مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234464 / تحميل: 8796
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً، فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً فعليهم غضب اللّه ولهم عذاب عظيم».

ثمّ أخرج ما يؤيّد هذا القول عن ابن عباس أنّه قال: «فأمّا من اُكره فتكلّم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه، فلا حرج عليه، لأنّ اللّه سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم»(١) .

وقالأبو بكر الجصاص الحنفي (ت / ٣٧٠ه‍) - بعد أن أخرج عن معمر رواية أبي عبيدة بن محمّد بن عمار بن ياسر المتقدّمة -: «هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه، أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمره به، فاُبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر»(٢) .

ثمّ ذكر بعد ذلك إنّ الإكراه بالقتل، وتلف الأعضاء على شرب الخمر، أو أكل الميتة لا بدّ فيه من امتثال المكرَه، وإن لم يفعل كان آثماً، لأنّ اللّه عزّ وجلّ قد أباح له ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس، مستدلاً بقوله تعالى: (إِلا ما اضطرِرتُم إِليهِ)(٣)(٤) .

ثمّ أخذ في بيان الاُمور التي تصحّ فيها التقية وعدّ منها القذف، والاُمور التي لا تصحّ فيها كالقتل والزنا وشبههما ممّا فيه مظلمة على الإنسان(٥) .

____________________

(١) جامع البيان / الطبري ١٤: ١٢٢.

(٢) أحكام القرآن / الجصاص ٣: ١٩٢.

(٣) الأنعام ٦: ١١٩.

(٤) أحكام القرآن / الجصاص ٣: ١٩٣.

(٥) أحكام القرآن / الجصاص ٣: ١٩٤.

٤١

وذكر أبوالحسن الماوردي الشافعي (ت / ٤٥٠ه‍) عن ابن الكلبي، إنّ الآية نزلت في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية، وصهيب، وخباب، أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان. ثمّ قال: «فإذا أُكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان بقلبه، ليدفع عن نفسه بما أظهر، ويحفظ دينه بما أضمر، فهو على إيمانه، ولو لم يضمره لكان كافراً»(١) .

وبيّنالواحدي المفسّر الشافعي (ت / ٤٦٨ه‍) كيف أنّ الذين لا يؤمنون بآيات اللّه يفترون الكذب، ذلك لأنّهم يقولون لما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى: إن هذا من قول البشر، مشيراً بذلك إلى الآيات المتقدمّة على هذه الآية في سورة النحل، قال: ثمّ سمّاهم كاذبين بقوله: (وأُولئِك هُمُ الكاذِبُون)(٢) .

ثمّ قال في قوله تعالى: (من كفرَ بِاللّهِ بعدَ إِيمانِهِ): «ثمّ استثنى المكره على الكفر (إِلا من أُكرِهَ) على التلفّظ بكلمة الكفر (وقلبُهُ مُطمئِن بِالإِيمانِ) »(٣) .

وقال الفقيهالسرخسي الحنفي (ت / ٤٩٠ه‍) - عن جواز إظهار الكفر تقية في حالة الإكراه، كما نصّت عليه هذه الآية - ما نصّه: «رخّص فيه لعمار بن ياسر رضي اللّه عنه، إلا أنّ هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء، والرسل عليهم الصلاة والسلام، فأمّا في حقّ المرسلين صلوات اللّه عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحقّ، وقد جوّزه بعض الروافض لعنهم اللّه»(٤) .

____________________

(١) تفسير الماوردي المسمّى ب: (النكت والعيون) ٣: ٢١٥.

(٢) النحل ١٦: ١٠٥.

(٣) تفسير الواحدي ١: ٤٦٦ - مطبوع بهامش تفسير النووي المسمّى ب‍: (مراح لبيد).

(٤) المبسوط / السرخسي ٢٤: ٢٥.

٤٢

أقول: إتّفق علماء الشيعة عن بكرة أبيهم على أنّه لو فرض حدوث ما لم يعلم جهته إلا من إمام، كان في هذه الحال كالنبيّ (ص)، لا تجوز عليه التقية قطعاً، لأنّه يلزم من التقية في هذه الصورة الإغرار بالقبيح الذي لا يمكن تصوّر صدوره عن معصوم.

ولا شكّ أنّ ما يتعلّق بأصل الدعوة والدين هو من الوحي الذي لا تعلم جهته إلا من النبيّ، ولذلك فالشيعة لا تجوز عليه (ص) التقية في ذلك قطعاً.

أمّا الجائز من التقية عند الشيعة الإمامية على مطلق المعصوم، فهو كالجائز منها على النبيّ (ص) عند أهل السُّنّة، وهو ما لا يخلّ بالوصول إلى الحقّ، وسيأتي ما يدل عليه في المصدر الثاني من مصادر تشريع التقية.

وربّما قصد الإمامالسرخسي بقوله: «بعض الروافض» غلاة الشيعة كالخطابية لعنهم اللّه، إذ لا يبعد أن يكون لديهم مثل هذا الاعتقاد السيّئ، ولكن نسبة القول بذلك إلى «بعض الروافض» دون تشخيصهم، فهو على الرغم ممّا فيه من التنابز إلا أنّه قد يُوهم البعض بأنّ المقصود هم الشيعة الإمامية نظراً لما يقوله سائر علماء الشيعة في سبب الوعيد الذي سبق حديث الغدير، وربّما يكون هو المقصود.

فإن كان ما عناه - سامحه اللّه - هو هذا، فنقول:

إنّ ما سبق حديث الغدير من وعيد قد بيّنه تعالى بقوله الكريم: (يا أيُّها الرّسُولُ بلِّغ ما أُنزِل إِليك مِن ربِّكَ وإن لم تفعَل فما بلَّغت رسالتَهُ واللّهُ يعصِمُك مِن النّاسِ إِنّ اللّه لا يهدِي القومَ الكافِرينَ)(١) .

____________________

(١) المائدة ٧: ٦٧.

٤٣

فالوعيد الموجّه إلى النبيّ (ص) في هذه الآية لا شكّ فيه، وهو لا يدل على تهاون النبيّ (ص) في أمر الدين، أو توانيه فيما اُنزل إليه، وعدم اكتراثه بشأن الوحي، وكيف يمكن تصوّر صدور مثل هذا القول عمّن قال بعصمة جميع الأنبياء (ع)، ونزاهتهم عن كل نقص؟!

بل المراد من ذلك في نظر علماء الشيعة الإمامية ومن وافقهم من علماء أهل السُّنّة هو أنّ النبيّ (ص) قد تريّث بعض الشيء لجسامة التبليغ الذي عدّه اللّه عزّ وجلّ موازياً لثقل الرسالة كلّها، ريثما يتمّ تدبير الأمر من تهيئة مستلزماته، كجمع حشود الحجاج الذين كانوا معه (ص)، وتمهيد السبيل أمام هذه الحشود لكي تقبل نفوس بعضهم مثل هذا التبليغ، لا سيّما الأعراب الذين أسلموا أخيراً ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم.

ولا يمنع أن يكون النبيّ (ص) قد خشي من بعضهم لأجل ما اُنزل عليه، ويدلّ عليه قوله تعالى: (واللّهُ يعصِمُك مِن النّاسِ)، على أنّ هذه الخشية لم تكن على نفسه الطاهرة، فهو لا يخشى في اللّه لومة لائم، وإنّما كانت على التبليغ نفسه إذ تفرّس (ص) مخالفته فأخّر التبليغ إلى حين، ليجد له ظرفاً صالحاً وجوّاً آمناً عسى أن تنجح فيه دعوته، ولا يخيب مسعاه، فأمره اللّه تعالى بتبليغ عاجل، وبيّن له أهمية هذا التبليغ، ووعده أن يعصمه من الناس، ولا يهديهم في كيدهم، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة(١) .

وهكذا تمّ التبليغ بخطبة وداع وعلى أحسن ما يرام بعيداً عن كل أجواء التقية، إلا أنّه مع الأسف قد اضطرّ بعض من سمع التبليغ إلى التقية في عدم

____________________

(١) الميزان في تفسير القرآن / السيد محمّد حسين الطباطبائي ٦: ٤٦.

٤٤

روايته كما سنثبته في الفصل الثاني من هذا البحث.

أمّا من أراد أن يفسّر تريّث النبيّ (ص) بالوجه المتقدّم على أنّه من التقية المصطلح عليها فليس بذاك، وإنّما هي تقية ليست من قبيل دفع الضرر المحتمل عن النفس أو العِرض أو المال، فهذا التفسير يكذّبه قوله تعالى في مدح رسله عليهم السلام والشهادة لهم بانّهم هم: (الّذِين يُبلِّغون رِسَالاتِ اللّهِ ويخشونَهُ ولا يخشونَ أحداً إِلا اللّه وكفَى بِاللّه حسِيباً)(١) ، وإنّما هي تقية لأجل هذا التبليغ ممّن كان المترقّب من حالهم أنّهم سيخالفونه مخالفة شديدة قد تصل إلى تكذيبه (ص). ومن تصفّح الجزء الأوّل من موسوعة الغدير للعلامة الأميني رحمهُ اللّهُ (ت / ١٣٩٠ه‍) سيجد الكثير ممّن وافق الشيعة الإمامية من علماء أهل السُّنّة على صحّة هذا التفسير.

ولعلّ من المناسب هنا أنّ نذكر قول ابن قتيبة (ت / ٢٧٦ه‍) عن آية التبليغ. قال: «والذي عندي في هذا أنّ فيه مضمراً يبيّنه ما بعده، وهو أنّ رسول اللّه (ص) كان يتوقّى بعض التوقّي، ويستخفي ببعض ما يؤمر به على نحو ما كان عليه قبل الهجرة، فلمّا فتح اللّه عليه مكّة، وأفشى بالإسلام أمرَهُ أن يبلِّغ ما اُرسل إليه مجاهراً به غير متوقّ، ولا هائب، ولا متألف. وقيل له: إن أنت لم تفعل ذلك على هذا الوجه لم تكن مبلِّغاً لرسالات ربّك. ويشهد لهذا قوله بعدُ: (واللّهُ يعصِمُك مِن النّاسِ) أي: يمنعك منهم، ومثل هذه الآية قوله: (فاصدَع بِما تُؤمَرُ وأعرِض عنِ المُشركينَ)(٢) »(٣) ، انتهى بلفظه.

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣: ٣٩.

(٢) الحجر ١٥: ٩٤.

(٣) المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير / ابن قتيبة: ٢٢٢.

٤٥

وهذا القول هو الذي رفضه الإمام الفقيه السرخسي، والشيعة قاطبة تؤيّده على هذا الرفض.

ولنعد بعد هذا إلى جواز التلفّظ بالكفر تقية، والقلب مطمئن بالإيمان، كما مرّ في الآية الثانية المتقدّمة، ودلالتها عند المفسّرين وغيرهم، فنقول:

استدلالكيا الهراسي الشافعي (ت / ٥٠٤ه‍) بهذه الآية على جملة من الأحكام فقال: «وذلك يدلّ على أنّ حكم الردّة لا يلزمه.. إنّ المشرّع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر.. واستدلّ به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكرَه، وعتاقه، وكل قول حمل عليه بباطل، نظراً لما فيه من حفظ حقّ عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردّته حفظاً على دينه»(١) .

قالالزمخشري المعتزلي (ت / ٥٣٨ه‍) في تفسير الآية المتقدّمة: «إنّما يفتري الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكرَه، فلم يدخل تحت حكم الافتراء»(٢) . ثمّ نقل قصة عمّار بن ياسر (ت / ٣٧ه‍)، وما فعله مسيلمة الكذاب (ت / ١٢ه‍) بالصحابيّين، وكيف أنّ أحدهما قد شهد للكذاب تقية أنّه رسول اللّه.

أمّاابن عطية الأندلسي الغرناطي المالكي (ت / ٥٤١ - أو ٥٤٢ - أو ٥٤٦ه‍) فقد بيّن أنّ المراد من الكاذبين في قوله تعالى: (إِنّما يفتَرِي الكَذِب الّذينَ لا يُؤمِنُون بِآياتِ اللّهِ وأُولئِكَ هُمُ الكاذبُون)(٣) ، هم: عبد اللّه بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة وأشباههما ممّن كان آمن برسول اللّه ثمّ ارتدّ. ثمّ قال:

____________________

(١) أحكام القرآن / الكيا الهراسي ٣: ٢٤٦.

(٢) الكشاف / الزمخشري ٢: ٤٤٩ - ٥٥٠.

(٣) النحل ١٦: ١٠٥.

٤٦

«فلمّا بيّن في هذه الآية أمر الكاذبين بأنّهم الذين كفروا بعد الإيمان، أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنين المعذّبين بمكّة، وهم: بلال، وعمار، وسمية اُمّه، وخباب، وصهيب وأشباههم، وذلك أن كفار مكّة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة، يعذّبونهم ليرتدوا، فربّما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول، يُروى أنّ عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه اللّه من هذه الآية، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده»(١) .

ثمّ بيّن بعد ذلك ما يتعلّق بآية التقية من مسائل الإكراه فقال: «ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه:

أمّا من عذّبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه، وكان العذاب يؤدّي إلى قتله فله الإجابة باللسان، قولاً واحداً فيما أحفظ. فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك، ففي هذا اختلاف:

فقالت فرقة هي الجمهور: يجيب بحسب التقية.

وقالت فرقة: لا يجيب ويسلم نفسه.

وقالت فرقة: إن كان السجود نحو القبلة أجاب، واعتقد السجود للّه..»(٢) .

ثمّ أشار إلى حالات الإكراه التي تصحّ فيها التقية، ولا يلزم المكره بشيء منها كالإكراه على البيع، والأيمَان، والطلاق، والعتق، والإفطار في شهر رمضان، وشرب الخمر، ونحو ذلك من المعاصي، ثمّ أكّد أنّ ما بيّنه هو المروي عن مالك بن أنس (ت / ١٧٩ه‍) من طريق مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ.

____________________

(١) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز / ابن عطية الأندلسي ١٠: ٢٣٤.

(٢) م. ن. ١٠: ٢٣٥.

٤٧

وذكر بعد هذا أنّ التقية على مثل هذه الاُمور لا يشترط أن تكون من أجل المحافظة على النفس من التلف، لتعدّد مصاديق الإكراه التي تسوغ معها التقية. فقال: «قال مالك: والقيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه - وإن لم يقع - إذا تحقّق ظلم ذلك المتعدي، وانقاذه لما يتوعّد»(١) .

أمّاابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ه‍)، فقد فصل القول في هذه الآية، وذكر فيها تسع مسائل، نذكرها باختصار، وهي:

المسألة الاُولى: نزول الآية في المرتدين، مع الإحالة إلى ما بيّنه من أحكام المرتدّين في سورة المائدة.

المسألة الثانية: استثناء من تكلّم بالكفر بلسانه عن إكراه، ولم يعقد على ذلك قلبه، فإنّه خارج عن حكم المرتدّ، معذور في الدنيا، مغفور له في الآخرة.

ثمّ أكّد بعد هذا أنّ التهديد على عمل معين إذا كان من قادر ظالم تصحّ معه التقية ويسقط عن صاحبها الإثم في الجملة، إلا في القتل، وادّعى عدم الخلاف بين الاُمّة في حرمة القتل تحت طائلة الإكراه.

وسيأتي عنه في المسألة السادسة خلاف هذا الادّعاء!!

ثمّ قال: «واختُلف في الزنا، والصحيح أنّه يجوز له الإقدام عليه، ولا حدّ عليه، خلافاً لابن الماجشون، فإنّه ألزمه الحدّ، لأنّه رأى انّها شهوة خلقية لا يتصوّر عليها إكراه، ولكنّه غفل عن السبب في باعث الشهوة، وانّه باطل.

____________________

(١) المحرّر الوجيز ١٠: ٢٣٦.

٤٨

وأمّا الكفر باللّه فذلك جائز له بغير خلاف، على شرط أن يلفِظَ بلسانه، وقلبه منشرح بالإيمان».

المسألة الثالثة: احتجّ بهذه الآية على أنّ الكفر ليس بقبيح لعينه وذاته، إذ لو كان كذلك لما حسنه الإكراه.

ولا يخفى ما فيه، لأنّه لو سُئل من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر ومن يكفر بكل تشريع سماوي، ماذا تقول؟ أيهما القبيح عندك؟ الظلم، أو العدل والإحسان؟ فماذا سيكون جوابه؟

المسألة الرابعة: ان الكفر بالإكراه جائز، ومن صبر ولم يكفر تقيه فقتل فهو شهيد.

قال: «ولا خلاف في ذلك، وعليه تدلّ آثار الشريعة التي يطول سردُها، وإنّما وقع الإذنُ رخصة من اللّه رفقاً بالخلف، وإبقاء عليهم، ولما في هذه الشريعة من السماحة، ونفي الحرج، ووضع الإصرِ».

المسألة الخامسة: في بيان سبب نزول هذه الآية المكّية.

المسألة السادسة: «لمّا سمح اللّه تعالى في الكفر به.. عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤخذ به، ولا يترتّب حكم عليه، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء: (رُفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه)».

ثمّ ذكر اختلاف العلماء في تفاصيل معنى الخبر بعد اتّفاقهم على صحّته فقال: «فأنّ معناه صحيح باتفاق من العلماء، ولكنّهم اختلفوا في تفاصيل.

منها: قول ابن الماجشون في حدّ الزنا وقد تقدّم.

٤٩

ومنها: قول أبي حنيفة: إنّ طلاق المكره يلزم، لأنّه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل، فإنّ الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق، راضٍ به، والمكره غير راضٍ به، ولا نيّة له في الطلاق، وقد قال النبيّ (ص): (إنّما الأعمال بالنيّات ولكل امرئٍ ما نوى ).

ومنها: أن المكره على القتل إذا قتل يُقتل، لأنّه قتل من يكافئه ظلماً استبقاءً لنفسه فقتل.

وقال أبو حنيفة وسحنون: لا يقتل!! وهي عثرة من سحنون..».

المسألة السابعة: تعجّب في هذه المسألة من اختلاف علماء المالكية في الإكراه على الحنث في اليمين هل يقع به أم لا، بمعنى: هل تجوز فيه التقية أم لا؟

ثمّ حكم بجوازها مؤكّداً عدم الفرق بين الإكراه على اليمين في أنّها لا تُلزم وبين الحنث في أنّه لا يقع.

المسألة الثامنة: وهي غريبة حقّاً حقّاً، فقد جوّز فيها التقية للرجل في أن يعطي أهله لما لا يحل عند الإكراه على ذلك، ولا يقتل نفسه دونها، ولا يتحمّل اذىً في تخليصها، وقد اعتمد في ذلك على إسرائيلية لا شكّ فيها، وخلاصتها أنّ إبراهيم عليه السلام هاجر ومعه سارة، ودخل بها قرية فيها ملك جبار فأرسل إلى إبراهيم أن يرسلها له، ففعل إبراهيم، ولكن اللّه أنجاها من هذا الكافر الذي أراد بها سوءاً!! فالتقية على هذا المستوى جائزة عنده، مع أنّ من أسباب تشريعها صيانة العِرض لا هتكه.

المسألة التاسعة: بخصوص حكم الإكراه الحقّ مع عدم الانقياد إليه(١) .

____________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ٣: ١١٧٧ - ١١٨٢.

٥٠

وقالابن الجوزي الحنبلي (ت / ٥٩٧ه‍) في تفسيرها: «الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها، وفي الإكراه المبيح لذلك، عن أحمد روايتان:

إحداهما: أنه يخاف على نفسه، أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما اُمر به»(١) .

وقالالرازي الشافعي (ت / ٦٠٦ه‍): «وفي الآية مسائل..» وقد ذكر في المسألة الثانية قصّة عمار بن ياسر رضي اللّه عنه، وأنّه قيل بشأنه لرسول اللّه (ص): «يا رسول اللّه! إنّ عمّاراً كفر. فقال: (كلا، إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من فرقه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه )، فأتى عمار رسول اللّه (ص) وهو يبكي، فجعل رسول اللّه (ص) يمسح عينيه ويقول: (ما لك؟ إن عادوا لك، فعُد لهم بما قلت).

ثمّ قال -: ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر، ثمّ أسلم مولاه وحسن إسلامهما وهاجرا»(٢) .

وقد بيّن مراتب الإكراه في المسألة السابعة، ولأهميتها نذكر ما قال:

«المرتبة الأُولى: أن يجب الفعل المكره عليه، مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، فإذا أكرهه عليه بالسيف، فها هنا يجب الأكل، وذلك لأنّ صون الروح عن الفوات واجب.. لقوله تعالى: (ولا تُلقُوا بِأيدِيكُم إِلى التَّهلُكَةِ)(٣) .

المرتبة الثانية: أن يصير ذلك الفعل مباحاً، ولا يصير واجباً، ومثاله ما إذا

____________________

(١) زاد المسير / ابن الجوزي ٤: ٤٩٦.

(٢) التفسير الكبير / الفخر الرازي ٢٠: ١٢١.

(٣) البقرة ٢: ١٩٥.

٥١

أكرهه على التلفّظ بكلمة الكفر، فها هنا يُباح له، ولكنّه لا يجب.

المرتبة الثالثة: أنّه لا يجب ولا يُباح بل يحرّم، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر، أو على قطع عضو من أعضائه، فها هنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. وهل يسقط القصاص عن المكرَه (لو قتل) أم لا؟

قال الشافعي رحمه اللّه في أحد قوليه -: يجب القصاص»(١) .

أقول: إنّ القول الآخر للإمام الشافعي رحمه اللّه هو: لا قصاص على من يَقتل تقية، ولا بدّ من حمل هذا القول الأخير على التقية، لأنّه عاش في ظلّ ظروف أوجبت عليه التقية في هذا الحكم، كما سنُشير إليه في الفصل الثاني من هذا البحث، وذلك في بيان مواقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية.

واحتجّ الفقيهابن قدامة الحنبلي (ت / ٦٢٠ه‍) بهذه الآية على جواز التقية عند الإكراه عليها، ثمّ قال: «وإنّما اُبيح له فعل المكره عليه، دفعاً لما يتوعّده به من العقوبة فيما بعد»(٢) .

كما أنّ من أُكره على كلمة الكفر فأتى بها، لم يصر كافراً عنده، قال: وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي(٣) ، وقد ذكر تفصيلات اُخرى ستأتي عند الحديث عن التقية في فقه الحنابلة.

وقالالقرطبي المالكي (ت / ٦٧١ه‍): «هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير، لأنّه قارب بعض ما ندبوه إليه». ثمّ نقل عن ابن عباس أنّه

____________________

(١) التفسير الكبير ٢٠: ١٢٢.

(٢) المغني / ابن قدامة ٨: ٢٦٢.

(٣) م. ن ١٠: ٩٧ - مسألة: ٧١١٦.

٥٢

قال: «وأمّا عمار فاعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فشكا ذلك إلى رسول اللّه (ص)، فقال رسول اللّه (ص):كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال رسول اللّه (ص):فإن عادوا فعد ». ثمّ بيّن عن مجاهد: إنّ الذين اخذوا مع عمار بن ياسر، هم: بلال، وخباب، وصهيب، وسمية اُم عمار، وأنّهم قالوا كلّهم كلمة الكفر مثل الذي قاله عمار، إلا ما كان من بلال(١) .

وقالالبيضاوي الشافعي (ت / ٦٨٥ه‍): (إِلا من أُكرِهَ ): «على الافتراء، أو كلمة الكفر، (وقلبُهُ مُطمئِن بِالاِيمانِ) لم تتغيّر عقيدته، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب».

ثمّ روى بعد ذلك قصّة عمار بن ياسر وقال: «وهو دليل على جواز التكلّم بالكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضل أن يتجنّب عنه إعزازاً للدين» ثمّ ذكر بعد ذلك قصّة مسيلمة الكذّاب مع الصحابيّين، اللذين انتهى خبرهما إلى النبيّ (ص)، وكيف أنّه رخّص لمن اعترف لمسيلمة الكذّاب - لعنه اللّه - بأنّه رسول اللّه(٢) .

وقالالمفسّر الشافعي علي بن محمّد المعروف بالخازن (ت / ٧٤١ه‍): «التقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النيّة قال اللّه تعالى: (إِلا مَن أُكرِهَ وقلبُهُ مُطمئِن بالإِيمان)، ثمّ هذه التقية رخصة»(٣) .

أقول: إِنّ هذا الكلام من الخازن الشافعي مردود بما مرّ عن الرازي الشافعي

____________________

(١) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي ١٠: ١٨١.

(٢) أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي ١: ٥٧١.

(٣) تفسير الخازن ١: ٢٧٧ - نقلاً عن: آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم / السيد مرتضى الرضوي: ٣٩.

٥٣

في بيانه مراتب الإكراه، ومردود أيضاً بما تقدّم من أقوال سائر من ذكرنا من المفسّرين والفقهاء، ومردود أيضاً بما سيأتي من أقوال مفسّري أهل السُّنّة لا سيّما الشافعية في تفسيرهم لهذه الآية، فترقّب.

وقالابن جُزي الكلبي الغرناطي المالكي (ت / ٧٤١ - أو ٧٤٧ه‍): (إِلا من أُكرِه): «استثنى من قوله: (من كفرَ)، وذلك إنّ قوماً ارتدّوا عن الإسلام، فنزلت فيهم الآية، وكان فيهم من أُكرِه على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان، منهم: عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال، فعذرهم اللّه»، ثم فصّل قصّة عمار بن ياسر، وما قال له النبيّ (ص) على النحو المتقدّم من أقوال المفسّرين وقال: «وهذا الحكم فيمن اُكره بالنطق على الكفر، وأمّا الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصنم، فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا؟

فأجازه الجمهور، ومنعه قوم.

وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتق، ولا شيء فيما بينه وبين اللّه، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه، كالإكراه على قتل أحد، أو أخذ ماله»(١) .

أقول: سيأتي بيان ما جرى للإمام مالك بن أنس (ت / ١٧٩ه‍) من لدن خلفاء بني العباس بسبب إفتائه في يمين المكره وقوله في ذلك: ليس على مكره يمين، في الفصل الثاني من هذا البحث وذلك في بيان مواقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية، وسترى هناك كيف قد كلّفته هذه الفتيا كثيراً.

وقالتاج الدين الحنفي (ت / ٧٤٩ه‍): «من اُكره على الكفر، ولفظ به، وقلبه

____________________

(١) تفسير ابن جُزي محمّد بن أحمد الكلبي: ٣٦٦.

٥٤

مطمئن بالإيمان، فلا يؤاخذ به.. والمعنى: إنّما يفتري الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه، واستثنى منه المُكرَه، فلم يدخل تحت حكم الافتراء»(١) .

وقالأبو حيان محمّد بن يوسف الأندلسي المالكي (ت / ٧٥٤ه‍): «استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخّص له في النطق بكلمة الكفر، إذ كان قلبه مؤمناً، وذلك مع الإكراه. والمعنى: إلا من اُكره على الكفر، تلفّظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان»(٢) .

وقال في مكان آخر من تفسير الآية: «وفي قوله: (إِلا مَن أُكرِهَ ) دليل على أن من فعل المُكرَه لا يترتّب عليه شيء. وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر، أو فعل ما يؤدّي إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى.

وقد تكلّموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها، وذلك كلّه مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر، المعذّبون على الإسلام: خباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبواه: ياسر وسمية، وسالم، وجبر عُذِّبوا فأجابهم عمار وجبر (مولى الحضرمي) فخلّي سبيلهما، وتمادى الباقون على الإسلام، فقتل ياسر وسمية، وهما أول قتيل في الإسلام»(٣) .

وقد مرّ، وسيأتي أيضاً أن هؤلاء الصحابة كلّهم قد أجابوا المشركين إلى ما انتدبوهم إليه إلا ما كان من بلال، وليس الأمر كما قاله أبو حيان، على أنَّ

____________________

(١) الدرّ اللقيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي ٥: ٥٣٧ - ٥٣٨، مطبوع بحاشية تفسير أبي حيان الأندلسي المسمّى ب‍: (البحر المحيط).

(٢) تفسير البحر المحيط / أبو حيان ٥: ٥٣٨.

(٣) تفسير البحر المحيط ٥: ٥٤٠.

٥٥

ما يفهم من عبارة المفسّرين أن جبراً قد استمر ارتداده عن الإسلام في الظاهر تقية لمدة طويلة إلى أن أسلم مولاه الحضرمي الذي كان قد أكره جبراً على الكفر.

وقالابن كثير الشافعي (ت / ٧٧٤ه‍): «وأما قوله: (إِلا من أُكرِه وقلبُهُ مُطمئِن بالإِيمانِ )، فهو استثناء ممّن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان باللّه ورسوله.

وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، حين عذّبه المشركون حتى يكفر بمحمّد (ص)، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبيّ (ص)، فأنزل اللّه هذه الآية».

ثمّ نقل عن الطبري (ت / ٣١٠ه‍) ما رواه في قصة عمار بن ياسر رضي اللّه عنه، وعن البيهقي (ت / ٤٥٨ه‍) أنّه قال: «إنّه - أي: عمار بن ياسر - سبّ النبي (ص)، وذكر آلهتهم بخير. فشكا ذلك إلى النبيّ (ص)، فقال: يا رسول اللّه! ما تركتك حتى سببتك، وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان. فقال: إن عادوا فعُد».

ثمّ قال: «ولهذا اتّفق العلماء على أنّ المُكرَه على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يأبى» مستدلاً بشهادة حبيب بن زيد الأنصاري، وسلامة صاحبه حين امتحنهما مسيلمة الكذّاب، فاستشهد الأوّل لامتناعه عن الإقرار لما أراده الكذّاب، ونجا الثاني لموافقته على ما أراد، وبقول النبيّ (ص) له: «وأمّا أنت فأخذت بالرخصة»(١) .

____________________

(١) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٢: ٦٠٩.

٥٦

وقال المفسّر السُّنّي نظام الدين الحسن بن محمّد القمّي النيسابوري (ت / ٨٥٠ه‍): «والمعنى: إنّما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلم يدخل تحت الافتراء.. وإنّما صحّ استثناء المكره من الكافر مع أنّه ليس بكافر، لأنّه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً، فلهذه المشاكلة صحّ الاستثناء.

قال ابن عباس: نزلت في عمار بن ياسر»(١) .

ثمّ تطرّق إلى بعض مسائل التقية، منها: التقية في الدماء، والزنا، فقال: «ومنها: لا يجب ولا يباح بل يحرم، كما إذا اُكرِه على قتل إنسان، أو على قطع عضو من أعضائه، فها هنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية، وحينئذٍ لو قتل، فللعلماء قولان:

أحدهما: لا يلزم القصاص. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، لأنّه قتله دفعاً عن نفسه فأشبه قتل الصائل..

وثانيهما: وبه قال أحمد والشافعي في أصحّ قوليه -: إنّ عليه القصاص لأنّه قتله عدواناً لاستبقاء نفسه»(٢) .

ثمّ نقل النيسابوري عن أبي حنيفة (ت / ١٥٠ه‍) أنّه قال: لو أكره السلطان أحداً على الزنا فزنى، لم يجب على الزاني الحدّ، ولو أكرهه بعض الرعية وجب(٣) .

____________________

(١) غرائب القرآن ورغائب الفرقان / النيسابوري ١٤: ١٢٢.

(٢) م. ن ١٤: ١٢٣.

(٣) م. ن ١٤: ١٢٤.

٥٧

إذاً التقية - وبموجب هذا القول ونظائره المتقدّمة - تصحّ في الدماء وهتك الأعراض!!

وقالابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ه‍): «وأما من أُكرِه على ذلك فهو معذور بالآية، لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي، فيقتضي أن لا يدخل الذي اُكرِه على الكفر تحت الوعيد، والمشهور: إنّ الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر، كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمّد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عماراً فعذّبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا...»(١) .

وأخرج عن الطبري (ت / ٣١٠ه‍) ما رواه بسنده عن ابن عباس (ت / ٦٨ه‍) أنّه قال: «أخبر اللّه أنّ من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من اللّه، وأمّا من اُكرِه بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه، فلا حرج عليه، إن اللّه إنّما يأخذ (يُؤاخذ) العباد بما عقدت عليه قلوبهم»(٢) .

أمّاالشربيني الشافعي (ت / ٩٧٧ه‍) فقد علّق على ما أفتى به النووي الشافعي (ت / ٦٧٦ه‍) بعدم ردّه المُكرَه على الكفر بقوله - بعد أن استدلّ بالآية المتقدّمة -: «لا يكون مرتداً، لأنّ الإيمان كان موجوداً قبل الإكراه، وقول المُكرَه ملغى ما لم يحصل فيه اختيار لما اُكرِه عليه، كما لو اُكرِه على الطلاق، فإنّ العصمة كانت موجودة قبل الإكراه، فإذا لم يحصل منه اختيار لما اُكرِه عليه لم يقع عليه طلاق»(٣) .

____________________

(١) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ١٢: ٢٦٢.

(٢) م. ن ١٢: ٢٦٣.

(٣) مغني المحتاج في شرح المنهاج / الشربيني ٤: ١٣٧ - مطبوع بهامش منهاج الطالبين للنووي. وانظر: منهاج الطالبين ٤: ١٣٧ و٤: ١٧٤.

٥٨

وقالالبرسوي الحنفي (ت / ١٣٧ه‍): (إلا من أُكرِهَ ): «اُجبر على ذلك التلفّظ بأمر يخاف على نفسه، أو على عضو من أعضائه.. لأنّ الكفر اعتقاد، والإكراه على القول دون الاعتقاد، والمعنى: لكنّ المكره على الكفر باللسان (وقلبُهُ مُطمئِن بالإِيمانِ )، بالإيمان: حال من المستثنى، أي: والحال أنّ قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللّه هو التصديق بالقلب»(١) .

أقول: إنّ علّة نفي الكفر عن المكره - كما يفهم من هذا القول وسائر الأقوال المتقدّمة - هي أنّ الكفر اعتقاد، والإكراه دونه، وهذا الحكم يجب أن يَطّرد على جميع ما يقدم عليه الإنسان تقية عند الإكراه - إلا ما خرج عنه بدليل معتبر - لاطّراد العلّة نفسها.

وقالالإمام الشوكاني الزيدي (ت / ١٢٥٠ه‍) في تفسير الآية: «أجمع أهل العلم على أنّ من اُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبِين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر».

ثمّ ردّ قول محمّد بن الحسن الشيباني (ت / ١٨٩ه‍) بخصوص أنّ من أظهر الكفر كان مرتداً في الظاهر، وأنّه تبين منه زوجته، ولا يُصلّى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما‍ً فقال: «وهذا القول مردود على قائله، مدفوع بالكتاب والسُّنّة»(٢) .

____________________

(١) روح البيان / البرسوي ٥: ٨٤.

(٢) فتح القدير / الشوكاني ٣: ١٩٧.

٥٩

وهذا القول على خلاف أقوال مفسّري الأحناف وفقهائهم وأعلامهم، بل على خلاف أقوال جميع علماء الإسلام قاطبة، فضلاً عن معارضته صراحة للكتاب العزيز والسُّنّة النبوية.

فقد أجمع الكلّ على أن عمّار بن ياسر قد ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه مع أنّه سبّ النبيّ (ص)، وذكر اللات والعزى بخير. فهو قول شاذ لا يعتدّ به لمخالفته صراحةً للكتاب العزيز، والسُّنّة المطهّرة، وإجماع المسلمين.

كما ردّ الشوكاني قول الحسن البصري (ت / ١١٠ه‍)، والشافعي (ت / ٢٠٤ه‍) وسحنون القاضي المغربي المالكي (ت / ٢٤٠ه‍)، - وهو الذي روى المدونة الكبرى لمالك بن أنس (ت / ١٧٩ه‍) بتوسيط عبد الرحمن بن قاسم الفقيه المالكي (ت / ١٩١ه‍)، عن الإمام مالك - من أنّ الرخصة في التقية إنّما جاءت في هذه الآية في القول، وأمّا الفعل فلا رخصة فيه!

قال الشوكاني: «ويدفعه ظاهر الآية فإنّها عامّة فيمن اُكرِه من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرّر في علم الاُصول»(١) .

أقول: لقد ذكرنا من أقوال المالكية قول: ابن عطية، وابن العربي، وابن جُزي، وأبي حيان وهؤلاء كلّهم قد خالفوا سحنون القاضي فيما ذهب إليه.

وذكرنا أيضاً من أقوال الشافعية قول: الماوردي، والواحدي، والرازي، والخازن، وابن كثير، والبيضاوي، وابن حجر العسقلاني، والشربيني، وهؤلاء كلّهم قد خالفوا الإمام الشافعي فيما نسبه إليه الشوكاني.

____________________

(١) فتح القدير ٣: ١٩٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ( 15 ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 16 ) فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( 17 ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( 18 ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ( 19 )

( بيان)

تفتتح السورة بوعد من الله و هو أنّ الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيّام نزول السورة عن الفرس ثمّ تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر و هو الوعد بيوم يرجع الكلّ فيه إلى الله و تقيم الحجّة على المعاد ثمّ تنعطف إلى ذكر آيات الربوبيّة و تصف صفاته تعالى الخاصّة به ثمّ تختتم السورة بوعد النصر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تؤكّد القول فيه إذ تقول:( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) و قد قيل قبيل ذلك:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) .

فغرض السورة هو الوعد القطعيّ منه تعالى بنصرة دينه و قد قدّم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدلّ بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد، و كذا يحتجّ به و من طريق العقل على أنّه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.

قوله تعالى: ( غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) الروم جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطوريّة وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم و بين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريباً من الحجاز فغلبت الفرس و انهزمت الروم، و الظاهر أنّ المراد بالأرض أرض الحجاز و اللّام للعهد.

١٦١

قوله تعالى: ( وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) ضمير الجمع الأوّل للروم و كذا الثالث و أمّا الثاني فقد قيل إنّه للفرس و المعنى: و الروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، و يمكن أن يكون الغلب من المصدر المبنيّ للمفعول و الضمير للروم كالضميرين قبلها و بعدها فلا تختلف الضمائر و المعنى: و الروم من بعد مغلوبيّتهم سيغلبون. و البضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.

قوله تعالى: ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ ) قبل و بعد مبنيّان على الضمّ فهناك مضاف إليه مقدّر و التقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم و من بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء و يخذل من يشاء.

و قيل: المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين و من بعد كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين و المعنى الأوّل أرجح إن لم يكن راجحاً متعيّناً.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) الظرف متعلّق بيفرح و كذا قوله( يَنْصُرُ ) و المعنى: و يوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثمّ استأنف و قال:( يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ) تقريراً لقوله:( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ ) .

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) أي عزيز يعزّ بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء.

و في الآية وجوه اُخر ضعيفة ذكروها:

منها أنّ قوله:( وَ يَوْمَئِذٍ ) عطف على قوله:( مِنْ قَبْلُ ) و المراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي و المستقبل و الحال كأنّه قيل: لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ ثمّ ابتداء و قيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. و فيه أنّه يبطل انسجام الآية و ينقطع به آخرها عن أوّلها.

و منها: أنّ قوله:( بِنَصْرِ ) متعلّق بقوله:( الْمُؤْمِنُونَ ) دون( يَفْرَحُ ) و يدلّ بالملازمة المقاميّة أنّ غلبة الروم بنصر من الله.

١٦٢

و فيه أنّ لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس و يوم غلبة الروم جميعاً فإنّ في الغلبة نصراً و كلّ نصر من الله قال تعالى:( وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) آل عمران: 126 فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجّح فافهمه.

و منها: أنّ المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم على الفرس و إن توافق النصران زماناً فكأنّه قيل: إنّ الروم سيغلبون في بضع سنين و يوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إيّاهم.

و فيه أنّ هذا المعنى لا يلائم قوله بعد:( يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ) .

و منها: أنّ المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم، و قيل: النصر هو استيلاء بعض الكفّار على بعض و تفرّق كلمتهم و انكسار شوكتهم. و هذان و ما يشبههما وجوه لا يعبؤ بها.

قوله تعالى: ( وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( وَعْدَ اللهِ ) مفعول مطلق محذوف العامل و التقدير وعد الله وعداً و إخلاف الوعد خلاف إنجازه و قوله:( وَعْدَ اللهِ ) تأكيد و تقرير للوعد السابق في قوله:( سَيَغْلِبُونَ ) و( يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) كما أنّ قوله:( لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ) تأكيد و تقرير لقوله:( وَعْدَ اللهِ ) .

و قوله:( لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ) كقوله:( إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) الرعد: 31 و خلف الوعد و إن لم يكن قبيحاً بالذات لأنّه ربّما يحسن عند الاضطرار لكنّه سبحانه لا يضطرّه ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال.

على أنّ خلف الوعد يلازم النقص دائماً و يستحيل النقص عليه تعالى.

على أنّه تعالى أخبر في كلامه بأنّه لا يخلف الميعاد و هو أصدق الصادقين و هو القائل عزّ من قائل:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: 84.

و قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أي هم جهلاء بشؤونه تعالى لا يثقون بوعده و يقيسونه إلى أمثالهم ممّن يصدّق و يكذب و ينجز و يخلف.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ )

١٦٣

جملة( يَعْلَمُونَ ) على ما ذكره في الكشّاف، بدل من قوله:( لا يَعْلَمُونَ ) و في هذا الإبدال من النكتة أنّه أبدله منه و جعله بحيث يقوم مقامه و يسدّ مسدّه ليعلمك أنّه لا فرق بين عدم العلم الّذي هو الجهل و بين وجود العلم الّذي لا يتجاوز الدنيا انتهى.

و قيل: الجملة استثنائيّة لبيان موجب جهلهم بأنّ وعد الله حقّ و أنّ لله الأمر من قبل و من بعد و أنّه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى و هذا أظهر.

و تنكير( ظاهِراً ) للتحقير و ظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها و هو الّذي يناله حواسّهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها و العكوف عليها و الإخلاد إليها و نسيان ما وراءها من الحياة الآخرة و المعارف المتعلّقة بها و الغفلة عمّا فيه خيرهم و نفعهم بحقيقة معنى الكلمة.

و قيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال و استشهد بقوله:

و عيّرها الواشون أنّي اُحبّها

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و المعنى: يعلمون أمراً زائلاً لا بقاء له لكنّه معنى شاذّ الاستعمال.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلخ المراد من خلق السماوات و الأرض و ما بينهما - و ذلك جملة العالم المشهود - بالحقّ أنّها لم تخلق عبثاً لا غاية لها وراءها بأن يوجد و يعدم ثمّ يوجد ثمّ يعدم من غير غرض و غاية فهو تعالى إنّما خلقها لغاية تترتّب عليها.

ثمّ إنّ العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتّى يحتمل كون كلّ جزء لاحق غاية للجزء السابق و كلّ آت خلفاً لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم و هذا المعنى هو المراد بتقييد قوله:( ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما ) بقوله:( وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) بعد تقييده بقوله:( إِلَّا بِالْحَقِّ ) .

فقوله:( أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ) الاستفهام للتعجيب، و كونهم في أنفسهم استعارة كنائيّة عن فراغ البال و حضور الذهن كأنّهم عند اشتغالهم باُمور الدنيا و سعيهم للمعيشة

١٦٤

و تشوّش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرّين في أنفسهم فيكون تفكّرهم حينئذ مجتمعاً غير متفرّق فيهديهم إلى الحقّ و يرشدهم إلى الواقع.

و قيل: المراد بتفكّرهم في أنفسهم أن يتفكّروا في خلق أنفسهم و أنّ الواحد منهم محدث و المحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حيّ قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثاً بل لغاية مطلوبة و ليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق و هو الثواب و لا يكون إلّا لصالح العمل فلا بدّ من دين مشرّع يميّز العمل الصالح من السيّئ فلا بدّ من دار يمتحنون فيها و هي الدنيا و دار يثابون فيها و هي الآخرة.

و فيه أنّ الجملة أعني قوله:( أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ) صالح في نفسه لأن يراد منها هذا المعنى لكن اتّصال قوله:( ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ ) إلخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتّصال لعدم الارتباط بين صدر الآية و ذيلها على هذا التقدير.

و قوله:( ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) هو الفكر الّذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم و تقريره على ما تقدّم أنّ الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلّا و لا بعضاً إلّا خلقاً ملابساً للحقّ أو مصاحباً للحقّ أي لغاية حقيقيّة لا عبثاً لا غاية له و إلّا إلى أجل معيّن فلا يبقى شي‏ء منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى و ينقطع و إذا كان كلّ من أجزائه و المجموع مخلوقاً ذا غاية تترتّب عليها و ليس شي‏ء منها دائم الوجود كانت غايته مترتّبة عليه بعد انقطاع وجوده و فنائه، و هذا هو الآخرة الّتي ستظهر بعد انقضاء الدنيا و فنائها.

و قوله:( وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ ) مسوق سوق التعجيب كما بدأت الآية باستفهام التعجيب، و المراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، و قد عبّر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجباً فكيف يمكن أن يبتدؤا منه ثمّ لا ينتهوا إليه، و لذلك أكّده بإنّ إشارة إلى أنّ الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدّق به.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )

١٦٥

إلى آخر الآية، لمّا ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد و ذلك أمر يلغو معه الدين الحقّ ذكّرهم حال الاُمم الكافرة و ما انتهت إليه من سوء العذاب لعلّهم يعتبرون بها فيرجعوا عمّا هم عليه من الكفر. و إثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث و التعمير و نحو ذلك.

و قوله:( وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) أي بالكفر و المعاصي.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) بيان لما انتهى إليه أمر اُولئك الظالمين و لذا عبّر بثمّ، و( عاقِبَةَ ) بالنصب خبر كان و اسمه( السُّواى) قدّم الخبر عليه لإفادة الحصر و( أَساؤُا ) مقطوع عن المتعلّق بمعنى عملوا السوء، و السوآى الخلّة الّتي يسوء صاحبها و المراد بها سوء العذاب و( أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ) بحذف لام التعليل و التقدير لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.

و المعنى: ثمّ كان سوء العذاب هو الّذي انتهى إليه أمر اُولئك الّذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.

و قيل: إنّ( السُّواى) مفعول لقوله:( أَساؤُا ) و خبر كان هو قوله:( أَنْ كَذَّبُوا ) إلخ، و المراد أنّ المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله و الاستهزاء بها.

و فيه: أنّه في نفسه معنى صحيح لكنّ المناسب للمقام هو المعنى الأوّل لأنّ المقام مقام الاعتبار و الإنذار و المناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرّقة إلى التكذيب و الاستهزاء الّذي هو أعظمها.

قوله تعالى: ( اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) بعد ما ذكر الحجّة و تكذيب كثير من الناس لخّص القول في نتيجتها و هو أنّ البدء و العود بيده سبحانه و سيرجع إليه الجميع، و المراد بالخلق المخلوقون، و لذا أرجع إليه ضمير الجمع في( تُرْجَعُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة و هي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب و الجزاء، و الإبلاس اليأس من الله و فيه كلّ الشقاء.

١٦٦

قوله تعالى: ( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ) يريد أنّهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الّذين اتّخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عندالله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عندالله و كانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ - إلى قوله -مُحْضَرُونَ ) قال في المجمع: الروضة البستان المتناهي منظراً و طيباً. انتهى. و قال في المفردات: الحبر الأثر المستحسن - إلى أن قال - و قوله عزّوجلّ:( فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) أي يفرحون حتّى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى.

و المراد بتفرّق الخلق يومئذ تميّز المؤمنين الصالحين من المجرمين و دخول هؤلاء النار و دخول اُولئك الجنّة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان.

و لزوم هذا التميّز و التفرّق في الوجود هو الّذي أخذه الله سبحانه حجّة على ثبوت المعاد حيث قال:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ ) الجاثية: 21.

قوله تعالى: ( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ) لمّا ذكر أنّه يبدأ الخلق ثمّ يعيدهم و يرجعهم للقائه فيفرّقهم طائفتين: أهل الجنّة و النعمة و أهل النار و العذاب، أمّا أهل الجنّة فهم المؤمنون العاملون للصالحات و أمّا أهل النار فهم الكفّار المكذّبون لآيات الله و قد ذكر أنّهم كانوا في الدنيا أهل قوّة و نعمة لكنّهم نسوا الآخرة و كذّبوا بآيات الله و استهزؤا بها حتّى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.

فتحصّل من ذلك أنّ في دار الخلقة تدبيراً إلهيّاً متقناً صالحاً جميلاً على أجمل ما يكون و أنّ للإنسان على توالي الأزمنة و الدهور آثاماً و خطيئات من العقيدة السيّئة في حقّ ربّه و اتّخاذ شركاء له و إنكار لقائه إلى سائر المعاصي.

ذيّل الكلام بتسبيحه كلّما تجدّد حين بعد حين و تحميده على صنعه و تدبيره

١٦٧

في السماوات و الأرض و هو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزّه عن هذه الاعتقادات الباطلة و الأعمال الرديّة و محمود في جميع ما خلقه و دبّره في السماوات و الأرض.

و من هناك يظهر:

أوّلاً: أنّ التسبيح و التحميد في الآيتين إنشاء تنزيه و ثناء منه تعالى لا من غيره حتّى يكون المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله فقد تكرّر في كلامه تعالى تسبيحه و تحميده لنفسه كقوله:( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ) الصافّات: 180 و قوله:( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ ) الفرقان: 1.

و ثانياً: أنّ المراد بالتسبيح و التحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليوميّة المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدّراً. و المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله.

و ثالثاً: أنّ قوله:( وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) معترضة واقعة بين المعطوف و المعطوف عليه، و قوله:( وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ) معطوفان على محلّ( حِينَ تُمْسُونَ ) لا على قوله:( فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) حتّى يختصّ المساء و الصباح بالتسبيح و السماوات و الأرض و العشيّ و الظهيرة بالتحميد بل الأوقات و ما فيها للتسبيح و الأمكنة و ما فيها للتحميد.

فالسياق يشير إلى أنّ ما في السماوات و الأرض من خلق و أمر هو لله يستدعي بحسنه حمداً و ثناءً لله سبحانه و أنّ للإنسان على مرّ الدهور و تغيّر الأزمنة و الأوقات من الشرك و المعصية ما يتنزّه عنه ساحة قدسه تعالى و تقدّس.

نعم ههنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد و التسبيح و هو أنّ الأزمنة و الأوقات على تغيّرها و تصرّمها من جملة ما في السماوات و الأرض فهي بوجودها يثني على الله تعالى، ثمّ كلّ ما في السماوات و الأرض بفقرها إليه تعالى و ذلّتها دونه و نقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبّحه كما قال:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: 44 لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللّتين نحن فيهما.

و للمفسّرين في الآيتين أقوال اُخر متفرّقة أشرنا إلى المهمّ منها في الوجوه الّتي قدّمناها.

١٦٨

و تغيير السياق في قوله:( وَ عَشِيًّا ) لكون العشيّ لم يبن منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء و الصباح و الظهيرة حيث بني منها الإمساء و الإصباح و الإظهار بمعنى الدخول في المساء و الصباح و الظهيرة كذا قيل.

و الخطاب الّذي في الآيتين في قوله:( تُمْسُونَ و تُصْبِحُونَ و تُظْهِرُونَ ) ليس من الالتفات في شي‏ء بل تعميم للخطاب الّذي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ شرعت السورة، و المعنى: فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزّه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء و حينما دخلتم في صباح و في العشيّ و حينما دخلتم في ظهيرة و له الثناء الجميل في السماوات و الأرض.

و نظير هذا التعميم ما في قوله سابقاً:( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) و لاحقاً في قوله:( وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) .

قوله تعالى: ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) ظاهر إخراج الحيّ من الميّت و بالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض الميتة ثمّ تبديل ذوي الحياة أرضاً ميتة، و قد فسّر بخلق المؤمن من الكافر و خلق الكافر من المؤمن فإنّه يعدّ المؤمن حيّاً و الكافر ميتاً، قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً ) الأنعام: 122.

و أمّا إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض و ابتهاجها بالنبات في الربيع و الصيف بعد خمودها في الخريف و الشتاء، و قوله:( وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) أي تبعثون و تخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها، و قد تقدّم تفسير نظير صدر الآية و ذيلها مراراً.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الترمذيّ و حسّنه و النسائيّ و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الكبير و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل و الضياء عن ابن عبّاس في قوله:( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) قال: غُلبت و غَلبت.

١٦٩

قال: كان المشركون يحبّون أن يظهر فارس على الروم، لأنّهم أصحاب أوثان، و كان المسلمون يحبّون أن يظهر الروم على فارس لأنّهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبوبكر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا إنّهم سيغلبون فذكره أبوبكر لهم فقالوا: اجعل بيننا و بينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا و كذا و إن ظهرتم كان لكم كذا و كذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبوبكر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أ لّا جعلته - أراه قال: - دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله:( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) فغُلبت ثمّ غَلبت بعد.

يقول الله:( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ) قال سفيان: سمعت أنّهم قد ظهروا يوم بدر.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أنّ المقامرة كانت بين أبي بكر و اُبيّ بن خلف و في بعضها أنّها كانت بين المسلمين و المشركين و كان أبوبكر من قبل المسلمين و اُبيّ من قبل المشركين، و في بعضها أنّها كانت بين الطائفتين، و في بعضها بين أبي بكر و بين المشركين كما في هذه الرواية.

ثمّ الأجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، و في بعضها خمس، و في بعضها ستّ، و في بعضها سبع سنين.

و في بعضها أنّ الأجل المضروب أوّلاً انقضى بمكّة و هو سبع سنين فمادّهم أبوبكر سنتين بأمر من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغلبت الروم، و في بعضها خلافه.

ثمّ في بعضها أنّ الأجل الثاني انقضى بمكّة و في بعضها أنّه انقضى بعد الهجرة و كانت غلبة الروم يوم بدر، و في بعضها يوم الحديبية.

و في بعضها أنّ أبابكر لمّا قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر و هو مائة قلوص و جاء به إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّه سحت تصدّق به.

و الّذي تتّفق فيه الروايات أنّه قامرهم فقمرهم و كان القمار بإشارة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وجّه ذلك بأنّه كان قبل تحريم القمار فإنّه حرّم مع الخمر في سورة المائدة و قد نزلت في آخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٧٠

و قد تحقّق بما قدّمناه في تفسير آية الخمر و الميسر أنّ الخمر كانت محرّمة من أوّل البعثة و كان من المعروف من الدين أنّه يحرّم الخمر و الزنا.

على أنّ الخمر و الميسر من الإثم بنصّ آية البقرة:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) الآية: البقرة: 219 و الإثم محرّم بنصّ آية الأعراف:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ ) الآية: الأعراف: 33 و الأعراف من العتائق النازلة بمكّة فمن الممتنع أن يشير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقامرة.

و على تقدير تأخّر الحرمة إلى آخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشكل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر لمّا أتى بالخطر إليه إنّه سحت ثمّ قوله: تصدّق به. فلا سبيل إلى تصحيح شي‏ء من ذلك بالموازين الفقهيّة و قد تكلّفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد إلّا إشكالاً.

ثمّ إنّ ما في الرواية أنّ الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فإنّهم و إن كانوا مشركين لكنّهم كانوا لا يتّخذون أوثاناً.

و في تفسير القمّيّ، في قوله:( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ) قال: يرون حاضر الدنيا و يتغافلون عن الآخرة.

و في الخصال و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) فقال: أ و لم ينظروا في القرآن.

و في تفسير القمّيّ، و قوله عزّوجلّ:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) قال: إلى الجنّة و النار.

١٧١

( سورة الروم الآيات 20 - 26)

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( 20 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 ) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ( 22 ) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 23 ) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 24 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ  ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ( 25 ) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( 26 )

( بيان)

يذكر في هذا الفصل عدّة من الآيات الدالّة على وحدانيّته تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و يشار فيها إلى امتزاج الخلق و التدبير و تداخلهما ليتّضح بذلك أنّ الربوبيّة بمعنى ملك التدبير و الاُلوهيّة بمعنى المعبوديّة بالحقّ لا يستحقّهما إلّا الله الّذي خلق الأشياء و أوجدها، لا كما يزعم الوثنيّ أنّ الخلق لله وحده و التدبير و العبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عندالله، و ليس له سبحانه إلّا أنّه ربّ

١٧٢

الأرباب و إله الآلهة.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإنّ مراتب تكوّن الإنسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضيّة تنتهي إلى العناصر الأرضيّة.

و قوله:( ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) إذا فجائيّة أي يفاجئكم أنّكم أناسيّ تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضيّة المترقّب منها كينونة أرضيّة ميتة اُخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنّه يصير بشراً ذوي حياة و شعور عقليّ ينتشرون في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله:( ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) في معنى قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: 14.

فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض و تأليفها آية و كينونة هذا المجموع إنساناً ذا حياة و شعور عقليّ آية أو آيات اُخر تدلّ على صانع حيّ عليم يدبّر الأمر و يجري هذا النظام العجيب.

و قد ظهر بهذا المعنى أنّ( ثُمَّ ) للتراخي الرتبيّ و الجملة معطوفة على قوله:( خَلَقَكُمْ ) لا على قوله:( أَنْ خَلَقَكُمْ ) .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) إلى آخر الآية، قال الراغب: يقال لكلّ واحد من القرينين من الذكر و الاُنثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج و لكلّ قرينين فيها و في غيرها: زوج، قال تعالى:( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ ) و قال:( وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) و زوجة لغة رديئة و جمعها زوجات - إلى أن قال - و جمع الزوج أزواج. انتهى.

فقوله:( أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) أي خلق لأجلكم - أو لينفعكم - من جنسكم قرائن و ذلك أنّ كلّ واحد من الرجل و المرأة مجهّز بجهاز التناسل تجهيزاً يتمّ فعله بمقارنة الآخر و يتمّ بمجموعهما أمر التوالد و التناسل فكلّ واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر و يحصل من المجموع واحد تامّ له أن يلد و ينسل، و لهذا النقص و الافتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر حتّى إذا اتّصل

١٧٣

به سكن إليه لأنّ كلّ ناقص مشتاق إلى كماله و كلّ مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره و هذا هو الشبق المودع في كلّ من هذين القرينين.

و قوله:( وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً ) المودّة كأنّها الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودّة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الّذي هو نوع تأثّر نفسانيّ عن العظمة و الكبرياء.

و الرحمة نوع تأثّر نفسانيّ عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال و حاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان و رفع نقصه.

و من أجلي موارد المودّة و الرحمة المجتمع المنزليّ فإنّ الزوجين يتلازمان بالمودّة و المحبّة و هما معاً و خاصّة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم و عجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيويّة فيقومان بواجب العمل في حفظهم و حراستهم و تغذيتهم و كسوتهم و إيوائهم و تربيتهم و لو لا هذه الرحمة لانقطع النسل و لم يعش النوع قطّ.

و نظير هذه المودّة و الرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدنيّ بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودّة و يرحم المساكين و العجزة و الضعفاء الّذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة.

و المراد بالمودّة و الرحمة في الآية الاُوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية.

و قوله:( لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) لأنّهم إذا تفكّروا في الاُصول التكوينيّة الّتي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة و الاُنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزليّ و المودّة و الرحمة الباعثتين على الاجتماع المدنيّ ثمّ ما يترتّب على هذا الاجتماع من بقاء النوع و استكمال الإنسان في حياتية الدنيا و الاُخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهيّة في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم و تدهش به أحلامهم.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ ) إلى آخر الآية. الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربيّة

١٧٤

و الفارسيّة و الاُردويّة و غيرها و باختلاف الألوان اختلاف الاُمم في ألوانهم كالبياض و السواد و الصفرة و الحمرة.

و يمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم و الأصوات و نحو التكلّم و النطق و باختلاف الألوان اختلاف كلّ فردين من أفراد الإنسان بحسب اللون لو دقّق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن.

فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالّة على أنّ الصنع و الإيجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم إلّا بالله و لا ينتهي إلّا إليه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) إلى آخر الآية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة و يطلق على العطيّة لأنّ المعطي إنّما يعطي ما فضل من مقدار حاجته، و المراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق.

و في خلق الإنسان ذا قوى فعّالة تبعثه إلى طلب الرزق و رفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة و السعي ثمّ هدايته إلى الاستراحة و السكون لرفع متاعب السعي و تجديد تجهيز القوى و تخصيص الليل و النهار المتعاقبين للسعي و السكون و التسبيب إلى وجود الليل و النهار بأوضاع سماويّة قائمة بالأرض و الشمس لآيات نافعة لمن له سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقّاً اتّبعه.

قال في الكشّاف، في الآية: هذا من باب اللف و ترتيبه: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار إلّا أنّه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين لأنّهما زمانان و الزمان و الواقع فيه كشي‏ء واحد مع إعانة اللفّ على الاتّحاد و يجوز أن يراد منامكم في الزمانين و ابتغاؤكم فيهما، و الظاهر هو الأوّل لتكرّره في القرآن و أسدّ المعاني ما دلّ عليه القرآن. انتهى.

و قد ظهر ممّا تقدّم معنى تذييل الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) الظاهر أنّ الفعل نزّل منزلة المصدر و لذلك لم يصدّر

١٧٥

بأن المصدريّة كما صدّر به قوله:( أَنْ خَلَقَكُمْ ) و قوله:( أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ) و تنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربيّة جيّدة و عليه يحمل المثل السائر:( و تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه) و لا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الآيات بفنون التعبير كقوله:( مَنامُكُمْ ) ( يُرِيكُمُ ) ( أَنْ تَقُومَ ) .

و احتمل في قوله:( يُرِيكُمُ ) أن يكون بحذف أن المصدريّة و التقدير أن يريكم البرق و اُيّد بقراءة النصب في يريكم.

و احتمل أن يكون من حذف المضاف، و التقدير: و من آياته آية أن يريكم البرق، و احتمل أن يكون التقدير و من آياته آية البرق ثمّ استونف فقيل: يريكم البرق إلخ، و احتمل أن يكون( مِنْ آياتِهِ ) متعلّقاً بقوله:( يُرِيكُمُ ) ، و التقدير: و يريكم من آياته البرق، و احتمل أن يكون( مِنْ آياتِهِ ) حالاً من البرق، و التقدير: و يريكم البرق حال كون البرق من آياته.

و هذه وجوه متفرّقة لا يخفى عليك بعدها على أنّ بعضها يخرج الكلام في الآية عن موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين.

و قوله:( خَوْفاً وَ طَمَعاً ) أي خوفاً من الصاعقة و طمعاً في المطر، و قوله:( وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) تقدّم تفسيره كراراً، و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) أي إنّ أهل التعقّل يفقهون أنّ هناك عناية متعلّقه بهذه المصالح فليس مجرّد اتّفاق و صدفة.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) القيام مقابل القعود و لمّا كان أعدل حالات الإنسان حيث يقوى به على عامّة أعماله أستعير لثبوت الشي‏ء و استقراره على أعدل حالاته كما يستعار لتدبير الأمر، قال تعالى:( أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) الرعد: 33.

و المراد بقيام السماء و الأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة و سكون و تغيّر و ثبات بأمره تعالى و قد عرّف أمره بقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: 82.

١٧٦

و قوله:( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) ( إِذا ) الاُولى شرطيّة و( إِذا ) الثانية فجائيّة قائمة مقام فاء الجزاء و( مِنَ الْأَرْضِ ) متعلّق بقوله:( دَعْوَةً ) و الجملة معطوفة على محلّ الجملة الاُولى لأنّ المراد بالجملة أعني قوله:( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ ) إلخ البعث و الرجوع إلى الله و ليس في عداد الآيات بل الجملة إخبار بأمر احتجّ عليه سابقاً و سيحتجّ عليه لاحقاً.

و أمّا قول القائل: إنّ الجملة على تأويل المفرد و هي معطوفة على( أَنْ تَقُومَ ) و التقدير و من آياته قيام السماء و الأرض بأمره ثمّ خروجكم إذا دعاكم دعوة من الأرض.

فلازمه كون البعث معدوداً من الآيات و ليس منها على أنّ البعث أحد الاُصول الثلاثة الّتي يحتجّ بالآيات عليه، و لا يحتجّ به على التوحيد مثلاً بل لو احتجّ فبالتوحيد عليه فافهم ذلك.

و لمّا كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب و خلقهم أزواجاً و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و منامهم و ابتغائهم من فضله و إراءة البرق و تنزيل الماء من السماء كلّها آيات راجعة إلى تدبير أمر الإنسان كان المراد بقوله:( أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ ) بمعونة السياق ثبات السماء و الأرض على وضعهما الطبيعيّ و حالهما العاديّة ملائمتين لحياة النوع الإنسانيّ المرتبطة بهما و كان قوله:( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ ) إلخ مترتّباً على ذلك ترتّب التأخير أي أنّ خروجهم من الأرض متأخّر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبئ به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى.

و يظهر بذلك أيضاً أنّ المراد من قوله السابق( وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشريّة و ينفعانها.

و قد رتّبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الإنسان و تكوّنه ثمّ تصنّفه صنفين: الذكر و الاُنثى ثمّ ارتباط وجوده بالسماء و الأرض و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم ثمّ السعي في طلب الرزق و سكون المنام ثمّ إراءة البرق و تنزيل الأمطار حتّى تنتهي إلى قيام السماء و الأرض إلى أجل مسمّى ليتمّ لهذا النوم الإنساني ما قدّر له من

١٧٧

أمد الحياة و يعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات.

و قد رتّبت الفواصل أعني قوله:( يَتَفَكَّرُونَ ) ( لِلْعالِمِينَ ) ( يَسْمَعُونَ ) ( يَعْقِلُونَ ) على هذا الترتيب لأنّ الإنسان يتفكّر فيصير عالماً ثمّ إذا سمع شيئاً من الحقائق وعاه ثمّ عقله و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) كانت الآيات المذكورة مسوقة لإثبات ربوبيّته تعالى و اُلوهيّته كما تقدّمت الإشارة إليه و لمّا انتهى الكلام إلى ذكر البعث و الرجوع إلى الله عقّب ذلك بالبرهان على إمكانه و الحجّة مأخوذة من الخلق و التدبير المذكورين في الآيات السابقة.

فقوله:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقيّ لجميع من في السماوات و الأرض و هم المحشورون إليه و ذلك لأنّ وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر و حاجة لا استقلال و لا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه و هذا هو الملك الحقيقيّ الّذي أثره جواز تصرّف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرّف في مملوكيه بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة.

و قد أكّد ذلك بقوله:( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع - على ما ذكره الراغب في المفردات - و المراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينيّة - على ما يعطيه السياق - دون التشريعيّة الّتي ربّما تخلّفت.

و ذلك أنّهم الملائكة و الجنّ و الإنس فأمّا الملائكة فليس عندهم إلّا خضوع الطاعة، و أمّا الجنّ و الإنس فهم مطيعون منقادون للعلل و الأسباب الكونيّة و كلّما احتالوا في إلغاء أثر علّة من العلل أو سبب من الأسباب الكونيّة توسّلوا إلى علّة اُخرى و سبب آخر كونيّ ثمّ علمهم و إرادتهم كاختيارهم جميعاً من الأسباب الكونيّة فلا يكون إلّا ما شاء الله أي الّذي تمّت علله في الخارج و لا يتحقّق ممّا شاؤا إلّا ما أذن فيه و شاءه فهو المالك لهم و لما يملكونه.

١٧٨

( سورة الروم الآيات 27 - 39)

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ  وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 ) ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ  هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ  كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 28 ) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ  وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( 29 ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا  فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ  ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( 30 ) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 31 ) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا  كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( 32 ) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( 33 ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ  فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 34 ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ( 35 ) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا  وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( 36 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ  إِنَّ فِي

١٧٩

ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 37 ) فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ  ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 38 ) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللهِ  وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( 39 )

( بيان)

لمّا انساق الاحتجاج على الوحدانيّة و المعاد من طريق عدّ الآيات الدالّة على ذلك بقوله:( وَ مِنْ آياتِهِ ) إلى قوله:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الآية، و هو من صفات الفعل غيّر سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعليّة و أوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كلّ فصل شيئاً من صفات الفعل المستوجبة للوحدانيّة و المعاد و هي قوله:( وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) إلخ، و قوله:( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ) إلخ، و قوله:( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ) إلخ، و قوله:( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) إلخ.

و إنّما لم يبدأ الفصل الأوّل باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الاُخر لسبق ذكره في الآية السابقة عليه المتّصلة به أعني قوله:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) الّذي هو كالبرزخ المتوسّط بين السياقين، فقوله:( وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) فصل في صورة الوصل.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية، بدء الخلق إنشاؤه ابتداء من غير مثال سابق و الإعادة إنشاء بعد إنشاء.

و قوله:( وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) الضمير الأوّل للإعادة المفهوم من قوله:( يُعِيدُهُ ) و الضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فأمر بردّ ذلك، وزاد عليه مئتي دينار، فأخذها زين العابدينعليه‌السلام وفرّقها على الفقراء والمساكين )(١) .

قال السيّد محمّد بن أبي طالب: ( روي أنّ اللعين لما خشي شقّ العصا وحصول الفتنة أخذ في الاعتذار، والإنكار لفعل ابن زياد، وإبداء التعظيم والتكريم لعليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، ونقل نساء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى داره الخاصّة، وكان لا يتغدّى ولا يتعشّى إلاّ مع سيّدنا سيِّد العابدينعليه‌السلام ، وكلّ مَن كان حاضراً من الصحابة والتابعين والأجلّة وبني أُميّة، أشاروا عليه لعنه الله بردّ حرم رسول الله، والإحسان إليهم، والقيام بما يُصلحهم، فأحضر سيّدنا عليّ بن الحسين وقال: إنّي كنت قد وعدتك بقضاء ثلاث حاجات فاذكرها لي لأقضيها )(٢) ... ثمّ ذكر نحو ما مرّ.

ففي الخبر الذي روا السيّد ابن طاووس وابن نما وجوه للتأمّل:

١ - تعليل الإمامعليه‌السلام بوجود آثار من فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في ضمن ما سُلِب من أهل البيت، يُرشدنا إلى علّة كلّ ما روي حول طلب أهل البيت بردِّ ما أُخذ منهم؛ فتكون هذه الرواية حاكمة وناظرة ومُفسِّرة لما رُوي في هذا الشأن.

٢ - إنّ تصريح الإمام بأنّ فيه آثار فاطمة ومغزلها وقميصها، وقلادتها ومقنعتها، يُرشدنا إلى لزوم الاهتمام بحفظ آثار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الطاهرينعليهم‌السلام والتبرّك بها.

٣ - مسألة عفو يزيد عن قتل الإمام زين العابدين تدلّ على نيّته الخبيثة حول قتل واغتيال الإمامعليه‌السلام بالمطابقة، وكذلك تدلّ على كذب ادّعائه بأنّه ما كان يُحبّ قتل الحسينعليه‌السلام بالملازمة، فإنّه إن لم يكن آمراً بقتل الحسينعليه‌السلام وراضياً به - مع أنّه خرج عليه بزعمه - فكيف أراد قتل ابنهعليه‌السلام - مع أنّه في حالة الأسر - ثمّ يعفو

____________________

(١) الملهوف: ٢٢٦، ورواه مُثير الأحزان: ١٠٦ بتلخيص.

(٢) تسلية المجالس ٢/ ٤٥٧.

٢٦١

عنه بعد ذلك.

٤ - قوله: ( لن تراه أبداً )، لعلّه ناظر إلى إرسال الرأس الشريف إلى المدينة حينذاك، كما سيأتي الكلام حوله.

٥ - أمر يزيد بردّ المأخوذ يدلّ على أنّ المسلوب من أهل البيتعليهم‌السلام أُرسل إلى يزيد، وهذا يؤيّد ما احتملناه سابقاً.

٦ - فعل الإمامعليه‌السلام بتفريق الزائد على ما أُخذ منهم - وهو مئتي دينار - كشف عن زاوية من زوايا الأخلاق العالية المتجلِّية في أهل بيت النبوّة.

استشارة يزيد وجوه أهل الشام:

روى ابن عبد ربّه، عن عليّ بن عبد العزيز، عن محمّد بن الضحّاك بن عثمان الخزامي، عن أبيه قال: (... [قال يزيد]: ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟

فقال له رجل: لا تتّخذ من كلب سوءٍ جرواً.

قال النعمان بن بشير الأنصاري: اُنظُر ما كان يصنعه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) لو رآهم في هذه الحالة، فاصنعه بهم.

قال: صدقت، خلّوا عنهم، واضربوا عليهم القباب.

وأمال عليهم المطبخ وكساهم وأخرج إليهم جوائز كثيرة، وقال: لو كان بين ابن مرجانة وبينهم نسب ما قتلهم! ثمّ ردّهم إلى المدينة )(١) .

إنّ المستفاد من النصوص، أنّ هذه المحادثة والاستشارة حصلت في آخر أيّام مقام أهل البيتعليهم‌السلام في الشام، لا ما هو المترائي من بعض الكُتب من أنّه جرت

____________________

(١) العقد الفريد ٥/ ١٣١؛ الإمامة والسياسة ٢/ ٨؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٧١؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٥؛ مُثير الأحزان: ٩٨؛ الملهوف: ٢١٨.

٢٦٢

في مجلس يزيد العام؛ لأنّنا قد ذكرنا شواهد عديدة بأنّ المجالس قد تكرّرت، وإن لم تكن على حدٍّ سواء من حيث الأهمّية، فحينئذٍ يريد يزيد أن يجد مفرّاً لكي يُخلّص نفسه من هذه الواقعة التي هزّت أركان حكومته، وممّا يؤيّد ذلك هو ما أورده القاضي نعمان بقوله:

ثمّ قال: يا أهل الشام، ما ترون في هؤلاء؟

فقال قائلهم: قد قتل (كذا)، ولا تتّخذ جروء من كلب سوء.

فقال النعمان بن بشير: اُنظر ما كنت ترى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يفعله فيهم لو كان حيّاً، فافعله.

فبكى يزيد، فقالت فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام : ( يا يزيد، ما تقول في بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا عندك؟! ). فاشتدّ بكاؤه! حتّى سمع ذلك نساؤه! فبكين حتّى سمع بكاءهنّ مَن كان في مجلسه.

وقيل: إنّ ذلك بعد أن أجلسهنّ في منزل لا يُكنّهنّ من بردٍ ولا حرّ، فأقاموا فيه شهراً ونصف، حتّى أُقْشِرت وجوههنّ من حرّ الشمس، ثمّ أطلقهم(١) .

تجهيز الأسرى من آل البيت إلى المدينة:

قال السيّد ابن طاووس: ( ثمّ أمر - يزيد - برَدِّ الأُسارى وسبايا البتول إلى أوطانهم بمدينة الرسول )(٢) .

قال الشيخ المفيد: ( ثمّ ندب يزيد النعمانَ بن بشير وقال له: تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوان إلى المدينة )(٣) .

____________________

(١) شرح الأخبار ٣/ ٢٦٨.

(٢) الملهوف: ٢٢٥.

(٣) الإرشاد ٢/ ١٢٢.

٢٦٣

قال الباعوني: ( فقال يزيد: جهّزوهم. وأمر النعمانَ بن بشير أن يُجهّزهم بما يُصلحهنّ ويسير معهم )(١) .

قال الطبري: ( ثمّ قال يزيد بن معاوية: يا نعمان بن بشير، جهّزهم بما يُصلحهم، وابعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً، وابعث معه خيلاً وأعواناً، فيسير بهم إلى المدينة )(٢) .

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٢٩٥.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ وانظر: الكامل في التاريخ ٤/ ٨٧؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٢؛ المنتظم ٥/ ٣٤٤؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٥ نقلاً عن صاحب المناقب.

٢٦٤

الفصل الثاني

حركة المسيرة المظفَّرة

٢٦٥

٢٦٦

الفصل الثاني

حركة المسيرة المظفَّرة

الخروج من الشام

لقد نجح أعلام الركب الحسيني في أداء واجبهم الرسالي، في هذا المقطع الزمني والمكاني المهمّ على أحسن وجه، حتّى خشي يزيد وقوع الفتن والأحداث، واضطراب الرأي العام، وخروج الأمر من يده؛ الأمر الذي دعاه للتفكير بجدّية في طريق للخلاص من هذه المشكلة العويصة، فأمر النعمان بن بشير بتجهيز الركب الطاهر لإرجاعهم إلى المدينة. وقد رأينا كيف اختلفت المعاملة مع أهل بيت الرسول منذ ذلك الحين.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: ( وأصبحت - الخُطب - حديث الأندية والمجالس، فكانت تغلي كالحُمم على تلك الدولة الغاشمة، وهي تُنذر بانفجار شعبي يكتسح دولة يزيد، فقد عرَّفت أهل الشام لؤم يزيد وخبث عنصره، وقلبت الرأي العام عليه، فجُوبِهَ بالنقد حتّى في مجلسه وسقط اجتماعيّاً، وذهبت مكانته من النفوس )(١) .

يزيد يعتذر من الإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام !

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ٣/ ٤١٣.

٢٦٧

قال السيّد محمّد بن أبي طالب: ( ولم يكن أحد من أكثر الناس في جميع الآفاق راضياً بفعله؛ فلذلك أبدى الاعتذار وركن إلى الإنكار، خوفاً أن يُفتق عليه فتق لا يُرتق، وأن ينفتح عليه باب من الشرّ لا يُغلق، فاعتذر وأنّى له الاعتذار )(١) .

قال الشيخ المفيد (رحمه الله): ( ولما أراد أن يُجهّزهم دعا عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، فاستخلاه، ثمّ قال له: لعن الله ابن مرجانة! أَمَ والله، لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها! ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولكنّ الله قضى ما رأيت، كاتبْني من المدينة وأنْهِ كلّ حاجة تكون لك.

وتقدَّمَ بكسوته وكسوة أهله )(٢) .

وأعرض عنه الإمام؛ لأنّ كلامه لم يكن إلاّ تهرّباً ممّا لحقه من الخزي والعار.

قال ابن سعد: ( وقال - يزيد - لعليّ بن حسين: إن أحببت أن تُقيم عندنا فنصلْ رحمك ونعرف لك حقّك فعلت، وإن أحببت أن أردّك إلى بلادك وأصلك.

قال: بل تردّني إلى بلادي.

فردّه إلى المدينة ووصله )(٣) .

وقال الخوارزمي: وروي أنّ يزيد عرض عليهم المقام بدمشق، فأبوا ذلك

____________________

(١) تسلية المجالس ٢/ ٤٠٣.

(٢) الإرشاد ٢/ ١٢٢. وروى نحوه: إعلام الورى: ٢٤٩)؛ وروى مضمونه: تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٧؛ الاحتجاج ٢/ ١٣٥ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٢ ح٦؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٢؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٥ - عن صاحب المناقب.

(٣) الطبقات: ٨٤ ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع )؛ ونحوه في: الطبقات الكبرى ٥/ ٢١٢ ( ترجمة الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ). وروى مضمونه: المنتظم ٥/ ٣٤٥؛ تذكرة الخواص: ٢٦٥؛ ومرآة الزمان: ١٠١ - على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣٥١.

٢٦٨

وقالوا: ( رُدَّنا إلى المدينة، لأنّها مُهاجرة جدّنا )، فقال للنعمان بن بشير: ( جهّز هؤلاء بما يُصلحهم وابعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً، وابعث معهم خيلاً وأعواناً )، ثمّ كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق والأنزال(١) .

وقال القاضي نعمان: وأمر - يزيد - بإطلاق عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، وخيّره بين المقام عنده أو الانصراف، فاختار الانصراف إلى المدينة فسرّحه(٢) .

وقال: ولما بلغ من النداء على رأس الحسينعليه‌السلام والاستهانة [بحرمه] ونساء مَن قُتل معه من أهل بيته ما أراده، وعليّعليه‌السلام على حاله من العلّة، وما أراده الله تعالى من سلامته، وأن لا تنقطع الإمامة بانقطاعه، فسرّحهم يزيد اللعين، وانصرف إلى المدينة(٣) .

عرض الأموال على آل البيتعليهم‌السلام ورفض السيّدة أُمّ كلثوم:

روى العلاّمة المجلسي عن بعض أصحابنا، قال: ( فلما كان اليوم الثامن دعاهنّ يزيد، وأعرض عليهنّ المقام، فأبين وأرادوا الرجوع إلى المدينة، فأحضر لهم المحامل وزيّنها، وأمر بالأنطاع الإبريسم، وصبّ عليها الأموال، وقال: يا أُمّ كلثوم، خذوا هذا المال عوض ما أصابكم!

فقالت أُمّ كلثوم: يا يزيد، ما أقلّ حياءك وأصلب وجهك! تقتل أخي وأهل بيتي وتُعطيني عوضهم! )(٤) .

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤.

(٢) شرح الأخبار ٣/ ١٥٩.

(٣) المصدر نفسه ٢/ ٢٥٢.

(٤) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٦.

٢٦٩

متى كان الخروج من الشام؟

المستفاد من بعض النصوص أنّ الخروج من الشام كان في العشرين من صفر.

قال الشيخ المفيد (رحمه الله): ( وفي العشرين منه (شهر صفر)، كان رجوع حرم سيّدنا ومولانا أبي عبد اللهعليه‌السلام من الشام إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله )(١) .

وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): ( وفي اليوم العشرين منه (صفر) كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام من الشام إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

وقال الشيخ رضيّ الدين علي بن يوسف بن المطهّر الحِلِّي: ( وفي اليوم العشرين من صفر سنة إحدى وستّين أو اثنين وستّين - على اختلاف الرواية به في قتل مولانا الحسينعليه‌السلام -(٣) كان رجوع حرم مولانا أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام من الشام إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٤) .

وقال الكفعمي: ( وفي العشرين منه (صفر) كان رجوع حرم الحسين بن عليعليه‌السلام إلى المدينة )(٥) .

وقال في موضع آخر: ( وفي هذا اليوم (العشرين من صفر) كان رجوع حرم الحسينعليه‌السلام من الشام إلى المدينة )(٦) .

فإذا فرضنا أنّ المقصود من عبارة يوم خروجهم من الشام إلى المدينة هو

____________________

(١) مسار الشيعة: ٤٦.

(٢) مصباح المتهجِّد: ٧٣٠، عنه بحار الأنوار ١٠١/ ٣٣٤.

(٣) أقول: لا مجال لهذا التردّد في سنة الرجوع بعد إمكان دعوى التواتر في كون شهادتهعليه‌السلام في سنة إحدى وستّين، كما هو واضح للمتتبّع في المقام.

(٤) العدد القويّة: ٢١٩ رقم ١١.

(٥) مصباح الكفعمي: ٥١٠.

(٦) المصدر نفسه: ٤٨٩.

٢٧٠

يوم خروجهم من الشام، لا يوم دخولهم المدينة، وقلنا: إنّ الرأس الشريف أُدخِل الشام في الأوّل من صفر، وأنّ أهل بيت الحسينعليه‌السلام دخلوها في ذلك اليوم - مع احتمال تقدّم ورود الرأس عليهم - فيكون مدّة بقائهم في الشام عشرين يوماً.

وقد ذكرنا عن القاضي نعمان القول ببقائهم فيها شهراً ونصف، وهناك رأي وسط يقول بمكوثهم فيها شهراً، ذكره السيّد ابن طاووس(١) .

المسايرون للركب!

لقد سايرت الركب الطاهر عدّةٌ بأمر يزيد، وقد ورد ذكرهم في التاريخ إمّا بالعنوان الكلّي أو بالخصوص، وللتوقّف في ذلك مجال، وذلك بطرحسؤالين:

السؤال الأوّل: مَنْ هم المسايرون؟

١) جيش: قال مسكويه الرازي: ( ثمّ جهّز - يزيد - النساء وعليّ بن الحسين، وضمّ إليهم جيشاً، حتّى ردّهم إلى المدينة )(٢) .

٢) جماعة: قال ابن نما: ( ثمّ أمر يزيد بمضيّ الأُسارى إلى أوطانهم مع نعمان بن بشير وجماعة معه إلى المدينة )(٣) .

٣) ثلاثون فارساً: قال أحمد بن داود الدينوري: ( ثمّ أمر - يزيد - بتجهيزهم بأحسن جهاز، وقال لعليّ بن الحسين: ( انطلق مع نسائك حتّى تبلغهنّ وطنهنّ )، ووجّه معه رجلاً في ثلاثين فارساً، يسير أمامهم، وينزل حجرة عنهم، حتّى انتهى

____________________

(١) إقبال الأعمال: ٥٨٩.

(٢) تجارب الأُمم ٢/ ٧٥.

(٣) مثير الأحزان: ١٠٦.

٢٧١

بهم إلى المدينة )(١) .

٤) عدّة من موالي أبي سفيان: روى الخوارزمي، عن أبي العلاء الحافظ، بإسناده عن مشايخه ( أنّ يزيد بن معاوية حين قُدم عليه برأس الحسين وعياله، بعث إلى المدينة، فأقدم عليه عدّة من موالي بني هاشم، وضمّ إليهم عدّة من موالي آل أبي سفيان، ثمّ بعث بثقل الحسين ومَن بقي من أهله معهم، وجهّزهم بكلّ شيء، ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلاّ أمر لهم بها )(٢) .

٥) نعمان بن بشير: كما ذكرنا ذلك عن ابن نما(٣) والباعوني(٤) .

وهو المستفاد ممّا ذكره الشيخ المفيد(٥) والطبرسي(٦) .

٦) محرز بن حريث الكلبي: روي عن سبط ابن الجوزي أنّه قال: ( وبعث - يزيد - معهم محرز بن حريث الكلبي )(٧) .

٧) رجل من بهرا: قال ابن سعد: ( وبعث - يزيد - بهم مع محرز بن حريث الكلبي ورجل من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام )(٨) .

٨) عدّة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم: قال ابن سعد: ( ثمّ بعث

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٦١.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٥؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٥. يؤيّده ما صرّح به ابن سعد في طبقاته: ٨٤ (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ).

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٦.

(٤) جواهر المطالب ٢/ ٢٩٥.

(٥) الإرشاد ٢/ ١٢٢.

(٦) إعلام الورى: ٢٤٩.

(٧) مرآة الزمان: ١٠١ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣٥١). وصرّح بذلك ابن سعد كما يأتي.

(٨) الطبقات الكبرى: ٨٤ ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ).

٢٧٢

يزيد إلى المدينة، فقدم عليه بعدّة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم، ثمّ من موالي بني علي، وضمّ إليهم أيضاً عدّة من موالي أبي سفيان، ثمّ بعث بثقل الحسين ومَن بقي من نسائه وأهله وولْده معهم، وجهّزهم بكلّ شيء، ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلاّ أمر لهم بها )(١) .

٩) عدّة من موالي بني عليّ: كما ذكرنا ذلك عن الطبقات آنفاً، وهو عطف الخاص على العام، كما أنّه يمكن دمج بعض ما ذكرنا في بعض.

السؤال الثاني: لماذا هذه المسايرة؟

من الغريب جدّاً أن يقول أحد: إنّ يزيد يقوم بإرسال هؤلاء لأجل المحافظة عليهم فحسب، وإن كان هذا هو الظاهر المترائى من القضيّة، ولكن الواقع هو المحافظة عليهم أوّلاً، والسيطرة على الأوضاع ثانياً، والثاني أولى بالمقصود عنده؛ إذ بعدما علمنا بمدى تأثير أهل البيت في العاصمة، ونشر الحقائق إلى سائر البلدان، فمن الطبيعي أن يخاف يزيد حصول التمرُّد والعصيان عليه في بعض البلدان الواقعة في المسير، وقد راعت السلطة ذلك بالبعث إلى المدينة، واستقدام عدّة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم وموالي بني عليّ من أجل مسايرتهم للركب.

ما سُمِع عند ترك دمشق:

قال ابن أعثم: ثمّ أمر بهم يزيد بزاد كثير ونفقة، وأمر بحملانهم إلى المدينة، فلما فصلوا من دمشق سمعوا مُنادياً يُنادي في الهواء وهو يقول:

أيُّها القاتلون ظلماً حسينا

أبْشِرُوا بالعذاب والتنكيل

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٧٣

كلّ مَن في السماء يدعو عليكم

من نبيٍّ ومُرسلٍ وقتيل

قد لُعنِتم على لسان موسى

وداود وحامل الإنجيل(١)

حُسْن المعاملة في الطريق!

قال ابن سعد: ( وأمر - يزيد - الرُّسل الذين وجّههم معهم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا ومتى شاءوا )(٢) .

وذكرنا عن الدينوري، أنّ يزيد وجّه معهم رجلاً في ثلاثين فارساً يسير أمامهم، وينزل حُجرة عنهم حتّى انتهى بهم إلى المدينة(٣) .

قال الشيخ المفيد (رحمه الله): ( وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أن يسير بهم في الليل، ويكونوا أمامه، حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحّى عنهم، وتفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم حيث إذا أراد إنسان من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجة لم يحتشم، فسار معهم في جملة النعمان، ولم يزل يُنازلهم في الطريق، ويُرفق بهم - كما وصّاه يزيد - ويرعونهم حتّى دخلوا المدينة )(٤) .

وقال الشبلنجي: (ثمّ إنّ يزيد بعد ذلك أمر النعمان بن بشير أن يُجهّزهم بما يُصلحهم إلى المدينة الشريفة، وسيّر معهم رجلاً أميناً من أهل الشام في خيل

____________________

(١) الفتوح ٢/ ١٨٧.

(٢) الطبقات: ٨٤ ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ).

(٣) الأخبار الطوال: ٢٦١.

(٤) الإرشاد ٢/ ١٢٢. وروي نحوه في: تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٨؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤؛ إعلام الورى: ٢٤٩؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٢؛ تسلية المجالس ٣/ ٣٩٩ )؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٦ - عن صاحب المناقب - بتفاوت يسير جدّاً.

٢٧٤

سيّرها صُحْبَتهم.. وأوصى بهم الرسول الذي سيّره صُحبتهم، وكان يُسايرهم وهو وخيله التي معهم، فيكون الحريم قدّام بحيث إنّهم لا يفوتون، فإذا نزلوا تنحّى عنهم ناحية هو وأصحابه، وكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن حالهم، ويتلطّف بهم في جميع أُمورهم، ولا يشقّ عليهم في مسيرهم، إلى أن دخلوا المدينة )(١) .

وممّا يدلّ على ذلك، ما رواه الطبري عن أبي مخنف قال: ( قال الحارث بن كعب: قالت لي فاطمة بنت علي: قلت لأُختي زينب: يا أُخيّة، لقد أحسن هذا الرجل الشامي إلينا في صحبتنا، فهل لكِ أن نصله؟

فقالت: والله، ما معنا شيء نصله به إلاّ حُليّنا!

قلت لها: فنُعطيه حُليّنا؟

قالت: فأخذت سواري ودُملجي، وأخذت أختي سوارها ودُملجها، فبعثنا بذلك إليه، واعتذرنا إليه، وقلنا له: هذا جزاؤك بصُحبتك إيّانا بالحَسن من الفعل.

قالت: فقال: لو كان الذي صنعت إنّما هو للدُّنيا كان في حليكنّ ما يرضيني، ولكن - والله - ما فعلته إلاّ لله، ولقرابتكم من رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم)(٢) .

لعلّ المقصود من هذا الرجل الشامي هو محرز بن حريث الكلبي، أو رجل من بهرا الذي عبّر عنهما ابن سعد بقوله: وكانا من أفاضل أهل الشام(٣) ، وإن كان

____________________

(١) نور الأبصار: ١٣٢.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٢٥٤. وروى نحوه: الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤، وفيه: (فأخرجنا سوارين ودُملجين فبعثنا بها إليه واعتذرنا... )؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٦ - عن صاحب المناقب. بتفاوت يسير جدّاً.

(٣) الطبقات الكبرى: ٨٤ ( ترجمة الإمام الحسين من القسم غير المطبوع ).

٢٧٥

المستفاد ممّا نقله ابن نما والباعوني أنّ المتولّي لذلك هو نعمان بن بشير(١) ، ولكنّه أنصاري مدني، فلا يشمله إطلاق كونه الرجل الشامي، إلاّ إذا قيل: إنّه صار شاميّاً بعدما استوطنه! - أي هو شامي الهوى مدنيّ الأصل!

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠٦؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٥.

٢٧٦

إلى كربلاء

زيارة قبر الإمام الحسينعليه‌السلام :

قال السيّد ابن طاووس: ( قال الراوي: ولما رجع نساء الحسينعليه‌السلام وعياله من الشام وبلغوا إلى العراق، قالوا للدليل: ( مُرَّ بنا على طريق كربلاء ) فوصلوا إلى موضع المصرع )(١) .

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: ( فسألوا أن يُسار بهم على العراق؛ ليُجدّدوا عهداً بزيارة أبي عبد اللهعليه‌السلام )(٢) .

وقال القندوزي: ( ثمّ أمرهم (يزيد) بالرجوع إلى المدينة المنوّرة، فسار القائد بهم، وقال الإمام والنساء للقائد: بحقّ معبودك أن تدلُّنا على طريق كربلاء. ففعل ذلك حتّى وصلوا كربلاء )(٣) .

ولا غرابة في الأمر، فإنّ يزيد - كما روى ابن سعد في طبقاته - أمر الرُّسل الذين وجّههم معهم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا ومتى شاءوا(٤) .

مَنْ هو أوّل زائر لقبر الحسينعليه‌السلام ؟

روى ابن نما، عن ابن عائشة قال: مرّ سليمان بن قتّة العدوي مولى بني تميم بكربلاء، بعد قتل الحسينعليه‌السلام بثلاث، فنظر إلى مصارعهم، فاتّكأ على فرس له عربيّة، وأنشأ:

____________________

(١) الملهوف: ٢٢٥.

(٢) تسلية المجالس ٢/ ٤٥٨.

(٣) ينابيع المودّة ٣/ ٩٢.

(٤) الطبقات ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع ): ٨٤.

٢٧٧

مـررت عـلى أبـيات آل محمّد

فـلم أرَهـا أمـثالها يـوم حلَّت

ألم ترَ أنّ الشمس أضحت مريضةً

لـفقد حـسين والـبلاد اقشعرّت

وكـانوا رجـاءً ثمّ أضحوا رزيّة

لـقد عـظمت تلك الرزايا وجلّت

وتـسألنا قـيس فـنعطي فقيرها

وتـقتلنا قـيس إذا الـنعل زلّت

وعـند غـنيٍّ قـطرة من دمائنا

سـنطلبهم يـوماً بها حيث حلّت

فـلا يُـبْعِد الله الـديار وأهـلها

وإنْ أصـبحت منهم برغم تخلَّت

فـإنّ قـتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقــاب الـمسلمين فـذلّت

وقـد أعـولت تبكي السماء لفقده

وأنجمنا ناحت عليه وصلّت (١)

قد يستدِلّ القائل بهذه الرواية، أنّ سليمان بن قتّة العدوي هو أوّل مَن زار قبر الحسينعليه‌السلام ، حيث صرّح ابن نما أنّه زاره بعد قتل الحسينعليه‌السلام بثلاث.

وفيه:

أوّلاً: هذا ممّا لم يقله أحد فيما نعرفه.

ثانياً: إنّ هذا القيد ممّا تفرّد به ابن نما، وأمّا بقيّة أرباب السير والتواريخ، فقد اكتفوا بذكر رثاء سليمان، من دون أن يُقيّدوا ذلك بيوم(٢) ، ولا مكان(٣) .

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١١٠، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٢٩٣.

(٢) اُنظُر: تذكرة الخواصّ: ٢٧٢ ( وفيه: وذكر الشعبي وحكاه ابن سعد أيضاً قال: مرّ سليمان بن قتّة بكربلاء، فنظر إلى مصارع القوم فبكى حتّى كاد أن يموت ثمّ قال... )؛ الملهوف: ٢٣٣ ( وفيه: وقد بكى على المنازل المشار إليها فقال... )؛ ينابيع المودّة ٣/ ١٠٠ ( وفيه: وقف سليمان على مصارع الحسين وأهل بيته (رضي الله عنهم)، وجعل يبكي ويقول... ).

(٣) اُنظر: الطبقات: ٩٢ ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع )؛ مقاتل الطالبيين: ١٢١؛ أنساب الأشراف ٣/ ٤٢٠؛ المناقب ٤/ ١١٧؛ مروج الذهب ٣/ ٦٤؛ تهذيب الكمال ٦/ ٤٤٧؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٨؛ الاستيعاب ١/ ٣٧٩؛ البداية والنهاية ٨/ ٢١٣؛ جواهر العقدين ٢/ ٣٣٣.

٢٧٨

ثالثاً: الرواية تدلّ على مروره بكربلاء ونظره إلى مصارعهم، والمرور بها والنظر إلى المصرع أعمّ من أن يكون ذلك بقصد الزيارة أم لا، فهذا يختلف عمّا إذا نوى شخص زيارة قبر أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فـ( إنّما الأعمال بالنيّات ) (١) ، وإنّما( لكلّ امرئٍ ما نوى ) (٢) .

رابعاً: إنّ لفظ المصرع أعمّ من أن يكون ناظراً إلى مكان استشهادهم، أو إلى أجسادهم المطهّرة التي كانت مُلقاة على الأرض، فهناك إجمال في هذه الناحية، إذ لو كان ذلك قبل دفن الأجساد المطهّرة فلا ينطبق عليه عنوان زيارة القبور، فشأنه شأن بني أسد الذين شاركوا في تدفين الشهداء، كما روي ذلك.

خامساً: إنّ في بعض الروايات أنّه قال ضمن تلك الأبيات:

وأنّ قتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقاباً من قريش فذلّت

فقال له عبد الله بن حسن بن حسن: ويحك ألا قلت: أذلّ رقاب المسلمين فذلّت؟!(٣) .

فلو علمنا أنّ عبد الله بن الحسن لم يكن حاضراً في كربلاء في اليوم الثالث، فهذا يعني أنّه أنشدها مُتأخّراً، إلاّ أن يُقال: إنّه كرّر ما أنشده سابقاً بعد ذلك، واعترض عليه عبد الله بن الحسن المثنّى!

فالمتحصّل من جميع ذلك؛ أنّه لا نتمكّن أن نُعرِّف سليمان بكونه أوّل مَن زار قبر الحسينعليه‌السلام .

نعم، ربّما نتمكّن من أن نقول: هو أوّل مَن رثاه - من الشعراء - بعد مقتلهعليه‌السلام ، وقد كسب بذلك لنفسه شرفاً لا يُنكر، خاصّة مع لحاظ ذلك الزمن المخوف، وغلبة الجور والظلم على الناس؛ ولأجله نرى أهمّيّة ما نقله أبو الفرج

____________________

(١ و٢) ميزان الحكمة ١٠/ ٢٧٧، ح٢٠٦٦١ وح٢٠٦٦٢.

(٣) الطبقات: ٩٢ ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله من القسم غير المطبوع )؛ تذكرة الخواص: ٢٧٢.

٢٧٩

الإصبهاني - بعد ذكره الأبيات - بقوله: وقد رثى الحسين بن عليّ - صلوات الله عليه - جماعة من متأخّري الشعراء. وأمّا مَن تقدّم فما وقع إلينا شيء رُثي به، وكانت الشعراء لا تُقدِم على ذلك مخافة بني أُميّة وخشية منهم )(١) .

فحينئذٍ؛ لا ينطبق هذا العنوان إلاّ في رجل شريف ذي معرفة كاملة، وهو ذلك الصحابي الجليل والعارف النبيل، جابر بن عبد الله الأنصاري - رضوان الله عليه - الذي رحل من المدينة المنوّرة إلى كربلاء؛ لأجل زيارة سيّد الشهداءعليه‌السلام ، فقد صرّح كثير من العلماء في كونه هو أوّل مَن اكتسب شرف عنوان زائر قبر الحسينعليه‌السلام ، وكفاه شرفاً وكرامة وذخراً.

قال الشيخ المفيد: ( وفي اليوم العشرين منه (صفر).. هو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله بن حزام الأنصاري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورضي الله تعالى عنه من المدينة إلى كربلاء، لزيارة قبر سيّدنا أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فكان أوّل مَن زاره من الناس )(٢) .

وبه قال الشيخ الطوسي(٣) ، والعلاّمة الحلّي(٤) ، والشيخ رضيّ الدِّين علي بن يوسف بن المطهّر الحلّي(٥) ، والكفعمي(٦) ، والمجلسي(٧) ، والمحدّث النوري(٨) وغيرهم.

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ١٢١.

(٢) مسار الشيعة: ٤٦.

(٣) مصباح المتهجّد: ٧٣٠.

(٤) منهاج الصلاح على ما في لؤلؤ ومرجان: ١٤٧.

(٥) العدد القويّة: ٢١٩ رقم ١١؛ عنه بحار الأنوار ٩٨/ ١٩٥.

(٦) مصباح الكفعمي: ٤٨٩.

(٧) بحار الأنوار ١٠١/ ٣٣٤.

(٨) مستدرك الوسائل ٣/ ٥٨٠.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460