مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234315 / تحميل: 8791
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ اثبات خصوصية العلّة للكلّ ـ اعني : الواجب بالذات ـ ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا ـ أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا ـ أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة ـ فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا ـ للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ـ. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن(١) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة ـ لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول ـ فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب ـ تعالى شأنه ـ بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / ٢٢ DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن(٢) مطلق خلط علمنا حصول

__________________

(١) الاصل : باليقين.

(٢) الاصل : تعقل.

١٠١

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ ـ أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة ـ دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان ـ أعني : الأوسط والأكبر والأصغر ـ ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / ٢٣ MA / ـ أعني : التغيّر ـ للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط ـ أعني : المحموم ـ لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط ـ أي : الحكم المطلوب ـ لم يثبت له وصف الحمى ـ أي : الأوسط ـ. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

١٠٢

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه ـ كما بيّن في موضعه ـ ، ولا في متعلّق التصديق ـ إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة ـ ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه(١) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

__________________

(١) الاصل : ـ انه.

١٠٣

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / ٢٣ DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه ـ أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ ـ فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية ـ ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل ـ أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي ـ غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني ـ أعني : لميه منهج الإلهيين ـ وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود ـ أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر ـ على حال اخرى منه ، / ٢٣ MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها ـ أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة ـ إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

١٠٤

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه ـ تعالى ـ بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله ـ تعالى ـ على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب ـ تعالى ـ لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب ـ تعالى شأنه ـ. والوجود الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

١٠٥

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف ـ بالفتح ـ وإن كان معلولا للمؤلّف ـ بالكسر ـ بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف ـ أعني : مفهوم ٢٣ DB / قولنا : له مؤلّف ـ هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف ـ بالكسر ـ معلول للمؤلّف ـ بالفتح ـ. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها ـ أي : غير ممكنة ـ ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه ـ أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى ـ يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب ـ تعالى ـ معلول له ـ تعالى ـ إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / ٢٤ MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب ـ تعالى ـ يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

١٠٦

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب ـ تعالى ـ بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

١٠٧

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة ـ بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف ـ ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة ـ الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى ـ معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / ٢٤ DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور ـ : من كون / ٢٤ MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا ـ لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته ـ تعالى ـ حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية(١)

__________________

(١) الاصل : لم يثبت لصانعه.

١٠٨

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي ـ وهو كون الواجب صانعا للعالم ـ.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب ـ تعالى شأنه ـ. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له ـ تعالى ـ ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي ـ يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر ـ. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون(١) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : فيكون.

١٠٩

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته ـ تعالى ـ للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي ـ أعني : كونه صانعا ـ إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى ـ أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه ـ على غيره ـ أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته ـ ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ رازقية / ٢٤ DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / ٢٥ MA / فيه ولا يجدي طائلا ـ كما عرفت ـ.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب ـ جلّ وعزّ ـ كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

١١٠

ثابت له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل(١) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها ـ كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره ـ ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته ـ تعالى ـ من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني ـ كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة ـ. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه ـ تعالى ـ بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

__________________

(١) الاصل : + ظاهر.

١١١

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر ـ أي : العقل الفعّال ـ أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل ـ أي : الّذي يكون / ٢٥ DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان ـ مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / ٢٥ MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد ـ أعني : الوجود ـ لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

١١٢

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين ـ أعني : الذات والوجود ـ متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية ـ أعني : الوجوب ـ متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة ـ لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها ـ ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف ـ أعني : الوجود ـ ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

١١٣

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين ـ لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما ـ. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها(١) ـ أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود ـ.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه ـ كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / ٢٥ DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / ٢٦ MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب ـ سواء

__________________

(١) الاصل : ـ فالوجوب مرتبتها.

١١٤

كان لذاته أو لغيره ـ تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما ـ وهي المقدّمة المشهورة ـ تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما ـ وهي كون الوجوب نعتا ـ تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا ـ إذا كان انتزاعيا ـ لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى ـ أعني : المقدّمة المشهورة ـ ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له ـ وهو المراد من المقدّمة المشهورة ـ ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم ـ أعني : الوجود ـ على المتأخّر ـ أعني : الوجوب ـ انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية ـ الّتي هي معلولات للواجب ـ على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته ـ تعالى ـ بانّه ـ تعالى ـ علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

١١٥

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته ـ أعني : الحكم المطلوب ـ ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه ـ أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه ـ ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه ـ أي : الوجود الأصيل ـ فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل ـ تعالى شأنه ـ فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل ـ عزّ شأنه ـ لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين ـ سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين ـ لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية ـ أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم ـ ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها(١) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب ـ تعالى ـ في الواقع ـ أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم ـ ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

__________________

(١) الاصل : كما هي عليها.

١١٦

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / ٢٦ MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل ـ تعالى شأنه ـ؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم ـ أي : العلم بوجوده الاصيل ـ. والظاهر انّ تلك المقدّمة / ٢٦ DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني

منهج بعض الحكماء

وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

١١٧

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل(١) .

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور ـ إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس ـ. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ج ٢ ص ٤٤٨. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان ـ التى هي عنده معتمد الحكماء ـ وجود الموجودات بالفعل.

١١٨

المنهج الثالث

من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم

وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته ـ كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية ـ أو في صفاته ـ كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات ـ يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / ٢٧ MA / ـ كالمتحرّك في المقولات المشهورة ـ ، ولا في ذاته ـ كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس ـ. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه(١) ـ.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود ـ أي : الحدوث الزماني ـ ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / ٢٦ DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود ـ أي : الحدوث الدهري ـ أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات ـ أعني : عدم اقتضاء الوجود ـ إلى ما ثبت له بالغير ـ أعني : اقتضاء الوجود ـ ؛ ففيه : مع عدم كونه

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ، ج ٢ ص ٤٥١ ؛ شوارق الالهام ، ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ص ٤٢.

١١٩

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات ـ أعني : المحرّك الأوّل ـ يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات ـ أعني : الحركة الفلكية ـ يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم ـ لما يأتي في طريقتهم الثانية ـ ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها ـ لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه ـ ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية ـ إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر ـ.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط ـ كما هو المشاهد المحسوس ـ ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

المذهب التي أدخلها الأعداء والجُهّال لأغراض فاسدة، فهو ساقط عن الاعتماد والاعتبار، ولا يمكن الوثوق على منفرداته؛ ولذلك لم ننسب خبر ورود أهل البيت إلى كربلاء في الأربعين إليه، مع أنّ الموجود فيه هو نحو ما مرّ عن اللهوف،... هذا، ولكن مع ذلك نجد أنّ الموجود في هذا المقتل - مع كثرة النسخ المختلفة - اتّفاق (في جميع نسخه) على أنّه كان سير أهل البيت من الكوفة نحو الشام من طريق تكريت والموصل، ونصيبين وحلب المعبَّر عنه بالطريق السلطاني، الذي كان معموراً ومارّاً بكثير من القرى والمدن المعمورة، وهناك ما يقرب بأربعين منزلاً من الكوفة إلى الشام، وحصلت قضايا عديدة وبعض الكرامات في الطريق، بحيث لا يمكن ادّعاء دسّ جميعها وجعلها بواسطة الوضّاعين، خصوصاً مع عدم وجود الداعي على وضع بعضها.

أضف إلى ذلك، أنّ هناك شواهد كثيرة على كون تسييرهم من الطريق السلطاني، منها ما ذكر في سائر الكُتب المعتبرة مثل مناقب ابن شهر آشوب حول قصّة دير راهب قنسرين، وبروز الكرامات الباهرة من الرأس الشريف، وقنسرين يقع بمنزل من حلب، وخُرِّب سنة ٣٥١ حين إغارة الروم.

ومنها: قصّة يحيى اليهودي الحرّاني، وسماعه تلاوة الرأس آيات من القرآن، ثمّ إسلامه وشهادته كما نقله الفاضل

٣٠١

المتبحِّر الجليل، السيّد جلال الدِّين في روضة الأحباب، وقال: إنّ هناك قبر يحيى المعروف بيحيى الشهيد، والدُّعاء عند رأسه مُستجاب، والحرّان يطلق على موضعين:

الأوّل: بلد في شرقي الفرات من بلاد الجزيرة (وهي ما بين الفرات ودجلة).

الثاني: قرية من توابع حَلَب، وكلاهما مُحتمَل.

وكذا تصريح العالم الجليل البصير عماد الدِّين الطبرسي (الطبري)، في كتابه كامل السقيفة المعروف بـ (كامل بهائي)، في أنّ مرور الأسرى من آل البيتعليهم‌السلام من آمِد وموصل، ونصيبين وبعلبك، وميافارقين وشيرز، و(آمد) على ساحل دجلة مثل موصل، و(بعلبك) على ثلاث منازل من الشام، و(ميافارقين) في قرب ديار بكر من بلاد الجزيرة، و(شيرز) بقرب حماة بين حلب والشام، وذُكر بعض القصص والحكايات في هذه المنازل، وموضع الرأس الشريف في (معرّة) من قرى (حلب)، كما ذكره بعض العلماء الأعلام، وذكروا ما حصل فيها ومعاملة أهلها مع جيش ابن زياد.

كما أنّ الفاضل الألمعي، ملاّ حسين الكاشفي في (روضة الشهداء) ذكر قضايا عديدة حين عبورهم من تلك المنازل وغيرها.

وليس الغرض من ذكر هذه الشواهد التمسّك والاستشهاد بكلّ واحد منها، وإن كان بعضها في غاية الاعتبار، ولكنّ الغرض أنّ المنصف يحصل على اطمئنان تامّ بأنّ المسير

٣٠٢

كان في هذا السير - أي السلطاني -، مُضافاً على أنّه لم نجد مُعارضاً ومُخالفاً له من الأخبار وكلمات الأصحاب إلى زماننا هذا.

وحينما يتأمّل العاقل، ويلاحظ السير من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام ثمّ إلى كربلاء، مع مُلاحظة لبثهم أقلّ الأيّام في كلا البلدين (الكوفة والشام) يعدّ رجوعهم في الأربعين من الممتنعات.

ومع الإغماض عمّا ذُكِر، لو فُرِض أنّ السير كان من البريّة وفي غربي الفرات، فمع التأمّل يصدق الامتناع والاستبعاد أيضاً؛ لأنّ الفاصلة بين الكوفة إلى الشام - بخطٍّ مُستقيم - يكون ١٧٥ فرسخاً، ونعلم أنّهم وصلوا الكوفة في ١٢ من المحرّم، وكان المجلس المشؤوم في ١٣ منه، وذهاب القاصد منها إلى الشام ورجوعه منها إليها - في مسألة استئذان ابن مرجانة من يزيد، وحمله الأسرى إليه من بعد وصول جوابه - كما ذكره السيّد في اللهوف وابن الأثير في الكامل - لا يقلّ من عشرين يوماً، كما في الإقبال.

وأمّا ما احتمله بعض الأفاضل في حواشيه على مزار البحار، من وقوع الاستئذان وجواب يزيد بواسطة الحمام فاسد؛ لعدم تداوله في عصر بني أُميّة وبداية حُكم بني العبّاس، بل على ما صرّح به شهاب الدِّين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري في كتاب التعريف: أنّ أصل تلك النوع من الحمام،

٣٠٣

الذي يُعبّر عنه بحمام الهدى وحمام الرسائلي من الموصل، وكان موضع اعتناء هامّ عند ملوك الفاطميّين، وأوّل مَن نقله من الموصل هو نور الدِّين محمود بن زنگي في سنة ٥٦٥.

وبالجملة؛ مع ملاحظة ما ذُكِر عن الإقبال حول حبسهم في الشام شهراً، وإقامتهم العزاء سبعة أياّم بعد خروجهم عن الحبس - كما في كامل البهائي، ولبثهم عشرة أيّام في منزل يزيد على ما ذكره محمّد بن جرير الطبري في تاريخه، وسيرهم مع نهاية الإجلال والإكرام، والتأنّي والوقار ليلاً من الشام - كما ذكره الشيخ المفيد وغيره، (فوصولهم في الأربعين غير ممكن)، فلو فُرِض أن يسيروا كلّ ليلة ثمانية فراسخ على ذلك الخطّ المستقيم، لاستمرّ السير نحو ٢٢ يوماً، مع أنّ السير فيه غير مُيسّر، لقلّة المياه فيه، خاصّة لتلك المسيرة الحافّة بالنساء والأطفال.

٦ - لو كان وصول الإمام السجّادعليه‌السلام وجماعة من بني هاشم، وتشرّفهم لزيارة قبر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام في يوم واحد، بل في وقت واحد، لما كان مناسباً أن يُعدّ جابر أوّل زائر قبره، ويجعل ذلك من مناقبه، كما قاله الشيخ المفيد في مسار الشيعة والكفعمي في مصباحه(١) .

٧ - لا يخفى على الناظر في كتب المقاتل، أنّه بعدما أبرز يزيد الندامة الظاهرية، وعرض على آل البيت الخيار في البقاء أو

____________________

(١) لؤلؤ ومرجان: ١٥٠ - ١٥٣.

٣٠٤

الرجوع وطلبهم الرجوع، تركوا الشام قاصدين المدينة، ولم يكن هناك ذكر عن العراق وكربلاء، ولم يكن البناء على الذهاب لذلك الصوب، والمسموع من المتردّدين أنّ طريق الشام إلى العراق يختلف من طريق الشام نحو المدينة ويتمايز في الشام نفسه، فلم يكن هناك قدر مشترك في السير، وهو معلوم لمن يلاحظ اختلاف طول هذه البلاد، فبناءً عليه؛ مَن يرد العراق فلابدّ أن يسير على خطِّ العراق من الشام نفسه، ولو كان تركهم الشام قاصدين العراق - كما هو ظاهر اللهوف - من دون اطّلاع وإذن يزيد فهذا غير ميسّر، ولابدّ أن يعرضوا ذلك عليه في المجلس، ولا يظنّ أنّه لو عرضوا طلبهم الذهاب إلى العراق - الذي لم يكن القصد إلاّ زيارة التربة المقدّسة - لرضي بذلك وأذِنَ؛ وذلك لخبث سريرته، ودناءة طبعه، وهو الذي أعطى مئتي دينار وقال: هذا عوض ما أصبكم، فكيف يرضى بأن يزداد في مصارف السفر؟!

فكيف كان؛ إنّ هذا الاستبعاد يُسقط الوثوق بالمرّة عن ذلك الراوي المجهول، الذي روى عنه في اللهوف، ومع ضمّه لتلك الشواهد المتقدّمة يخرب أساس احتمال ورودهم بكربلاء في الأربعين، من أساسه(١) .

____________________

(١) لؤلؤ ومرجان: ١٥٤.

٣٠٥

مناقشتنا للمحدّث النوري:

مُناقشة النقطة الأُولى:

إنّ السيّد في اللهوف لم يُصرِّح بحصول اللقاء في خصوص يوم الأربعين، بل ذكر خبر اللقاء فقط، كما ذكره ابن نما أيضاً، ويأتي وجه عدم منع اجتماعهما.

مُناقشة النقطة الثانية:

أوّلاً: لقد أجاب الشهيد القاضي حول عدم ذكر الشيخ المفيد لذلك: أنّ بناءه كان هو نقل ما وصل إليه مسنداً ولو كان خلافاً للمشهور(١) ، والعهدة على مدّعيها.

ثانياً: أنّ عدم الذِّكْر أعمّ من عدم الوقوع، وهؤلاء لم ينفوا ذلك.

ثالثاً: وقد ذكرنا تصريح بعضهم حول حصول اللقاء، مثل البيروني والشيخ البهائي وغيرهما.

مُناقشة النقطة الثالثة:

إنّنا نوافقه في استنباطه من كلمة الرجوع الخروج من الشام لا الوصول إلى المدينة، كما ذكرناه سابقاً، والظاهر أنّ قوله: (وإن توهّمه بعض) ناظر إلى ما ذكره السيّد ابن طاووس في الإقبال، ولكن لا نوافق في كون هذه الكلمات صريحة في عدم إتيانهم إلى كربلاء، وقد قلنا: إنّ عدم الذكر يكون أعمّ، خاصّة مع ملاحظة ما قيل حول دأب الشيخ المفيد في كتابة التاريخ.

وأمّا ما ذكره من عدم إمكان الرجوع إلى المدينة في أقلّ من شهر، فقد ذكر الشهيد القاضي الطباطبائي شواهد عديدة على إمكان ذلك، ويأتي كلامه.

____________________

(١) المصدر نفسه ٩٤.

٣٠٦

مُناقشة النقطة الرابعة:

أوّلاً: إنّ تعبير هذا المحدّث العظيم عن مصباح الزائر بكونه من الكُتب المعتبرة، مع تصريحه أنّه ألّف في أوان تكليفه، وهو في ذلك الوقت كذا وكذا. عدول عمّا ذكره سابقاً؛ فإنّه رفض خبر اللقاء استناداً لضمّه اللهوف إلى مصباح الزائر الذي أُلّف في سنّ مُبكّر، تسرياً للضعف منه إليه!

ثانياً: استبعاد المحدّث في مكانه، إلاّ أنّه عدم ذكر عطيّة ذلك في محلّه، ويأتي وجهه!

مُناقشة النقطة الخامسة:

هذا هو أهمّ دليل ذكره المحدّث النوري؛ حيث المقصود منه وصوله إلى نتيجة الامتناع في فرض المسألة.

ولقد اهتمّ الشهيد القاضي لإجابته وإثبات الإمكان، وسنذكر أدلّته بعد إتمام أقوال المحدّث النوري.

مُناقشة النقطة السادسة:

على فرض ذلك ليس هناك مانع أن يكون جابر سبق القوم في الزيارة، فينبطق عنوان أوّل زائر عليه، بل المستفاد من النصوص سبق جابر عليهم، حينما قالوا: فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله(١) .

فتحصّل أنّ اللقاء وإن كان في يوم واحد، ولكنَّ التشرُّف بزيارة القبر لم يكن في وقت واحد، ويأتي المختار في المسألة.

____________________

(١) اللهوف: ٢٢٥.

٣٠٧

مناقشة النقطة السابعة:

أوّلاً: إنّ وجود القدر المشترك من الطريق(١) هو ممّا يُستفاد من نقل اللهوف، وأمّا ما نقله ابن نما - الذي هو مقدّم على اللهوف - فليس فيه أثر عن ذلك.

وثانياً: إنّ المستشكل نفى وجود قدر مُشترك في الطريق لأجل شيئين:

أ) اتّكاله على نقل قول المتردّدين في عصره.

وفيه: أنّ هذا لا يكفي؛ إذ إنّ التغيير والتبديل في الطرق ممّا يحصل في كلّ زمان، فكيف ذلك بالنسبة إلى مسألة راجعة إلى أكثر من ألف سنة، ثمّ نظنّ كونه على تلك الحالة السابقة، فالمسألة تحتاج إلى تتبّع وتحقيق أكثر.

ب) اعتماده على ملاحظة طول البلدان الثلاثة.

وهذا ممّا لا يُغني في المقام، فالطريق قضية ترجع إلى مصالح عامّة لأُناس يقطعونه - من أهالي تلك المناطق - ولأجله نرى أنّه ربّما يُكثر في طول السير لأجل عبوره في تلكم البلاد والقرى؛ إذ ليس المقصود هو المبدأ الأعلى والمقصد المنتهى فحسب، فلحاظ طول البلاد يُفيد إذا كان السير في الهواء، لا الأرض!

وثالثاً: إنّ ما استبعده في المقام غير وارد؛ إذ مع تصريحه باختلاف حالة يزيد يوم خروج الأسرى من الشام، وإبراز ندامته ظاهراً، ومع ملاحظة أوامر يزيد بلزوم حُسن المعاملة معهم، وخاصّة مع الالتفات إلى ما ذكرناه عن ابن سعد بأنّ

____________________

(١) القدر المشترك من الطرق، كربلاء المدينة الشام.

٣٠٨

يزيد أمر الرُّسل الذين وجّههم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا ومتى شاءوا(١) ، فلو طلبوا الذهاب إلى كربلاء إمّا ابتداءً من نفس الشام، أو بعد الخروج منه، فليس بمُستبعد.

وأمّا عدم ذكرهم كربلاء، والاكتفاء بذكر المدينة لا ضير فيه، بعد أن كانت هي الغاية القصوى بالنسبة إليهم، لكونها موطنهم ومسقط رأسهم، فما شأن كربلاء في ذلك الزمان إلاّ شأن إحدى المنازل في الطريق، فسؤال يزيد كان ناظراً إلى اختيار محلّ الإقامة الدائميّة، لا المؤقّتة، ومن الطبيعي أن يكون الجواب مطابقاً للجواب؛ ولذلك اكتفوا بذكر المدينة، ولا يُنافي لقاصد المدينة أن يكون مارّاً بكربلاء.

٢ - مع القاضي الطباطبائي

هذا، ولكنّ الشهيد السعيد القاضي الطباطبائي قد وقف بجدٍّ وعزم على إثبات كون الرجوع في الأربعين الأُولى، وبما أنّ أهمّ أدلّة المحدِّث النوري كان الوجه الخامس منها، فنذكر مُلخّص ما أفاده الشهيد، ثمّ نذكر مُلاحظاته على ذلك الوجه.

قال: إنّ رجوع أهل البيت في الأربعين الأول، وإلحاق رؤوس الشهداء إلى أجسادهم هو المشهور بين العلماء، وكان موضع وفاقهم إلى القرن السابع، وأوّل مَن أشكل في ذلك السيّد بن طاووس في الإقبال، وأمّا مسألة لقائهم مع جابر، فقد ذكره ابن طاووس وابن نما، وإنّهما وإن لم يُصرِّحا بتحديد يوم الورود، ولكنّه كان ذلك في الأربعين حتماً؛ لأنّ أحداً لم يذكره في غير الأربعين، وهو ما فهمه العلماء، وقد اتّفق العلماء وأرباب المقاتل على تشرّف جابر في يوم الأربعين.

____________________

(١) الطبقات: ٨٤ ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله من القسم غير المطبوع ).

٣٠٩

ثمّ قال - في توجيه إمكان السير:

إنّ البعير الذلول والخيل العربية التي كانت تُستعمل في ذلك الزمان، كانت تسير المسافة الكثيرة في مدّة قليلة، ولعلّه لن يوجد نظيرها في عصرنا!

القاضي يستدلُّ بعشر نقاط:

ثمّ ذكر شواهد عديدة على تحقّق السير من العراق إلى الشام - وبالعكس - في مدّة عشرة أو ثمانية، بل وحتّى سبعة أيّام، منها:

١ - ذكر السيّد محسن الأمين (رحمه الله) في أعيان الشيعة: أنّ هناك طريقاً مُستقيماً بين العراق والشام، يسلكه أعراب العُقيل في زماننا هذا خلال أسبوع فقط.

٢ - وذكر السيّد الأمين (رحمه الله) أيضاً: أنّ أعراب صليب - وهم من حوران الواقع في قبلة دمشق - كانوا يسيرون إلى العراق في مدّة ثمانية أيّام.

٣ - لقد أتى خبر موت معاوية إلى الكوفة بعد مضيّ أسبوع من موته، ذكر المامقاني في تنقيح المقال عن الكشّي بإسناده عن أبي خالد التمّار قال: كنت مع ميثم التمّار بالفرات يوم الجمعة، فهبّت ريح وهو في سفينة من سفن الرومان. قال: فخرج فنظر إلى الريح، فقال: شدّوا برأس سفينتكم؛ إنّ هذه ريح عاصف، مات معاوية الساعة، قال: فلما كانت الجمعة المقبلة قدم بريد من الشام، فلقيته فاستخبرته، قلت: يا عبد الله،

٣١٠

ما الخبر؟

قال: الناس على أحسن حال، توفِّي أمير المؤمنين وبايع الناس يزيد.

قال: قلت: أيّ يوم توفّي؟

قال: يوم الجمعة(١) .

٤ - لقد كان موت معاوية في ١٥ من رجب سنة ٦٠، وخروج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة في ٢٨ من شهر رجب، وتحقّق في هذا الفاصل الزماني - الذي هو عبارة عن ١٣ يوماً - وصول القاصد، وعدم بيعتهعليه‌السلام ، مع أنّ الفاصلة بين الشام والحجاز أكثر منه إلى العراق.

٥ - ذكر الطبري أنّ بسر بن أرطاة أمهل أبا بكر أن يذهب من الكوفة نحو الشام ويرجع خلال أسبوع، فصار ذهابه إلى معاوية وإيابه إلى بسر في سبعة أيّام، فيُعلم من ذلك أنّه ذهب من الكوفة إلى الشام في ثلاثة أيّام ونصف، وكذا حال الرجوع.

٦ - في مسألة نجاة المختار من الحبس، ذهب عميرة حاملاً رسالة عبد الله بن عمر - زوج أُخت المختار - إلى يزيد، وأخذ بكتاب استخلاصه منه، وتوجّه نحو الكوفة، وسار الطريق في أحد عشر يوماً إلى أن وصل الكوفة.

٧ - خرج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة في الثامن من ذي الحجّة، والفاصل بينها وبين الكوفة ما يُقارب بـ ٣٨٠ فرسخاً، والإمام ما كان يُسرع في السير، ووصل إلى كربلاء في الثاني من

____________________

(١) تنقيح المقال ٣/ ٢٦٢، رقم ١٢٣٤٤.

٣١١

المحرّم.

فتحصّل أنّ مسيرته تمكّنت أن تقطع هذه المسافة الطويلة خلال ٢٤ يوماً، فعُلِم من ذلك أنّهم ساروا كلّ يوم ما يقرب من ١٥ فرسخاً (مع أنّه كان يقف في بعض المنازل).

٨ - لقد صرّحت كثير من الكُتب المعتبرة، أنّ ورود أهل البيت في الشام كان في الأوّل من صفر، منها ما ذكره أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية، وأنّهم توجّهوا من الكوفة نحو الشام في حوالي العشرين أو الخامس عشر من المحرّم، ثمّ إنّهم ساروا هذه المسافة في حدود عشرة أيّام أو خمسة عشر يوماً إلى أن وصلوا الشام، ورجوعهم في هذه المدّة نحو العراق غير بعيد، مع أنّ أبا ريحان البيروني الذي كان عالماً بالأوضاع ومُطِّلعاً على كيفيّة السير في ذلك الزمان ذكره ولم يستبعده ولم يرفضه.

٩ - روي أنّ هارون الرشيد وأبا حنيفة كانا يستهلاّن هلال ذي الحجّة في الكوفة أو بغداد، وبعد رؤيتهما الهلال كانا يخرجان للحجّ.

١٠ - روى الشيخ المفيد، بإسناده عن خيزران الأسباطي، قال: قدمت على أبي الحسن علي بن محمّدعليهما‌السلام المدينة، فقال لي:( ما خبر الواثق عندك؟ ).

قلت: جُعلت فداك، خلّفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيّام.

قال: فقال لي:( إنّ أهل المدينة يقولون: إنّه مات! ) .

فقلت: أنا أقرب الناس به عهداً.

قال: فقال لي:( إنّ الناس يقولون: إنّه

٣١٢

مات ).

فلما قال لي:( إنّ الناس يقولون... ) ، علمت أنّه يعني نفسه...(١) .

تلخيص استنتاج القاضي:

يُمكننا أن نُلخّص ما أراد القاضي استنتاجه هكذا:

يُعلم من قوله: (عهدي به منذ عشرة أيّام)، أنّه تمكّن أن يسير هذه المسافة التي نحو ٣٨٠ فرسخاً في عشرة أيّام.

فتحصّل من جميع ذلك، إمكان السير في زهاء عشرة أيّام، وما ذكره المحدّث النوري ليس إلاّ هو صِرْف استبعاد، وهذه الشواهد التاريخية تُثبت الإمكان.

فمُلخّص القول: إنّه يصحّ ما ذكره سبط ابن الجوزي أنّهم تركوا الكوفة في (١٥) من المحرّم نحو الشام، ثمّ إنّهم وصلوا الشام في الأوّل من صفر، ولبثوا فيه ما يقرب ثمانية أيّام، ثمّ توجّهوا إلى كربلاء خلال ثمانية أو عشرة أيّام، فتمكّنوا من الرجوع إلى كربلاء والدخول فيها في العشرين من صفر - الأربعين، وهو المطلوب.

ثمّ قال - ردّاً على حجج المقابل -:

أمّا مسألة استئذان ابن مرجانة من يزيد، ورجوع القاصد إليه الذي يحتاج إلى عشرين يوماً، ولبثهم في الشام شهراً - الذي ذكره المحدّث النوري، وبذلك نفى الرجوع في الأربعين - ففيه:

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ٣٠١.

٣١٣

أوّلاً: إنّ البريد يتمكّن أن يوصَل في خلال ثلاثة أيّام تقريباً، كما مرّ ذكره في خبر بسر بن أرطاة.

وثانياً: من الممكن أنّ الاستئذان يكون قد حصل بواسطة حمام الهُدى، وكان ذلك ممكناً؛ إذ إنّ أوّل مَن استعمل الحمام لهذا القصد هو نوح النبيّ، ثمّ سليمان، وكذلك الإيرانيّون، فحينئذٍ كان استعماله لذلك القصد مُتداولاً في ذلك العصر.

وثالثاً: لم يكن هناك دليل مُعتبر على لبثهم في الشام شهراً، بل التواريخ المعتبرة تُصرِّح بكونه أيّاماً، من ثمانية إلى عشرة.

وقال أيضاً:

ثمّ إنّ المشهور بين علماء الإمامية، أنّ الرأس المطهّر أُلحق بالجسد الطاهر في الأربعين الأوّل، ألحقه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وروى المجلسي شُهرة الأصحاب حول رجوع أهل البيت في العشرين من صفر.

مُلخَّص أدلّة القاضي الطباطبائي ومُناقشتها:

فمُلخّص أدلّة القاضي الطباطبائي:

١ - أنّ الشُّهرة قائمة على رجوع آل البيت في الأربعين الأول.

٢ - أنّ الرجوع في هذا الوقت ممكن، وذلك بذكر الشواهد التاريخية المتعدّدة.

٣ - وبما أنّ جابراً قد زار قبر الإمام الحسينعليه‌السلام في الأربعين، فحصول اللقاء أيضاً كان في الأربعين الأول؛ إذ لم يقل أحد بغيره، وهو ما فهمه العلماء.

٣١٤

وفيه:

أمّا الأوّل: إنّ هذه الشُّهرة لا تُغني من الحقّ شيئاً، خاصّة وقد ذكرنا أنّ مُدّعيها - وهو العلاّمة المجلسي(١) - أعرض عنها واستبعدها بالمرَّة.

وأمّا الثاني: الحقّ أنّ ما ذكره الشهيد القاضي الطباطبائي من الشواهد التاريخية المتعدّدة - التي تدلّ على مدى تتبُعه وكثرة تعبه لأجله - يُخرج المسألة عن صورة الامتناع، ويُدخلها في فرض الإمكان، وبذلك يُهدم أساس قول المحدّث النوري، إلاّ أنّه لا يكفي هذا الحدّ في إثبات المراد؛ إذ المطلوب هو ثبوت الوقوع لا الإمكان، وإمكان الشيء أعمّ من وقوعه.

وأمّا الثالث: فإنّ الصحيح أنّ زيارة جابر لقبر الإمامعليه‌السلام كانت في الأربعين، ولكنّا ننفي حصول اللقاء فيه أيضاً، خاصّة وأنّ ابن نما والسيّد ابن طاووس - وهما المصدران الأساسيّان في خبر اللقاء - لم يُحدّدا زمن اللقاء، فننفي الملازمة بينهما.

القول المختار في المسألة:

ويتّضح بذلك - والله العالم بحقائق الأُمور - ما يلي:

إنّ جابر بن عبد الله الأنصاري، ذلك الصحابي الجليل العالم العارف البصير، الذي تحمّل مشقّة السفر - وهو كبير العمر مكفوف البصر - وشدّ رحله من المدينة نحو كربلاء، لم يكتفِ بزيارة واحدة لقبر سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وأنّه زار قبر الإمامعليه‌السلام مرّتين على الأقلّ، أمّا زيارته الأُولى فهي التي رويناها عن الطبري(٢) ،

____________________

(١) بحار الأنوار ١٠١/ ٣٣٤.

(٢) بشارة المصطفى: ٧٤.

٣١٥

والسيّد ابن طاووس(١) ، والخوارزمي(٢) ، تلك الزيارة التي رواها عطيّة، فإنّ هذه الزيارة تختلف عن زيارته المقرونة باللقاء، وذلك لأمور:

١ - في هذه الزيارة لم نجد ذكراً عن خبر اللقاء، بل لعلّ هناك تصريحاً بعدم اللقاء؛ إذ جاء في رواية الطبري والخوارزمي، أنّ جابراً طلب من عطيّة أن يتوجّه نحو أبيات كوفان بقوله: ( خُذْني نحو أبيات كوفان )، ثمّ صارا في الطريق، فمن المستبعَد جدّاً أن يحصل اللقاء ولم يذكره عطيّة، مع أنّه في غاية الأهمّيّة.

٢ - إنّ المستفاد من خبر الطبري والسيّد ابن طاووس والخوارزمي، أنّه لم يكن هناك في حين زيارتهما أحد غيرهما، ولكن جاء في ضمن الخبر المقرون باللقاء أنّ هناك جماعة من بني هاشم، حينما قال ابن نما: ( ولما مرّ عيال الحسينعليه‌السلام بكربلاء وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري - رحمة الله عليه - وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارته )(٣) .

وقال السيّد: ( فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله) وجماعة من بني هاشم، ورجالاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وردوا لزيارة قبر الحسينعليه‌السلام ، فوافوا في وقت واحد ).

فالمستفاد منهما ورود عدّة من بني هاشم، ورجال من آل الرسول إلى كربلاء - وإن لم نعرفهم تفصيلاً - ولم نجد هناك اسم عطيّة، ولو كان حاضراً لروى اللقاء مع هؤلاء الجماعة، فتحصّل أنّهما زيارتان.

٣ - إنّ تصريح كثير من العلماء، بكون جابر أوّل زائر للحسينعليه‌السلام ، يُثبت تقدّم زيارته على زيارة جماعة من بني هاشم، وإلاّ فما كان هناك وجه في تلبُّسه بهذا العنوان دون غيره.

فتحصّل؛ أنّ الزيارة التي رواها الطبري والسيّد

____________________

(١) مصباح الزائر: ٢٨٦.

(٢) مقتل الخوارزمي ١/ ١٦٧.

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٧.

٣١٦

والخوارزمي - التي فيها ذِكْر عطيّة، وليس فيها ذِكْر ورود جماعة من بني هاشم وخبر اللقاء - تختلف عمّا ذكره ابن نما، والسيّد (في اللهوف) - والذي ليس فيه ذكر عطيّة، وهي زيارة أُخرى توفَّقَ جابر لها بعد زيارته الأُولى، وليس ببعيد على إنسان ذي معرفة وبصيرة، مثل جابر أن يُكرّر الزيارة ولا يكتفي بزيارة واحدة.

فبناءً عليه؛ يكون يوم الأربعين يوم زيارة جابر لقبر الحسينعليه‌السلام ، كما ذكرناه عن المصادر المتعدّدة. وأمّا مجيء أهل البيت وحصول لقائهم معه ومع جماعة من بني هاشم، فقد حصل في زيارة أُخرى بعد ذلك، وإن لم نعلم تحديدها بالضبط، كما أنّ ابن نما والسيّد في اللهوف لم يُحدّداه.

وبذلك تنحلّ العُقدة، وترفع العويصة في مسألة رجوع أهل البيت إلى كربلاء، كيف جاءوا؟ وهل جاءوا؟ وهل يمكن الوصول أم لا؟ ويزول تشتّت الأقوال الموجودة المردّدة بين القبول والردّ والتوقّف في ذلك.

وأمّا ما ذكره الشهيد القاضي بفهم العلماء كذلك، فإنّه غير مُحقّق، وهو ناشٍ عن ثبوت ملازمة زيارة جابر في الأربعين وحصول اللقاء مع أهل البيت في كربلاء، وهو مبنيّ على وصولهم في الأربعين، هذه الملازمة غير ثابتة.

وأمّا ما ذكره السيّد الشهيد، فإنّه لم يكن إلاّ لأجل إثبات إمكان رجوعهم ورفع الامتناع والاستبعاد، وهذا غاية ما يمكن أن يُستفاد منه - والحقّ أنّه وفِّق لذلك - إلاّ أنّه لا يمكن الاستناد إليه في المقام؛ إذ مع فرض التسليم بذلك، فإنّ هذا يتحقّق في فرض إرسال البريد - وما شابهه - الذي من شأنه السرعة في السير، أو تكون هناك ظروف خاصّة (كمسألة الوصول لأداء مناسك الحجّ أو تنفيذ الأوامر... إلخ )، لا في مثل هذه المسيرة التي كان شأنها خلاف ذلك ذلك؛ إذ إنّها بطبيعة حالها حاملة للأطفال والنساء، وقد مرّت بالمنازل المتعدّدة قبل وصولها الشام، وبعد الخروج منها تغيّرت المعاملة، وذلك بصدور أوامر بلزوم المحافظة عليهم ورعاية أمرهم

٣١٧

في السير واللبث، ولم يكن هناك نذر للوصول في الأربعين إلى كربلاء!!

فإذن؛ لا يكون هناك أيّ داعٍ لإيصالهم - أو وصولهم - في الأربعين إلى كربلاء.

نعم، لو كانت لدينا نصوص مُعتبرة حول رجوعهم في الأربعين لالتزمنا بها، ولكن أنّى لنا ذلك؟!

وأمّا ما ذكره البيروني(١) والبهائي(٢) ، من التصريح بذلك، فلا يمكن الالتزام به؛ لعدم تمحُّضهما في روايات التاريخ، ولكونهما ذوي فنون، فلعلّ حصل ذلك من خطور الملازمة المنتفية.

أضف إلى ذلك ما يُعارضه ممّا ذكره القاضي نعمان (ت: ٣٦٣هـ) - المقدّم عليهما زمناً وخبرة (في الرواية) - وقد صرّح في كتابه (شرح الأخبار) بلبث أهل بيت رسول الله شهراً ونصفاً في الشام(٣) ، وبذلك يظهر الجواب عمّا ذكره السيّد الشهيد من عدم وجود دليل مُعتبر حول بقاء أهل البيت شهراً في الشام - كما رواه في الإقبال.

فظهر من ذلك؛ أنّه مع ملاحظة بقائهم في الشام، مع ضمّ مسألة استئذان ابن مرجانة من يزيد، ولحاظ حالة المسيرة في الذهاب والإياب، يكون رجوع هذه المسيرة في الأربعين إلى كربلاء أمراً مُستبعَداً جدّاً، وإن كان هو مُمكناً في حدّ نفسه فيما عداها.

فيستنتج بذلك عدم الالتزام بإلحاق الرأس الشريف بالجسد الطاهر في خصوص يوم الأربعين.

نعم، أُلحق الرأس في وقت مجيء أهل البيت، اللّهمّ إلاّ أن نلتزم بما ذكره السيّد ابن طاووس من الوجه.

فالمختار في المسألة؛ أنّ رجوع آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كربلاء ما كان في الأربعين الأُولى ولا الثانية، بل في الفترة الواقعة بينهما.

____________________

(١) الآثار الباقية: ٣٢١.

(٢) توضيح المقاصد: ٦.

(٣) شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩.

٣١٨

تحديد يوم الأربعين:

إنّ العشرين من صفر هو يوم الأربعين، وهو موضع وفاق الجميع، إلاّ ما ذكرنا عن الشيخ البهائي، فإنّه جعل يوم التاسع عشر من صفر يوم الأربعين(١) ، وهو المتفرّد في قوله، وذلك الاختلاف ناشٍ عن احتساب يوم عاشوراء أو عدمه، والظاهر عدم احتسابه؛ لأنّ المقصود مضيّ ذلك المقدار من بعد الشهادة، فيكون يوم الحادي عشر من محرّم مضيّ يوم عنها وهكذا، فيكون يوم العشرين من صفر مضيّ أربعين يوماً من شهادتهعليه‌السلام .

وقال السيّد ابن طاووس:

(فإن قيل: كيف يكون يوم العشرين من صفر يوم الأربعين، إذا كان قتل الحسين صلوات الله عليه يوم عاشر من محرّم، فيكون يوم العاشر من جملة الأربعين، فيصير واحداً وأربعين.

فيُقال: لعلّه قد كان شهر محرّم الذي قُتل فيه صلوات الله عليه ناقصاً، وكان يوم عشرين من صفر تمام الأربعين يوماً، فإنّه حيث ضُبط يوم الأربعين بالعشرين من صفر، فإمّا أن يكون الشهر - كما قلنا - ناقصاً، أو يكون تامّاً ويكون يوم قتله صلوات الله عليه غير محسوب من عدد الأربعين؛ لأنّ قتله كان في أواخر نهاره، فلم يحصل ذلك اليوم كلّه في العدد، وهذا تأويل كافٍ للعارفين، وهُمْ أعرف بأسرار ربّ العالمين في تعيين أوقات الزيارة للطاهرين )(٢) .

فضل زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم الأربعين:

سمَّى الشيخ الحرّ العاملي باباً باسم: ( باب تأكُّد استحباب زيارة الحسينعليه‌السلام

____________________

(١) توضيح المقاصد: ٦.

(٢) إقبال الأعمال: ٥٨٩.

٣١٩

يوم الأربعين من مقتله، وهو يوم العشرين من صفر )(١) .

روى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي قالا: ( روي عن أبي محمّد الحسن بن علي العسكريعليهما‌السلام أنّه قال:( علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختُّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) )(٢) .

وروى الشيخ الطوسي، بإسناده عن صفوان الجمّال قال: ( قال لي مولاي الصادقعليه‌السلام في زيارة الأربعين:( تزور عند ارتفاع النهار وتقول: السلام على وليّ الله وحبيبه... - وذكر الزيارة إلى أن قال: -وتُصلّي ركعتين وتدعو بما أحببت وتنصرف ) (٣) .

إلحاق الرأس الشريف بالجسد الطاهر:

لقد أحسن دعبل الخزاعي في رثائه، إذ قال:

رأس ابن بنت محمّد ووصيّه

لـلناظرين عـلى قناة يُرفع

والـمسلمون بمنظرٍ وبمسمعٍ

لا مُـنكِر مـنهم ولا مُتفجّع

كحلت بمنظرك العيون عماية

وأصمّ رزؤك كلّ أُذن تَسمع

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى

وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٤/ ٤٧٨، كتاب الحجّ، باب ٥٦.

(٢) كتاب المزار (للشيخ المفيد): ٦٠؛ تهذيب الأحكام ٦/ ٥٢ كتاب المزار باب ١٦ ح٣٧ عنه وسائل الشيعة ١٤/ ٤٧٨ ح١٩٦٤٣؛ انظر: مصباح المتهجّد: ٧٣٠؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٥؛ مصباح الكفعمي: ٤٨٩ (حاشية)؛ مصباح الزائر: ٢٨٦؛ إقبال الأعمال: ٥٨٩؛ بحار الأنوار ٨٢/ ٢٩٢ ح٢١ (عن مصباح الشيخ)؛ وج ٨٥/ ٧٥ ح٧ (عن مصباح الشيخ)؛ وج ١٠١/ ١٠٦ ح١٧ (عن التهذيب).

(٣) تهذيب الأحكام ٦/ ١١٣ ح٢٠١ - عنه وسائل الشيعة ١٤/ ٧٨ ح١٩٦٤٤، انظر مصباح المتهجّد ٧٣٠؛ إقبال الأعمال ٥٨٩.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460