مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234388 / تحميل: 8791
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وبعد قتل عثمان تستّر بقميصه، وبه رسّخ أركان حُكمه وحكومة أُسرته، وبثّ الفتنة في أوساط المجتمع الإسلامي، وحمل راية الشقاق والخلاف ضدّ خليفة المسلمين الشرعي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

قال في الخُطط: ( اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان؛ ليعيد الأمر إلى بني أُميّة ويُصبحوا أُمراء في الإسلام!.. وكان النعمان بن بشير أتاه إلى دمشق بقميص عثمان الذي قُتل فيه مُخضّباً بدمه، وبأصابع نائلة زوجته، فوضع القميص على منبر دمشق، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع مُعلّقة في أردانه، وتعاهد الرجال من أهل الشام على قتل قتلة عثمان ومَن عرض دونهم بشيء أو تُفنى أرواحهم، وكان ستّون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان.. وكان عمرو بن العاص - لما نشب الناس في أمر عثمان - في ضيعة له بالسبع من حيّز فلسطين قد اعتزل الفتنة! فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه، ووعده بمُلك مصر إن هو ظفر بعليّ، فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكنديّ رأس أهل الشام، فسار هذا يستقري مدنها مدينةً مدينةً، يُحرّض الناس على الأخذ بدم عثمان، فأجابه الناس كلّهم إلاّ نفراً من أهل حمص نُسَّاكاً، فإنّهم قالوا: نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منّا... )(١) .

ومن هنا انطلقت شرارة حرب صِفِّين، ولا مجال لذكر تفاصيلها الآن.

إسلام أُمويّ وحكم دمويّ!

هنا إسلام أُمويّ ينطق بمنطق القهر والقوّة، برهانه السلاح، ودليله قمع كلّ مَن يقوم بالكفاح، يُنفّذه أرباب السلطة والسيف، ويُزيِّنه البائعون دينهم بدنياهم، المشترون سخط الخالق برضى المخلوق.

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ١٠٥.

٢١

ترى مظاهر الإسلام من الصلاة والصوم والحجّ و..، لكنّها قشر بلا لُبٍّ، وجسد بلا روح؛ فالطليق ابن الطليق يدّعي الخلافة الإسلامية، ولا يعرف الناس حقّ عليّعليه‌السلام حتى تشتبه المسألة على العامّة ويتأوّه أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذه الكلمات:

( فيا عجباً للدهر! إذ صِرتُ يُقرن بي مَن لم يسعَ بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يُدلي أحدٌ بمثلها... )(١) .

وللمال دوره الهامّ في تثبيت ما يُريده الحُكّام؛ فلقد بثّوه ووزّعوه على أوساط الضعفاء والمحبّين لحلاوة الدُّنيا، الناسين مرارة حساب العُقبى، فأصبحوا ساكتين صامتين، كأن لم يحصل شيء ولم يحدث أيّ أمر!

( خَطَبَ معاوية يوماً بمسجد دمشق، وفي الجامع يومئذٍ من الوفود علماء قريش وخطباء ربيعة ومدارهها، وصناديد اليمن وملوكها، فقال معاوية: إنّ الله تعالى أكرم خلفاءه فأوجب لهم الجنّة، فأنقذهم من النار، ثمّ جعلني منهم! وجعل أنصاري أهل الشام، الذابّين عن حرم الله! المؤيَّدين بظفر الله! المنصورين على أعداء الله!!...

وفي الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان، فقال الأحنف لصعصعة: (أتكفيني أم أقوم أنا إليه؟ (فقال صعصعة:) بل أكفيكه أنا )، ثمّ قام صعصعة فقال: يا بن أبي سفيان، تكلّمت فأبلغت ولم تُقصِّر دون ما أردت، وكيف يكون ما تقول وقد غَلَبْتنا قسراً وملكتنا تجبُّراً ودِنتنا بغير الحقّ، واستوليت بأسباب الفضل علينا؟!

فأمّا إطراؤك أهل الشام، فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم! قوم ابتعتَ منهم دينهم وأبدانهم بالمال، فإن أعطيتهم حاموا عنك ونصروك! وإن

____________________

(١) نهج البلاغة، كتاب ٩.

٢٢

منعتهم قعدوا عنك ورفضوك... )(١) .

وأكثروا وضع الأحاديث في فضل الشام، حتّى كأن ليس لله تعالى بشيء من الأرض حاجة إلاّ بها - كما قال محمد الصغاني(٢) - ونشروا لزوم اتّباع كلّ أمير وحُرمة الخروج عليه، ودعوا إلى الصلاة خلف كلّ إمام، برّاً كان أو فاجراً، وبثّوا فضل الغزو في البحر، وتركوا الواقع الثابت، وصار حُبّ عليّ وآله أكبر جُرم لا يُغتفر، وسبُّه على المنابر يجهر(٣) .

نعم، إنّ معاوية تمكّن من بسط حُكمه الجائر، بفضل المال الوافر، وحدّة سيفه الشاهر، وقتله الأفاضل من الصحابة والتابعين الأكابر، مثل عمرو بن الحمق، وحجر بن عديّ وأصحابه، كما احتجّ به الإمام الحسينعليه‌السلام في ضمن رسالته التي أرسلها إلى معاوية:

( ألستَ قاتل حجر بن عديّ أخي كندة وأصحابه الصالحين العابدين، كانوا يُنكرون الظلم ويستعظمون المنكر والبِدَع، ويؤثرون حُكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكَّدة، لا تأخذهم بحدَث كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في صدرك عليهم؟!

أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفّرت لونه ونحّلت جسمه بعد أن أمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجل

____________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسي، ٥، ح٤، المجلس الأوّل.

(٢) دائرة المعارف ١٠/ ٣٩٤.

(٣) للمزيد من معرفة الوثائق والتفاصيل حول هذا الموضوع راجع الجزء الأول من هذه الموسوعة: الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة، تأليف: علي الشاوي، ص١١٦ - ١٢٨.

٢٣

وميثاقه ما لو أعطيته العُصْم ففهمته لنزلت إليك من شغف الجبال، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ، واستخفافاً بذلك العهد؟! ...

أوَ لست صاحب الحضرميّين، الذين كتب إليك فيهم ابن سميّة: أنّهم على دين عليّ ورأيه. فكتبت إليه: اقتل كلَّ مَن كان على دين عليّ ورأيه. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ - والله - وابن عليّ الذي كان يضرب عليه أباك... )(١) .

فبمنطق القوّة أخذ معاوية البيعة لولَده يزيد، كما اعترف بذلك الجميع، ومنهم صاحب خُطط الشام بقوله:

( أوعز معاوية سرّاً إلى ولاة الأمصار، أن يوفِدوا الوفود إليه يُزيّنون له إعطاء العهد لابنه يزيد، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعوه، والسيوف مسلولة - فيما قيل - على رقاب الصحابة في مسجد الرسول، وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها، وجعلها كالملك يورِّثها الأب ابنه أو مَن يراه أهلاً لها من خاصّته، أو كسرويّة أو قيصريّة، على سنّة كسرى وقيصر كما قالوا )(٢) .

ذكر علماء السِّيَر، عن الحسن البصريّ أنّه قال: ( قد كانت في معاوية هنات لو لقي أهل الأرض ببعضها لكفاهم: وثُوبه على هذا الأمر واقتطاعه من غير مشورة من المسلمين، وادّعاؤه زياداً، وقتله حجر بن عديّ وأصحابه، وبتوليته مثل يزيد على الناس )(٣) .

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ٢/ ٩٠ - ٩١.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٠٩.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٨٦.

٢٤

مَن هو يزيد؟

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأُمّه ميسون بنت بجدل بن دلجة بن قنافة أحد بني حارثة بن جناب.

ولِد سنة ٢٥هـ، وكان آدم جعداً مهضوماً أحور العين، بوجهه آثار جدريّ، حسن اللحية خفيفها(١) .

لهوه:

قال البلاذريّ: ( المدائني والهيثم وغيرهما قالوا: كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه أبا قيس، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل، أصاب خطيئة فمُسخ، وكان يسقيه النبيذ ويضحك ممّا يصنع! وكان يحمله على أتان وحشيّة ويُرسلها مع الخيل فيسبقها، فحمله عليها يوماً وجعل يقول:

تمسَّك أبا قيس بفضل عنانها

فليس عليها إن هلكت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلَّها

وخيل أمير المؤمنين أتان

قال المسعودي: وكان على أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مُشمّر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش مُلمع بأنواع الألوان.

قالوا: وكان يزيد همّ بالحجّ ثمّ إتيان اليمن، فقال رجل من تنوخ:

يزيد صديق القرد ملَّ جوارنا

فحنَّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود )(٢)

وروى الباعوني نحوه عن الفوطي في تاريخه، وفيه: أنّ يزيد كان يسقي قرده

____________________

(١) العقد الفريد ٥/ ١٢٤. ونحوه في: الجوهر الثمين: ٨٠؛ التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٢) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٥

فضل كأسه، وفيه أيضاً: وجاء يوماً سابقاً فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، وأمر أهل الشام أن يُعزّوه فيه! وأنشأ يقول:

كمْ قوم كـرام ذو مـحافظة

إلاّ أتـانا يُـعزّي فـي أبـي قيس

شـيخ الـعشيرة أمـضاها وأجملها

إلى المساعي على الترقوس والريس

لا يُـبعد الله قـبراً أنـت سـاكنه

فـيه جـمال وفيه لحية التيس(١)

فسقه:

قال ابن الصبان: ( وأمّا فسقه فقد أجمعوا عليه )(٢) .

روى السيّد ابن طاووس، عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال:( لما أتوا برأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين عليه‌السلام ويضعه بين يديه ويشرب عليه ) (٣) .

وفي التنبيه والإشراف: ( كان (يزيد) يُبادر بلذَّته، ويُجاهر بمعصيته، ويستحسن خطأه، ويهوّن الأمور على نفسه في دينه إذا صحّت له دنياه )(٤) .

وعن المدائني: كان يزيد يُنادم على الشراب سرجون مولى معاوية، وليزيد شعر منه قوله:

ولها بالماطرون إذا

أكل النمل الذي جمعا

منزل حتّى إذا ارتبعت

سكنت من جلّق بيعا

في جنان ثَمّ مؤنقة

حولها الزيتون قد ينعا(٥)

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٣.

(٢) إسعاف الراغبين: ١٩٣.

(٣) الملهوف: ٢٢٠.

(٤) التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٥) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠١.

٢٦

وقال المسعوديّ: ( وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومثالب كثيرة، من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول، ولعن الوصيّ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء، والفسق، والفجور... )(١) .

وقال الكيا الهراسي في شأنه: ( لو مُددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل... كيف لا وهو اللاّعب بالنرد والمتصيّد بالفهود ومُدمن الخمر؟!... )(٢) .

وقال الذهبي: ( كان ناصبيّاً فظّاً، يتناول المسكر ويفعل المنكر... )(٣) .

وقال أبو علي مسكويه الرازي: ( وظهر في المدينة، أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يُشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتّى خلعوه وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل )(٤) .

وعن ابن حجر: ( أنّ يزيد قد بلغ من قبايح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه )(٥) .

قال المسعودي: ( ولما شمل الناس جورُ يزيد وعمّاله، وعمّهم ظلمه وما ظهر من فسقه، من قتله ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيّته، وأنصف منه لخاصّته وعامّته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم، وهو عثمان بن محمّد بن أبي سفيان، ومروان بن الحَكم، وسائر بني أُميّة )(٦) .

____________________

(١) مروج الذهب ٣/ ٧٢.

(٢) هامش تاريخ نيسابور: ٥٩٨ في ترجمته.

(٣) شذرات الذهب ١/٦٨.

(٤) تجارب الأُمم ٢/ ٧٦

(٥) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨ عن شرح الهمزية لابن حجر.

(٦) مروج الذهب ٣/ ٦٨.

٢٧

وقال المنذر بن الزبير - لما قدم المدينة -: ( إنّ يزيد قد أجازني بمئة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أُخبركم خبره، والله، إنّه ليشرب الخمر، والله، إنّه ليسكر حتّى يدَع الصلاة )(١) .

قال اب ن حجر: ( وعلى القول: بأنّه مُسلم. فهو فاسق شرّير سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

وذكر البلاذري في أنساب الأشراف: ( وذكر لي شيخ من أهل الشام: أنّ سبب وفاة يزيد، أنّه حمل قرده على الأتان وهو سكران، ثمّ ركض خلفها فاندقّت عنقه أو انقطع في جوفه شيء )(٣) .

كتب الأستاذ عبّاس محمود العقّاد: ( الروايات لم تُجمِع على شيء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذّات، وتوانيه عن العظائم.. وقد مات بذات الجنب وهو لما يتجاوز السابعة والثلاثين، ولعلّها إصابة الكبد من إدمان الشراب، والإفراط في اللذات، ولا يُعقل أن يكون هذا كلّه اختلاقاً واختراعاً من الأعداء؛ لأنّ الناس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص، وهما بغيضان أشدّ البغض إلى أعداء الأُمويّين..؛ ولأنّ الذين حاولوا ستره من خدّام دولته لم يُحاولوا الثناء على مناقب فيه تحلّ عندهم محلّ مساوئه وعيوبه، كأنّ الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان، ولم يكن هذا التخلّف في يزيد من هزال في البُنية أو سقم اعتراه كذلك السقم الذي يعتري أحياناً بقايا السلالات التي تهمُّ بالانقراض والدثور، ولكنّه كان هزالاً في الأخلاق وسقماً في الطويّة.. قعد به العظائم مع

____________________

(١) الغدير ١٠/ ٢٥٦ عن كامل ابن الأثير ٤/ ٤٥، وتاريخ ابن كثير ٨/ ٢١٦.

(٢) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٣) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٨

وثوق بنيانه، وضخامة جثمانه، واتّصافه ببعض الصفات الجسدية التي تزيد في وجاهة الأُمراء، كالوسامة وارتفاع القامة، وقد أُصيب في صباه بمرض خطير - وهو الجدريّ - بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنّه مرض كان يشيع في البادية، ولم يكن من دأبه أن يقعد بكلّ مَن أُصيب به عن الطموح والكفاح )(١) .

كفره:

(الارتداد هو الكفر بعد الإسلام، ويتحقّق بالبيّنة، وبالإقرار على النفس بالخروج من الإسلام، أو ببعض أنواع الكفر - وبكلّ فعل دالّ صريحاً على الاستهزاء بالدِّين والاستهانة به ورفع اليد عنه - وبالقول الدالّ صريحاً على جحد ما عُلم ثبوته من الدِّين ضرورة أو على اعتقاده ما يحرم اعتقاده بالضرورة من الدِّين... )(٢) .

إذا حكمنا بظاهر الإسلام في حقّ أبي سفيان ومعاوية بعد فتح مكّة - وإن كان للتوقّف في ذلك مجال واسع، تؤيّده الشواهد التاريخية في حياتهما السوداء - فإنّنا نحكم بارتداد يزيد عنه؛ وذلك استناداً إلى أشعاره التي أفصح بها عن الإلحاد، وأبان عن خبث ضميره وعدم الاعتقاد، وفيها:

لـعبتْ هـاشم بـالملك فلا

خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ولـقالوا يـا يـزيد لا تُشل

فـجـزيناهم بـبدرٍ مـثلها

وأقـمنا مـثل بـدرٍ فاعتدل

____________________

(١) أبو الشهداء الحسين بن علي: ٦٨.

(٢) أُنظر جواهر الكلام ٤١/ ٦٠٠ - ٦٠١.

٢٩

لستُ من خِندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل(١)

وفيها:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني(٢)

ما قالته زينب الكبرى:

وأوّل مَن استند إلى أشعاره وأثبت كفره - في مجلسه وأمامه - هي العقيلة زينب الكبرى، بنت الإمام أمير المؤمنينعليهما‌السلام التي وصفها الإمام زين العابدينعليه‌السلام : بأنّها(... عالمة غير مُعلَّمة... ) (٣) . فإنّها قالت ليزيد: ( أنسِيتَ قول الله عزّ وجلّ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (٤) .. ولا غرو منك ولا عجب من فعلك، وأنّى يُرتجى الخير ممّن لفظ فوه أكباد الشهداء! ونبت لحمه بدماء الشهداء! ونبت لحمه بدماء السعداء! ونصب الحرب لسيّد الأنبياء! وجمعَ الأحزاب! وشهرَ الحراب! وهزّ السيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! أشدّ العرب لله جحوداً! وأنكرهم لرسوله! وأظهرهم له عدواناً وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً! ألا إنّها نتيجة خِلال الكفر! وضبّ يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر! فلا يستبطئ في بغضنا أهلَ البيت مَن كان نظره إلينا شنفاً وشنآناً وإحناً وأضغاناً! يُظهر كفره برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! ويُفصح ذلك بلسانك وهو يقول - فرحاً بقتل ولده وسبي ذرّيته - غير متحوّب ولا مُستعظم، يهتف بأشياخه:

____________________

(١) يأتي الكلام حول أشعاره وتمثُّله بأبيات ابن الزبعرى مُفصّلاً.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) العوالم ١٧/ ٣٧٠.

(٤) آل عمران: ١٧٨.

٣٠

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ولقالوا يا يزيد لا تُشل

مُنتحياً على ثنايا أبي عبد الله - وكان مُقبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ينكتها بمِخصرته، وقد التمع السرور بوجهه، لعَمْرِي، لقد نكأتَ القرحة، واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دمَ سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطّلب، وهتفتَ بأشياخك، وتقرّبتَ بدمه إلى الكفرة من أسلافك... )(١) .

ما قاله بعض الصحابة:

واستند إلى تلك الأبيات بعض الصحابة، وأثبت ارتداد يزيد بتمثّله لها.

ذكر ابن عبد ربّه: ( بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحُد: ليت أشياخي... الأبيات.

فقال له رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ارتددت عن الإسلام - يا أمير المؤمنين -؟ قال: ( بلى، نستغفر الله )، قال: ( والله، لا ساكنتك أرضاً أبداً ). وخرج عنه )(٢) .

أقوال العلماء في كفره:

صرّح كثير من العلماء والمؤرِّخين، وأرباب الفكر بكفر يزيد بن معاوية، نكتفي بذكر بعضهم:

رأي الإمام أحمد بن حنبل:

قال الشبراوي: ( قال العلاّمة ابن حجر في شرح الهمزية: إنّ يزيد قد بلغ من قبائح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه، بل قال الإمام أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به علماً وورعاً يقضيان، بأنّه لم يقل ذلك إلاّ لقضايا وقعت منه صريحة في ذلك ثبتت

____________________

(١) الاحتجاج ٢/ ١٢٤ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٨.

(٢) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

٣١

عنده )(١) .

رأي ابن القفطي:

قال الباعوني: ( وذكر ابن القفطي في تأريخه قال: إنّ السبي لما ورد على يزيد بن معاوية خرج لتلقّيه، فلقي الأطفال والنساء من ذرّية علي والحسن والحسين، والرؤوس على أسنّة الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة العقاب، فلما رآهم أنشد:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرقت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني بذلك: أنّه قتل الحسين بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، مثل عُتبة جدّه ومَن مضى من أسلافه، وقائل مثل هذا بريء من الإسلام، ولا يُشكّ في كفره )(٢) .

رأي الباعوني:

قال: وما أظنّ أنّ مَن استحلّ ذلك ( قتل الحسينعليه‌السلام )، وسلك مع أهل النبيّ هذه المسالك شمّ ريحة الإسلام، ولا آمن بمحمّد عليه الصلاة والسلام، ولا خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولا آمن طرفة [عين] بربّه، والقيامة تجمعهم وإلى ربّهم مرجعهم.

ستعلم ليلى أيّ دين تداينت

وأيّ غريمٍ في التقاضي غريمها(٣)

رأي ابن عقيل:

ذكر سبط ابن الجوزيّ، عن ابن عقيل أنّه قال: وممّا يدلّ على كفره (يزيد) وزندقته - فضلاً عن سبّه ولعنه - أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) المصدر ٢/ ٣١١.

٣٢

عـليّة هـاتي واعـلني وتـرنَّمي

بـدلّـك إنّـي لا أُحـبّ الـتناجيا

حـديث أبـي سفيان قِدْماً سمى بها

إلـى أُحُـدٍ حـتّى أقـام الـبواكيا

ألا هـات فـاسقيني على ذاك قهوةً

تـخيَّرها الـعنسي كـرماً شـاميا

إذا مـا نـظرنا فـي أُمـورٍ قديمة

وجـدنا حـلالاً شـربها مُـتواليا

وإن مُـتّ يـا أُمّ الأُحيمر فانكحي

ولا تـأملي بـعد الـفراق تـلاقيا

فـإنّ الـذي حُـدِّثْتِ عن يوم بعثنا

أحـاديث طسم تجعل القلب ساهيا

ولابـدّ لـي مـن أن أزور محمّداً

بمشمولة صفراء تروي عظاميا(١)

رأي اليافعي:

وعن اليافعي: وأمّا حُكم مَن قتل الحسين، أو أمر بقتله ممّن استحلّ ذلك فهو كافر، وإن لم يستحلّ ففاسق فاجر، والله أعلم(٢) .

رأي القاضي أبي يعلى وابن الجوزي:

قال الآلوسيّ: وقد جزم بكفره - أي يزيد بن معاوية - وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم الحافظ ناصر السنّة ابن الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى(٣) .

رأي الكيا الهراسي:

قال: هو (يزيد) اللاّعب بالنرد، المتصيّد بالفهد، والتارك للصلوات، والمدمن للخمر، والقاتل لأهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمصرّح في شعره بالكفر الصريح(٤) .

رأي سبط ابن الجوزي:

قال سبط ابن الجوزيّ - بعد ذكره استناد ابن عقيل

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩٠.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

(٣) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٤) جواهر المطالب ٢/ ٣٠١.

٣٣

بأشعار يزيد على كفره وزندقته(١) - قلت: ومنها قوله:

ولو لم يمسَّ الأرض فاضل بردها

لما كان عندي مَسحة في التيمّم

ومنها: لما بدت تلك الحمول وأشرقت - وقد ذكرناها -.

ومنها قوله:

مـعشر الـنُّدمان قوموا

واسمعوا صوت الأغاني

واشـربوا كـأس مدام

واتـركوا ذكر المغاني

أشـغلتْني نغمة العيدان

عن صـوت الأذانِ

وتـعوّضتُ عن الحور

خـموراً فـي الـدنان

إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه، ولهذا تطرّق إلى هذه الأُمّة العار بولايته عليها، حتّى قال أبو العلاء المعرّي - يُشير بالشنار إليها -:

أرى الأيّام تفعل كلّ نُكر

فما أنا في العجائب مُستزيد

أليس قريشكم قتلت حسيناً

وكان على خلافتكم يزيد

رأي ابن عساكر:

حُكي عن ابن عساكر أنّه قال: نُسب إلى يزيد قصيدة منها:

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لـعبت هـاشم بـالملك فلا

مَـلَكٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

فإن صحّت عنه فهو كافر بلا ريب، انتهى معناه(٢) .

رأي الأجهوري:

قال: وقد اختار الإمام محمّد بن عرفة والمحقّقون من أتباعه

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩١.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

٣٤

كفر الحجّاج، ولا شكّ أنّ جريمته كجريمة يزيد، بل دونها(١) .

رأي السعد التفتازاني:

قال: والحقّ أنّ رضى يزيد بقتل الحسين، وإهانته أهل بيت رسول الله ممّا تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً، فنحن لا نتوقّف في شأنه، بل في إيمانه، فلعنة الله عليه، وعلى أنصاره، وعلى أعوانه.

قال الشبراويّ: وقول السعد: بل في إيمانه. أي بل لا نتوقّف في عدم إيمانه، بقرينة ما بعده وما قبله(٢) .

رأي الحافظ البدخشاني:

قال: وجعل (يزيد) ينكت رأسه ( الحسينعليه‌السلام ) بالخيزران، وأنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا إلى آخره، والأبيات مشهورة، وزاد فيها بيتين مُشتملين على صريح الكفر(٣) .

رأي الشبراوي:

قال - بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى -: خزّاه الله في هذه الأبيات، إن كانت صحيحة، فقد كفر فيها بإنكار الرسالة(٤) .

رأي الآلوسي:

قال في تفسيره: وفي تاريخ ابن الوردي، وكتاب الوافي بالوفيات: أنّ السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرّية عليّ والحسين (رضي الله تعالى عنهما)، والرؤوس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة جيرون، فلما رآهم نعب غراب، فأنشأ يقول:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفتْ

تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٧.

(٢) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٢، تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٣) نزل الأبرار: ١٥٩.

(٤) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٧.

٣٥

يعني أنّه قتل بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، كجدّه عتبة وخالد ولد عتبة وغيرهما، وهكذا كفر صريح، فإذا صحّ عنه فقد كفر به، ومثله تمثّله بقول عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه: ليت أشياخي... الأبيات..

رأي عبد الباقي أفندي العمري:

أشار إلى أبيات يزيد، شاعرُ العراق عبد الباقي أفندي العمري، فيما حُكي عن الباقيات الصالحات بقوله:

نقطع في تكفيره إن صحّ ما

قد قال للغراب لما نعبا(١)

تأمُّل ابن حجر:

تأمَّل ابن حجر في صواعقه، واتّخذ طريقاً آخر حول هذه المسألة، قال: ( اعلم أنّ أهل السنّة اختلفوا في تكفير يزيد بن معاوية ووليِّ عهده من بعده، فقالت طائفة: إنّه كافر؛ لقول سبط ابن الجوزي - وغيره المشهور -: إنّه لما جاءه رأس الحسين (رضي الله عنه)، جمع أهل الشام وجعل ينكت رأسه بالخيزران، ويُنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا الأبيات المعروفة، وزاد فيهما بيتين مُشتملين على صريح الكفر.. وقالت طائفة: ليس بكافر؛ لأنّ الأسباب الموجبة للكفر لم يثبت عندنا منها شيء، والأصل بقاؤه على إسلامه حتّى يُعلم ما يُخرِجه عنه، وما سبق أنّه المشهور يُعارضه ما حُكي أنّ يزيد لما وصل إليه رأس الحسين قال: رحمك الله يا حسين، لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام، وتنكّر لابن زياد، وقال: قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر. وردّ نساء الحسين ومَن بقي من بنيه مع رأسه إلى المدينة ليُدفن الرأس بها.

وأنت خبير بأنّه لم يثبت موجب واحدة من المقالتين، والأصل أنّه مُسلم،

____________________

(١) هامش الإتحاف: ٥٦.

٣٦

فنأخذ بذلك الأصل حتّى يثبت عندنا ما يوجب الإخراج عنه؛ ومن ثَمّ قال جماعة من المحقّقين: إنّ الطريقة الثابتة القويمة في شأنه، التوقّف فيه وتفويض أمره إلى الله سبحانه؛ لأنّه العالم بالخفيّات والمطّلع على مكنونات السرائر وهواجس الضمائر، فلا نتعرّض لتكفيره أصلاً؛ لأنّ هذا هو الأحرى والأسلم، وعلى القول: بأنّه مسلم، فهو فاسق شرّير، سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

نقول: إنّ هذه الطريقة غير قويمة؛ وذلك لعدّة أمور:

أوّلاً: إنّه بعدما نقل المؤلّف الشهرة في المقام عن سبط ابن الجوزيّ وغيره، بزيادة يزيد بيتين مُشتملين على صريح الكفر، فلا مجال له أن يقول: والأصل أنّه مسلم، فنأخذ بذلك حتى يثبت عندنا ما يوجبه الإخراج.

فأيّ موجب أدلّ من كلامه الصريح، ولو لا التواتر في النقل فالشهرة القائمة كافية لإثبات ذلك، كما نقلها؟!

أضف إلى ذلك ما قاله الآلوسي: ( وما صدر منه من المخازي، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر )(٢) .

ثانياً: وأمّا ما ادّعاه من تعارض الشهرة بالمحكي - مع فرض صحّة المحكيّ - فلا تعارض في البين؛ لأنّنا نقول: إنّه تمثّل بالأبيات، وزاد فيها البيتين المشتملين على صريح الكفر، ومع ذلك لما رأى انقلاب الأمر وتغيّر الأوضاع، وخاف الفتنة، ورأى الزلزال في مُلكه تفوّه بهذه الكلمات؛ والدليل على ذلك ما نقله المؤلّف في هذه المقالة، أنّ يزيد تنكّر لابن زياد وقال: ( قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر )، هذا يؤيّد أنّه اتّخذ هذا الموقف بعدما ثبت لديه استنكار الرأي العام.

____________________

(١) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٢) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٣. سيأتي قوله تفصيلاً في رأيه في لعن يزيد.

٣٧

ثالثاً: إنّ الاحتياط في المسألة أن يتّخذ الإنسان موقفاً مناسباً في هذه المأساة الكبرى، إنّها فاجعة قتل الحسينعليه‌السلام ، الذي بكى الرسول على قتله قبل مقتله كراراً، ولعن قاتله مراراً، فما فعله ابن الحجر من الاحتياط هو خلاف الاحتياط.

توقّف البيهقي:

ذكر الخوارزميّ: قال شيخ السنّة أحمد بن الحسين، حول تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى: وآخر كلام يزيد لا يُشبه أوّله، ولم أكتبه من وجه يثبت مثله، فإن كان قاله فقد ضَمَّ إلى فعل الفجّار - في قتل الحسين وأهل بيته - أقوال الكفّار )(١) .

علّق العلاّمة المحمودي عليه بهذا الكلام:

( أقول: إنّ البيهقي لم يُعجبه أن يُفتّش عن كفر إمامه، كي يثبت له كفره، ويفتضح عند العقلاء، ولو كان بذل جهده حول أقوال يزيد لكان يثبت له أنّه قال بالكفر مراراً، كما عمل بأعمال الكفّار مراراً )(٢) .

مع مجاهد: ذكر سبط ابن الجوزي أنّ مجاهد قال حول أبيات ( لعبت هاشم بالملك فلا ): نافق(٣) .

وفي مقتل الخوارزمي أنّه قال: فلا نعلم الرجل إلاّ قد نافق في قوله هذا(٤) .

وللعلاّمة المحمودي تعليق في المقام أعجبني ذكره، قال:

( النفاق: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وإسراره، فإن كان قول يزيد:

لعبتْ هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٩.

(٢) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩١.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٤) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

٣٨

هو إظهار الإيمان، فما هو إظهار الكفر والإعلان به؟! وهل فرق بين قول يزيد هذا في كونه صريحاً بالكفر ببعث الرسول، وبين قول الدهريّين الذي حكى الله تعالى عنهم بقوله:( مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) (١) ؟! فكما أنّ هذا القول من الدهريّين صريح في إنكار المبدأ، كذلك قول يزيد صريح في إنكار الرسالة التي هي الركن الثاني من الدِّين، وكذلك ما حكاه الله عزّ وجلّ عن فرعون في قوله:( ... أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (٢) ، وهل يمكن لمن يعرف العربية ومعنى الكفر والنفاق أن يقول: إنّ هذا القول من فرعون ليس صريحاً في الكفر، وإنّما هو نفاق، أي إبطان الكفر؟! وما أظنّ الفرق بين الأمرين غمض على مجاهد، أو لم يعرف الفرق بينهما!

الظاهر أنّه حينما تكلّم بهذا الكلام، وفسّر الكفر الصريح بالنفاق، كان في جوّ من المعاندين التابعين للنزعات الأُمويّة، ففسّر الكفر الصريح بالكفر غير الصريح، المسمّى بالنفاق كي يستريح من مُشاغبتهم ومُجادلتهم الجاهلية. والأمر واضح غير محتاج إلى التطويل )(٣) .

جوره:

إنّ حكومة آل أبي سفيان قامت على أساس الجور والعدوان، ونجد ذروة ذلك في زمن مُلك يزيد بن معاوية؛ لأنّ اللعين لم تدُمْ سلطته إلاّ ثلاث سنين، قتل في السنة الأُولى منها الإمام الحسين وأصحابهعليهم‌السلام ، وفي السنة الثانية غزا المدينة المنوّرة، وأباحها على جنده ثلاثاً، وهم بجوار قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وسُمّيت بوقعة الحرّة - وفي الثالثة منها هدم الكعبة،

أمّا مأساة كربلاء، فقد قرأت تفاصيلها. وأمّا

____________________

(١) الجاثية: ٢٤.

(٢) النازعات: ٢٤.

(٣) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩٢.

٣٩

وقعة الحرّة وقضايا ابن الزبير، فتفاصيلها خارجة عن عهدة هذا الكتاب، إلاّ أنّنا نذكر نُبذة عن صفحة تاريخه السوداء في وقعة الحرّة.

قال سبط ابن الجوزيّ: ( وذكر المداينيّ في كتاب الحرّة عن الزهريّ قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس، من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وأمّا من لم يُعرف، من عبدٍ أو حرٍّ أو امرأة فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتّى وصلت الدماء إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وامتلأت الروضة والمسجد.

قال مجاهد: التجأ الناس إلى حُجرة رسول الله ومنبره، والسيف يعمل فيهم..

وذكر أيضاً المداينيّ عن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد الحرّة من غير زوج.

وغير المدايني يقول: عشرة آلاف امرأة.

قال الشعبيّ: أليس قد رضي يزيد بذلك وأمر به، وشكر مروان بن الحَكم على فعله؟! )(١) .

يقول ابن قتيبة: ( فوجّه يزيد مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فسار بهم حتّى نزل المدينة، فقاتل أهلها وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيّام، فهي وقعة حرّة )(٢) .

وقال اليعقوبي: ( فوجّهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرّة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً.. حتى دخلتُ المدينة فلم يبقَ بها كثير أحد إلاّ قُتل، وأباح حرم رسول الله حتّى وَلدت الأبكار لا يُعرف مَن أولدهنّ )(٣) .

وقال ابن حجر: ( فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري، وأمره أن يستبيح

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٨٩، وبعضه في الردّ على المتعصّب العنيد: ٥٤.

(٢) المعارف: ١٩٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (1) .

5 - قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) (2) .

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولى، حيث إن هذه الآيات القرآنية تنهى عن أن يدعو الإنسان مع اللَّه أحداً، أي لا يعبد مع اللَّه مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها، فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضى صريح هذه الآيات الكريمة؛ لكونه من الشرك الصريح.

6 - قوله تعالى: ( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم ) (3) .

7 - قوله تعالى: ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) (4) .

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد على أن التوجّه إلى الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8 - قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) (5) .

9 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

____________________

(1) الحج: 62.

(2) الجن: 20.

(3) آل عمران: 126.

(4) آل عمران: 160.

(5) يونس: 18.

٢٤١

زُلْفَى ) (1) .

فهاتان الآيتان دلّتا على وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين اللَّه عزَّ وجل، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى، وهو ما ابتُلى به مشركو العرب؛ إذ لم يكن شركهم في ذات اللَّه تعالى أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة؛ وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمَن يعمل ويعبد وكان في معتقده الدينيّ شي‏ء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه؛ ويستدلّون لذلك بقوله تعالى: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3) ، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذٍ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها

____________________

(1) الزمر: 3.

(2) الزمر: 65.

(3) الأنعام: 88.

٢٤٢

تنهى عن التوجّه والقصد إلى غير اللَّه عزَّ وجل، منها:

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (1) ، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسنى التي جاءت في قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (2) .

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلى غير اللَّه عزَّ وجلَّ وأسمائه الحسنى؛ لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الإلهية مستند للتوسّل

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشي‏ء علامته).

(قال أبو العبَّاس: الاسم وسمة توضع على الشي‏ء يُعرف به، قال ابن سيده: والاسم اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على المعنى) (3) .

____________________

(1) الأعراف: 180.

(2) الإسراء: 110.

(3) لسان العرب، ج14، ص 403 - 401.

٢٤٣

إذن اسم الشي‏ء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، فللّه تعالى أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزَّ وجلَّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله. فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة على الذات الإلهية المقدّسة، والخَلق والرِّزق والتدبير والربوبية والحُكم والعَدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحَكَم والعدَْل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها، بل مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزَّ وجل.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالى.

والمخلوق يكون اسماً للَّه عزَّ وجلَّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شي‏ء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال على كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة على صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة على عظمة وحكمة الخالق؛ إذ ليس له من ذاته إلّا الفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعنى متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلّا أن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد؛ وهو الدلالة على الشي‏ء والعلامّية والمرآتية له.

٢٤٤

ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية) (1) .

كذلك قال في اللسان:

(كلمات اللَّه أي كلامه وهو صفته وصفاته) (2) .

أضف إلى ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة على مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها على وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها على عظمة وقدرة وحكمة الباري عزَّ وجل، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق اسماً من أسماء اللَّه تعالى وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات على درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر لِمَا أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية، كلّما كانت آييَّة ذلك المخلوق واسميَّته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1 - قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (3) .

2 - قوله تعالى: ( وَالتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

____________________

(1) لسان العرب، ج4، ص 61 - 62.

(2) لسان العرب، ج12، ص522.

(3) المؤمنون: 50.

٢٤٥

آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

3 - قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (2) .

4 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (3) .

5 - قوله تعالى: ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) (4) .

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة على مريم عليها‌السلام أنها آية، وعلى عيسى عليه‌السلام أنه كلمة اللَّه وآيته للعالمين.

6 - قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (5) .

7 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (6) .

8 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________________

(1) الأنبياء: 91.

(2) آل عمران: 45.

(3) النساء: 171.

(4) آل عمران: 38 - 39.

(5) البقرة: 31.

(6) البقرة: 37.

٢٤٦

إ ِمَامًا ) (1) .

9 - ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند اللَّه عزَّ وجلَّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات للَّه تعالى، وحينئذٍ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (3) فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل على مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلى اللَّه تعالى بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن؛ ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها على مدّعاهم فحسب، بل هي تحكُّمهم وتديُّنهم بالإلحاد عن اسمائه، وتنصُّ على ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند اللَّه تعالى، ولابدّ من عدم الإلحاد فيها والإعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ من الالتفات إلى أن النظرة إلى الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلى اللَّه تعالى، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء على ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط على ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس؛ وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

____________________

(1 ) البقرة: 124.

(2) الأنعام: 115.

(3) الأعراف: 180.

٢٤٧

الوجيهة عند اللَّه عزَّ وجلَّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الإلحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفى إلى اللَّه عزَّ وجل؛ لأنه ليس بجسم، وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلى المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلى الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة اللَّه تعالى، ولكنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه على سبيل نجاة فيما إذا شملهم اللَّه عزَّ وجلَّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف مَن أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلى معرفة اللَّه تبارك وتعالى.

فالنظرة في هذا المنهج إلى الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالى ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ إذ حباهم اللَّه عزَّ وجلَّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم عليهم‌السلام الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضَّل بها على الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )( 1 ) ، حيث

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٤٨

جاء التعبير فيها بـ ( عَرَضَهُمْ ) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير بـ ( هؤُلآءِ ) ولم يقل: هذه، كلّ ذلك يدلّ على أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق اللَّه تعالى، فهم عباد ليس على اللَّه أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلى غيرهم، ومكّنهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ على ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبرى والأسماء الفعلية الحسنى والعظمى - وهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام - إلى اللَّه عزَّ وجل، والباء في قوله تعالى: ( فَادْعُوهُ بِهَا ) للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال:

(ياهشام، اللَّه مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمَن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومَن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد. أفهمت يا هشام؟) قال: قلت: زدني، قال: (للَّه تسعة وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمَّى، لكان كل اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معنى يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره. ياهشام، الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق، أفهمت ياهشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتَّخذين مع اللَّه عزَّ وجلَّ غيره؟) قلت: نعم، فقال: (نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام)

٢٤٩

قال: فواللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) (1) .

فبيّن عليه‌السلام أن الاسم غير المسمَّى وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية، لكان كل اسم إلهاً ولتكثَّرت الآلهة، ولكن اللَّه ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلى الذات، فظهر أن قوله تعالى: ( لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (2) برهان قرآني على ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعى اللَّه بها، فلا يُدعى اللَّه بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء اللَّه، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلى اللَّه، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء اللَّه تعالى، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلى اللَّه. ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك للَّه تعالى مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد على الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الاسم والوجه وأن الأسماء هي وجه اللَّه التي يتوجّه بها إليه، وأن مَن له وجاهة ووجيه عند اللَّه هو وجه للَّه يتوجّه به إليه تعالى، فيكون اسماً وآية وكلمة للَّه تعالى.

نعم، بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالى عظمة وكبراً؛ وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً للَّه تعالى وآية من

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص521، وأصول الكافي، ج1، ص89، باب معاني الاسماء واشتقاقها، ح2.

(2) سورة الأعراف: 180.

٢٥٠

آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالى، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها؛ ولذا تكون اسماً وعلامة. وأمَّا إذا نُظر إلى الاسم بما هو هو، فيكون حينئذٍ صنماً موجباً للشرك والكفر، وهو الغلو المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّى أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال، بل ينظر بها؛ وذلك لِمَا بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالإلحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يُقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته، وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق اللَّه عزَّ وجل، نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، الذين بواسطتهم وصل آدم إلى ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه اللَّه عزَّ وجلَّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالى وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ - بمعونة الروايات الواردة فيها - على أن الكلمات التامّات والآيات الكبرى للَّه عزَّ وجلَّ هم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال: (إن اللَّه تبارك وتعالى كان ولا شي‏ء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم اسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّى النبيّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الأعلى وسمّى

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٥١

أمير المؤمنين عليه‌السلام عليّاً، وله الأسماء الحسنى فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه اسماً، فلمّا خلقهم، جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلمَّا نظروا إليهم، عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح فذلك قوله: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) (1) فلمّا خلق اللَّه تعالى آدم(صلوات اللَّه وسلامه عليه) نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم، هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسماً من أسمائي، قال: ياربّ، فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلّا بإذني، قال: نعم ياربّ، قال: ياآدم، أعطني على ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم، ثم عرضهم على الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) (2) علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة للَّه؛ إذ كان ذلك بحقّ له، وأبى إبليس الفاسق عن أمر ربّه) (3) .

2 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالاً على كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

____________________

(1) الصافات: 165 - 166.

(2) البقرة: 31 - 32 - 33.

(3) تفسير فرات الكوفي، ص56، وكمال الدين وتمام النعمة، ص14، والهداية الكبرى للخصيبي، ص428 (واللفظ للأوَّل).

٢٥٢

إطلاق الكلمة في القرآن الكريم على النبي عيسى عليه‌السلام بما هو حجّة للَّه اصطفاه على العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق على حجج اللَّه وأصفيائه، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) (1) حيث تومئ الآية إلى كون كلمة اللَّه تعرف بالصدق والعدالة، وهو وصف لحجج اللَّه، وهذا الوصف أحرى بالصدق على سيد الأنبياء بعد صدقه على النبي عيسى عليه‌السلام .

وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها على الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها باسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، ممَّا يدلُّ على أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض؛ لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (2) .

ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن أوَّل وأسمى الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم هو سيد الأنبياء، وحينئذٍ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين للَّه تعالى شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب اللَّه بهم عليه.

ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزَّل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه خصيصة اختصّ هو عليه‌السلام بها. كما لم يُشرك اللَّه تعالى في طهارة

____________________

(1) سورة الأنعام: 115.

(2) سورة البقرة: 33.

٢٥٣

النبي وعصمته ونمط حُجِّيَّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخرى أحداً من أنبيائه ورسله، لكنَّه أشرك أهل بيته؛ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، كما في آية التطهير والمباهلة ومسِّ الكتاب من المطهَّرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فدعا اللَّه عزَّ وجلَّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: يا آدم، وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: يا ربّ؛ لأنك لمَّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت يا آدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك) (1) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عبَّاس قال: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

____________________

(1) المستدرك، ج2، ص615.

٢٥٤

سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت علي فتاب عليه) (1) . ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي عليه‌السلام أنه ذكر أن اللَّه عزَّ وجلَّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: (اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التوَّاب الرحيم. فهؤلاء الكلمات التي تلقّى آدم) (2) .

3 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) (3) .

فالكلمة أُطلقت على عيسى عليه‌السلام ، وهذا الإطلاق غير خاص به عليه‌السلام ، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيِّين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أهل بيته عليهم‌السلام .

4 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (4)

فلا شك أن إبراهيم عليه‌السلام كلمة وآية من آيات اللَّه تعالى؛ لأنه أفضل من عيسى عليه‌السلام ، ومع ذلك امتحنه اللَّه عزَّ وجلَّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة، ولمَّا ثبت في الامتحان، فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة

____________________

(1) شواهد التنزيل، ج1، ص101.

(2) الدر المنثور، ج1، ص60.

(3) النساء: 171.

(4) البقرة: 124.

٢٥٥

تكون الكلمات هم سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسى وموسى وآدم عليهم‌السلام .

والكلمات - كما جاء في الروايات - هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفى عند اللَّه عزَّ وجلَّ بالكلمات، كما أن آدم فُضّل على الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنى والآيات العظمى، وهم أهل آية التطهير عليهم‌السلام .

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء اللَّه عزَّ وجل.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، قال: سألته عن قول اللَّه عزَّ وجل: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ما هذه الكلمات؟

قال: (هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب اللَّه عليه، وهو أنه قال: أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليَّ، فتاب اللَّه عليه إنه هو التواب الرحيم) (1) .

5 - قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم عليهم‌السلام يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التَّامَّات التي تمّت صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلى أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلى حجج اللَّه فيما

____________________

(1) كمال الدين وتمام النعمة، ص358.

(2) الأنعام: 115.

٢٥٦

يؤدّونه عن اللَّه وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1 - وهو ما جاء في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (1) . الاستكبار على الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس؛ حيث أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات اللَّه تعالى. وذلك عندما قال: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) وقد استند في تكذيبه هذا إلى القياس الباطل، وهو لا يعلم حقائق دين اللَّه تعالى، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو على النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلّا وجوده النازل المادّي. ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: ( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) ، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزَّ وجل، وحين إرادة الزلفى والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (3) ، فهذه الآية المباركة تقول: إن الذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالى وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها - كما فعل إبليس - لا

____________________

(1) الأعراف: 40.

(2) الأعراف: 12.

(3) سورة فاطر: 10.

٢٥٧

تفتّح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا اللَّه أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ. والربط بين ترك الآية والإعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن اللَّه عزَّ وجلَّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه، فلا زلفى إلّا بالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلى اللَّه عزَّ وجل: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) ، وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلى سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1) وأن الأسماء التي يُدعى بها في مقام الدعاء والفوز على اللَّه هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلى الحضرة السماوية. وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم عليهم‌السلام مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلّا اللَّه، فمَن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ له عملاً، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار اللَّه وقربه.

____________________

(1) سورة الأعراف: 180.

٢٥٨

إذن؛ مَن لا يُذعِن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة ( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ ) .

2 - وهو قوله تعالى: ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (1) ، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (2) ، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ على أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات اللَّه تعالى، ودالّ أيضاً على أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة.

3 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (3) ، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفى ما في التعبير بـ(عنه) دون التعبير بـ(عليه) من دلالة على الإعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

____________________

(1) الأعراف: 9.

(2) الأعراف: 11 - 13.

(3) الأعراف: 36.

٢٥٩

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة

التوسُّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكِر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلى ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ إلّا بالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين اللَّه وبين خلقه قرابة وقرب إلّا بالطاعة ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً، والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوى والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلى اللَّه عزَّ وجل، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضى نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث إن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان باللَّه ورسوله؛ إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

____________________

(1) المائدة: 35.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460