مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234409 / تحميل: 8791
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وبعد قتل عثمان تستّر بقميصه، وبه رسّخ أركان حُكمه وحكومة أُسرته، وبثّ الفتنة في أوساط المجتمع الإسلامي، وحمل راية الشقاق والخلاف ضدّ خليفة المسلمين الشرعي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

قال في الخُطط: ( اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان؛ ليعيد الأمر إلى بني أُميّة ويُصبحوا أُمراء في الإسلام!.. وكان النعمان بن بشير أتاه إلى دمشق بقميص عثمان الذي قُتل فيه مُخضّباً بدمه، وبأصابع نائلة زوجته، فوضع القميص على منبر دمشق، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع مُعلّقة في أردانه، وتعاهد الرجال من أهل الشام على قتل قتلة عثمان ومَن عرض دونهم بشيء أو تُفنى أرواحهم، وكان ستّون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان.. وكان عمرو بن العاص - لما نشب الناس في أمر عثمان - في ضيعة له بالسبع من حيّز فلسطين قد اعتزل الفتنة! فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه، ووعده بمُلك مصر إن هو ظفر بعليّ، فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكنديّ رأس أهل الشام، فسار هذا يستقري مدنها مدينةً مدينةً، يُحرّض الناس على الأخذ بدم عثمان، فأجابه الناس كلّهم إلاّ نفراً من أهل حمص نُسَّاكاً، فإنّهم قالوا: نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منّا... )(١) .

ومن هنا انطلقت شرارة حرب صِفِّين، ولا مجال لذكر تفاصيلها الآن.

إسلام أُمويّ وحكم دمويّ!

هنا إسلام أُمويّ ينطق بمنطق القهر والقوّة، برهانه السلاح، ودليله قمع كلّ مَن يقوم بالكفاح، يُنفّذه أرباب السلطة والسيف، ويُزيِّنه البائعون دينهم بدنياهم، المشترون سخط الخالق برضى المخلوق.

____________________

(١) خُطط الشام ١/ ١٠٥.

٢١

ترى مظاهر الإسلام من الصلاة والصوم والحجّ و..، لكنّها قشر بلا لُبٍّ، وجسد بلا روح؛ فالطليق ابن الطليق يدّعي الخلافة الإسلامية، ولا يعرف الناس حقّ عليّعليه‌السلام حتى تشتبه المسألة على العامّة ويتأوّه أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذه الكلمات:

( فيا عجباً للدهر! إذ صِرتُ يُقرن بي مَن لم يسعَ بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يُدلي أحدٌ بمثلها... )(١) .

وللمال دوره الهامّ في تثبيت ما يُريده الحُكّام؛ فلقد بثّوه ووزّعوه على أوساط الضعفاء والمحبّين لحلاوة الدُّنيا، الناسين مرارة حساب العُقبى، فأصبحوا ساكتين صامتين، كأن لم يحصل شيء ولم يحدث أيّ أمر!

( خَطَبَ معاوية يوماً بمسجد دمشق، وفي الجامع يومئذٍ من الوفود علماء قريش وخطباء ربيعة ومدارهها، وصناديد اليمن وملوكها، فقال معاوية: إنّ الله تعالى أكرم خلفاءه فأوجب لهم الجنّة، فأنقذهم من النار، ثمّ جعلني منهم! وجعل أنصاري أهل الشام، الذابّين عن حرم الله! المؤيَّدين بظفر الله! المنصورين على أعداء الله!!...

وفي الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان، فقال الأحنف لصعصعة: (أتكفيني أم أقوم أنا إليه؟ (فقال صعصعة:) بل أكفيكه أنا )، ثمّ قام صعصعة فقال: يا بن أبي سفيان، تكلّمت فأبلغت ولم تُقصِّر دون ما أردت، وكيف يكون ما تقول وقد غَلَبْتنا قسراً وملكتنا تجبُّراً ودِنتنا بغير الحقّ، واستوليت بأسباب الفضل علينا؟!

فأمّا إطراؤك أهل الشام، فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم! قوم ابتعتَ منهم دينهم وأبدانهم بالمال، فإن أعطيتهم حاموا عنك ونصروك! وإن

____________________

(١) نهج البلاغة، كتاب ٩.

٢٢

منعتهم قعدوا عنك ورفضوك... )(١) .

وأكثروا وضع الأحاديث في فضل الشام، حتّى كأن ليس لله تعالى بشيء من الأرض حاجة إلاّ بها - كما قال محمد الصغاني(٢) - ونشروا لزوم اتّباع كلّ أمير وحُرمة الخروج عليه، ودعوا إلى الصلاة خلف كلّ إمام، برّاً كان أو فاجراً، وبثّوا فضل الغزو في البحر، وتركوا الواقع الثابت، وصار حُبّ عليّ وآله أكبر جُرم لا يُغتفر، وسبُّه على المنابر يجهر(٣) .

نعم، إنّ معاوية تمكّن من بسط حُكمه الجائر، بفضل المال الوافر، وحدّة سيفه الشاهر، وقتله الأفاضل من الصحابة والتابعين الأكابر، مثل عمرو بن الحمق، وحجر بن عديّ وأصحابه، كما احتجّ به الإمام الحسينعليه‌السلام في ضمن رسالته التي أرسلها إلى معاوية:

( ألستَ قاتل حجر بن عديّ أخي كندة وأصحابه الصالحين العابدين، كانوا يُنكرون الظلم ويستعظمون المنكر والبِدَع، ويؤثرون حُكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكَّدة، لا تأخذهم بحدَث كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في صدرك عليهم؟!

أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفّرت لونه ونحّلت جسمه بعد أن أمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجل

____________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسي، ٥، ح٤، المجلس الأوّل.

(٢) دائرة المعارف ١٠/ ٣٩٤.

(٣) للمزيد من معرفة الوثائق والتفاصيل حول هذا الموضوع راجع الجزء الأول من هذه الموسوعة: الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة، تأليف: علي الشاوي، ص١١٦ - ١٢٨.

٢٣

وميثاقه ما لو أعطيته العُصْم ففهمته لنزلت إليك من شغف الجبال، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ، واستخفافاً بذلك العهد؟! ...

أوَ لست صاحب الحضرميّين، الذين كتب إليك فيهم ابن سميّة: أنّهم على دين عليّ ورأيه. فكتبت إليه: اقتل كلَّ مَن كان على دين عليّ ورأيه. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ - والله - وابن عليّ الذي كان يضرب عليه أباك... )(١) .

فبمنطق القوّة أخذ معاوية البيعة لولَده يزيد، كما اعترف بذلك الجميع، ومنهم صاحب خُطط الشام بقوله:

( أوعز معاوية سرّاً إلى ولاة الأمصار، أن يوفِدوا الوفود إليه يُزيّنون له إعطاء العهد لابنه يزيد، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعوه، والسيوف مسلولة - فيما قيل - على رقاب الصحابة في مسجد الرسول، وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها، وجعلها كالملك يورِّثها الأب ابنه أو مَن يراه أهلاً لها من خاصّته، أو كسرويّة أو قيصريّة، على سنّة كسرى وقيصر كما قالوا )(٢) .

ذكر علماء السِّيَر، عن الحسن البصريّ أنّه قال: ( قد كانت في معاوية هنات لو لقي أهل الأرض ببعضها لكفاهم: وثُوبه على هذا الأمر واقتطاعه من غير مشورة من المسلمين، وادّعاؤه زياداً، وقتله حجر بن عديّ وأصحابه، وبتوليته مثل يزيد على الناس )(٣) .

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ٢/ ٩٠ - ٩١.

(٢) خُطط الشام ١/ ١٠٩.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٨٦.

٢٤

مَن هو يزيد؟

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأُمّه ميسون بنت بجدل بن دلجة بن قنافة أحد بني حارثة بن جناب.

ولِد سنة ٢٥هـ، وكان آدم جعداً مهضوماً أحور العين، بوجهه آثار جدريّ، حسن اللحية خفيفها(١) .

لهوه:

قال البلاذريّ: ( المدائني والهيثم وغيرهما قالوا: كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه أبا قيس، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل، أصاب خطيئة فمُسخ، وكان يسقيه النبيذ ويضحك ممّا يصنع! وكان يحمله على أتان وحشيّة ويُرسلها مع الخيل فيسبقها، فحمله عليها يوماً وجعل يقول:

تمسَّك أبا قيس بفضل عنانها

فليس عليها إن هلكت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلَّها

وخيل أمير المؤمنين أتان

قال المسعودي: وكان على أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مُشمّر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش مُلمع بأنواع الألوان.

قالوا: وكان يزيد همّ بالحجّ ثمّ إتيان اليمن، فقال رجل من تنوخ:

يزيد صديق القرد ملَّ جوارنا

فحنَّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود )(٢)

وروى الباعوني نحوه عن الفوطي في تاريخه، وفيه: أنّ يزيد كان يسقي قرده

____________________

(١) العقد الفريد ٥/ ١٢٤. ونحوه في: الجوهر الثمين: ٨٠؛ التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٢) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٥

فضل كأسه، وفيه أيضاً: وجاء يوماً سابقاً فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، وأمر أهل الشام أن يُعزّوه فيه! وأنشأ يقول:

كمْ قوم كـرام ذو مـحافظة

إلاّ أتـانا يُـعزّي فـي أبـي قيس

شـيخ الـعشيرة أمـضاها وأجملها

إلى المساعي على الترقوس والريس

لا يُـبعد الله قـبراً أنـت سـاكنه

فـيه جـمال وفيه لحية التيس(١)

فسقه:

قال ابن الصبان: ( وأمّا فسقه فقد أجمعوا عليه )(٢) .

روى السيّد ابن طاووس، عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال:( لما أتوا برأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين عليه‌السلام ويضعه بين يديه ويشرب عليه ) (٣) .

وفي التنبيه والإشراف: ( كان (يزيد) يُبادر بلذَّته، ويُجاهر بمعصيته، ويستحسن خطأه، ويهوّن الأمور على نفسه في دينه إذا صحّت له دنياه )(٤) .

وعن المدائني: كان يزيد يُنادم على الشراب سرجون مولى معاوية، وليزيد شعر منه قوله:

ولها بالماطرون إذا

أكل النمل الذي جمعا

منزل حتّى إذا ارتبعت

سكنت من جلّق بيعا

في جنان ثَمّ مؤنقة

حولها الزيتون قد ينعا(٥)

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٣.

(٢) إسعاف الراغبين: ١٩٣.

(٣) الملهوف: ٢٢٠.

(٤) التنبيه والإشراف: ٢٦٤.

(٥) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠١.

٢٦

وقال المسعوديّ: ( وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومثالب كثيرة، من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول، ولعن الوصيّ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء، والفسق، والفجور... )(١) .

وقال الكيا الهراسي في شأنه: ( لو مُددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل... كيف لا وهو اللاّعب بالنرد والمتصيّد بالفهود ومُدمن الخمر؟!... )(٢) .

وقال الذهبي: ( كان ناصبيّاً فظّاً، يتناول المسكر ويفعل المنكر... )(٣) .

وقال أبو علي مسكويه الرازي: ( وظهر في المدينة، أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يُشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتّى خلعوه وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل )(٤) .

وعن ابن حجر: ( أنّ يزيد قد بلغ من قبايح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه )(٥) .

قال المسعودي: ( ولما شمل الناس جورُ يزيد وعمّاله، وعمّهم ظلمه وما ظهر من فسقه، من قتله ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيّته، وأنصف منه لخاصّته وعامّته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم، وهو عثمان بن محمّد بن أبي سفيان، ومروان بن الحَكم، وسائر بني أُميّة )(٦) .

____________________

(١) مروج الذهب ٣/ ٧٢.

(٢) هامش تاريخ نيسابور: ٥٩٨ في ترجمته.

(٣) شذرات الذهب ١/٦٨.

(٤) تجارب الأُمم ٢/ ٧٦

(٥) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨ عن شرح الهمزية لابن حجر.

(٦) مروج الذهب ٣/ ٦٨.

٢٧

وقال المنذر بن الزبير - لما قدم المدينة -: ( إنّ يزيد قد أجازني بمئة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أُخبركم خبره، والله، إنّه ليشرب الخمر، والله، إنّه ليسكر حتّى يدَع الصلاة )(١) .

قال اب ن حجر: ( وعلى القول: بأنّه مُسلم. فهو فاسق شرّير سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

وذكر البلاذري في أنساب الأشراف: ( وذكر لي شيخ من أهل الشام: أنّ سبب وفاة يزيد، أنّه حمل قرده على الأتان وهو سكران، ثمّ ركض خلفها فاندقّت عنقه أو انقطع في جوفه شيء )(٣) .

كتب الأستاذ عبّاس محمود العقّاد: ( الروايات لم تُجمِع على شيء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذّات، وتوانيه عن العظائم.. وقد مات بذات الجنب وهو لما يتجاوز السابعة والثلاثين، ولعلّها إصابة الكبد من إدمان الشراب، والإفراط في اللذات، ولا يُعقل أن يكون هذا كلّه اختلاقاً واختراعاً من الأعداء؛ لأنّ الناس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص، وهما بغيضان أشدّ البغض إلى أعداء الأُمويّين..؛ ولأنّ الذين حاولوا ستره من خدّام دولته لم يُحاولوا الثناء على مناقب فيه تحلّ عندهم محلّ مساوئه وعيوبه، كأنّ الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان، ولم يكن هذا التخلّف في يزيد من هزال في البُنية أو سقم اعتراه كذلك السقم الذي يعتري أحياناً بقايا السلالات التي تهمُّ بالانقراض والدثور، ولكنّه كان هزالاً في الأخلاق وسقماً في الطويّة.. قعد به العظائم مع

____________________

(١) الغدير ١٠/ ٢٥٦ عن كامل ابن الأثير ٤/ ٤٥، وتاريخ ابن كثير ٨/ ٢١٦.

(٢) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٣) أنساب الأشراف ٥/ ٣٠٠.

٢٨

وثوق بنيانه، وضخامة جثمانه، واتّصافه ببعض الصفات الجسدية التي تزيد في وجاهة الأُمراء، كالوسامة وارتفاع القامة، وقد أُصيب في صباه بمرض خطير - وهو الجدريّ - بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنّه مرض كان يشيع في البادية، ولم يكن من دأبه أن يقعد بكلّ مَن أُصيب به عن الطموح والكفاح )(١) .

كفره:

(الارتداد هو الكفر بعد الإسلام، ويتحقّق بالبيّنة، وبالإقرار على النفس بالخروج من الإسلام، أو ببعض أنواع الكفر - وبكلّ فعل دالّ صريحاً على الاستهزاء بالدِّين والاستهانة به ورفع اليد عنه - وبالقول الدالّ صريحاً على جحد ما عُلم ثبوته من الدِّين ضرورة أو على اعتقاده ما يحرم اعتقاده بالضرورة من الدِّين... )(٢) .

إذا حكمنا بظاهر الإسلام في حقّ أبي سفيان ومعاوية بعد فتح مكّة - وإن كان للتوقّف في ذلك مجال واسع، تؤيّده الشواهد التاريخية في حياتهما السوداء - فإنّنا نحكم بارتداد يزيد عنه؛ وذلك استناداً إلى أشعاره التي أفصح بها عن الإلحاد، وأبان عن خبث ضميره وعدم الاعتقاد، وفيها:

لـعبتْ هـاشم بـالملك فلا

خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ولـقالوا يـا يـزيد لا تُشل

فـجـزيناهم بـبدرٍ مـثلها

وأقـمنا مـثل بـدرٍ فاعتدل

____________________

(١) أبو الشهداء الحسين بن علي: ٦٨.

(٢) أُنظر جواهر الكلام ٤١/ ٦٠٠ - ٦٠١.

٢٩

لستُ من خِندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل(١)

وفيها:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني(٢)

ما قالته زينب الكبرى:

وأوّل مَن استند إلى أشعاره وأثبت كفره - في مجلسه وأمامه - هي العقيلة زينب الكبرى، بنت الإمام أمير المؤمنينعليهما‌السلام التي وصفها الإمام زين العابدينعليه‌السلام : بأنّها(... عالمة غير مُعلَّمة... ) (٣) . فإنّها قالت ليزيد: ( أنسِيتَ قول الله عزّ وجلّ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (٤) .. ولا غرو منك ولا عجب من فعلك، وأنّى يُرتجى الخير ممّن لفظ فوه أكباد الشهداء! ونبت لحمه بدماء الشهداء! ونبت لحمه بدماء السعداء! ونصب الحرب لسيّد الأنبياء! وجمعَ الأحزاب! وشهرَ الحراب! وهزّ السيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! أشدّ العرب لله جحوداً! وأنكرهم لرسوله! وأظهرهم له عدواناً وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً! ألا إنّها نتيجة خِلال الكفر! وضبّ يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر! فلا يستبطئ في بغضنا أهلَ البيت مَن كان نظره إلينا شنفاً وشنآناً وإحناً وأضغاناً! يُظهر كفره برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! ويُفصح ذلك بلسانك وهو يقول - فرحاً بقتل ولده وسبي ذرّيته - غير متحوّب ولا مُستعظم، يهتف بأشياخه:

____________________

(١) يأتي الكلام حول أشعاره وتمثُّله بأبيات ابن الزبعرى مُفصّلاً.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) العوالم ١٧/ ٣٧٠.

(٤) آل عمران: ١٧٨.

٣٠

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ولقالوا يا يزيد لا تُشل

مُنتحياً على ثنايا أبي عبد الله - وكان مُقبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ينكتها بمِخصرته، وقد التمع السرور بوجهه، لعَمْرِي، لقد نكأتَ القرحة، واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دمَ سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطّلب، وهتفتَ بأشياخك، وتقرّبتَ بدمه إلى الكفرة من أسلافك... )(١) .

ما قاله بعض الصحابة:

واستند إلى تلك الأبيات بعض الصحابة، وأثبت ارتداد يزيد بتمثّله لها.

ذكر ابن عبد ربّه: ( بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحُد: ليت أشياخي... الأبيات.

فقال له رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ارتددت عن الإسلام - يا أمير المؤمنين -؟ قال: ( بلى، نستغفر الله )، قال: ( والله، لا ساكنتك أرضاً أبداً ). وخرج عنه )(٢) .

أقوال العلماء في كفره:

صرّح كثير من العلماء والمؤرِّخين، وأرباب الفكر بكفر يزيد بن معاوية، نكتفي بذكر بعضهم:

رأي الإمام أحمد بن حنبل:

قال الشبراوي: ( قال العلاّمة ابن حجر في شرح الهمزية: إنّ يزيد قد بلغ من قبائح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً، لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه، بل قال الإمام أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به علماً وورعاً يقضيان، بأنّه لم يقل ذلك إلاّ لقضايا وقعت منه صريحة في ذلك ثبتت

____________________

(١) الاحتجاج ٢/ ١٢٤ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٨.

(٢) العقد الفريد ٥/ ١٣٩.

٣١

عنده )(١) .

رأي ابن القفطي:

قال الباعوني: ( وذكر ابن القفطي في تأريخه قال: إنّ السبي لما ورد على يزيد بن معاوية خرج لتلقّيه، فلقي الأطفال والنساء من ذرّية علي والحسن والحسين، والرؤوس على أسنّة الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة العقاب، فلما رآهم أنشد:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرقت

تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني بذلك: أنّه قتل الحسين بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، مثل عُتبة جدّه ومَن مضى من أسلافه، وقائل مثل هذا بريء من الإسلام، ولا يُشكّ في كفره )(٢) .

رأي الباعوني:

قال: وما أظنّ أنّ مَن استحلّ ذلك ( قتل الحسينعليه‌السلام )، وسلك مع أهل النبيّ هذه المسالك شمّ ريحة الإسلام، ولا آمن بمحمّد عليه الصلاة والسلام، ولا خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولا آمن طرفة [عين] بربّه، والقيامة تجمعهم وإلى ربّهم مرجعهم.

ستعلم ليلى أيّ دين تداينت

وأيّ غريمٍ في التقاضي غريمها(٣)

رأي ابن عقيل:

ذكر سبط ابن الجوزيّ، عن ابن عقيل أنّه قال: وممّا يدلّ على كفره (يزيد) وزندقته - فضلاً عن سبّه ولعنه - أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٨.

(٢) جواهر المطالب ٢/ ٣٠٠.

(٣) المصدر ٢/ ٣١١.

٣٢

عـليّة هـاتي واعـلني وتـرنَّمي

بـدلّـك إنّـي لا أُحـبّ الـتناجيا

حـديث أبـي سفيان قِدْماً سمى بها

إلـى أُحُـدٍ حـتّى أقـام الـبواكيا

ألا هـات فـاسقيني على ذاك قهوةً

تـخيَّرها الـعنسي كـرماً شـاميا

إذا مـا نـظرنا فـي أُمـورٍ قديمة

وجـدنا حـلالاً شـربها مُـتواليا

وإن مُـتّ يـا أُمّ الأُحيمر فانكحي

ولا تـأملي بـعد الـفراق تـلاقيا

فـإنّ الـذي حُـدِّثْتِ عن يوم بعثنا

أحـاديث طسم تجعل القلب ساهيا

ولابـدّ لـي مـن أن أزور محمّداً

بمشمولة صفراء تروي عظاميا(١)

رأي اليافعي:

وعن اليافعي: وأمّا حُكم مَن قتل الحسين، أو أمر بقتله ممّن استحلّ ذلك فهو كافر، وإن لم يستحلّ ففاسق فاجر، والله أعلم(٢) .

رأي القاضي أبي يعلى وابن الجوزي:

قال الآلوسيّ: وقد جزم بكفره - أي يزيد بن معاوية - وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم الحافظ ناصر السنّة ابن الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى(٣) .

رأي الكيا الهراسي:

قال: هو (يزيد) اللاّعب بالنرد، المتصيّد بالفهد، والتارك للصلوات، والمدمن للخمر، والقاتل لأهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمصرّح في شعره بالكفر الصريح(٤) .

رأي سبط ابن الجوزي:

قال سبط ابن الجوزيّ - بعد ذكره استناد ابن عقيل

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩٠.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

(٣) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٤) جواهر المطالب ٢/ ٣٠١.

٣٣

بأشعار يزيد على كفره وزندقته(١) - قلت: ومنها قوله:

ولو لم يمسَّ الأرض فاضل بردها

لما كان عندي مَسحة في التيمّم

ومنها: لما بدت تلك الحمول وأشرقت - وقد ذكرناها -.

ومنها قوله:

مـعشر الـنُّدمان قوموا

واسمعوا صوت الأغاني

واشـربوا كـأس مدام

واتـركوا ذكر المغاني

أشـغلتْني نغمة العيدان

عن صـوت الأذانِ

وتـعوّضتُ عن الحور

خـموراً فـي الـدنان

إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه، ولهذا تطرّق إلى هذه الأُمّة العار بولايته عليها، حتّى قال أبو العلاء المعرّي - يُشير بالشنار إليها -:

أرى الأيّام تفعل كلّ نُكر

فما أنا في العجائب مُستزيد

أليس قريشكم قتلت حسيناً

وكان على خلافتكم يزيد

رأي ابن عساكر:

حُكي عن ابن عساكر أنّه قال: نُسب إلى يزيد قصيدة منها:

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لـعبت هـاشم بـالملك فلا

مَـلَكٌ جـاء ولا وحيٌ نزل

فإن صحّت عنه فهو كافر بلا ريب، انتهى معناه(٢) .

رأي الأجهوري:

قال: وقد اختار الإمام محمّد بن عرفة والمحقّقون من أتباعه

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٩١.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٨.

٣٤

كفر الحجّاج، ولا شكّ أنّ جريمته كجريمة يزيد، بل دونها(١) .

رأي السعد التفتازاني:

قال: والحقّ أنّ رضى يزيد بقتل الحسين، وإهانته أهل بيت رسول الله ممّا تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً، فنحن لا نتوقّف في شأنه، بل في إيمانه، فلعنة الله عليه، وعلى أنصاره، وعلى أعوانه.

قال الشبراويّ: وقول السعد: بل في إيمانه. أي بل لا نتوقّف في عدم إيمانه، بقرينة ما بعده وما قبله(٢) .

رأي الحافظ البدخشاني:

قال: وجعل (يزيد) ينكت رأسه ( الحسينعليه‌السلام ) بالخيزران، وأنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا إلى آخره، والأبيات مشهورة، وزاد فيها بيتين مُشتملين على صريح الكفر(٣) .

رأي الشبراوي:

قال - بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى -: خزّاه الله في هذه الأبيات، إن كانت صحيحة، فقد كفر فيها بإنكار الرسالة(٤) .

رأي الآلوسي:

قال في تفسيره: وفي تاريخ ابن الوردي، وكتاب الوافي بالوفيات: أنّ السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرّية عليّ والحسين (رضي الله تعالى عنهما)، والرؤوس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة جيرون، فلما رآهم نعب غراب، فأنشأ يقول:

لما بدتْ تلك الحمول وأشرفتْ

تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

____________________

(١) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٧.

(٢) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٦٢، تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٢.

(٣) نزل الأبرار: ١٥٩.

(٤) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٧.

٣٥

يعني أنّه قتل بمَن قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، كجدّه عتبة وخالد ولد عتبة وغيرهما، وهكذا كفر صريح، فإذا صحّ عنه فقد كفر به، ومثله تمثّله بقول عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه: ليت أشياخي... الأبيات..

رأي عبد الباقي أفندي العمري:

أشار إلى أبيات يزيد، شاعرُ العراق عبد الباقي أفندي العمري، فيما حُكي عن الباقيات الصالحات بقوله:

نقطع في تكفيره إن صحّ ما

قد قال للغراب لما نعبا(١)

تأمُّل ابن حجر:

تأمَّل ابن حجر في صواعقه، واتّخذ طريقاً آخر حول هذه المسألة، قال: ( اعلم أنّ أهل السنّة اختلفوا في تكفير يزيد بن معاوية ووليِّ عهده من بعده، فقالت طائفة: إنّه كافر؛ لقول سبط ابن الجوزي - وغيره المشهور -: إنّه لما جاءه رأس الحسين (رضي الله عنه)، جمع أهل الشام وجعل ينكت رأسه بالخيزران، ويُنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا الأبيات المعروفة، وزاد فيهما بيتين مُشتملين على صريح الكفر.. وقالت طائفة: ليس بكافر؛ لأنّ الأسباب الموجبة للكفر لم يثبت عندنا منها شيء، والأصل بقاؤه على إسلامه حتّى يُعلم ما يُخرِجه عنه، وما سبق أنّه المشهور يُعارضه ما حُكي أنّ يزيد لما وصل إليه رأس الحسين قال: رحمك الله يا حسين، لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام، وتنكّر لابن زياد، وقال: قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر. وردّ نساء الحسين ومَن بقي من بنيه مع رأسه إلى المدينة ليُدفن الرأس بها.

وأنت خبير بأنّه لم يثبت موجب واحدة من المقالتين، والأصل أنّه مُسلم،

____________________

(١) هامش الإتحاف: ٥٦.

٣٦

فنأخذ بذلك الأصل حتّى يثبت عندنا ما يوجب الإخراج عنه؛ ومن ثَمّ قال جماعة من المحقّقين: إنّ الطريقة الثابتة القويمة في شأنه، التوقّف فيه وتفويض أمره إلى الله سبحانه؛ لأنّه العالم بالخفيّات والمطّلع على مكنونات السرائر وهواجس الضمائر، فلا نتعرّض لتكفيره أصلاً؛ لأنّ هذا هو الأحرى والأسلم، وعلى القول: بأنّه مسلم، فهو فاسق شرّير، سكّير جائر، كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

نقول: إنّ هذه الطريقة غير قويمة؛ وذلك لعدّة أمور:

أوّلاً: إنّه بعدما نقل المؤلّف الشهرة في المقام عن سبط ابن الجوزيّ وغيره، بزيادة يزيد بيتين مُشتملين على صريح الكفر، فلا مجال له أن يقول: والأصل أنّه مسلم، فنأخذ بذلك حتى يثبت عندنا ما يوجبه الإخراج.

فأيّ موجب أدلّ من كلامه الصريح، ولو لا التواتر في النقل فالشهرة القائمة كافية لإثبات ذلك، كما نقلها؟!

أضف إلى ذلك ما قاله الآلوسي: ( وما صدر منه من المخازي، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر )(٢) .

ثانياً: وأمّا ما ادّعاه من تعارض الشهرة بالمحكي - مع فرض صحّة المحكيّ - فلا تعارض في البين؛ لأنّنا نقول: إنّه تمثّل بالأبيات، وزاد فيها البيتين المشتملين على صريح الكفر، ومع ذلك لما رأى انقلاب الأمر وتغيّر الأوضاع، وخاف الفتنة، ورأى الزلزال في مُلكه تفوّه بهذه الكلمات؛ والدليل على ذلك ما نقله المؤلّف في هذه المقالة، أنّ يزيد تنكّر لابن زياد وقال: ( قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر )، هذا يؤيّد أنّه اتّخذ هذا الموقف بعدما ثبت لديه استنكار الرأي العام.

____________________

(١) الصواعق المحرقة: ٣٣٠.

(٢) تفسير روح المعاني ٢٦/ ٧٣. سيأتي قوله تفصيلاً في رأيه في لعن يزيد.

٣٧

ثالثاً: إنّ الاحتياط في المسألة أن يتّخذ الإنسان موقفاً مناسباً في هذه المأساة الكبرى، إنّها فاجعة قتل الحسينعليه‌السلام ، الذي بكى الرسول على قتله قبل مقتله كراراً، ولعن قاتله مراراً، فما فعله ابن الحجر من الاحتياط هو خلاف الاحتياط.

توقّف البيهقي:

ذكر الخوارزميّ: قال شيخ السنّة أحمد بن الحسين، حول تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى: وآخر كلام يزيد لا يُشبه أوّله، ولم أكتبه من وجه يثبت مثله، فإن كان قاله فقد ضَمَّ إلى فعل الفجّار - في قتل الحسين وأهل بيته - أقوال الكفّار )(١) .

علّق العلاّمة المحمودي عليه بهذا الكلام:

( أقول: إنّ البيهقي لم يُعجبه أن يُفتّش عن كفر إمامه، كي يثبت له كفره، ويفتضح عند العقلاء، ولو كان بذل جهده حول أقوال يزيد لكان يثبت له أنّه قال بالكفر مراراً، كما عمل بأعمال الكفّار مراراً )(٢) .

مع مجاهد: ذكر سبط ابن الجوزي أنّ مجاهد قال حول أبيات ( لعبت هاشم بالملك فلا ): نافق(٣) .

وفي مقتل الخوارزمي أنّه قال: فلا نعلم الرجل إلاّ قد نافق في قوله هذا(٤) .

وللعلاّمة المحمودي تعليق في المقام أعجبني ذكره، قال:

( النفاق: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وإسراره، فإن كان قول يزيد:

لعبتْ هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٩.

(٢) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩١.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٦١.

(٤) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

٣٨

هو إظهار الإيمان، فما هو إظهار الكفر والإعلان به؟! وهل فرق بين قول يزيد هذا في كونه صريحاً بالكفر ببعث الرسول، وبين قول الدهريّين الذي حكى الله تعالى عنهم بقوله:( مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) (١) ؟! فكما أنّ هذا القول من الدهريّين صريح في إنكار المبدأ، كذلك قول يزيد صريح في إنكار الرسالة التي هي الركن الثاني من الدِّين، وكذلك ما حكاه الله عزّ وجلّ عن فرعون في قوله:( ... أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (٢) ، وهل يمكن لمن يعرف العربية ومعنى الكفر والنفاق أن يقول: إنّ هذا القول من فرعون ليس صريحاً في الكفر، وإنّما هو نفاق، أي إبطان الكفر؟! وما أظنّ الفرق بين الأمرين غمض على مجاهد، أو لم يعرف الفرق بينهما!

الظاهر أنّه حينما تكلّم بهذا الكلام، وفسّر الكفر الصريح بالنفاق، كان في جوّ من المعاندين التابعين للنزعات الأُمويّة، ففسّر الكفر الصريح بالكفر غير الصريح، المسمّى بالنفاق كي يستريح من مُشاغبتهم ومُجادلتهم الجاهلية. والأمر واضح غير محتاج إلى التطويل )(٣) .

جوره:

إنّ حكومة آل أبي سفيان قامت على أساس الجور والعدوان، ونجد ذروة ذلك في زمن مُلك يزيد بن معاوية؛ لأنّ اللعين لم تدُمْ سلطته إلاّ ثلاث سنين، قتل في السنة الأُولى منها الإمام الحسين وأصحابهعليهم‌السلام ، وفي السنة الثانية غزا المدينة المنوّرة، وأباحها على جنده ثلاثاً، وهم بجوار قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وسُمّيت بوقعة الحرّة - وفي الثالثة منها هدم الكعبة،

أمّا مأساة كربلاء، فقد قرأت تفاصيلها. وأمّا

____________________

(١) الجاثية: ٢٤.

(٢) النازعات: ٢٤.

(٣) عبرات المصطفين ٢/ ٢٩٢.

٣٩

وقعة الحرّة وقضايا ابن الزبير، فتفاصيلها خارجة عن عهدة هذا الكتاب، إلاّ أنّنا نذكر نُبذة عن صفحة تاريخه السوداء في وقعة الحرّة.

قال سبط ابن الجوزيّ: ( وذكر المداينيّ في كتاب الحرّة عن الزهريّ قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس، من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وأمّا من لم يُعرف، من عبدٍ أو حرٍّ أو امرأة فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتّى وصلت الدماء إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وامتلأت الروضة والمسجد.

قال مجاهد: التجأ الناس إلى حُجرة رسول الله ومنبره، والسيف يعمل فيهم..

وذكر أيضاً المداينيّ عن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد الحرّة من غير زوج.

وغير المدايني يقول: عشرة آلاف امرأة.

قال الشعبيّ: أليس قد رضي يزيد بذلك وأمر به، وشكر مروان بن الحَكم على فعله؟! )(١) .

يقول ابن قتيبة: ( فوجّه يزيد مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فسار بهم حتّى نزل المدينة، فقاتل أهلها وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيّام، فهي وقعة حرّة )(٢) .

وقال اليعقوبي: ( فوجّهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرّة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً.. حتى دخلتُ المدينة فلم يبقَ بها كثير أحد إلاّ قُتل، وأباح حرم رسول الله حتّى وَلدت الأبكار لا يُعرف مَن أولدهنّ )(٣) .

وقال ابن حجر: ( فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري، وأمره أن يستبيح

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٨٩، وبعضه في الردّ على المتعصّب العنيد: ٥٤.

(٢) المعارف: ١٩٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب(١) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / ٦١ MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

__________________

(١) راجع : الاربعين ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١.

٢٧٢

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / ٥٨ DA / المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

٢٧٣

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان )(١) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

__________________

(١) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٢٧٤

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / ٦٢ MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ / ٥٨ DB / في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

٢٧٥

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ، و

٢٧٦

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / ٦٢ MB / بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / ٥٩ DA / تحقّق وقت قبل وقت

٢٧٧

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار ـ كلفظ المضطرّ ـ ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب ـ بالفتح ـ كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة ـ كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما ـ. وأمّا الموجب ـ بالكسر ـ فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه ـ تعالى ـ بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه ـ تعالى ـ وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا ـ بالكسر ـ تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

٢٧٨

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين ـ أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة ـ لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله ـ تعالى ـ على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل(١) حيث قال : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ هو ما يفيض الوجوب إلى الغير ـ أي : إلى اثره ـ ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء(٢) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره ـ أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير ـ. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

__________________

(١) هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني ـ ره ـ. منه.

(٢) هامش دال : آقا رضي القزويني ـ ره ـ. منه.

٢٧٩

اللهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب ـ تعالى ـ عند الحكماء موجب بالفتح ـ وفاعليته ـ تعالى ـ عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه ـ تعالى ـ لفظ الموجب ـ بالفتح ـ ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب ـ بالكسر ـ بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب ـ أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا ـ ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى الله ـ تعالى ـ مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل ـ أي : الايجاب بمعنى / ٥٩ DB / امتناع الانفكاك مطلقا ـ ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا ـ كما تقدّم ـ.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة ـ نظرا إلى عدم صدق / ٦٣ MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة ـ ؛

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460