مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234480 / تحميل: 8797
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

نظرة إلى دور سائر أهل البيتعليهم‌السلام وأثره:

لقد ذكرنا مواقف صلبة من أهل البيتعليهم‌السلام ، في مواضع مُختلفة، ومواطن مُتعدّدة:

منها: الموقف الذي اتّخذته أُمّ كلثوم أمام طلب الرجل الشامي من يزيد(١) .

ومنها: ما قامت به سكينة في تعريف هذه الأُسرة الطاهرة بقولها: ( نحن سبايا آل محمّد )(٢) ، فهذا الكلام يُثير سؤالاً في أذهان الناس، فحواه: أنّه لو كانوا هم من آل محمّد، فلماذا السبي؟! وهل هذه هي المودّة في القُربى التي جعلها الله أجراً لجدّهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وهي التي كشفت القناع عن باطن يزيد بقولها: ( والله، ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً، ولا مشركاً شرّاً منه، ولا أجفى منه! )(٣) .

وهي التي أذلّت يزيد بقولها: يا يزيد، بنات رسول الله سبايا؟!(٤) .

ومنها: الموقف الذي اتّخذته فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام ، بحيث حينما دخلوا بيت يزيد ما وجدوا فيهنّ سفيانيّة إلاّ وهي تبكي(٥) .

قال ابن نما: ( وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد، بنات رسول الله سبايا؟! فبكى الناس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات )(٦) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٧.

(٢) قُرب الإسناد ٢٦/ ٨٨، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٩ ح١٥.

(٣) أمالي الصدوق: ٢٣٠، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٤.

(٤) الطبقات الكبرى: ٨٣؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٣.

(٥) العقد الفريد ٥/ ١٣٢؛ مُثير الأحزان: ٩٩؛ شرح الأخبار ٣/ ٢٦٨؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧.

(٦) مُثير الأحزان: ٩٩.

٢٤١

وكذا ما روي في شأن عمرو بن الحسن، حينما طالبه يزيد المصارعة مع ولَده خالد(١) .

فإنّ المتأمِّل في جميع ذلك - وهو شيء قليل ممّا وصل بأيدينا، وما أخفته الأعداء حقداً وبغضاً وحسداً أكثر، والله العالم - يجد أنّ هذه المسيرة حقّقت أهدافها، ووصلت إلى بُلغتها، ونالت مُناها من استيقاظ الناس وكشف النقاب عن سريرة أصحاب الزمرة الطاغية، وإصلاح أمر الأُمّة؛ لكي تكون معركة كربلاء أعظم وأشرف معارك الحقّ ضدّ الباطل على مدى الدهور والأعصار.

نظرة إلى مواقف بعض الصحابة:

لقد ذكرنا في مطاوي الأبحاث السابقة، أنّ بعض الصحابة كان لهم الدور الإيجابي تجاه الفاجعة العُظمى التي حصلت في أرض كربلاء، وجرى الحق على ألسنتهم، وتكلّموا بالواقع، واتّخذوا مواقف جليلة، ولا نعني بذلك تبرئتهم عن عدم نصرتهم الحسينعليه‌السلام ، بل المقصود أنّ اتّخاذ هذا الموقف نفسه قد أثّر في أوساط الناس وانقلاب المعادلة، ومن هؤلاء:

١ - سهل بن سعد، فهو الذي قال هذه الكلمة - حينما علم بورود سبايا أهل البيت الشام ومعهم رأس الحسينعليه‌السلام -: وا عجباه! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟!(٢) .

٢ - واثلة بن الأسقع، فإنّه لما سمع أنّ رجلاً من أهل الشام قام بلعن الحسين وأبيه(عليه ما السلام) - وقد جيء برأسه الشريف - قال: والله، لا أزال أُحبّ عليّاً والحسن

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ٨٤ (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع )؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٧٨؛ مُثير الأحزان: ١٠٥؛ الملهوف: ٢٢٣.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٠؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٧.

٢٤٢

والحسين وفاطمة بعد أن سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) يقول فيهم ما قال...(١) .

٣ - أبو برزة الأسلمي، هو الذي اعترض على يزيد حينما رآه ينكت رأس الحسينعليه‌السلام بالخيزران بقوله: يا يزيد، ارفع قضيبك، فوالله، لطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبِّل ثناياه(٢) .

ولقد بسطنا القول في تفصيل ذلك عند ذكر مجلس يزيد، فراجِع.

٤ - زيد بن أرقم، فإنّه اتّخذ موقفاً مُشابهاً لموقف أبي برزة الأسلمي بقوله: كُفّ عن ثناياه، فطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبّلها.

فقال يزيد: لو لا أنّك شيخ خَرِفت لقتلتك(٣) .

وإليه أشار السيّد الحميري في أشعاره(٤) .

٥ - النعمان بن بشير، قيل: إنّه ممّن استنكر فعل يزيد في مجلسه(٥) .

وروى الخوارزمي، بإسناده عن عكرمة بن خالد قال: ( أُتي برأس الحسين إلى يزيد بن معاوية بدمشق فنُصب، فقال يزيد: عليَّ بالنعمان بن بشير، فلما جاء قال: كيف رأيت ما فعل عبيد الله بن زياد؟!

قال: الحرب دُوَل.

فقال: الحمد لله الذي قتله!

قال النعمان: قد كان أمير المؤمنين - يعني به معاوية - يكره قتله.

فقال:

____________________

(١) أُسد الغابة ٢/ ٢٠. ونحوه ما ذكره الذهبي في شأن وائلة بن الأسقع، والظاهر اتّحاده مع ما مرّ (سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٤).

(٢) تذكرة الخواص: ٢٦١، وانظر: تهذيب الكمال ٦/ ٤٢٨؛ تاريخ الطبري ٤/ ٢٩٣؛ المنتظم ٥/ ٣٤٢؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٩؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤ و١٩٩.

(٣) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨.

(٤) المناقب ٤/ ١١٤.

(٥) الجوهرة ٢/ ٢١٩ على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٠.

٢٤٣

ذلك قبل أن يخرج، ولو خرج على أمير المؤمنين - والله - قتله إن قدر.

قال النعمان: ما كنت أدري ما كان يصنع!

ثمّ خرج النعمان، فقال (يزيد): هو كما ترون إلينا مُنقطع، وقد ولاّه أمير المؤمنين ورفعه، ولكنّ أبي كان يقول: لم أعرف أنصاريّاً قطّ إلاّ يُحبّ عليّاً وأهله ويُبغض قريشاً بأسرها )(١) .

هذا مع أنّ ابن أبي الحديد قد صرّح بانحرافه عن عليّعليه‌السلام بقوله: وكان النعمان بن بشير مُنحرفاً عنه، وعدوّاً له، وخاض الدماء مع معاوية خوضاً، وكان من أُمراء يزيد ابنه حتّى قُتل وهو على حاله(٢) .

ولقد أثّر اتّخاذ هذا الموقف من بعض الصحابة، بحيث لم يتحمّله يزيد وقال: لو لا صحبتك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لضربت - والله - عنقك!

فقال: ويلك! تحفظ لي صحبتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا تحفظ لابن رسول الله بنوّته؟!

فضجّ الناس بالبكاء، وكادت أن تكون فتنة(٣) .

بعض الموالين لأهل البيت في الشام:

حينما نُريد أن نُحلّل الواقع الاجتماعي، لابدّ أن نلتفت إلى هذه النقطة، وهي أنّ المستفاد من بعض النصوص وجود بعض الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام في الشام، وفي قلب عاصمة الدولة الأمويّة، وهذا أمر لا يمكن أن نتغافل عنه في هذا المقطع.

ممّا يؤيّد هذا المطلب هو ما رواه سهل بن سعد، قال: ( خرجت إلى بيت المقدس، حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مُطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقوا

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤/ ٧٧.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

٢٤٤

الستور والحُجب والديباج، وهم فرحون مُستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت - في نفسي -: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن.

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا هؤلاء، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟

قالوا: يا شيخ، نراك غريباً!

فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) وحملت حديثه.

فقالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها؟!

قلت: ولِمَ ذاك؟!

فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُهدى من أرض العراق إلى الشام، وسيأتي الآن... )(١) .

وهذا الخبر يدلّ على وجود ضمائر حيّة عارفة بالأُمور، وتُميّز الحقّ عن الباطل، فلابدّ أن نجعل لهم سهماً في دعم النهضة الحسينيّة وإيقاظ الناس، وإن لم نعلم تفاصيله.

وممّا يؤيّد ذلك، ما روي أنّ بعض الفضلاء التابعين، لما شاهد رأس الإمام الحسينعليه‌السلام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلما وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟! ثمّ أنشأ يقول:

جـاءوا برأسك يا بن بنت محمّد

مُـتـرمّلاً بـدمـائه تـرمـيلا

فـكأنّما بـك يـا بن بنت محمّد

قـتلوا جِـهاراً عـامدين رسولا

قـتلوك عـطشاناً ولـمَّا يرقبوا

فـي قـتلك الـتأويل والتنزيلا

ويُـكبِّرون بـأن قُـتلت وإنّـما

قـتلوا بـك الـتكبير والتهليلا

يا مَن إذا حسن العزاء عن امرئ

كـان الـبكا حَـسناً عليه جميلا

فـبكتْك أرواح الـسحائب غدوة

وبكتْك أرواح الرياح أصيلا(٢)

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٠.

(٢) تسلية المجالس ٢/ ٣٨٢، ( ذكره السيّد محمّد بن أبي طالب ضمن أحداث الشام ).

٢٤٥

نفوذ بعض الموالين في جهاز الحكم الأُموي!

إنّ الناظر في الأحداث التأريخية، يجد شواهد قد يُستشمّ منها نفوذ بعض مُحبّي أهل البيت في جهاز السلطة، منها ما رواه الطبري عن حبس الأُسارى من آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في السجن بالكوفة، ووقوع حجر فيه ومعه كتاب مربوط، وفيه خبر خروج البريد بأمرهم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً، وراجع في كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إن شاء الله(١) .

فهذا ممّا يؤيّد نفوذ موالي أهل البيت في جهاز السلطة، ولو بتعدّد الوسائط.

وممّا يؤيّد ذلك، ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حول موضع دفن رأس الحسينعليه‌السلام بقوله:( ولكن لما حُمِل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه‌السلام ) (٢) . وسيأتي الكلام حول موضع دفن الرأس الشريف.

يزيد يواجه المشاكل في بيته!

إنّ عُمق المأساة أثّر في نفوس الكلّ، حتّى دخل بيت يزيد، الذي لم يتمكّن من السيطرة على الوضع. وبين يديك الشواهد التأريخية التي تُثبت ذلك:

١ - بكاء نساء الأُسرة الأُمويّة

قال البلاذري: وصيَّح نساء من نساء يزيد بن معاوية، وولولن حين أُدخل نساء الحسين عليهنّ(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤.

(٢) كامل الزيارات: ٣٤ ب٩ ح٥؛ الكافي ٤/ ٥٧١ ح١؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٧٨.

(٣) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٧.

٢٤٦

قال ابن فتّال: ثمّ أُدخِل نساء الحسين على يزيد بن معاوية - لعنهما الله وأخزاهما - فصِحْنَ نساء أهل يزيد وبنات معاوية وأهله، وولولن وأقمن المأتم(١) .

وروي عن فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام أنّها قالت: ( فدخلت إليهنّ فما وجدت سفيانيّة إلاّ مُلتدمة(٢) تبكي )(٣) .

قال ابن الصبّاغ: قال (يزيد): ( أدْخِلُوهم إلى الحريم )، فلما دخلْنَ على حرمه لم تبقَ امرأة من آل يزيد إلاّ أتتهنّ وأظهرنَ التوجّع والحزن على ما أصابهنّ وعلى ما نزل بهنّ(٤) .

قال الطبري، بإسناده عن الحارث بن كعب عن فاطمة بنت عليّعليهما‌السلام : ( فخرجن حتّى دخلن دار يزيد، فلم تبقَ من آل معاوية امرأة إلاّ استقبلتهنّ تبكي تنوح على الحسين )(٥) .

روى البلاذري: ( لما قُدِم برأس الحسين على يزيد بن معاوية، فأُدخل أهله الخضراء بدمشق، تصايحت بنات معاوية ونساؤه فجعل يزيد يقول:

يا صيحةً تُحمد من صوائح

ما أهوت الموت على النوائح

إذا قضى الله أمراً كان مفعولاً، قد كنّا نرضى من طاعة هؤلاء بدون هذا! )(٦) .

____________________

(١) روضة الواعظين ١/ ١٩١.

(٢) الملتدمة: التي تضرب صدرها في النياحة.

(٣) العقد الفريد ٥/ ١٣٢؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٧٣.

(٤) الفصول المهمّة: ١٩٥. انظر: جواهر المطالب ٢/ ٢٩٥؛ نور الأبصار: ١٣٢.

(٥) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣. وانظر: المنتظم ٥/ ٣٤٤؛ تذكرة الخواص: ٢٦٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٣؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩؛ البحار ٤٥/ ١٤٢.

(٦) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٩. وانظر: تذكرة الخواص: ٢٦٥. حيث يقول: لما دخلت نساء الحسين على

٢٤٧

نعم، روى القاضي نعمان ما يُغاير ما ذكرناه مبدئيّاً، فإنّه روى عن علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال:( وأمر بالنسوة فأُدخلن إلى نسائه، ثمّ أمر برأس الحسين عليه‌السلام ، فرُفع على سنّ القناة، فلما رأين ذلك نساؤه أعولن، فدخل - اللعين - يزيد على

____________________

نساء يزيد قلن: وا حسيناه! فسمعهنّ يزيد فقال: يا صيحة...

أقول: إنّ إحالة الأمر إلى القضاء والقدر - من دون استيعاب معناه - كان من دأب بني أُميّة وأنصارهم، ومن هذا المنطلق ترويج الفكر الجبري أمام الاختيار؛ وذلك لأجل تبرئة أنفسهم عمّا ارتكبوا! وتخدير عقول الناس.

يقول العلاّمة الحجّة آية الله السبحاني - دام ظلّه - في كتاب (أبحاث في المِلل والنحل) ١/ ٢٣٣: لقد اتّخذ الأُمويّون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيئة، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتّى ضروب العَبث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري (في الأوائل ٢/ ١٢٥): إنّ معاوية أوّل مَن زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها.

ولأجل ذلك؛ لما سألت أُمُّ المؤمنين عائشة معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين، فأجابها: إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء! وليس للعباد الخِيَرة من أمرهم. الإمامة والسياسة ١/ ١٦٧، وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد الله بن عمر، عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه... وقد كانت الحكومة الأُمويّة الجائرة مُتحمّسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد.

قال الدكتور أحمد محمود الصبحي ( في كتابه نظرية الإمامة: ٣٣٤ ): ( إنّ معاوية لم يكن يدعم مُلكه بالقوّة فحسب، ولكن بآيديولوجية تمسُّ العقيدة في الصميم، ولقد كان يُعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين عليّعليه‌السلام قد احتكما فيها إلى الله، فقضى الله له على عليّعليه‌السلام ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء، ليس للعباد خِيَرة في أمرهم، وهكذا كاد أن يستقرَّ في أذهان المسلمين أنّ كلّ ما يأمر الخليفة حتّى ولو كانت طاعة الله في خلافه، فهو قضاء من الله قد قُدِّر على العباد ).

وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأُمويّين، من الذين كانوا في خدمة خلفائهم وأُمرائهم، فهذا عمر بن سعد بن أبي وقّاص قاتل الإمام الشهيد الحسينعليه‌السلام لما اعترض عليه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله: ( اخترت هَمَدَان والرَّيَّ على قتل ابن عمّك؟! ). يُجيبه بالقول: ( كانت أُموراً قُضيت من السماء، وقد أعذرت إلى ابن عمّي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى ) (طبقات ابن سعد ٥/ ١٤٨).

٢٤٨

نسائه فقال: ما لَكُنَّ لا تبكين مع بنات عمِّكُنَّ. وأمرهن أن يُعْوِلن معهنّ تمرّداً على الله عزّ وجلّ واستهزاءً بأولياء الله عليهم‌السلام .

ثمّ قال:

نُـفلِّق هـاماً من رجال أعزَّة

عـلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

صبرنا وكان الصبر منّا سجيّة

بأسيافنا يفرين هاماً ومعصما

وجعل يستفرِه الطرب والسرور، والنسوة يبكين ويندبن، ونساؤه يُعولن معهنّ وهو يقول :

شـجيٌّ بكى شجوة فاجعاً

قـتيلاً وباكٍ على مَن قُتل

فـلم أرَ كـاليوم في مأتم

كان الظُّبا به والنفل )(١)

٢ - موقف زوجة يزيد:

روى الطبري، بإسناده عن القاسم بن بخيت قال: ( ودخلوا على يزيد، فوضعوا الرأس بين يديه، وحدّثوه الحديث، قال: فسمعت دَوْرَ الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كُرَيز - وكانت تحت يزيد بن معاوية - فتقنّعت بثوبها وخرجت، فقالت: يا أمير المؤمنين، أرأسُ الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟!

قال: نعم، فأعْوِلي عليه، وحُدّي على ابن بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد، فقتله قتله الله(٢) ).

ولكنَّ الخوارزمي نقله بعد أحداث ورود أهل بيت الحسين بيت يزيد، قال:

____________________

(١) شرح الأخبار ٣/ ١٥٨. والشجي الهيم. والنَّفل: المغنم، فشبّه اللعين نساءه بالظُّبى، وجعل نساء الحسينعليه‌السلام مغنماً.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٣.

٢٤٩

(وخرجت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد - وكانت قبل ذلك تحت الحسين بن عليّعليهما‌السلام - فشقّت الستر وهي حاسرة، فوثبت على يزيد وقالت: أرأس ابن فاطمة مصلوب على باب داري؟! فغطّاها يزيد، وقال: نعم! فأعْوِلي عليه يا هند، وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله! )(١) .

وصُرِّح في رواية السيّد محمّد بن أبي طالب(٢) والعلاّمة المجلسي(٣) ، أنّها شقّت الستر وهي حاسرة، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عام فغطّاها.

فبناءً عليه، فهي خرجت إلى مجلس يزيد بعد ورود أهل بيت الحسين إلى بيتها.

قال ابن سعد: ( وبكت أُمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز على الحسين، وهي يومئذٍ عند يزيد بن معاوية، فقال يزيد: حقّ لها أن تُعْوِل على كبير قريش وسيّدها )(٤) .

رؤيا زوجة يزيد!

قال العلاّمة المجلسي: روي في بعض مؤلّفات أصحابنا... قال:

( ونُقل عن هند زوجة يزيد قالت: كنت أخذت مضجعي، فرأيت باباً من السماء وقد فُتحت، والملائكة ينزلون - كتائب كتائب - إلى رأس الحسين وهم يقولون: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله.

فبينما أنا

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٣.

(٢) تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩.

(٣) بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٢.

(٤) الطبقات الكبرى: ٨٣؛ روي في سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٣؛ مرآة الزمان: ١٠٠ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٩).

٢٥٠

كذلك إذ نظرت إلى سحابة قد نزلت من السماء وفيها رجال كثيرون، وفيهم رجل دُرِّيّ اللون، قمريّ الوجه، فأقبل يسعى حتّى انكبّ على ثنايا الحسين يُقبّلهما وهو يقول: يا ولدي، قتلوك! أتراهم ما عرفوك؟! ومن شرب الماء منعوك! يا ولدي، أنا جدّك رسول الله، وهذا أبوك عليّ المرتضى، وهذا أخوك الحسن، وهذا عمّك جعفر، وهذا عقيل، وهذان حمزة والعبّاس، ثمّ جعل يُعدّد أهل بيته واحداً بعد واحد.

قالت هند: فانتبهت من نومي فزعةً مرعوبةً، وإذا بنور قد انتشر على رأس الحسين، فجعلت أطلب يزيد وهو قد دخل إلى بيت مُظلم، وقد دار وجهه إلى الحائط وهو يقول: ما لي وللحسين؟! وقد وقعت عليه الهمومات، فقصصت عليه المنام وهو مُنكّس الرأس )(١) .

إقامة عزاء الحسينعليه‌السلام في بيت الطاغية!

إنّ أهل بيت الحسينعليه‌السلام بدّلوا بيت يزيد إلى موضع إقامة العزاء والمأتم على الحسينعليه‌السلام ، حيث صرَّح بعض المؤرِّخين بقوله: ( وأقمن المأتم )(٢) ، وذلك بعد ورودهنّ بيت يزيد.

وصرّح بعض آخر بأنّهنّ أقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيّام(٣) .

وانقلب الأمر على اللعين يزيد بن معاوية، حتّى التجأ هو لإقامة المأتم على

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٦. وانظر: نور الأبصار: ١٣٥، فقد ذكر الرؤيا بتفصيل.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦؛ تذكرة الخواص: ٢٦٥؛ روضة الواعظين ١/ ١٩١؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٧؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٣؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٢.

٢٥١

الحسينعليه‌السلام ثلاثاً!!

قال ابن سعد: (وأمر - يزيد - نساء آل أبي سفيان، فأقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيّام، فما بقيت منهنّ امرأة إلاّ تلقّتنا تبكي وتنتحب، ونُحنَ على حسين ثلاثة )(١) .

وقال البلاذري: ( وصيَّحَ نساء من نساء يزيد بن معاوية، وولولن حين أُدخل نساء الحسين عليهنّ، وأقمن على الحسين مأتماً، ويقال: إنّ يزيد أذِن لهنّ في ذلك )(٢) .

وقال السيّد ابن طاووس: ( ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسينعليه‌السلام وتُنادي: يا حبيباه! يا سيّداه! يا سيّد أهل بيتاه! يا بن محمّداه! يا ربيع الأرامل واليتامى! يا قتيل أولاد الأدعياء!

قال الراوي: فأبكت كلّ مَن سمعها )(٣) .

والمستفاد من بعض النصوص: أنّ مأتم الحسين استمرّ أكثر من ذلك - ولعلّ التحديد بثلاثة أيّام راجع إلى ما أمره يزيد بإقامة المأتم، مثل ما رواه العلاّمة المجلسي (رحمه الله) عن بعض مؤلّفات أصحابنا، فإنّه بعدما نقل رؤيا زوجة يزيد قال: ( فلما أصبح [يزيد] استدعى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهنّ: أيُّما أحبّ إليكنَّ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة؟ ولكم الجائزة السَّنْيَّة!

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ٨٣. وروي نحوه في تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ مرآة الزمان: ١٠٠ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٩) وفيه: قالت سكينة: فما تلقّتنا (ظ) منهنّ امرأة إلاّ وهي تبكي وتنتحب؛ وسير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٣.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٧.

(٣) الملهوف: ٢١٣. ورواه السيّد محمّد بن أبي طالب (تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤).

٢٥٢

قالوا: نُحبُّ أوّلاً أن ننوح على الحسين.

قال: افعلوا ما بدا لكم.

ثمّ أُخليت لهنّ الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبقَ هاشميّة ولا قرشيّة إلاّ ولبست السواد على الحسين، وندبوه - على ما نُقل - سبعة أيّام... )(١) .

بل لابدّ أن يُقال: إنّ العزاء والنوح على الحسينعليه‌السلام استمرّ طيلة مقامهم في دمشق؛ لأنّه لم تكن مُجرّد سكب الدموع وجريانها، بل هي رسالة دم الحسين الذي هزّ أركان سلطة يزيد، بل طريق زوال كلّ ظالم مشى على نهج يزيد.

قال ابن أعثم: ( وأقاموا أيّاماً يبكون وينوحون على الحسين (رضي الله عنه) )(٢) .

وقال ابن نما: ( وكانت النساء مدّة مقامهنّ بدمشق يَنُحْنَ عليه بشجوٍ وأنّةٍ، وينْدُبْن بعويلٍ ورنَّة، ومصاب الأسرى عظم خطبه، والأسى لكم الثكلى عالٍ طبه )(٣) .

وقال السيّد ابن طاووس: (وكانوا مدّة مقامهم في البلد المشار إليه ينوحون على الحسينعليه‌السلام )(٤) .

يزيد يبكي تصنّعاً!!

وآل الأمر إلى أن يُظهر يزيد البكاء أمام الناس تصنّعاً ورياءً، حتّى إنّ ابن قتيبة قال: (فبكى يزيد حتّى كادت نفسه تفيض! وبكى أهل الشام حتّى علت أصواتهم )(٥) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٦.

(٢) الفتوح ٢/ ١٨٥.

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٢.

(٤) الملهوف: ٢١٩.

(٥) الإمامة والسياسة ٢/ ٨.

٢٥٣

ولقد بالغ ابن قتيبة فيما رواه، فما ذكره فهو راجع إمّا إلى حُسْن تصنُّعه! أو ناشٍ عن مدى نصرة ناصريه في الرواية، حشرهم الله معه.

يزيد يأمر بتقديم بعض الخدمات!!

إنّ خوف زوال الملك وحصول الفتن أوجب على يزيد أن يُغيّر معاملته مع أهل البيتعليهم‌السلام ، فلقد ذكرنا في توصيف سكنى أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم أُسكنوا داراً لا يُكنّهم من حرٍّ ولا برد، حتّى أُقْشِرَت وجوههم(١) ، ولكن انظروا إلى ما فعله بعد ذلك.

قال ابن قتيبة: ثمّ قال - يزيد بعد بكائه التصنّعي -: ( خلّوا عنهم، واذهبوا بهم إلى الحمّام، واغسلوهم، واضربوا عليهم القباب ).

ففعلوا، وأمال عليهم المطبخ وكساهم، وأخرج لهم الجوائز الكثيرة من الأموال والكسوة(٢) .

ولكن مع ذلك لم نستبعد وقوع شيء من الكذب في تقديم هذه الخدمات الواهية، فالظنّ الغالب أنّها من أكاذيب أنصار بني أُميّة خذلهم الله.

يزيد يُظهر الندامة ويلعن ابن مرجانة!!

واضطرّ يزيد إلى أن يُظهر الندامة على ما ارتكبه في شأن قتل سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه الكرام الأوفياء، وبادر بلعن عامله على الكوفة عبيد الله بن زياد؛ وذلك نتيجة لعدّة أُمور:

١ - الاستنكار الشعبي العام؛ بحيث بلغه بُغض الناس له ولعنهم وسبّهم

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٢٣١؛ مجلس ٣١؛ ح٢٤٣؛ شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩؛ مُثير الأحزان: ١٠٢؛ الملهوف: ٢١٩؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٢؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٦؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٠.

(٢) الإمامة والسياسة ٢/ ٨.

٢٥٤

إيّاه، وهذا الاستنكار شمل المسلمين كافّة، حيث صرّح يزيد هو نفسه قائل: ( لعن الله ابن مرجانة! لقد بغّضني إلى المسلمين! وزرع لي في قلوبهم البغضاء )(١) ، ( لعن الله ابن مرجانة!.. لقد زرع لي ابن زياد في قلب البرّ والفاجر، والصالح والطالح العداوة! )(٢) .

وقال جلال الدِّين السيوطي: ( ولما قُتِل الحسين وبنو أبيه، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد، فسُرَّ بقتلهم أوّلاً، ثمّ ندم لما مقته المسلمون على ذلك، وأبغضه الناس، وحقّ لهم أن يُبغضوه )(٣) .

وقال الشيخ الصبّان: ( ثمّ ندم لما مقته المسلمون على ذلك وأبغضه العالم )(٤) .

٢ - الاستنكار الخاصّ وذلك في:

أ) وجوه أهل الشام: قال سبط ابن الجوزي: ( ولما فعل يزيد برأس الحسين ما فعل، تغيّرت وجوه أهل الشام، وأنكروا عليه ما فعل )(٥) .

ب) عسكر يزيد: روى ابن الجوزي عن مجاهد - بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى: (نافق فيها، ثمّ - والله - ما بقي في عسكره أحد إلاّ تركه، أي عابه وذمّه )(٦) .

ج) استنكار بيت يزيد: وقد ذكرناه تفصيلاً آنفاً.

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦٥.

(٢) المصدر السابق: ٢٦١.

(٣) تاريخ الخلفاء: ١٦٦.

(٤) إسعاف الراغبين: ١٨٨.

(٥) مرآة الزمان: ١٠٠ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٤).

(٦) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧. وروى نحوه البداية والنهاية ٨/ ١٩٢.

٢٥٥

فظهر أنّ تظاهر يزيد بالندامة، ولعنه ابن مرجانة ما كان إلاّ خوفاً على زوال مُلكه وفناء نفسه الخبيثة، ولم يكن إلاّ عن مكر وخُدعة، وكذب وزور.

هذا هو لُبّ الواقع، وأمّا الظاهر فهناك بعض الروايات تُعالج جانباً من هذا الموضوع، ومع ذلك فيها أمور مُنكرة مدسوسة من قِبل مُحبّي بني أُميّة، ولابدّ من الانتباه لها.

قال ابن الأثير: ( وقيل: ولما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده، وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى بلغه بُغض الناس له ولعنهم وسبّهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما عليَّ لو احتملت الأذى، وأنزلت الحسين معي في داري، وحكّمته فيما يريد وإن كان عليَّ في ذلك وهن في سلطاني؛ حفظاً لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم)، ورعايةً لحقّه وقرابته! لعن الله ابن مرجانة! فإنّه اضطرّه، وقد سأله أن يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر حتى يتوفّاه الله، فلم يُجبه إلى ذلك فقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ما لي ولابن مرجانة؟! لعنه الله وغضب عليه! )(١) .

تأمُّل وملاحظات:

١ - اعتراف يزيد بأنّ ندامته ناشئة عن بُغض المسلمين وعداوتهم له، بعد قتله الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإلاّ فلِمَ الفرح والسرور أوّلاً ثمّ حصول الندامة بعده؟!

٢ - وأمّا قوله: ( وحكّمته فيما يريد وإن كان عليَّ في ذلك وهن في سلطاني )، ففي الحقيقة كان الإمام يرى عدم شرعيّة سلطته، وقد صرّح بقولهعليه‌السلام :( الخلافة

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٧. وروي نحوه تذكرة الخواص: ٢٦٥؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٧؛ تاريخ الإسلام: ٢٠، عن محمّد بن جرير عن يونس بن حبيب.

٢٥٦

مُحرّمة على آل أبي سفيان ) (١) .

فالمطلوب عند الإمام قلع أساس حُكمه وسلطته؛ فحينئذٍ لا يبقى من مُلكه شيء وإن كان موهناً.

٣ - وأمّا قوله: (وقد سأله أن يضع يده في يدي) فهو أيضاً إمّا من أكاذيب يزيد نفسه التي ليست بقليلة، أو من مُفتعلات أعوانه؛ لأنّ الإمام الشهيدعليه‌السلام هو الذي أدلى بموقفه الصامد بقوله:( لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد ) (٢) ، وهو القائل:( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين السلّة والذلّة، وهيهات له ذلك منّي، هيهات منّا الذلّة... ) (٣) .

٤ - وأمّا لعنه ابن مرجانة، فعلى فرض صحّته لا يكون إلاّ صوريّاً؛ لما قد ذكرنا أنّه هو الذي استدعاه وشكر له وشرب معه الخمر بعد مقتل الحسينعليه‌السلام (٤) ، وكذا الجواب فيما قيل: بأنّه غضب على ابن زياد ونوى قتله!(٥) .

والدليل على ذلك؛ بأنّه لم يفعل أيّ شيء بعد ذلك إلاّ الشكر له!

ومن هذا القبيل ما رواه سبط ابن الجوزي عن الواقدي أنّه قال: ( فلما حضرت الرؤوس عنده قال: فرّقت سميّة بيني وبين أبي عبد الله وانقطع الرحم! لو كنت صاحبه لعفوت عنه! ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، رحمك الله يا حسين! لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام! )(٦) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ٣٢٦.

(٢) بحار الأنوار ٤٥/ ٧.

(٣) الاحتجاج ٢/ ٩٩، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٨٣.

(٤) راجع فصل ( قتله الحسينعليه‌السلام ورضاه ).

(٥) تذكرة الخواص: ٢٦٥ عن تاريخ ابن جرير.

(٦) تذكرة الخواص: ٢٦١.

٢٥٧

ولقد أثبتنا لك بالشواهد المتقنة، وذكر الاعترافات المتعدّدة أنّه هو الذي أمر بقتل الحسينعليه‌السلام (١) ، ولكنّ الخبيث يريد أن يتخلّى عن المسؤولية ويجعلها على عاتق فاسقٍ مثله؛ خوفاً من إثارة الناس عليه.

ومن الغريب جدّاً، أنّنا نجد أُناساً يريدون أن يُبرّئوا ساحة يزيد من هذه الجريمة النكراء، وقد لوّثوا بذلك أنفسهم، ومن هؤلاء صاحب خُطط الشام حينما يقول: ( وكانت غلطة ابن زياد في قتل الحسين وسبي آله الطاهرين ذريعة أكبر للنيل من يزيد وآل يزيد، فتقوّلوا عليه وحطّوا من كرامته! مع أنّه سار بسيرة أبيه في الملك من التوسّع في الفتوح وقتال أعداء المملكة من الروم )(٢) .

نعم، إنّه سار بسيرة أبيه، بل أسرع في السير في بُغيه وظلمه وجوره وطغيانه ووقوفه أمام الحقّ، وقتله الطاهرين من ذرّية خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذهب بنفسه إلى عذاب ربّ العالمين.

فحينئذٍ؛ لا يمكن لأحد أن يُخفي ما في ضميره باستعمال كلمة غلطة ابن زياد وما شابهها، فإنّه إن صحّ التعبير بذلك - وليس بصحيح - فليست هي إلاّ امتثال لما أمره يزيد، والتستّر خلف مسألة الفتوح لا يُغني عن الحقّ شيئاً.

ولعلّ المؤلّف جعل وقعة الحرّة ومجزرة المدينة المنوّرة، وخراب الكعبة من جملة فتوحات يزيد!

ولنختم الكلام بما ذكره السيّد محمّد بن أبي طالب، فإنّه أجاد بقوله: ( وأقول: لعن الله يزيد وأباه! وجَدّيه وأخاه! ومَن تابعه وولاّه، بينا هو ينكت ثنايا الحسين بالقضيب ويتمثّل بشعر ابن الزبعرى... وإغلاظه لزينب بنت عليّ بالكلام

____________________

(١) راجع مبحث: ( قتله الإمام الحسينعليه‌السلام ) في هذا الكتاب.

(٢) خُطط الشام ١/ ١١٣.

٢٥٨

السيّئ لما سأله الشامي.. وقوله لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي قتلهما وسفك دماءهما... ونصب رأس الحسينعليه‌السلام على باب القرية الظالم أهلها - أعني بلدة دمشق - وإيقافه ذرّية الرسول على درج المسجد كسبايا التُّرْك والخزر، ثمّ إنزاله إيّاهم في دار لا يُكنّهم من حرّ ولا قُرّ حتّى تقشّرت وجوههم وتغيّرت ألوانهم، وأمر خطيبه أن يرقى المنبر ويُخبر الناس بمساوئ أمير المؤمنين ومساوئ الحسينعليهما‌السلام وأمثال ذلك، ثمّ هو يلعن ابن زياد ويتبرّأ من فعله ويتنصّل من صُنعه! وهل فَعَل اللعين ما فعل إلاّ بأمره وتحذيره من مخالفته؟! وهل سفك اللعين دماء أهل البيت إلاّ بإرغابه وإرهابه له بقوله، ومراسلته بالكتاب الذي ولاّه فيه الكوفة، وحثّه فيه على قتله، وأمره له بإقامة الأرصاد وحفظ المسالك على الحسين، وقوله لابن زياد في كتابه، وأمره له بإقامة الأرصاد وحفظ المسالك على الحسين، وقوله لابن زياد في كتابه: إنّه قد ابتُلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وفي هذه الكَرَّة تُعتق أو تكون رقّاً عبداً كما تعبد العبيد، فاحبس على التُّهمة واقتل على الظنّة...؟!

وإنّما أظهر اللعين التبرّي من فعل ابن زياد لعنه الله خوفاً من الفتنة وتمويهاً على العامّة؛ لأنّ أكثر الناس في جميع الآفاق والأصقاع أنكروا فعله الشنيع وصُنعه الفضيع، ولم يكونوا راضين بفعله وما صدر عنه، خصوصاً مَن كان حيّاً من الصحابة والتابعين في زمنه، كسهل بن سعد الساعدي، والمنهال بن عمرو، والنعمان بن بشير، وأبي برزوة الأسلمي ممّن سمع ورأى إكرام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له ولأخيه، وكذلك جميع أرباب المِلل المختلفة من اليهود والنصارى... ولم يكن أحد من المسلمين في جميع البلاد راضياً بفعله إلاّ مَن استحكم النفاق في قلبه من شيعة آل أبي سفيان، بل كان أكثر أهل بيته ونسائه وبني عمّه غير راضين بذلك )(١) .

____________________

(١) تسلية المجالس ٢/ ٤٠٠ (بتلخيص).

٢٥٩

وعد يزيد لزين العابدينعليه‌السلام :

قال ابن نما: (وعد يزيد لزين العابدينعليه‌السلام بقضاء ثلاث حاجات )(١) ، والمستفاد من نقل السيّد ابن طاووس أنّه كان بعد اعتراض الإمامعليه‌السلام لما تفوّه به الخطيب الشامي، ووعد يزيد للإمام في ذلك اليوم(٢) ، فحينئذٍ هي من إحدى نتائج الموقف الصلب الذي اتّخذه الإمامعليه‌السلام ، فقام يزيد بتقديم التنازلات، حتى آل الأمر إلى أن يفي بوعده.

قال السيّد (رحمه الله): ( وقال لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : اذكر حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهنّ.

فقال له:

( الأُولى: أن تُريني وجه سيّدي ومولاي الحسين، فأتزوّد منه، وأنظر إليه وأُودِّعه.

والثانية: أن تردّ علينا ما أُخذ منّا.

والثالثة: إن كنت عزمت على قتلي أن توجّه مع هؤلاء النسوة مَن يردّهن إلى حرم جدّهنّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (٣) .

فقال: أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً، وأمّا قتلك فقد عفوت عنك، وأمّا النساء فلا يردّهن إلى المدينة غيرك، وأمّا ما أُخذ منكم فإنّي أُعوّضكم عنه أضعاف قيمته.

فقالعليه‌السلام : أمّا مالك فلا نُريده، وهو موفّر عليك، وإنّما طلبت ما أُخِذ منّا؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد، ومقنعتها، وقلادتها، وقيمصها.

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠٣.

(٢) الملهوف: ٢١٩.

(٣) روي الطلب الثالث هذا في مقاتل الطالبيّين: ١٢٠؛ الاحتجاج ٢/ ١٣٥.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460