ما نُقل عن كتاب مُنتخبات التواريخ لمحمّد أديب آل تقي الدِّين الحصني بقوله: ( ونُقل أيضاً أنّ السيّدة رقيّة بنت

____________________

(١) قيل: كذا ذكره الشعراني في الباب العاشر من المنن، انظر لطائف المنن والأخلاق: ٤٠٤، والدرّ المنثور لزينب فواز: ٢٠٦، كذا في هامش الإشارات إلى أماكن الزيارات: ٢٦.

(٢) مُعجم البلدان ٥/ ١٦٧ مادّة مصر رقم ١١٣٠٤؛ الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٩٥؛ أعيان الشيعة ٧/ ٣٤.

(٣) معالي السبطين ٢/ ١٧١، وذكر تفصيل ذلك العلاّمة الحجّة محمّد هاشم الخراساني، عن السيّد محمّد علي الشامي سبط السيّد إبراهيم الدمشقي آل السيّد مرتضى، عن جدّه السيّد إبراهيم الذي باشر في أمر إصلاح القبر الشريف، وذكر أنّ القصّة جرت في حوالي سنة ١٢٨٠هـ، راجع كتاب مُنتخب التواريخ: ٣٨٨.

٢٢٣

الإمام الحسين الصغيرة دفنت عند باب الفراديس )(١) .

وروي عن الشعراني في الباب العاشر من كتاب المنن: ( وأخبرني بعض الخواص: أنّ رقيّة بنت الحسينعليه‌السلام في المشهد القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين يزيد، ومعها جماعة من أهل البيت، وهو معروف الآن بجامع شجرة الدرّ، وهذا الجامع على يسار الطالب للسيّدة نفيسة، والمكان الذي فيه السيّدة رقيّة عن يمينه، ومكتوب على الحجر الذي ببابه هذا البيت:

بقعة شُرِّفت بآل النبيّ

وببنت الحسين الشهيد رُقيّة )(٢) .

وقد جُدِّد بناء قبر هذه السيّدة بعد انتصار الثورة الإسلامية، وإقامة الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني أعلى الله مقامه الشريف، وقد أصبح بناءً ضخماً، ورمزاً للتضحية والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته.

إن قيل: هل هناك تصريح باسمها في ضمن كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام ؟

يُقال: نعم، مثل ما ذكره السيّد ابن طاووس أنّه حينما أرادعليه‌السلام أن يودِّع أهله قال: يا أُختاه، يا أُمّ كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا رقيّة، وأنت يا فاطمة، وأنت يا رباب، انظُرن إذا أنا قُتلِت فلا تُشقِّقن عليَّ جيباً، ولا تخمشن عليَّ وجهاً، ولا تقلن عليَّ هُجراً(٣) .

وما ذكره القندوزي أنّه نادى: يا أُمّ كلثوم، ويا سكينة، ويا رقيّة، ويا عاتكة، ويا زينب، ويا أهل بيتي عليكنّ منّي السلام(٤) .

وكلا الاحتمالين في شأنها ممكن، وإن كان ظاهر لحن خطاب ما ذكره السيّد

____________________

(١) مُنتخبات التواريخ، مراقد أهل بيت در شام [بالفارسية]: ٤٥.

(٢) معالي السبطين ٢/ ١٧١.

(٣) الملهوف: ١٤١.

(٤) ينابيع المودّة ٣/ ٧٩، عنه إحقاق الحقّ ١١/ ٦٣٣.

٢٢٤

ابن طاووس: أنّه متوجّه إلى أُخته رقيّة بنت عليّعليه‌السلام ، ويمكن اعتبار هذا دليلاً آخر على حضورها في معركة الطفّ.

وصف مسكن أهل البيت في الشام:

روى الشيخ الصدوق (رحمه الله)، بإسناده عن فاطمة بنت علي (صلوات الله عليهما) أنّها قالت: ( ثمّ إنّ يزيد (لعنه الله) أمر بنساء الحسينعليه‌السلام فحُبسن مع عليّ بن الحسينعليهما‌السلام في محبس لا يُكنّهم من حرٍّ ولا قُرّ حتّى تقشّرت وجوههم )(١) .

وقال القاضي نعمان بعد ذكره بكاء يزيد!: ( وقيل: إنّ ذلك بعد أن أجلسهنّ في منزل لا يُكنّهن من برد ولا حرّ، فأقاموا شهراً ونصف، حتّى أقشرت وجوههنّ من حرّ الشمس، ثمّ أطلقهم )(٢) .

وقال ابن نما: (وأُسكِنَّ في مساكن لا تقيهنّ من حرّ ولا برد، حتّى تقشّرت الجلود وسال الصديد، بعد كَنِّ الخدور وظلِّ الستور، والصبر ظاعن والجزع مُقيم، والحزن لهنّ نديم )(٣) .

وقال السيّد ابن طاووس: (ثمّ أمر (يزيد) بهم إلى منزل لا يُكنّهم من حرّ ولا برد، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم )(٤) .

وقال الشيخ المفيد: ( ثمّ أمر (يزيد) بالنسوة أن يُنزلن في دار على حدة، معهنّ أخوهنّ عليّ بن الحسينعليهم‌السلام ، فأُفرد لهم دار تتّصل بدار يزيد، فأقاموا أيّاماً )(٥) .

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٢٣١، مجلس ٣١، ح٢٤٣، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٠ ونحوه في روضة الواعظين ١/ ١٩٢، وفيه مجلس بدل محبس، والظاهر كونه تصحيف.

(٢) شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩.

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٢.

(٤) الملهوف: ٢١٩. وروي مضمونه في تسلية المجالس ٢/ ٣٩٦.

(٥) الإرشاد ٢/ ١٢٢؛ إعلام الورى: ٢٤٩.

٢٢٥

والمستفاد من بعض الأخبار - مضافاً إلى ما ذُكر - أنّ البيت كان خراباً بحيث كان يُخشى وقوعه عليهم.

روى صاحب (بصائر الدرجات)، بإسناده عن محمّد بن علي الحلبي قال: ( سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: لما أُتي بعليّ بن الحسينعليه‌السلام يزيد بن معاوية - عليه لعائن الله - ومَن معه، جعلوه(١) في بيت، فقال بعضهم: إنّا جعلنا في هذا البيت ليقع علينا فيقتلنا. فراطن الحرس، فقالوا: انظروا إلى هؤلاء يخافون أن تقع عليهم البيت، وإنّما يخرجون غداً فيُقتلون، قال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :( لم يكن فينا أحد يُحسن الرطانة غيري، والرطانة عند أهل المدينة الروميّة ) )(٢) .

وروى الطبراني الإمامي، بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي قال: ( سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: أُتي بعليّ بن الحسينعليهما‌السلام إلى يزيد بن معاوية ومَن معه من النساء أسرى، فجعلوهم في بيت، ووكّلوا بهم قوماً من العَجم لا يفهمون العربيّة، فقال بعض لبعض: إنّما جعلنا في هذا البيت ليُهدم علينا فيقتلنا فيه، فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام للحرس بالرطانة:( تدرون ما يقول هؤلاء النساء؟ يقلن: كيت وكيت ) ، فقال الحرس: قد قالوا إنّكم تخرجون غداً وتُقتلون، فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( كلاّ! يأبى الله ذلك ) ، ثمّ أقبل عليهم يُعلّمهم بلسانهم )(٣) .

رؤيا سكينة بنت الحسينعليه‌السلام بالشام:

قال ابن نما: (ورأت سكينة في منامها وهي بدمشق: كأنّ خمسة نُجب من نور قد أقبلت، وعلى كلّ نجيب شيخ والملائكة مُحدقة بهم، ومعهم وصيف

____________________

(١) جاء في رواية (دلائل الإمامة): (فجعلوهم في بيت)، وهو الأنسب.

(٢) بصائر الدرجات: ٣٣٨، باب ١٢، ح١، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٧٧. وانظر: المناقب ٤/ ١٤٥.

(٣) دلائل الإمامة: ٢٠٤، ح١٢٥.

٢٢٦

يمشي، فمضى النُّجب وأقبل الوصيف إليّ وقرب منّي وقال: يا سكينة، إنّ جدّك يُسلّم عليك.

فقلت: وعلى رسول الله السلام، يا رسول الله، مَن أنت؟

قال: وصيف من وصائف الجنّة.

فقلت: مَن هؤلاء المشيخة الذين جاءوا على النُّجب؟

قال: الأوّل آدم صفوة الله، والثاني إبراهيم خليل الله، والثالث موسى كليم الله، والرابع عيسى روح الله.

فقلت: مَن هذا القابض على لحيته يسقط مرّة ويقوم أُخرى؟

فقال: جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقلت: وأين هم قاصدون؟

قال: إلى أبيك الحسين.

فأقبلتُ أسعى في طلبه لأُعرِّفه ما صنع بنا الظالمون بعده، فبينما أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور، في كلّ هودج امرأة.

فقلت: مَن هذه النسوة المقبلات؟

قال: الأُولى حوّاء أُمّ البشر، والثانية آسية بنت مزاحم، والثالثة مريم بنت عمران، والرابعة خديجة بنت خويلد، والخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرّة وتقوم أُخرى.

فقلت: مَن؟

فقال: جدّتك فاطمة بنت محمّد، أُمّ أبيك.

فقلت: والله، لأُخبرنّها ما صُنِعَ بنا.

٢٢٧

فلحقتها ووقفت بين يديها أبكي وأقول: يا أُمّتاه، جحدوا - والله - حقّنا، يا أُمّتاه، بدّدوا - والله - شملنا، يا أُمّتاه، استباحوا - والله - حريمنا، يا أُمّتاه، قتلوا - والله - الحسين أبانا.

فقالت: كفُّي صوتك يا سكينة، فقد أقرحتِ كبدي، وقطّعت نياط قلبي، هذا قميص أبيك الحسين معي لا يُفارقني حتّى ألقى الله به.

ثمّ انتبهتُ وأردت كتمان ذلك المنام، وحدّثت به أهلي، فشاع بين الناس )(١) .

وذكر بعضه السيّد ابن طاووس، وروى عنها أنّها رأت ذلك في اليوم الرابع من مقامهم في الشام(٢) ، وذكره العلاّمة المجلسي بتفصيل أكثر عن بعض مؤلّفات أصحابنا مرسلاً(٣) .

مدّة إقامة أهل البيت في الشام:

لم نعثر على مَن صرّح بمدّة إقامتهم بالشام تحديداً من القدماء، إلاّ القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميمي المغربي، المتوفّى سنة ٣٦٣ من الهجرة، فإنّه قال: ( فأقاموا فيه شهراً ونصف )(٤) ، ويقرب منه قول ابن طاووس حيث قال: (أقاموا فيه شهراً)(٥) ، وما عداه اكتفوا بذكر عنوان عام، مثل ما ذكره الشيخ المفيد بقوله: (فأقاموا أيّاماً)(٦) ، واعتمد عليه الطبرسي(٧) .

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠٤، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٠.

(٢) الملهوف: ٢٢٠، وفيه: أنّها قالت لجدّتها فاطمة الزهراءعليها‌السلام في المنام: يا أُمّتاه، جحدوا - والله - حقّنا، يا أمّتاه، بدّدوا - والله - شملنا، يا أُمّتاه، استباحوا - والله - حريمنا، يا أُمّتاه، قتلوا - والله - الحسين أبانا.

(٣) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٤.

(٤) شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩.

(٥) إقبال الأعمال: ٥٨٩.

(٦) الإرشاد ٢/ ١٢٢.

(٧) إعلام الورى: ٢٤٩.

٢٢٨

نعم، ذكر العلاّمة المجلسي عن بعض كُتب أصحابنا مُرسلاً، ما يُستفاد منه أنّ مدّة البقاء كانت زهاء عشرة أيّام، حيث قال: ( وندبوه على ما نُقل سبعة أيّام، فلما كان اليوم الثامن دعاهنّ يزيد وعرض عليهنّ المقام فأبين، وأرادوا الرجوع إلى المدينة، فأحضر لهم المحامل )(١) ، ولكنّ المأخذ غير معلوم؛ فلا يمكن الاستناد إليه.

وإذا اعتمدنا على ما رواه ابن سعد، من بعث يزيد إلى المدينة، وقدوم عدّة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم عليه، وضمّه إليهم عدّة من موالي أبي سفيان، وبعث الأُسارى من آل البيتعليهم‌السلام معهم إلى المدينة(٢) فيكون البقاء - مع ملاحظة مدّة إرسال البريد إلى المدينة وإتيانهم منها إلى الشام - أكثر من ذلك حتماً.

حقائق أمْ أوهام؟

١ - قيل: إنّ يزيد أمر بالنسوة - من آل البيتعليهم‌السلام - أن ينزلن في دار على حدة، معهنّ ما يُصلحهنّ وأخوهنّ عليّ بن الحسين في الدار التي هنّ فيها(٣) .

وفيه: أنّ هذه الدار تختلف عن الدار الخربة، التي وصفت بكونها لا تُكنّهم من حرّ ولا برد، حتّى تقشّرت وجوههم(٤) ، بل هي دار نُقلوا إليها بعد أحداث مجلس يزيد، ويدلّ عليه ما أردفه الطبري بعد ذلك بقوله: فخرجن حتّى دخلن دار يزيد، فلم تبقَ من آل معاوية امرأة إلاّ استقبلتهنّ تبكي(٥) . فهي إمّا دار يزيد كما هو ظاهر

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٦.

(٢) الطبقات الكبرى: ٨٤ ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ).

(٣) تاريخ الطبري ٣/ ٣٣٩ط دار الكتب العلمية بيروت وفي ط ٤/ ٣٥٣ ونحوه في نور الأبصار: ١٣٢.

(٤) أمالي الصدوق: ٢٣١؛ شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٢؛ مُثير الأحزان: ١٠٢؛ الملهوف: ٢١٩؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٦؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٠.

(٥) تاريخ الطبري ٣/ ٣٣٩.

٢٢٩

نقل الطبري، وتصريح آخرين بقولهم: إنّ يزيد أنزلهم في داره الخاصّة(١) ، أو دار تتّصل بدار يزيد، كما مرّ ذلك عن المفيد(٢) والطبرسي(٣) ، فما عن بعضٍ، من توصيف منزلهم بالحسن والصلاح! فغير صحيح، والمنقول من ذلك محمول على ما ذُكِر، ويؤيّده ما قاله السيّد محمّد بن أبي طالب بقوله: ( روي أنّ اللعين لما خشي شقّ العصا وحصول الفتنة، أخذ في الاعتذار والإنكار لفعل ابن زياد، وإبداء التعظيم والتكريم لعليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، ونقل نساء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى داره الخاصّة، وكان لا يتغدّى ولا يتعشّى إلاّ مع سيّدنا سيّد العابدين )(٤) .

٢ - قيل: إنّ يزيد ما كان يتغدّى ويتعشّى حتّى يحضر معه عليّ بن الحسينعليهما‌السلام (٥) .

وفيه - إن صحّ ذلك -: أنّه لم يكن إلاّ بعد تغيُّر المعادلة وانقلاب الأمر عليه، قام به حفظاً للظاهر سياسةً منه وخوفاً من الفتنة، وأمّا في الخفاء والواقع، فقد عرفت غير مرّة أنّه هو الذي همَّ بقتل الإمام زين العابدينعليه‌السلام وأراد اغتياله، وهو الذي كشف عن خبث باطنه وسوء سريرته، عند مُحادثته مع الإمامعليه‌السلام .

٣ - قيل: إنّ يزيد طلب من عليّ بن الحسينعليه‌السلام أن يُصارع ولده خالداً(٦) .

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩، بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٣.

(٢) الإرشاد ٢/ ١٢٢.

(٣) إعلام الورى: ٢٤٩.

(٤) تسلية المجالس ٢/ ٤٥٧.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤؛ المنتظم ٥/ ٣٤٤، تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٧؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧.

(٦) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤؛ المناقب ٤/ ١٧٢ (عن الطبري والبلاذري)؛ الاحتجاج ٢/ ١٣٤ عنه بحار الأنوار ٤٢/ ١٦٢.

٢٣٠

وهذا أيضاً خطأ وغير صحيح قطعاً، وإن صحّ مضمون الخبر، فهو في شأن عمرو بن الحسن، الذي ذكره أصحاب السير والتواريخ، منهم ابن سعد في طبقاته، قال: ثمّ دعا بعليّ بن حسين وحسن بن حسن وعمرو بن حسن، فقال لعمرو بن حسن - وهو يومئذٍ ابن إحدى عشرة سنة -: أتُصارع هذا؟ يعني خالد بن يزيد، قال: لا، ولكن أعطني سكّيناً وأعطِه سكّيناً حتّى أُقاتله.

فضمّه إليه يزيد وقال:

شنشنة أعرفها من أخزم

هل تلد الحيَّة إلاّ حيَّة(١)

ومنه يظهر أنّ ما في بعض الكتب(٢) ، من كونه عمرو بن الحسين، بدل عمرو بن الحسن تصحيف؛ إذ لا نعلم بولَد لهعليه‌السلام بهذه الاسم، مضافاً إلى أنّه لم يبقَ من ذرّيته الطاهرة إلاّ الإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

والذي يغلب على الظنّ - أنّ عمّال بني أميّة دسّوا هذه الأُمور، ونشروها بين أوساط الناس، بعدما رأوا تأثير كلام الإمامعليه‌السلام في قلب عاصمة حكومة بني أُميّة السوداء، أو أنّه حصل من سهو الكُتّاب.

وأمّا البيت الذي تمثّل به يزيد، فهناك بعض الخلاف في كيفيّته، روى الخوارزمي أنّه قال:

شنشنة أعرفها من أخزم

هل تلد الحيَّة إلاّ حيَّة(٣)

وروى ابن الجوزي: ( سنَّة أعرفها من أحرم )(٤) ، وجاء في نسخة من كتابه كما

____________________

(١) الطبقات الكبرى ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ): ٨٤. انظر أيضاً: تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٧؛ مثير الأحزان: ١٠٥، (وفيه: عمر بن الحسن بدل عمرو، وأيضاً في أنّ يزيد قال قبل إنشاده البيت: ما تتركون عداوتنا صغاراً وكباراً )؛ الملهوف: ٢٢٣.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٦١؛ المنتظم ٥/ ٣٤٤؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧؛ نور الأبصار: ١٣٢.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤.

(٤) المنتظم ٥/ ٣٤٤.

٢٣١

في الطبقات وفي نور الأبصار: ( وهل تلد الحيّة إلاّ الأحوية )(١) .

وفي المناقب:

هذا من العصا عصيّة

هل تلد الحيّة إلاّ الحيّة

ثمّ قال: وفي كتاب الأحمر قال: أشهد أنّك ابن علي بن أبي طالب(٢) .

وفي الاحتجاج أنّه قال: لا تلد الحيّة إلاّ الحيّة

أشهد أنّك ابن عليّ بن أبي طالب(٣) .

وأصل البيت هو - كما عن ابن الكلبي - لأبي أخزم الطائي وهو جدّ أبي حاتم أو جدّ جدّه، وكان له ابن يقال له: أخزم. وقيل: كان عاقّاً، فمات وترك بنين، فوثبوا يوماً على جدّهم أبي أخزم فأدموه، فقال:

إنّ بنيَّ ضرّجوني بالدم

شنشنة أعرفها من أخزم

يعني هؤلاء أشبهوا أباهم في العقوق، والشنشنة: الطبيعة والعادة.. يُضرب في قرب الشبه(٤) .

٤ - قيل: ( إنّ فاطمة بنت علي قالت لامرأة يزيد: (ما تُرك لنا شيء). فالتفت يزيد فقال: (ما أتى إليهم عظيم)، ثمّ ما ادّعوا شيئاً ذهب لهم إلاّ أضْعَفَه لهم )(٥) .

____________________

(١) نور الأبصار: ١٣٢.

(٢) المناقب ٤/ ١٧٣.

(٣) الاحتجاج ٢/ ١٣٤.

(٤) مجمع الأمثال ١/ ٣٧٥ (رقم ١٩٣٣).

(٥) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع): ٨٣؛ ونحو ما روي عن فاطمة بنت الحسينعليهما‌السلام أنّها قالتها لأُمّ كلثوم زوج يزيد. أُنظر عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٩ عن مخطوطة مرآة الزمان: ١٠٠.

٢٣٢

ومن هذا القبيل ما رواه ابن الأثير بقوله: (وسألهنّ - أي يزيد - عمّا أُخذ منهنّ فأضعفه لهنّ(١) . وما رواه الطبري وابن كثير: وأرسل يزيد إلى كلّ امرأة ماذا أُخِذ؟ وليس منهنّ امرأة تدّعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلاّ قد أضعفه لها )(٢) .

ففي جميع ذلك أنّه:

أوّلاً: لا نُسلّم بصحّة الخبر، فشأن أهل البيت - الذين هم أهل بيت الحميّة والغيرة وأرباب العزّة والمنعة - أعلى وأرفع من أن يطلبوا من رجل خبيث سيّئ السيرة والسريرة شيئاً، فما هي إلاّ مُفتعلات وموضوعات، وضعها أنصار بني أُميّة حقداً على أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبُغضاً لهم.

وثانياً: على فرض التسليم بها، فإنّ مُطالبة أهل البيت ما كانت لأجل الحصول على أمور مادّية، بل هناك في ضمن ما سُلب منهم بعض مواريث آل البيت الخاصّة، وخاصّةً ما يتعلّق بفاطمة الزهراء (سلام الله عليها)(٣) ، وهذا أمرٌ لا يُعوّض بأيّ شيء.

وثالثاً: من الممكن أنّ بعض نساء آل البيت نقلن تلك الأُمور، لأجل تبيين عمق الفاجعة والمأساة التي جرت في كربلاء، حتّى يبقى في التاريخ ويُذكر على الألسن، لا أن يكون المقصود مطالبة شيء منها.

ورابعاً: يحقّ لكلّ أحد غُصِبَ ماله أن يُطالب به، وليس في ذلك أيّ نقيصة، ولكن المسائل التي ضمّتها هذه الروايات أوجبت أن نتأمّل في قبولها، فإنّ هناك أغراضاً سياسيّة فاسدة، لا يمكن التغاضي عنها.

٥ - إنّ المتتبّع في أحداث كربلاء، يجد روايات تُريد أن تمرّ على القضايا

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٨.

(٣) الملهوف: ٢٢٢.

٢٣٣

مروراً سريعاً، غامضة العين، كأنّه لم يحدث شيء! أو أنّه انتهى بالخير والسلامة! نذكر بعضه:

روى الذهبي، بإسناده عن عمرو بن دينار قال: (حدّثنا محمّد بن علي عن أبيه قال:( قُتِل الحسين وأُدخلنا الكوفة فلقيَنا رجل، فأدخلنا منزله، فألحفنا! فنمتُ، فلم أستيقظ إلاّ بحسّ الخيل في الأزقّة، فحُملنا إلى يزيد، فدمعت عينه حين رآنا، وأعطانا ما شئنا! وقال: إنّه سيكون في قومك أمور، فلا تدخل معهم... ) (١) .

إنّ الناظر الجاهل بالحقائق حينما يقرأ الخبر، يتصوّر أنّ راويه يقصّ عن سفر فحسب! ولم يحدث أيّ خبر في الكوفة، لا من السجن ولا أحداث مجلس عبيد الله بن زياد، ولم يحدث في الطريق إلى الشام أيُّ أمر، ووصلوا بالخير والسلامة الشام، وتأثّر يزيد، بحيث دمعت عينه!

ولا نعلم كيف يُتصوّر إمكان أن يأخذ رجلٌ بقيّة الركب إلى منزله، والحراسة مُشدّدة عليهم من قِبل ابن زياد؟!

وروى الطبراني - بعد ذكر بعض أحداث مجلس يزيد ومُحادثة الإمامعليه‌السلام معه - قال: ( فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لتريا رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر عنهما رأس أبيهما، ثمّ أمر بهم فجُهّزوا وأُصلح إليهم وأُخرجوا إلى المدينة )!(٢) .

وهناك بعض الأخبار التي هي على هذا المنوال، فكلّ هذه الروايات إمّا أن تكون بيان قطعة ناقصة من الحادثة، وإمّا أن تكون لأجل تحريف التاريخ عن حقائقه.

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٢٠.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٣/ ١٠٩/ ح٢٨٠٦.

٢٣٤

المظلوم ينتصر

غلبة الدم على السيف!

حصلت المعركة، ووقعت الملحمة في أرض الطف، ولكنّها لم تنتهِ فصولها.

أجل، سقط قائد النهضة صريعاً على الثرى، وذُبِح عطشاناً من القفا، ورُفِع رأسه الشريف على السنا، ولكنّ المعركة لم ولن تنتهي.

أرادوا أن يحكموا - بالظاهر -: بأنّ الخليفة! هو الظافر، كيف لا، وقد قُتل قائد المسيرة، وسُبي أهله الذين حُملوا مع رؤوس الشهداء أُسارى من بلد إلى بلد، حتّى وصلوا بهم إلى عاصمة المملكة، وأهلها فرحون مُستبشرون، زاعمون أنّ ذلك أمارة الغلبة والظَّفَر؟!

نعم، إنّهم ارتكبوا المجازر التي تشمئزّ منها القلوب، وفعلوا ما يُقرح الأكباد، ولكنّهم نسوا شيئاً واحداً، وهو أنّه هناك سنّة الله وإرادته التي تغلب كلّ شيء!

أرادوا أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، وأبى الله ذلك:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) ، وقال سبحانه وتعالى:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢) .

أرادوا أن يغلبوا حجّة الله وقد قال سبحانه وتعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (٣) .

تخيّلوا أنّ الغلبة بالعدد والعُدّة فقط، وقد نسوا قوله تعالى:( ... كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ... ) (٤) .

____________________

(١) التوبة: ٣٢.

(٢) الصف: ٨.

(٣) المجادلة: ٢١.

(٤) البقرة: ٢٤٩.

٢٣٥

ومن هذا المنطق، ننطلق إلى سنّة إلهيّة ثابتة في ساحة صراع الحقّ مع الباطل، وهي انتصار الحقّ على الباطل، لقد غلب الدمُ السيفَ؛ لأنّ الله يقول:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (١) ، وقال تعالى: ( ... فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٢) .

كيف انقلبت المعادلة؟

إنّ مسألة انقلاب المعادلة، وتغيُّر الأوضاع، وتبدُّل كَفَّتي الموازنة لم تحصل دُفعة ودونما مقدّمات، بل هي حصيلة جهود كثيرة، ونتيجة مُقاساة شدائد صعبة، تحمّلها أهل بيت الحسينعليه‌السلام ، وعلى رأسهم سيّد المتهجِّدين وزين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، والسيّدة العقيلة زينب الكبرى (سلام الله عليها). وابتدأت تلك الجهود بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام مباشرة، واستمرّت في الكوفة وفي الطريق إلى الشام، وأثمرت في دمشق، وامتدّت حتّى وصلت إلى بيت الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية، بحيث زعزعت أركان حكومته من الداخل والخارج.

هذا ما سنتناوله في هذه المرحلة، ونُركّز على بعض جوانبه، وننظر إلى بعض زواياه.

نظرة إلى دور الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

لقد رأينا موقف الإمامعليه‌السلام تجاه المسائل العديدة التي حصلت بعد عاشوراء إلى زمان دخوله الشام - لا سيّما ما جرى في الشام - ولقد ذكرنا شواهد مُتعدِّدة على دور الإمام البارز على صعيد الشعب والحكومة والشخصيات.

فقد تمكّن الإمامعليه‌السلام أن يُكسِّر الحواجز، ويُهدِّم الموانع التي فرضتها السلطة

____________________

(١) الصافات: ١٧١ - ١٧٣.

(٢) المائدة: ٥٦.

٢٣٦

الطاغية، ويعبر جميع ذلك، ويقوم بكسر الحواجز الإعلامية المفروضة على الناس، ويُبيِّن الحقائق التي أُخفيت عليهم.

فتارةً يرى الإمامعليه‌السلام أُناساً ساذجين قلبوا الأمر عليهم، فيواجههم برحابة صدره الشريف، كما حصل ذلك مع الشيخ الشامي، الذي حمد الله على قتل الحسينعليه‌السلام وأهله! - في البدية - ولكنّه حينما يسمع آيات قرآنية نازلة في شأن آل بيت رسول الله - كآية التطهير والمودّة في القربى وغيرها - يرجع إلى فطرته السليمة ويقول: اللّهمَّ، إنّي تائب إليك ممّا تكلّمته ومن بُغض هؤلاء القوم! اللّهمَّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس(١) .

ولم يتحمّل يزيد ذلك، فأمر بقتل ذلك الشيخ الشامي(٢) .

إنّ التمسّك بالقرآن والاستدلال به، هو أحسن طريق اتّخذه الإمامعليه‌السلام للاحتجاج به في هذا المقطع؛ لأنّهم - كما ذكرنا - منعوا نشر أحاديث فضل أهل البيتعليهم‌السلام منعاً كاملاً، كما وضعوا في قبالها أحاديث في شأن مبغضيهم!

فتارةً نرى الإمام إذا واجه الطاغية، قابله وهاجمه بقوّة الإيمان، وصلابة البيان، وإقامة البرهان، بحيث لم يُبقِ له إلاّ الخزي والخسران، ثمّ أوعده بالنيران؛ لأنّه تابع إمامه الذي ليس هو إلاّ الشيطان، ولكونه ثمرة عبدة الأوثان.

فلذلك واجهه بهذا الكلام:( أنشدك بالله - يا يزيد -، ما ظنّك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لو رآنا مقرَّنين في الحبال؟! أما كان يرقُّ لنا؟! ) .

فأمر يزيد بالحبال فقُطعت، وعُرِف الانكسار فيه(٣) ، فلم

____________________

(١) الفتوح ٢/ ١٨٣؛ تفسير فرات الكوفي: ١٥٣ ح١٩١؛ أمالي الصدوق: ٢٣٠؛ روضة الواعظين ١/ ١٩١؛ الاحتجاج ٢/ ١٢٠؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٤ و١٦٦.

(٢) الملهوف: ٢١١؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤.

(٣) الطبقات الكبرى: ٨٣؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٩؛ تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ الكامل في التاريخ ٤: ٨٦؛ تاريخ دمشق ١٩/ ٤٩٣؛ مُثير الأحزان: ٩٨؛ الملهوف: ٢١٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٤.

٢٣٧

يبقَ في القوم إلاّ مَن بكى(١) .

وحينما استشهد يزيد - المدّعي خلافة رسول الله - ببيت لشاعر جاهلي يُجيبه الإمامعليه‌السلام بآية قرآنية، فيثقل ذلك على يزيد(٢) ، ولم يجد إلاّ أن يلتجئ لآية شريفة في غير موقعها، فيُثبت الإمامعليه‌السلام له وللجميع عدم فقهه بالقرآن، وعدم دركه معناه(٣) ، هذا وهو مدّعي الخلافة الإسلاميّة!

ومع الأسف الشديد، فإنّ كثيراً من المؤرّخين لم يذكروا هذه القطعة الأخيرة!

هذا جانب ممّا نُقل عن نشاط الإمامعليه‌السلام ، على صعيد مواجهة الطاغوت ومُجابهته، وكسر كبريائه وسطوته، وكذا الأمر بالنسبة إلى مقابلة الإمامعليه‌السلام مع بعض الأشخاص، سواء كانوا من الساذجين المنخدعين منهم - كما مرّ في قصّة الشيخ الشامي - أو غيرهم مثل ما ذُكِر حول تكلّم الإمامعليه‌السلام مع مكحول صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) أو منهال(٥) .

وأمّا على الصعيد الشعبي العام، فنجد ذروة ذلك في خطبته الغرّاء، التي أُلقيت أمام حشد الجماهير مع حضور يزيد الملعون، ولقد بسطنا القول في تأثير الخُطبة وصداها فراجِعْ (٦) ، ونكتفي بذكر ما أورده السيّد محمّد بن أبي طالب عند ذكره الخُطبة، قال: ( فلم يزل يقول: أنا. حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب والأنين، وخشي يزيد اللعين أن تكون فتنة، فأمر المؤذِّن فقال: اقطع عليه الكلام )(٧) .

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦٢.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٣/ ١٠٩، ح٢٨٠٦؛ تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٩٣؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٩؛ تاريخ الإسلام: ١٨؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٥.

(٣) تفسير القمّي ٢/ ٣٥٢؛ الفصول المهمّة: ١٩٥.

(٤) الاحتجاج ٢/ ١٣٤؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٢.

(٥) تفسير القمّي ٢/ ١٣٤؛ الفتوح ٢/ ١٨٧؛ تفسير فرات الكوفي: ١٤٩؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧١.

(٦) أُنظر مبحث (نظرة خاطفة في الخُطبة وصداها) في هذا الكتاب.

(٧) تسلية المجالس ٢/ ٣٩٥.

٢٣٨

ومن هنا نعلم ما هو السرّ وراء قيام يزيد بحبس الإمامعليه‌السلام (١) ، أو أمره باغتياله(٢) ، واقتراح بعض الصحابة!(٣) ومشاوريه(٤) ذلك.

وهذه الشواهد المتقنة تؤيّد مدى نجاح نشاط الإمامعليه‌السلام وعمله في جوانب مُتعدّدة.

نظرة إلى دور زينب الكبرىعليها‌السلام :

لقد قامت السيّدة العقيلة زينب الكبرى - سلام الله عليها - بواجبها الرسالي، امتداداً للنهضة الحسينيّة، وتجسيداً رائعاً لقيمها الراقية وأهدافها السامية.

إنّها بنت علي وفاطمة.

إنّها أُخت الحسنين.

إنّها التي تغذَّت في حِضن النبوّة، وتربّت في كَنف الولاية.

وهي التي رأت مصائب لم ولن يرى مثلها أحد!

لقد رأت بالأمس مظلوميّة جدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر أيّام حياته.

ثمّ رأت مظلوميّة أُمّها الصدّيقة الشهيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وكيف كُسِر ضلعها(٥) ، وأُحِرق باب دارها(٦) ، وهي التي حضرت المسجد مع أُمّها ونقلت تلك الخُطبة الغرَّاء التي ألقتها أُمّهاعليها‌السلام (٧) .

____________________

(١) المناقب ٤/ ١٧٣؛ أمالي الصدوق: ٢٣١؛ بصائر الدرجات: ٣٣٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٠.

(٢) بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٨ و٢٠٠؛ المناقب ٤/ ١٧٣.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ١٩/ ٤٢٠.

(٤) إثبات الوصيّة: ١٤٥؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٨.

(٥) كتاب سليم بن قيس الهلالي: ٤٠؛ الاحتجاج ١١/ ٢١٢، ولقد أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوقوع ذلك، اُنظُر أمالي الصدوق: ١٧٦ ح١٧٨؛ إرشاد القلوب: ٢٩٥؛ فرائد السمطين ٢/ ٣٥؛ نوادر الأخبار: ١٦١.

(٦) إثبات الوصيّة: ١٢٤.

(٧) الاحتجاج ١/ ٢٥٣، وانظر: بلاغات النساء: ١٩؛ معاني الأخبار: ٣٥٤؛ أمالي الطوسي: ٢٣٨؛

٢٣٩

وبذلك تعلّمت كيف تواجه الحُكّام الظلمة، بقوّة البيان، وصلابة الإيمان، وإذا أردْتَ أن تعلم جذور خُطب زينب، فارجِع البصر إلى ما بعد وفاة الرسول، تجدها ترجع إلى خُطبة أُمّها الزهراء البتول (سلام الله عليها).

ثمّ رأت غربة أبيها المظلوم عليّ بن أبي طالب واستشهاده، ثمّ الحسن عليهم (سلام الله جميعاً).

أمّا اليوم، فقد أصبحت بطلة المعركة الكبرى، ولقد أدّت واجبها بأحسن وجه، وعبر مواقف؛ منها:

١ - متابعتها لإمام زمانها وابن أخيها عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، الذي عرّفته أمام يزيد بقولها هو المتكلِّم(١) .

٢ - وقوفها الصلب أمام الطاغية يزيد.

٣ - تأثير كلامها في أوساط المجتمع الشامي، وخاصّة في مجلس يزيد.

٤ - تأثيرها البالغ في قلب العاصمة وفي بيت يزيد، كما يأتي تفصيل ذلك.

٥ - موقفها العاطفي أمام رأس أخيها الحسين، بحيث قلبت المجلس، إلى حدٍّ قالوا: فأبكت - والله - كلّ مَن كان(٢) .

٦ - إلقاء خطبتها الغرّاء في مجلس يزيد، التي تضمّنت معاني عالية، ومضامين راقية، وبراهين مُتقنة، ولقد بسطنا القول في شأنها.

____________________

كشف الغمّة ٢/ ١١٤؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦/ ٢٣٣؛ أعلام النساء ٤/ ١٢٨؛ إحقاق الحقّ ١٠/ ٣٠٦؛ بحار الأنوار ٤٣/ ١٥٩.

(١) المناقب ٤/ ١٧٣.

(٢) الاحتجاج ٢/ ١٢٣.

٢٤٠