مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234390 / تحميل: 8791
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وبعد قتل عثمان تستّر بقميصه، وبه رسّخ أركان حُكمه وحكومة أُسرته، وبثّ الفتنة في أوساط المجتمع الإسلامي، وحمل راية الشقاق والخلاف ضدّ خليفة المسلمين الشرعي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

قال في الخُطط: ( اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان؛ ليعيد الأمر إلى بني أُميّة ويُصبحوا أُمراء في الإسلام!.. وكان النعمان بن بشير أتاه إلى دمشق بقميص عثمان الذي قُتل فيه مُخضّباً بدمه، وبأصابع نائلة زوجته، فوضع القميص على منبر دمشق، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع مُعلّقة في أردانه، وتعاهد الرجال من أهل الشام على قتل قتلة عثمان ومَن عرض دونهم بشيء أو تُفنى أرواحهم، وكان ستّون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان.. وكان عمرو بن العاص - لما نشب الناس في أمر عثمان - في ضيعة له بالسبع من حيّز فلسطين قد اعتزل الفتنة! فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه، ووعده بمُلك مصر إن هو ظفر بعليّ، فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكنديّ رأس أهل الشام، فسار هذا يستقري مدنها مدينةً مدينةً، يُحرّض الناس على الأخذ بدم عثمان، فأجابه الناس كلّهم إلاّ نفراً من أهل حمص نُسَّاكاً، فإنّهم قالوا: نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منّا... )(١) .

ومن هنا انطلقت شرارة حرب صِفِّين، ولا مجال لذكر تفاصيلها الآن.

إسلام أُمويّ وحكم دمويّ!

هنا إسلام أُمويّ ينطق بمنطق القهر والقوّة، برهانه السلاح، ودليله قمع كلّ مَن يقوم بالكفاح، يُنفّذه أرباب السلطة والسيف، ويُزيِّنه البائعون دينهم بدنياهم، المشترون سخط الخالق برضى المخلوق.

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ١٠٥.

٢١

ترى مظاهر الإسلام من الصلاة والصوم والحجّ و..، لكنّها قشر بلا لُبٍّ، وجسد بلا روح؛ فالطليق ابن الطليق يدّعي الخلافة الإسلامية، ولا يعرف الناس حقّ عليّعليه‌السلام حتى تشتبه المسألة على العامّة ويتأوّه أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذه الكلمات:

( فيا عجباً للدهر! إذ صِرتُ يُقرن بي مَن لم يسعَ بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يُدلي أحدٌ بمثلها... )(١) .

وللمال دوره الهامّ في تثبيت ما يُريده الحُكّام؛ فلقد بثّوه ووزّعوه على أوساط الضعفاء والمحبّين لحلاوة الدُّنيا، الناسين مرارة حساب العُقبى، فأصبحوا ساكتين صامتين، كأن لم يحصل شيء ولم يحدث أيّ أمر!

( خَطَبَ معاوية يوماً بمسجد دمشق، وفي الجامع يومئذٍ من الوفود علماء قريش وخطباء ربيعة ومدارهها، وصناديد اليمن وملوكها، فقال معاوية: إنّ الله تعالى أكرم خلفاءه فأوجب لهم الجنّة، فأنقذهم من النار، ثمّ جعلني منهم! وجعل أنصاري أهل الشام، الذابّين عن حرم الله! المؤيَّدين بظفر الله! المنصورين على أعداء الله!!...

وفي الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان، فقال الأحنف لصعصعة: (أتكفيني أم أقوم أنا إليه؟ (فقال صعصعة:) بل أكفيكه أنا )، ثمّ قام صعصعة فقال: يا بن أبي سفيان، تكلّمت فأبلغت ولم تُقصِّر دون ما أردت، وكيف يكون ما تقول وقد غَلَبْتنا قسراً وملكتنا تجبُّراً ودِنتنا بغير الحقّ، واستوليت بأسباب الفضل علينا؟!

فأمّا إطراؤك أهل الشام، فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم! قوم ابتعتَ منهم دينهم وأبدانهم بالمال، فإن أعطيتهم حاموا عنك ونصروك! وإن

____________________

(١) نهج البلاغة، كتاب ٩.

٢٢

منعتهم قعدوا عنك ورفضوك... )(١) .

وأكثروا وضع الأحاديث في فضل الشام، حتّى كأن ليس لله تعالى بشيء من الأرض حاجة إلاّ بها - كما قال محمد الصغاني(٢) - ونشروا لزوم اتّباع كلّ أمير وحُرمة الخروج عليه، ودعوا إلى الصلاة خلف كلّ إمام، برّاً كان أو فاجراً، وبثّوا فضل الغزو في البحر، وتركوا الواقع الثابت، وصار حُبّ عليّ وآله أكبر جُرم لا يُغتفر، وسبُّه على المنابر يجهر(٣) .

نعم، إنّ معاوية تمكّن من بسط حُكمه الجائر، بفضل المال الوافر، وحدّة سيفه الشاهر، وقتله الأفاضل من الصحابة والتابعين الأكابر، مثل عمرو بن الحمق، وحجر بن عديّ وأصحابه، كما احتجّ به الإمام الحسينعليه‌السلام في ضمن رسالته التي أرسلها إلى معاوية:

( ألستَ قاتل حجر بن عديّ أخي كندة وأصحابه الصالحين العابدين، كانوا يُنكرون الظلم ويستعظمون المنكر والبِدَع، ويؤثرون حُكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكَّدة، لا تأخذهم بحدَث كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في صدرك عليهم؟!

أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفّرت لونه ونحّلت جسمه بعد أن أمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجل

____________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسي، ٥، ح٤، المجلس الأوّل.

(٢) دائرة المعارف ١٠/ ٣٩٤.

(٣) للمزيد من معرفة الوثائق والتفاصيل حول هذا الموضوع راجع الجزء الأول من هذه الموسوعة: الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة، تأليف: علي الشاوي، ص١١٦ - ١٢٨.

٢٣

وميثاقه ما لو أعطيته العُصْم ففهمته لنزلت إليك من شغف الجبال، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ، واستخفافاً بذلك العهد؟! ...

أوَ لست صاحب الحضرميّين، الذين كتب إليك فيهم ابن سميّة: أنّهم على دين عليّ ورأيه. فكتبت إليه: اقتل كلَّ مَن كان على دين عليّ ورأيه. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ - والله - وابن عليّ الذي كان يضرب عليه أباك... )(١) .

فبمنطق القوّة أخذ معاوية البيعة لولَده يزيد، كما اعترف بذلك الجميع، ومنهم صاحب خُطط الشام بقوله:

( أوعز معاوية سرّاً إلى ولاة الأمصار، أن يوفِدوا الوفود إليه يُزيّنون له إعطاء العهد لابنه يزيد، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعوه، والسيوف مسلولة - فيما قيل - على رقاب الصحابة في مسجد الرسول، وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها، وجعلها كالملك يورِّثها الأب ابنه أو مَن يراه أهلاً لها من خاصّته، أو كسرويّة أو قيصريّة، على سنّة كسرى وقيصر كما قالوا )(٢) .

ذكر علماء السِّيَر، عن الحسن البصريّ أنّه قال: ( قد كانت في معاوية هنات لو لقي أهل الأرض ببعضها لكفاهم: وثُوبه على هذا الأمر واقتطاعه من غير مشورة من المسلمين، وادّعاؤه زياداً، وقتله حجر بن عديّ وأصحابه، وبتوليته مثل يزيد على الناس )(٣) .

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ٢/ ٩٠ - ٩١.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٠٩.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٨٦.

٢٤

مَن هو يزيد؟

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأُمّه ميسون بنت بجدل بن دلجة بن قنافة أحد بني حارثة بن جناب.

ولِد سنة ٢٥هـ، وكان آدم جعداً مهضوماً أحور العين، بوجهه آثار جدريّ، حسن اللحية خفيفها(١) .

لهوه:

قال البلاذريّ: ( المدائني والهيثم وغيرهما قالوا: كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه أبا قيس، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل، أصاب خطيئة فمُسخ، وكان يسقيه النبيذ ويضحك ممّا يصنع! وكان يحمله على أتان وحشيّة ويُرسلها مع الخيل فيسبقها، فحمله عليها يوماً وجعل يقول:

تمسَّك أبا قيس بفضل عنانها

فليس عليها إن هلكت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلَّها

وخيل أمير المؤمنين أتان

قال المسعودي: وكان على أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مُشمّر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش مُلمع بأنواع الألوان.

قالوا: وكان يزيد همّ بالحجّ ثمّ إتيان اليمن، فقال رجل من تنوخ:

يزيد صديق القرد ملَّ جوارنا

فحنَّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود )(٢)

وروى الباعوني نحوه عن الفوطي في تاريخه، وفيه: أنّ يزيد كان يسقي قرده

____________________

(١) العقد الفريد ٥/ ١٢٤. ونحوه في: الجوهر الثمين: ٨٠؛ التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٢) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٥

فضل كأسه، وفيه أيضاً: وجاء يوماً سابقاً فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، وأمر أهل الشام أن يُعزّوه فيه! وأنشأ يقول:

كمْ قوم كـرام ذو مـحافظة

إلاّ أتـانا يُـعزّي فـي أبـي قيس

شـيخ الـعشيرة أمـضاها وأجملها

إلى المساعي على الترقوس والريس

لا يُـبعد الله قـبراً أنـت سـاكنه

فـيه جـمال وفيه لحية التيس(١)

فسقه:

قال ابن الصبان: ( وأمّا فسقه فقد أجمعوا عليه )(٢) .

روى السيّد ابن طاووس، عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال:( لما أتوا برأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين عليه‌السلام ويضعه بين يديه ويشرب عليه ) (٣) .

وفي التنبيه والإشراف: ( كان (يزيد) يُبادر بلذَّته، ويُجاهر بمعصيته، ويستحسن خطأه، ويهوّن الأمور على نفسه في دينه إذا صحّت له دنياه )(٤) .

وعن المدائني: كان يزيد يُنادم على الشراب سرجون مولى معاوية، وليزيد شعر منه قوله:

ولها بالماطرون إذا

أكل النمل الذي جمعا

منزل حتّى إذا ارتبعت

سكنت من جلّق بيعا

في جنان ثَمّ مؤنقة

حولها الزيتون قد ينعا(٥)

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٣.

(٢) إسعاف الراغبين: ١٩٣.

(٣) الملهوف: ٢٢٠.

(٤) التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٥) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠١.

٢٦

وقال المسعوديّ: ( وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومثالب كثيرة، من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول، ولعن الوصيّ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء، والفسق، والفجور... )(١) .

وقال الكيا الهراسي في شأنه: ( لو مُددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل... كيف لا وهو اللاّعب بالنرد والمتصيّد بالفهود ومُدمن الخمر؟!... )(٢) .

وقال الذهبي: ( كان ناصبيّاً فظّاً، يتناول المسكر ويفعل المنكر... )(٣) .

وقال أبو علي مسكويه الرازي: ( وظهر في المدينة، أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يُشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتّى خلعوه وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل )(٤) .

وعن ابن حجر: ( أنّ يزيد قد بلغ من قبايح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه )(٥) .

قال المسعودي: ( ولما شمل الناس جورُ يزيد وعمّاله، وعمّهم ظلمه وما ظهر من فسقه، من قتله ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيّته، وأنصف منه لخاصّته وعامّته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم، وهو عثمان بن محمّد بن أبي سفيان، ومروان بن الحَكم، وسائر بني أُميّة )(٦) .

____________________

(١) مروج الذهب ٣/ ٧٢.

(٢) هامش تاريخ نيسابور: ٥٩٨ في ترجمته.

(٣) شذرات الذهب ١/٦٨.

(٤) تجارب الأُمم ٢/ ٧٦

(٥) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨ عن شرح الهمزية لابن حجر.

(٦) مروج الذهب ٣/ ٦٨.

٢٧

وقال المنذر بن الزبير - لما قدم المدينة -: ( إنّ يزيد قد أجازني بمئة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أُخبركم خبره، والله، إنّه ليشرب الخمر، والله، إنّه ليسكر حتّى يدَع الصلاة )(١) .

قال اب ن حجر: ( وعلى القول: بأنّه مُسلم. فهو فاسق شرّير سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

وذكر البلاذري في أنساب الأشراف: ( وذكر لي شيخ من أهل الشام: أنّ سبب وفاة يزيد، أنّه حمل قرده على الأتان وهو سكران، ثمّ ركض خلفها فاندقّت عنقه أو انقطع في جوفه شيء )(٣) .

كتب الأستاذ عبّاس محمود العقّاد: ( الروايات لم تُجمِع على شيء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذّات، وتوانيه عن العظائم.. وقد مات بذات الجنب وهو لما يتجاوز السابعة والثلاثين، ولعلّها إصابة الكبد من إدمان الشراب، والإفراط في اللذات، ولا يُعقل أن يكون هذا كلّه اختلاقاً واختراعاً من الأعداء؛ لأنّ الناس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص، وهما بغيضان أشدّ البغض إلى أعداء الأُمويّين..؛ ولأنّ الذين حاولوا ستره من خدّام دولته لم يُحاولوا الثناء على مناقب فيه تحلّ عندهم محلّ مساوئه وعيوبه، كأنّ الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان، ولم يكن هذا التخلّف في يزيد من هزال في البُنية أو سقم اعتراه كذلك السقم الذي يعتري أحياناً بقايا السلالات التي تهمُّ بالانقراض والدثور، ولكنّه كان هزالاً في الأخلاق وسقماً في الطويّة.. قعد به العظائم مع

____________________

(١) الغدير ١٠/ ٢٥٦ عن كامل ابن الأثير ٤/ ٤٥، وتاريخ ابن كثير ٨/ ٢١٦.

(٢) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٣) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٨

وثوق بنيانه، وضخامة جثمانه، واتّصافه ببعض الصفات الجسدية التي تزيد في وجاهة الأُمراء، كالوسامة وارتفاع القامة، وقد أُصيب في صباه بمرض خطير - وهو الجدريّ - بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنّه مرض كان يشيع في البادية، ولم يكن من دأبه أن يقعد بكلّ مَن أُصيب به عن الطموح والكفاح )(١) .

كفره:

(الارتداد هو الكفر بعد الإسلام، ويتحقّق بالبيّنة، وبالإقرار على النفس بالخروج من الإسلام، أو ببعض أنواع الكفر - وبكلّ فعل دالّ صريحاً على الاستهزاء بالدِّين والاستهانة به ورفع اليد عنه - وبالقول الدالّ صريحاً على جحد ما عُلم ثبوته من الدِّين ضرورة أو على اعتقاده ما يحرم اعتقاده بالضرورة من الدِّين... )(٢) .

إذا حكمنا بظاهر الإسلام في حقّ أبي سفيان ومعاوية بعد فتح مكّة - وإن كان للتوقّف في ذلك مجال واسع، تؤيّده الشواهد التاريخية في حياتهما السوداء - فإنّنا نحكم بارتداد يزيد عنه؛ وذلك استناداً إلى أشعاره التي أفصح بها عن الإلحاد، وأبان عن خبث ضميره وعدم الاعتقاد، وفيها:

لـعبتْ هـاشم بـالملك فلا

خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ولـقالوا يـا يـزيد لا تُشل

فـجـزيناهم بـبدرٍ مـثلها

وأقـمنا مـثل بـدرٍ فاعتدل

____________________

(١) أبو الشهداء الحسين بن علي: ٦٨.

(٢) أُنظر جواهر الكلام ٤١/ ٦٠٠ - ٦٠١.

٢٩

لستُ من خِندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل(١)

وفيها:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني(٢)

ما قالته زينب الكبرى:

وأوّل مَن استند إلى أشعاره وأثبت كفره - في مجلسه وأمامه - هي العقيلة زينب الكبرى، بنت الإمام أمير المؤمنينعليهما‌السلام التي وصفها الإمام زين العابدينعليه‌السلام : بأنّها(... عالمة غير مُعلَّمة... ) (٣) . فإنّها قالت ليزيد: ( أنسِيتَ قول الله عزّ وجلّ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (٤) .. ولا غرو منك ولا عجب من فعلك، وأنّى يُرتجى الخير ممّن لفظ فوه أكباد الشهداء! ونبت لحمه بدماء الشهداء! ونبت لحمه بدماء السعداء! ونصب الحرب لسيّد الأنبياء! وجمعَ الأحزاب! وشهرَ الحراب! وهزّ السيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! أشدّ العرب لله جحوداً! وأنكرهم لرسوله! وأظهرهم له عدواناً وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً! ألا إنّها نتيجة خِلال الكفر! وضبّ يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر! فلا يستبطئ في بغضنا أهلَ البيت مَن كان نظره إلينا شنفاً وشنآناً وإحناً وأضغاناً! يُظهر كفره برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! ويُفصح ذلك بلسانك وهو يقول - فرحاً بقتل ولده وسبي ذرّيته - غير متحوّب ولا مُستعظم، يهتف بأشياخه:

____________________

(١) يأتي الكلام حول أشعاره وتمثُّله بأبيات ابن الزبعرى مُفصّلاً.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) العوالم ١٧/ ٣٧٠.

(٤) آل عمران: ١٧٨.

٣٠

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ولقالوا يا يزيد لا تُشل

مُنتحياً على ثنايا أبي عبد الله - وكان مُقبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ينكتها بمِخصرته، وقد التمع السرور بوجهه، لعَمْرِي، لقد نكأتَ القرحة، واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دمَ سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطّلب، وهتفتَ بأشياخك، وتقرّبتَ بدمه إلى الكفرة من أسلافك... )(١) .

ما قاله بعض الصحابة:

واستند إلى تلك الأبيات بعض الصحابة، وأثبت ارتداد يزيد بتمثّله لها.

ذكر ابن عبد ربّه: ( بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحُد: ليت أشياخي... الأبيات.

فقال له رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ارتددت عن الإسلام - يا أمير المؤمنين -؟ قال: ( بلى، نستغفر الله )، قال: ( والله، لا ساكنتك أرضاً أبداً ). وخرج عنه )(٢) .

أقوال العلماء في كفره:

صرّح كثير من العلماء والمؤرِّخين، وأرباب الفكر بكفر يزيد بن معاوية، نكتفي بذكر بعضهم:

رأي الإمام أحمد بن حنبل:

قال الشبراوي: ( قال العلاّمة ابن حجر في شرح الهمزية: إنّ يزيد قد بلغ من قبائح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه، بل قال الإمام أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به علماً وورعاً يقضيان، بأنّه لم يقل ذلك إلاّ لقضايا وقعت منه صريحة في ذلك ثبتت

____________________

(١) الاحتجاج ٢/ ١٢٤ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٨.

(٢) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

٣١

عنده )(١) .

رأي ابن القفطي:

قال الباعوني: ( وذكر ابن القفطي في تأريخه قال: إنّ السبي لما ورد على يزيد بن معاوية خرج لتلقّيه، فلقي الأطفال والنساء من ذرّية علي والحسن والحسين، والرؤوس على أسنّة الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة العقاب، فلما رآهم أنشد:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرقت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني بذلك: أنّه قتل الحسين بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، مثل عُتبة جدّه ومَن مضى من أسلافه، وقائل مثل هذا بريء من الإسلام، ولا يُشكّ في كفره )(٢) .

رأي الباعوني:

قال: وما أظنّ أنّ مَن استحلّ ذلك ( قتل الحسينعليه‌السلام )، وسلك مع أهل النبيّ هذه المسالك شمّ ريحة الإسلام، ولا آمن بمحمّد عليه الصلاة والسلام، ولا خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولا آمن طرفة [عين] بربّه، والقيامة تجمعهم وإلى ربّهم مرجعهم.

ستعلم ليلى أيّ دين تداينت

وأيّ غريمٍ في التقاضي غريمها(٣)

رأي ابن عقيل:

ذكر سبط ابن الجوزيّ، عن ابن عقيل أنّه قال: وممّا يدلّ على كفره (يزيد) وزندقته - فضلاً عن سبّه ولعنه - أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) المصدر ٢/ ٣١١.

٣٢

عـليّة هـاتي واعـلني وتـرنَّمي

بـدلّـك إنّـي لا أُحـبّ الـتناجيا

حـديث أبـي سفيان قِدْماً سمى بها

إلـى أُحُـدٍ حـتّى أقـام الـبواكيا

ألا هـات فـاسقيني على ذاك قهوةً

تـخيَّرها الـعنسي كـرماً شـاميا

إذا مـا نـظرنا فـي أُمـورٍ قديمة

وجـدنا حـلالاً شـربها مُـتواليا

وإن مُـتّ يـا أُمّ الأُحيمر فانكحي

ولا تـأملي بـعد الـفراق تـلاقيا

فـإنّ الـذي حُـدِّثْتِ عن يوم بعثنا

أحـاديث طسم تجعل القلب ساهيا

ولابـدّ لـي مـن أن أزور محمّداً

بمشمولة صفراء تروي عظاميا(١)

رأي اليافعي:

وعن اليافعي: وأمّا حُكم مَن قتل الحسين، أو أمر بقتله ممّن استحلّ ذلك فهو كافر، وإن لم يستحلّ ففاسق فاجر، والله أعلم(٢) .

رأي القاضي أبي يعلى وابن الجوزي:

قال الآلوسيّ: وقد جزم بكفره - أي يزيد بن معاوية - وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم الحافظ ناصر السنّة ابن الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى(٣) .

رأي الكيا الهراسي:

قال: هو (يزيد) اللاّعب بالنرد، المتصيّد بالفهد، والتارك للصلوات، والمدمن للخمر، والقاتل لأهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمصرّح في شعره بالكفر الصريح(٤) .

رأي سبط ابن الجوزي:

قال سبط ابن الجوزيّ - بعد ذكره استناد ابن عقيل

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩٠.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

(٣) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٤) جواهر المطالب ٢/ ٣٠١.

٣٣

بأشعار يزيد على كفره وزندقته(١) - قلت: ومنها قوله:

ولو لم يمسَّ الأرض فاضل بردها

لما كان عندي مَسحة في التيمّم

ومنها: لما بدت تلك الحمول وأشرقت - وقد ذكرناها -.

ومنها قوله:

مـعشر الـنُّدمان قوموا

واسمعوا صوت الأغاني

واشـربوا كـأس مدام

واتـركوا ذكر المغاني

أشـغلتْني نغمة العيدان

عن صـوت الأذانِ

وتـعوّضتُ عن الحور

خـموراً فـي الـدنان

إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه، ولهذا تطرّق إلى هذه الأُمّة العار بولايته عليها، حتّى قال أبو العلاء المعرّي - يُشير بالشنار إليها -:

أرى الأيّام تفعل كلّ نُكر

فما أنا في العجائب مُستزيد

أليس قريشكم قتلت حسيناً

وكان على خلافتكم يزيد

رأي ابن عساكر:

حُكي عن ابن عساكر أنّه قال: نُسب إلى يزيد قصيدة منها:

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لـعبت هـاشم بـالملك فلا

مَـلَكٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

فإن صحّت عنه فهو كافر بلا ريب، انتهى معناه(٢) .

رأي الأجهوري:

قال: وقد اختار الإمام محمّد بن عرفة والمحقّقون من أتباعه

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩١.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

٣٤

كفر الحجّاج، ولا شكّ أنّ جريمته كجريمة يزيد، بل دونها(١) .

رأي السعد التفتازاني:

قال: والحقّ أنّ رضى يزيد بقتل الحسين، وإهانته أهل بيت رسول الله ممّا تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً، فنحن لا نتوقّف في شأنه، بل في إيمانه، فلعنة الله عليه، وعلى أنصاره، وعلى أعوانه.

قال الشبراويّ: وقول السعد: بل في إيمانه. أي بل لا نتوقّف في عدم إيمانه، بقرينة ما بعده وما قبله(٢) .

رأي الحافظ البدخشاني:

قال: وجعل (يزيد) ينكت رأسه ( الحسينعليه‌السلام ) بالخيزران، وأنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا إلى آخره، والأبيات مشهورة، وزاد فيها بيتين مُشتملين على صريح الكفر(٣) .

رأي الشبراوي:

قال - بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى -: خزّاه الله في هذه الأبيات، إن كانت صحيحة، فقد كفر فيها بإنكار الرسالة(٤) .

رأي الآلوسي:

قال في تفسيره: وفي تاريخ ابن الوردي، وكتاب الوافي بالوفيات: أنّ السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرّية عليّ والحسين (رضي الله تعالى عنهما)، والرؤوس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة جيرون، فلما رآهم نعب غراب، فأنشأ يقول:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفتْ

تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٧.

(٢) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٢، تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٣) نزل الأبرار: ١٥٩.

(٤) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٧.

٣٥

يعني أنّه قتل بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، كجدّه عتبة وخالد ولد عتبة وغيرهما، وهكذا كفر صريح، فإذا صحّ عنه فقد كفر به، ومثله تمثّله بقول عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه: ليت أشياخي... الأبيات..

رأي عبد الباقي أفندي العمري:

أشار إلى أبيات يزيد، شاعرُ العراق عبد الباقي أفندي العمري، فيما حُكي عن الباقيات الصالحات بقوله:

نقطع في تكفيره إن صحّ ما

قد قال للغراب لما نعبا(١)

تأمُّل ابن حجر:

تأمَّل ابن حجر في صواعقه، واتّخذ طريقاً آخر حول هذه المسألة، قال: ( اعلم أنّ أهل السنّة اختلفوا في تكفير يزيد بن معاوية ووليِّ عهده من بعده، فقالت طائفة: إنّه كافر؛ لقول سبط ابن الجوزي - وغيره المشهور -: إنّه لما جاءه رأس الحسين (رضي الله عنه)، جمع أهل الشام وجعل ينكت رأسه بالخيزران، ويُنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا الأبيات المعروفة، وزاد فيهما بيتين مُشتملين على صريح الكفر.. وقالت طائفة: ليس بكافر؛ لأنّ الأسباب الموجبة للكفر لم يثبت عندنا منها شيء، والأصل بقاؤه على إسلامه حتّى يُعلم ما يُخرِجه عنه، وما سبق أنّه المشهور يُعارضه ما حُكي أنّ يزيد لما وصل إليه رأس الحسين قال: رحمك الله يا حسين، لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام، وتنكّر لابن زياد، وقال: قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر. وردّ نساء الحسين ومَن بقي من بنيه مع رأسه إلى المدينة ليُدفن الرأس بها.

وأنت خبير بأنّه لم يثبت موجب واحدة من المقالتين، والأصل أنّه مُسلم،

____________________

(١) هامش الإتحاف: ٥٦.

٣٦

فنأخذ بذلك الأصل حتّى يثبت عندنا ما يوجب الإخراج عنه؛ ومن ثَمّ قال جماعة من المحقّقين: إنّ الطريقة الثابتة القويمة في شأنه، التوقّف فيه وتفويض أمره إلى الله سبحانه؛ لأنّه العالم بالخفيّات والمطّلع على مكنونات السرائر وهواجس الضمائر، فلا نتعرّض لتكفيره أصلاً؛ لأنّ هذا هو الأحرى والأسلم، وعلى القول: بأنّه مسلم، فهو فاسق شرّير، سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

نقول: إنّ هذه الطريقة غير قويمة؛ وذلك لعدّة أمور:

أوّلاً: إنّه بعدما نقل المؤلّف الشهرة في المقام عن سبط ابن الجوزيّ وغيره، بزيادة يزيد بيتين مُشتملين على صريح الكفر، فلا مجال له أن يقول: والأصل أنّه مسلم، فنأخذ بذلك حتى يثبت عندنا ما يوجبه الإخراج.

فأيّ موجب أدلّ من كلامه الصريح، ولو لا التواتر في النقل فالشهرة القائمة كافية لإثبات ذلك، كما نقلها؟!

أضف إلى ذلك ما قاله الآلوسي: ( وما صدر منه من المخازي، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر )(٢) .

ثانياً: وأمّا ما ادّعاه من تعارض الشهرة بالمحكي - مع فرض صحّة المحكيّ - فلا تعارض في البين؛ لأنّنا نقول: إنّه تمثّل بالأبيات، وزاد فيها البيتين المشتملين على صريح الكفر، ومع ذلك لما رأى انقلاب الأمر وتغيّر الأوضاع، وخاف الفتنة، ورأى الزلزال في مُلكه تفوّه بهذه الكلمات؛ والدليل على ذلك ما نقله المؤلّف في هذه المقالة، أنّ يزيد تنكّر لابن زياد وقال: ( قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر )، هذا يؤيّد أنّه اتّخذ هذا الموقف بعدما ثبت لديه استنكار الرأي العام.

____________________

(١) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٢) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٣. سيأتي قوله تفصيلاً في رأيه في لعن يزيد.

٣٧

ثالثاً: إنّ الاحتياط في المسألة أن يتّخذ الإنسان موقفاً مناسباً في هذه المأساة الكبرى، إنّها فاجعة قتل الحسينعليه‌السلام ، الذي بكى الرسول على قتله قبل مقتله كراراً، ولعن قاتله مراراً، فما فعله ابن الحجر من الاحتياط هو خلاف الاحتياط.

توقّف البيهقي:

ذكر الخوارزميّ: قال شيخ السنّة أحمد بن الحسين، حول تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى: وآخر كلام يزيد لا يُشبه أوّله، ولم أكتبه من وجه يثبت مثله، فإن كان قاله فقد ضَمَّ إلى فعل الفجّار - في قتل الحسين وأهل بيته - أقوال الكفّار )(١) .

علّق العلاّمة المحمودي عليه بهذا الكلام:

( أقول: إنّ البيهقي لم يُعجبه أن يُفتّش عن كفر إمامه، كي يثبت له كفره، ويفتضح عند العقلاء، ولو كان بذل جهده حول أقوال يزيد لكان يثبت له أنّه قال بالكفر مراراً، كما عمل بأعمال الكفّار مراراً )(٢) .

مع مجاهد: ذكر سبط ابن الجوزي أنّ مجاهد قال حول أبيات ( لعبت هاشم بالملك فلا ): نافق(٣) .

وفي مقتل الخوارزمي أنّه قال: فلا نعلم الرجل إلاّ قد نافق في قوله هذا(٤) .

وللعلاّمة المحمودي تعليق في المقام أعجبني ذكره، قال:

( النفاق: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وإسراره، فإن كان قول يزيد:

لعبتْ هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٩.

(٢) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩١.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٤) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

٣٨

هو إظهار الإيمان، فما هو إظهار الكفر والإعلان به؟! وهل فرق بين قول يزيد هذا في كونه صريحاً بالكفر ببعث الرسول، وبين قول الدهريّين الذي حكى الله تعالى عنهم بقوله:( مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) (١) ؟! فكما أنّ هذا القول من الدهريّين صريح في إنكار المبدأ، كذلك قول يزيد صريح في إنكار الرسالة التي هي الركن الثاني من الدِّين، وكذلك ما حكاه الله عزّ وجلّ عن فرعون في قوله:( ... أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (٢) ، وهل يمكن لمن يعرف العربية ومعنى الكفر والنفاق أن يقول: إنّ هذا القول من فرعون ليس صريحاً في الكفر، وإنّما هو نفاق، أي إبطان الكفر؟! وما أظنّ الفرق بين الأمرين غمض على مجاهد، أو لم يعرف الفرق بينهما!

الظاهر أنّه حينما تكلّم بهذا الكلام، وفسّر الكفر الصريح بالنفاق، كان في جوّ من المعاندين التابعين للنزعات الأُمويّة، ففسّر الكفر الصريح بالكفر غير الصريح، المسمّى بالنفاق كي يستريح من مُشاغبتهم ومُجادلتهم الجاهلية. والأمر واضح غير محتاج إلى التطويل )(٣) .

جوره:

إنّ حكومة آل أبي سفيان قامت على أساس الجور والعدوان، ونجد ذروة ذلك في زمن مُلك يزيد بن معاوية؛ لأنّ اللعين لم تدُمْ سلطته إلاّ ثلاث سنين، قتل في السنة الأُولى منها الإمام الحسين وأصحابهعليهم‌السلام ، وفي السنة الثانية غزا المدينة المنوّرة، وأباحها على جنده ثلاثاً، وهم بجوار قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وسُمّيت بوقعة الحرّة - وفي الثالثة منها هدم الكعبة،

أمّا مأساة كربلاء، فقد قرأت تفاصيلها. وأمّا

____________________

(١) الجاثية: ٢٤.

(٢) النازعات: ٢٤.

(٣) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩٢.

٣٩

وقعة الحرّة وقضايا ابن الزبير، فتفاصيلها خارجة عن عهدة هذا الكتاب، إلاّ أنّنا نذكر نُبذة عن صفحة تاريخه السوداء في وقعة الحرّة.

قال سبط ابن الجوزيّ: ( وذكر المداينيّ في كتاب الحرّة عن الزهريّ قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس، من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وأمّا من لم يُعرف، من عبدٍ أو حرٍّ أو امرأة فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتّى وصلت الدماء إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وامتلأت الروضة والمسجد.

قال مجاهد: التجأ الناس إلى حُجرة رسول الله ومنبره، والسيف يعمل فيهم..

وذكر أيضاً المداينيّ عن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد الحرّة من غير زوج.

وغير المدايني يقول: عشرة آلاف امرأة.

قال الشعبيّ: أليس قد رضي يزيد بذلك وأمر به، وشكر مروان بن الحَكم على فعله؟! )(١) .

يقول ابن قتيبة: ( فوجّه يزيد مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فسار بهم حتّى نزل المدينة، فقاتل أهلها وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيّام، فهي وقعة حرّة )(٢) .

وقال اليعقوبي: ( فوجّهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرّة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً.. حتى دخلتُ المدينة فلم يبقَ بها كثير أحد إلاّ قُتل، وأباح حرم رسول الله حتّى وَلدت الأبكار لا يُعرف مَن أولدهنّ )(٣) .

وقال ابن حجر: ( فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري، وأمره أن يستبيح

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٨٩، وبعضه في الردّ على المتعصّب العنيد: ٥٤.

(٢) المعارف: ١٩٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماويّة خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأنّ الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقّبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعيّ إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفّار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.

و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال - هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحقّ و تميط الباطل - لأنزلهم بالحقّ الفاصل المميّز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصّل ما ذكره بعضهم.

و قيل: المراد بالحقّ في الآية الموت و المعنى ما نزّل الملائكة على الناس إلّا مصاحبا للحقّ الّذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنّه مأخوذ من قوله تعالى:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) الآية.

و قيل: المراد بالحقّ الرسالة أي ما نزّل الملائكة إلّا بالوحي و الرسالة و كأنّه مأخوذ من نحو قوله:( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحقّ ) النساء: ١٧٠( و قولهفَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جاءَهُمْ ) الأنعام: ٥.

فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعاً لا تخلو من شي‏ء و هو أنّ شيئاً منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ ) فنزول الملائكة لا يختصّ بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختصّ بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحقّ يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقرّرة آنفاً.

و يمكن أن يقرّر معنى الآية باستمداد من التدبّر في آيات اُخر أنّ ظرف الحياة المادّيّة أعني هذه النشأة الدنيويّة ظرف يختلط فيه الحقّ و الباطل من غير أن يتمحّض الحقّ في الظهور بجميع خواصّه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَ الْباطِلَ ) الرعد: ١٧، و قد تقدّم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شي‏ء من الحقّ إلّا و هو يحتمل شيئاً من اللبس و الشكّ كما يصدّقه

١٠١

استقراء الموارد الّتي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلّا مع إمكان التباس الحقّ بالباطل و اختلاط الخير و الشرّ بنحو حتّى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدلّ على الخير و الشرّ بآثارهما و أماراتهما ثمّ يختار ما يستحقّه من السعادة و الشقاوة.

و أمّا عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنّما هو عالم الحقّ غير مشوب بشي‏ء من الباطل كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦ و قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

فمقتضى الآيات و ما في معناها أنّهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانيّة منزّهة عن النّقص و الشين لا تحتمل الشرّ و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادّيّ المبنيّ على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعاً، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.

و سيأتي أيضاً أنّ الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحقّ ما دام متوغّلاً في هذا العالم المادّيّ متورّطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلّا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحقّ و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و هذا هو العالم الّذي يسمّى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.

فتبيّن أنّ ظهور عالم الملائكة للناس المتوغّلين في عالم المادّة متوقّف على تبدّل الظرف و الانتقال من الدّنيا إلى الآخرة و هو الموت اللّهمّ إلّا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهّرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهليّة مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياءعليهم‌السلام .

و لعلّ ما قدّمناه هو المراد بقوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا

١٠٢

إِذاً مُنْظَرِينَ ) ، فإنّهم إنّما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصليّة حتّى يصدّقوا و هذا الحال لا تتمهّد لهم إلّا بالموت كما قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ إلى أن قال يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: ٢٣.

و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدّقة للنبوّة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلّدنا الملك النبوّة و الرّسالة كان لازمه أن نصوّره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفاً يحتمل اللبس فإنّ الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهيّ و لا امتحان إلّا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصّل إلى الرسالة بما يضطرّ العقول إلى الإيمان و يلجئ النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كلّه.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردّهم القرآن بأنّه من أهذار الجنون و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته و أنّ القرآن كتاب سماويّ حقّ.

و المعنى - على هذا و الله أعلم - أنّ هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتّى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدّة بطشهم و تتكلّف لحفظه ثمّ لا تقدر، و ليس نازلاً من عند الملائكة حتّى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إيّاه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالاً تدريجيّاً و إنّا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.

فهو ذكر حيّ خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكراً لله مبيّناً لحقائق معارفه.

١٠٣

فالآية تدلّ على كون كتاب الله محفوظاً من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكراً لله سبحانه فهو ذكر حيّ خالد.

و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظاً بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرّف بأيّ وجه كان من جهة كونه ذكراً له سبحانه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ اللّام في الذكر للعهد الذكريّ و أنّ المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربّما يورد على الآية أنّها لو دلّت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذكر لدلّت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضاً لأنّ كلّا منهما ذكر مع أنّ كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.

و ذلك أنّ الآية بقرينة السياق إنّما تدلّ على حفظ الذكر الّذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علّيّة الذكر للحفظ الإلهيّ و دوران الحكم مداره.

و سنستوفي البحث عمّا يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن رفاعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنّة إلّا مسلم فيومئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثمّ قال:( ذرهم يأكلوا و يتمتّعوا و يلههم الأمل) أي شغلهم( فسوف يعلمون) .

أقول: و روى العيّاشيّ، عن عبدالله بن عطاء المكّيّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : في تفسير الآية مثله.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن

١٠٤

جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ناسا من اُمّتي يعذّبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثمّ يعيّرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحّد إلّا أخرجه الله تعالى من النار. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن أبي موسى الأشعريّ و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنّة عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أصحاب الكبائر من موحّدي الاُمم كلّها الّذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنّم لا تزرق أعينهم، و لا تسودّ وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلّون بالسلاسل، و لا يجرّعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرّم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود.

فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهراً ثمّ يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثمّ يخرج منها، و أطولهم فيها مكثاً بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.

فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضباً لم يغضبه لشي‏ء فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنّة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثمّ يدخلون الجنّة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنّميّون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنّة ما شاء الله أن يمكثوا.

ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكاً فيمحوه ثمّ

١٠٥

يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمّرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنّة بنعيمهم و لذّاتهم، و ذلك قوله:( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.

و فيه، أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرس عوداً بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإنّ هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك.

أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المجمع، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، و طول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، و طول الأمل ينسي الآخرة.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.

( كلام في أنّ القرآن مصون عن التحريف في فصول)

( الفصل ١- الاستدال علي نفي التحريف بالقرآن)

من ضروريّات التاريخ أنّ النبيّ العربيّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً - تقريباً - و ادّعى النبوّة و انتهض للدّعوة و آمن به اُمّة من العرب و غيرهم، و أنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن و ينسبه إلى ربّه متضمّن لجمل المعارف و كلّيّات الشريعة الّتي كان يدعو إليها، و كان يتحدّى به و يعدّه آية لنبوّته، و أنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الّذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في

١٠٦

الجملة بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يفقد كلّه ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه اُمور لا يرتاب في شي‏ء منها إلّا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.

و إنّما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شي‏ء يسير كالجملة أو الآية(١) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أمّا جلّ الكتاب الإلهيّ فهو على ما هو في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يضع و لم يفقد.

ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفّتين واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغيّر في شي‏ء منها أو يفوته و يفقد.

فنجده يتحدّى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شي‏ء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المرويّ عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود و القلوب.

و نجده يتحدّى بقوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلّا و يرفعه آية اُخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهّم بادئ الرأي من شطر إلّا و هناك ما يدفعه و يفسّره.

و نجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة كما في قوله:

__________________________________________________

(١) كقول بعض من غير المنتحلين بالإسلام أن قوله تعالى: ( إنّك ميّت و إنّهم ميّتون ) من وضع أبي بكر وضعه حين سمع عمر و هو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إنّ النبيّ مات فقرأها على عمر فصرفه.

١٠٧

( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) إسراء: ٨٨ و قوله:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق: ١٤ ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الّذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقيّة و كلّيّات الشرائع الفطريّة و تفاصيل الفضائل الخلقيّة من غير أن نعثر فيها على شي‏ء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شي‏ء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة و الأصل الّذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كلّ منها بالتركيب.

و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و اُممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوّة و خلوصها للعبوديّة و الطاعة و كلّما طبّقنا قصّة من القصص القرآنيّة على ما يماثلها ممّا ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.

و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدّقة.

و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنّه نور و أنّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملّة الّتي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.

و من أجمع الأوصاف الّتي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذكر لله فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة و بما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنّته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكلّ إليه سبحانه، و تفاصيل ما يؤل إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنّة و النار.

١٠٨

ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الّذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر.

و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات الّتي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى‏ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢ فذكر تعالى أنّ القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالاً و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريّته عنه.

و كقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكريّة و يبطل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه.

و من سخيف القول إرجاع ضمير( لَهُ ) إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه مدفوع بالسياق و إنّما كان المشركون يستهزؤن بالنبيّ لأجل القرآن الّذي كان يدّعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) و قد مرّ تفسير الآية.

فقد تبيّن ممّا فصّلناه أنّ القرآن الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وصفه بأنّه ذكر محفوظ على ما اُنزل مصون بصيانة إلهيّة عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيّه فيه.

و خلاصة الحجّة أنّ القرآن أنزله الله على نبيّه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصّة لو كان تغيّر في شي‏ء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثّر فقد آثار تلك الصفة قطعاً لكنّا نجد القرآن الّذي بأيدينا واجداً

١٠٩

لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئاً من صفاته فالّذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه فلو فرض سقوط شي‏ء منه أو تغيّر في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شي‏ء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النوريّة و الذكريّة و الهيمنة على سائر الكتب السماويّة إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكرّرة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.

( الفصل ٢- الاستدلال عليه بالحديث)

و يدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حلّ عقد المشكلات.

و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين:( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) الحديث فلا معنى للأمر بالتمسّك بكتاب محرّف و نفي الضلال أبداً ممّن تمسّك به.

و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في الأخبار الفقهيّة و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأنّ أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصّص.

على أنّ لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أنّ الأمر بالعرض إنّما هو لتمييز الصدق من الكذب و الحقّ من الباطل و من المعلوم أنّ الدسّ و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدسّ و الوضع في المعارف الاعتقاديّة و قصص الأنبياء و الاُمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيّد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليّات و ما يحذو حذوها ممّا أمر الجعل فيها أوضح و أبين.

١١٠

و كذا الأخبار الّتي تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمختلف الآيات القرآنيّة في كلّ باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتّى في الموارد الّتي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهمعليهم‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.

و كذا الروايات الواردة عن أميرالمؤمنين و سائر الأئمّة من ذرّيّتهعليهم‌السلام في أنّ ما بأيدي الناس قرآن نازل من عندالله سبحانه و إن كان غير ما ألّفه عليّعليه‌السلام من المصحف و لم يشركوهعليه‌السلام في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب‏ قولهمعليهم‌السلام لشيعتهم:( اقرؤا كما قرأ النّاس) .

و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألّفه عليّعليه‌السلام في شي‏ء فإنّما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات الّتي لا يؤثّر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئاً و لا في الأوصاف الّتي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختلّ به آثارها.

فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الّذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يفقد شيئاً من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.

( الفصل ٣- كلام مثبتي التحريف و جوابه)

ذهب جماعة من محدّثي الشيعة و الحشويّة و جماعة من محدّثي أهل السنّة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.

و احتجّوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.

١١١

أحدها: الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة الدالّة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأوّل الّذي اُلّف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الّذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنّة في صحاحهم كصحيحي البخاريّ و مسلم و سنن أبي داود و النسائيّ و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسيّ في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء.

و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبدالله بن مسعود المصحف المعروف ممّا ينيف على ستّين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف اُبيّ بن كعب المصحف العثمانيّ و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانيّة الّتي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكّة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الّذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفاً، و قيل: بضع و خمسين حرفاً.(١)

و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانيّة و الجمع الأوّل في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأوّل في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجي‏ء روايته.

و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبدالله بن مسعود و اُبيّ ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانيّة و غير الاختلافات القرائيّة الشاذّة الّتي رويت عن الصحابة و التابعين فربّما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.

الوجه الثاني: أنّ العقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً متشتّتاً منتشراً عند الناس و تصدّى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.

الوجه الثالث: ما روته العامّة و الخاصّة: أنّ عليّاعليه‌السلام اعتزل الناس بعد رحلة

__________________________________________________

(١) ذكره ابن طاووس في سعد السعود.

١١٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يرتد إلّا للصّلاة حتّى جمع القرآن ثمّ حمله إلى الناس و أعلمهم أنّه القرآن‏ الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد جمعه فردّوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحملة إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كانعليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتّفق عليه: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ.

الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنّه يقع في هذه الاُمّة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة، بالقذّة و قد حرّفت بنو إسرائيل كتاب نبيّهم على ما يصرّح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بدّ أن يقع نظيره في هذه الاُمّة فيحرّفوا كتاب ربّهم و هو القرآن الكريم.

ففي صحيح البخاريّ، عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا و اُمّهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟

و الرواية مستفيضة مرويّة في جوامع الحديث عن عدّة من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ - كما مرّ - و أبي هريرة و عبدالله بن عمر، و ابن عبّاس و حذيفة و عبدالله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شدّاد بن أوس و المستورد بن شدّاد في ألفاظ متقاربة.

و هي مرويّة مستفيضة من طرق الشيعة عن عدّة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في تفسير القمّيّ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتركبنّ سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة لا تخطؤن طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أوّل ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.

و الجواب عن استدلالهم بإجماع الاُمّة على نفي تحريف القرآن بالزيادة

١١٣

بأنّها حجّة مدخولة لكونها دوريّة.

بيان ذلك: أنّ الإجماع ليس في نفسه حجّة عقليّة يقينيّة بل هو عند القائلين باعتباره حجّة شرعيّة لو أفاد شيئاً من الاعتقاد فإنّما يفيد الظنّ سواء في ذلك محصّله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أنّ الإجماع المحصّل مفيد للقطع و ذلك أنّ الّذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات الّتي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلّا الظنّ بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الّذي يوافقه إليه إنّما يفيد قوّة الظنّ دون القطع لأنّ القطع اعتقاد خاصّ بسيط مغاير للظنّ و ليس بالمركّب من عدّة ظنون.

و هكذا كلّما انضمّ قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظنّ قوّة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدّم، هذا في المحصّل من الإجماع و هو الّذي نحصّله بتتبّع جميع الأقوال و الحصول على كلّ قول قول، و أمّا المنقول منه الّذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلّا الظنّ إن أفاد شيئاً من الاعتقاد.

فالإجماع حجّة ظنّيّة شرعيّة دليل اعتبارها عند أهل السنّة مثلاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تجتمع اُمّتي على خطإ أو ضلال) و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.

فحجية الإجماع بالجملة متوقّفة على صحّة النبوّة و ذلك ظاهر، و صحّة النبوّة اليوم متوقّفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصّة الإعجاز فإنّه لا دليل حيّاً خالداً على خصوص نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر لا وثوق بشي‏ء من آياته و محتوياته أنّه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجّة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجّيّة يسقط الإجماع عن الحجّيّة.

١١٤

و لا ينفع في المقام ما قدّمناه في أوّل الكلام أنّ وجود القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريّات التاريخ.

و ذلك لأنّ مجرّد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعيّ لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر في كلّ آية أو جملة اُريد التمسّك بها لإثبات مطلوب.

و الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اُقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الّذي تمسّك فيه بالأخبار:

أما أوّلاً فبأنّ التمسّك بالأخبار بما أنّها حجّة شرعيّة يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسّك بالإجماع بنظير البيان الّذي تقدّم آنفاً.

فلا يبقى للمستدلّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسناد و مصادر تاريخيّة و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعيّة تضطرّ العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرّقة متشتّتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تامّ في دلالته.

و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدسّ فإنّ انسراب الإسرائيليّات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجّيّة في خبر لا يؤمن فيه الدسّ و الوضع.

و مع الغضّ عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآنيّ بوجه، و مع الغضّ عن جميع ذلك فإنّها مخالفة للكتاب مردودة:

أمّا ما ذكرنا أنّ أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.

و أمّا ما ذكرنا أنّ منها ما هو قاصر في دلالتها فإنّ كثيراً ممّا وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرّفة و ذلك كما في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأوّل: في قول الله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ - فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب -وَ قُلْ لَهُمْ

١١٥

فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً ) .

و ما في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قال:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا - عمّا اُمرتم به -فإنّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.

و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات الّتي تذكر هذه الآية هكذا:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ - في عليّ -) و الآية نازلة في حقّهعليه‌السلام ، و ما روي: أنّ وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا:( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ - بنو تميم -أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فظنّ أنّ في الآية سقطا.

و يلحق بهذا الباب أيضاً ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا - آل محمّد حقّهم -) و ما ورد من قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ - في ولاية عليّ و الأئمّة من بعده -فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) و هي كثيرة جدّاً.

و يلحق بها أيضاً ما اُتبع فيه القراءة بشي‏ء من الذكر و الدعاء فتوهّم أنّه من سقط القرآن كما في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن التوحيد فقال: كلّ من قرأ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال:( قلت‏ ظ) كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربّي كذلك الله ربّي.

و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرّفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالّتي وردت في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) ففي بعضها أنّ الآية هكذا:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء) و في بعضها:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل) .

و هذا الاختلاف ربّما كان قرينة على أنّ المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيّده ما ورد في بعضها من قولهعليه‌السلام : لا يجوز وصفهم بأنّهم

١١٦

أذلّة و فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ربّما لم يكن إلّا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على‏ ما ورد في روايات الخاصّة و العامّة و هي في بعضها: إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة. و في بعضها: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذّة» و في بعضها آخرها:( نكالا من الله و الله عليم حكيم) و في بعضها:( نَكالًا مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

و كآية الكرسيّ على التنزيل الّتي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:( اللهُ لا إِلهَ إلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحداً( مَنْ ذَا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ - إلى قوله -وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) و الحمد لله ربّ العالمين.

و في بعضها - إلى قوله -( هُمْ فِيها خالِدُونَ ) و الحمد لله ربّ العالمين، و في بعضها هكذا:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ - و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم -) إلخ. و في بعضها:( عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام ربّ العرش العظيم) و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم.

و ما ذكره بعض المحدّثين أنّ اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتّفاقها في أصل التحريف. مردود بأنّ ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.

و أمّا ما ذكرنا من شيوع الدسّ و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الاُمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهمّ أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الّذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الّذي يأوي إليه و يتحصّن به المعارف

١١٧

الدينيّة و السند الحيّ الخالد لمنشور النبوّة و موادّ الدعوة لعلمهم بأنّه لو بطلت حجّة القرآن لفسد بذلك أمر النبوّة و اختلّ نظام الدين و لم يستقرّ من بنيته حجر على حجر.

و العجب من هؤلاء المحتجّين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيّته، و ببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى و المعارف الدينيّة لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إنّ رجلا في تاريخ كذا ادّعى النبوّة و أتى بالقرآن معجزة أمّا هو فقد مات و أمّا قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا ممّا يؤيّد أمره إلّا أنّ المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أنّ القرآن الّذي جاء به كان معجزاً دالّاً على نبوّته، و الإجماع حجّة لأنّ النبيّ المذكور اعتبر حجيّته أو لأنّه يكشف مثلاً عن قول أئمّة أهل بيته؟.

و بالجملة احتمال الدسّ - و هو قريب جدّاً مؤيّد بالشواهد و القرائن - يدفع حجّيّة هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجّيّة شرعيّة و لا حجّيّة عقلائيّة حتّى ما كان منها صحيح الأسناد فإنّ صحّة السند و عدالّة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في اُصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.

و أمّا ما ذكرناه أنّ روايات التحريف تذكر آيات و سوراً لا يشبه نظمها النظم القرآنيّ بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنّه يعثر فيها بشي‏ء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللّتين رويتا بعدّة من طرق أهل السنّة فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك و سورة الحفد هي:( بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إيّاك نعبد و لك نصلّي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق) .

و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلّد النظم القرآنيّ فخرج الكلام عن الاُسلوب العربيّ المألوف و لم يبلغ النظم الإلهيّ المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها

١١٨

حتّى تشاهد صدق ما ادّعيناه و تقضي أنّ أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنّما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنّها ليست بكلام إلهيّ نظرة.

و أمّا ما ذكرنا أنّ روايات التحريف على تقدير صحّة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرّد مخالفتها لظاهر قوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قوله:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) الآيتان حتّى تكون مخالفة ظنّيّة لكون ظهور الألفاظ من الأدلّة الظنّيّة بل المراد مخالفتها للدلالة القطعيّة من مجموع القرآن الّذي بأيدينا حسب ما قرّرناه في الحجّة الاُولى الّتي أقمناها لنفي التحريف.

كيف لا؟ و القرآن الّذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقيّة و علومه الإلهيّة الكلّيّة و الجزئيّة المرتبطة بعضها ببعض المترتّبة فروعها على اُصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواصّ النظم القرآنيّ الّذي وصفه الله بها.

و الجواب عن الوجه الثاني أنّ دعوى الامتناع العاديّ مجازفة بيّنة نعم يجوّز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلّا أن تقوم قرائن تدلّ على ذلك و هي قائمة كما قدّمنا، و أمّا أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العاديّ فلا.

و الجواب عن الوجه الثالث أنّ جمعهعليه‌السلام القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شي‏ء من الحقّائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعيّة إلّا أن يكون في شي‏ء من ترتيب السور أو الآيات من السور الّتي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرّد إعراضهم عمّا جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنهعليه‌السلام في موارد شتّى و لم ينقل عنهعليه‌السلام فيما

١١٩

روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، و جبّههم على إسقاطها أو تحريفها.

و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرّزاً عن شقّ العصا فإنّما كان يتصوّر ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.

و ليت شعري هل يسعنا أن ندّعي أنّ ذاك الجمّ الغفير من الآيات الّتي يرون سقوطها و ربّما ادّعوا أنّها تبلغ الاُلوف كانت جميعاً في الولاية أو كانت خفيّة مستورة عن عامّة المسلمين لا يعرفها إلّا النزر القليل منهم مع توفّر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلّما نزل و تعلّمه و بلوغ اجتهاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نصّ على ذلك القرآن قال تعالى:( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ و قال:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤ فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنّه سقط في آية من أوّل سورة النساء بين قوله:( وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) و قوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنّة أنّ سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أنّ الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.

أو أنّ هذه الآيات - و قد دلّت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسّرين من أهل السنّة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أنّ من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.

فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدّة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسّمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتّى أبطلها الله بإمحاء

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460