مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد أمين الأميني
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 460
المشاهدات: 225146
تحميل: 8088

توضيحات:

الجزء 6
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225146 / تحميل: 8088
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 6

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أذْهِبْ عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً - ثلاث مرّات -) .

قلت: يا رسول الله، ألستُ من أهلك؟

قال:( بلى ) .

فأدخلني في الكساء. فدخلت في الكساء بعدما قضى دعاؤه لابن عمه وابنيه وابنته فاطمةعليهم‌السلام (١) .

إنّ أُمّ سلمة - مع أنّها كانت تعيش في ظروف صعبة جدّاً - وضّحت أنّ القوم أجرموا بحقّ آخر مَن بقي من أصحاب الكساء، وهو الطاهر ابن الطاهر، الحسين بن عليّعليهما‌السلام .

ولم تكتفِ هذه المرأة الجليلة بهذا الحدّ من إبراز الموقف، بل أعلنت الحداد ولبست السواد علناً وفي الملأ العام من الناس، وفي مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

روى القاضي نعمان، عن أبي نعيم، بإسناده عن أُمّ سلمة: ( أنّها لما بلغها مقتل الحسينصلى‌الله‌عليه‌وآله ضربت قبّة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، جلست فيها ولبست سواداً )(٢) .

نعي أسماء بنت عقيل:

روى الشيخ المفيد، بإسناده عن أبي الهياج عبد الله بن عامر قال: ( لما أتى نعي الحسينعليه‌السلام إلى المدينة، خرجت أسماء بنت عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنها - في جماعة من نسائها، حتّى انتهت إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلاذت به، وشهقت عنده، ثمّ التفتت إلى المهاجرين والأنصار، وهي تقول:

____________________

(١) شواهد التنزيل ٢/ ١١٠، ح٧٤١. ورواه أيضاً: كشف الغمّة ٢/ ٥٨.

لا يقال: إنّها من أهل البيتعليهم‌السلام وإنّها دخلت الكساء، حسب هذه الرواية.

لأنّنا نقول: إنّها دخلته - كما قالت - بعدما قضى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعاءه لابن عمّه وابنيه وابنته فاطمةعليهم‌السلام ، أي أنّها لم تكن مشمولة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( اللّهمَّ، إنّ هؤلاء أهلي، أذْهِبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ) .

(٢) شرح الأخبار ٣/ ١٧١، ح١١١٩.

٣٨١

مـاذا تـقولون إن قال النبيّ لكم

يوم الحساب وصدْقُ القول مسموع

خـذلتم عـترتي أو كـنتم غـيّباً

والـحقّ عـند وليّ الأمر مجموع

أسـلمتموهم بـأيدي الظالمين فما

مـنكم لـه اليوم عند الله مشفوع

ما كان عند غداة الطف إذ حضروا

تـلك الـمنايا ولا عـنهنّ مدفوع

قال: فما رأينا باكياً ولا باكية أكثر ممّا رأينا ذلك اليوم )(١) .

* وصول مبعوثَيْ يزيد إلى المدينة:

لقد أرسل يزيد ورسولين إلى المدينة، وهما مُحرز بن حريث بن مسعود الكلبي، ورجل من بهرا، كما صرّح بذلك ابن نما في قوله: ( وروي أنّ يزيد بن معاوية بعث بمقتل الحسين إلى المدينة مُحرز بن حريث بن مسعود الكلبي من بني عدي بن حباب، ورجلاً من بهرا(٢) ، وكانا من أفاضل أهل الشام، فلما قدما خرجت امرأة من بنات عبد المطّلب قيل: هي زينب بنت عقيل. ناشرة شعرها، واضعة كمّها على رأسها، تتلقّاهم وهي تبكي وتقول: ماذا تقولون.. (الأبيات) )(٣) .

رأس الحسينعليه‌السلام بالمدينة:

ثَمَّة روايات تدلّ على إرسال الرأس الشريف إلى المدينة؛ بغية إشاعة الرعب والخوف، والقضاء على كلّ حركة مُضادّة، وذكرنا بعض الأخبار في بحث ( الأقوال في موضع دفن رأس الحسينعليه‌السلام )، فلا نُعيدها، والظاهر أنّه كان في فترة وجود أهل البيتعليهم‌السلام في الشام.

ثمّ إنّه أُرْجِع الرأس الشريف إلى الشام، كما صرّح

____________________

(١) أمالي المفيد: ٣١٩، مجلس ٣٨، ح٥؛ أمالي الطوسي ص٨٩، مجلس ٣، ح١٣٩؛ المناقب ٤/ ١١٦.

(٢) بهرا، قبيلة من قضاعة، راجع مجموع البحرين.

(٣) مُثير الأحزان: ٩٤.

٣٨٢

بذلك البلاذري عن الكلبي بقوله: وبعث يزيد برأسه إلى المدينة، فنُصِب على خشبة ثمّ رُدَّ إلى دمشق(١) ، ثمّ دُفِع إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، حتّى ألحقهعليه‌السلام بالجسد الشريف، وهذا ينسجم مع رواية القاضي نعمان بوجود أهل البيتعليهم‌السلام في الشام مدّة شهر ونصف(٢) ، أو مع نقل السيّد ابن طاووس بوجودهم فيه ما يُقارب شهراً(٣) .

قال ابن سعد: وبعث يزيد برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وهو عامل له يومئذٍ على المدينة، فقال عمرو: وددت أنّه لم يبعث به إليّ.

فقال مروان: اسكُتْ. ثمّ تناول الرأس، فوضعه بين يديه، وأخذ بأرنبته فقال:

يا حبّذا بُرْدك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدّين

كأنّما بات بمجسدين

والله، لكأنّي أنظر إلى أيّام عثمان، وسمع عمرو بن سعيد الصيحة من بني هاشم فقال:

عجّت نساء بني زياد عجَّة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب(٤)

وجاء في نقل البلاذري:

قال عمرو بن سعيد: وددت أنّ أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه، فقال مروان: بِئْسَ ما قلت، هاته:

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٩.

(٢) شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩.

(٣) وقد بسطنا الكلام فيه فراجع، فنكتفي بذكر ما يتعلّق بالمدينة.

(٤) الطبقات ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله من القسم غير المطبوع ): ٨٤. وروى صدره مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٥، وانظر تذكرة الخواص: ٢٦٥، وفيه: عجّت نساء بني تميم...

٣٨٣

يا حبّذا بَرْدُك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدَّين(١)

وقال: حدّثنا عمر بن شبه، حدّثني أبو بكر، عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن علي ّ بن أبي طالب عن أبيه قال: رعف عمرو بن سعيد على منبر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلِّم)، فقال بيار الأسلمي - وكان زاجراً -: إنّه ليوم دمٍ.

قال: فجيء برأس الحسين، فنُصب، فصرخت نساء أبي طالب، فقال مروان:

عجّت نساء بني زبيد عجّةً

كعجيج نسوتنا غَداة الأزيب

ثمّ صحْنَ أيضاً، فقال مروان:

ضربت ذو شرّ فيهم ضربة

أثبتت إن كان ملك فاستقرّ )(٢) .

وقال ابن نما:

( ونقلت عن تاريخ البلاذري أنّه لما وافى رأس الحسينعليه‌السلام المدينة، سُمِعتْ الواعية من كلّ جانب، فقال مروان بن الحَكم:

ضربت دوسر فيهم ضربةً

أثبتت أوتاد حكم فاستقرَّ

ثمّ أخذ ينكت وجهه بقضيب ويقول:

يا حبّذا بُرْدك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدّين

كــأنّـه بـــات بـمـجسدين

شفيت منك النفس يا حسين )(٣) .

لقد كشف القاضي نعمان عن بعض زوايا القضيّة بقوله: ( ثمّ أُتي برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد، فأعرض بوجهه عنه واستعظم أمره، فقال مروان

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٧.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٨. وجاء في نقل ابن سعد:

ضرب الدوسر فيهم ضربةً

أثبتت أوتاد مُلك فاستقرّ

 (٣) مُثير الأحزان: ٩٥، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٤.

٣٨٤

اللعين لحامل الرأس: هاته. فدفعه إليه، فأخذه بيده وقال:

يا حبّذا بُردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدّين )(١) .

وفي شرح الأخبار أيضاً: ( ولما أمر اللعين (يزيد) بأن يُطاف برأس الحسينعليه‌السلام في البلدان أتى به إلى المدينة، وعامله عليها عمرو بن سعيد [الأشدق]، فسمع صياح النساء، فقال: ما هذا؟ قيل: نساء بني هاشم يبكين لما رأين رأس الحسين، وكان عنده مروان بن الحَكم. فقال مروان اللعين مُتمثّلاً:

عجَّت نساء بني زياد عجَّةً

كعجيج نسوتنا غداة الأذيب

عنى اللعين عجيج نساء بني عبد شمس ممّن قُتل منهم يوم بدر، فأمّا ما أقاموه ظاهراً من أمر عثمان، فمروان اللعين فيمَن ألبَّ عليه وشمت بمصابه وهو القائل:

لما أتاه نعيه ذينه

من كسر ضلعاً كسر جنبه

ولكنَّ ذحول بني أُميّة بدماء الجاهلية التي طلبوا بها رسول الله في عترته وأهل بيته، ولما قال ذلك مروان اللعين قال عمرو بن سعيد - عامل المدينة يومئذٍ -: لوددت - والله - أنّ أمير المؤمنين لم يكن يبعث إلينا برأس الحسين.

فقال له مروان: اسكُت لا أُمّ لك! وقل كما قال الأوّل:

ضربوا رأس شريز ضربة

اشتت أوتاد ملك فاستتر )(٢) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزلي عن الإسكافي قوله: ( أمّا مروان.. فأخبث عقيدة وأعظم إلحاداً وكفراً، وهو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحسينعليه‌السلام إلى المدينة، وهو يومئذٍ أميرها(٣) ، وقد حمل الرأس على يديه فقال:

____________________

(١) شرح الأخبار ٣/ ١٦٠ - ١٦٢.

(٢) شرح الأخبار ٣/ ١٥٩.

(٣) لقد مضى أنّ أمير المدينة كان حينئذٍٍ عمرو بن سعيد، إلاّ أنّ مروان كان حاضراً في المجلس.

٣٨٥

يا حبّذا بُردك في اليدين

وحُمرة تُجرى على الخدَّين

كأنّما بتَّ بمحشدين

ثمّ رمى بالرأس نحو قبر النبيّ، وقال: يا محمّد، يومٌ بيوم بدر!

وهذا القول مُشتقّ من الشعر الذي تمثّل به يزيد بن معاوية، وهو شعر ابن الزبعرى، يوم وصل الرأس إليه، والخبر مشهور(١) .

نعم، إنّ بني أُميّة وأذنابهم أثبتوا بفعلتهم النكراء استمرار جاهليّتهم السوداء، ولقد أظهروا أحقادهم المكنونة، وأرادوا استيفاء ثأرهم من صاحب الرسالة بإبادتهم لعترته، وإنّهم ما آمنوا بالله ورسوله طرفة عين أبداً.

رثاء ابنة عقيل:

كان لبنات عقيل دَوْر مهمّ في إثارة مشاعر الناس، وانقلابهم نفسيّاً بعد مقتل أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وقد ذكرنا سابقاً ما يتعلّق بإحداهنّ، وهي أسماء بنت عقيل، وذلك بعد وصول خبر استشهاد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

ثمّ ها نجد هنا دوراً بارزاً لأُختها، وهي - على ما صرّح به أكثر المؤرِّخين - زينب بنت عقيل، وإن اكتفى بعضهم بذكر عنوان ( امرأة من بنات عبد المطّلب )(٢) ، أو (ابنة عقيل)(٣) ، أو (أُمّ لقمان بنت عقيل)(٤) ، لكنّ الأكثر ذَكَر أنّها (زينب بنت عقيل)(٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤/ ٧١.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٥١؛ مُثير الأحزان: ٩٥.

(٣) مروج الذهب ٣/ ٦٨؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٧؛ المنتظم ٥/ ٣٤٤؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٦.

(٤) الإرشاد ٢/ ١٢٤؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٢؛ كشف الغمّة ٢/ ٦٨.

(٥) أنساب الأشراف ٣/ ٤٢٠؛ شرح الأخبار ٣/ ٤٩٩، ح١١٢٨؛ تذكرة الخواص: ٢٦٧؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٩؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

٣٨٦

وأمّا كيفيّة خروجها، فقد ذكر المسعودي أنّها خرجت في نساء من قومها، حواسر حائرات؛ لما قد ورد عليهنّ من قتل السادات(١) .

وقال الطبري: إنّها خرجت ومعها نساؤها وهي حاسرة تلوي بثوبها(٢) .

وقال الشيخ المفيد: ( وخرجت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب - حين سمعت نعي الحسين - حاسرة، ومعها أخواتها، أُمّ هاني، وأسماء، ورملة، وزينب بنات عقيل بن أبي طالب - رحمة الله عليهن - تبكي قتلاها بالطفّ وهي تقول... )(٣) .

وذكره ابن الفتّال(٤) ، والأربلي(٥) كذلك.

وقال ابن الجوزي: ( ولما أتى المدينة مقتل الحسينعليه‌السلام خرجت ابنة عقيل ومعها نساؤها حاسرة وهي تبكي وتقول... )(٦) .

وقال سبط ابن الجوزي: قال الواقدي: ( لما وصل الرأس إلى المدينة والسبايا لم يبقَ بالمدينة أحد(٧) ، وخرجوا يضجّون بالبكاء، وخرجت زينب بنت عقيل بن أبي طالب، كاشفةً وجهها ناشرةً شعرها تصيح: وا حسيناه! وا إخوتاه! وا أهلاه! وا محمّداه! ثمّ قال... )(٨) .

____________________

(١) مروج الذهب ٣/ ٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٧.

(٣) الإرشاد ٢/ ١٢٤.

(٤) روضة الواعظين ١/ ١٩٢.

(٥) كشف الغمّة ٢/ ٦٨.

(٦) المنتظم ٥/ ٣٤٤ ونحوه.

(٧) تذكرة الخواص: ٢٦٧.

(٨) هو المتفرّد بذكر عطف السبايا على الرأس، وهو غير صحيح، ولا تؤيِّد ذلك الشواهد التاريخية التي ذكرناها.

٣٨٧

وقال ابن نما: ( فلما قدما (مبعوثا يزيد إلى المدينة) خرجت امرأة من بنات عبد المطّلب، قيل: هي زينب بنت عقيل. ناشرةً شعرها، واضعةً كمّها على رأسها، تتلقّاهم وهي تبكي وتقول... )(١) .

وأمّا مكان ذلك، فقد صرّح البلاذري والطبراني والقاضي نعمان، بكونه في البقيع(٢) ، وأمّا الآخرون، فلم يُحدّدوا الموضع من المدينة.

وأمّا ما قالته، فقد ذكر البلاذري أنّه: وقالت زينب بنت عقيل ترثي قتلى أهل الطف، وخرجت تنوح بالبقيع:

مـاذا تـقولون إن قـال الـنبيّ لـكم

مــاذا فـعلتم وأنـتم آخـر الأُمـم

بـأهل بـيتي وأنـصاري أمـا لـكمُ

عـهـد كـريم أمـا تـوفون بـالذمم

ذُرّيـتـي وبـنـو عـمِّي بـمضيعةٍ

مـنهم أُسـارى وقـتلى ضُرِّجوا بدم

مــا كـان ذا جـزائي إذ نـصحتكمُ

أن تَخْلفوني بسوء في ذوي رحمي(٣)

وأمّا غيره - ما عدا سبط ابن الجوزي والخوارزمي - فقد ذكر من الأبيات ثلاثاً مع تفاوت، وجاء في ضمن نقل المسعودي:

بـعـترتي وبـأهلي بـعد مُـفتقدي

نـصفٌ أُسارى ونصف ضُرِّجوا بدم

مـا كـان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تَخْلفوني بشرٍّ في ذوي رحمي(٤)

____________________

(١) مُثير الأحزان: ٩٥، ونحوه في الردّ على المتعصّب العنيد: ٥١.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤٢٠؛ المعجم الكبير ٣/ ١٢٦، ح٢٨٥٣؛ شرح الأخبار ٣/ ١٩٩، ح١١٢٨.

(٣) أنساب الأشراف ٣/ ٤٢٠.

(٤) مروج الذهب ٣/ ٦٨. ونحوه في: المعجم الكبير ٣/ ١٢٦، ح٢٨٥٣، وفيه: (.. بأهل بيتي وأنصاري وذرّيتي منهم أُسارى... )؛ شرح الأخبار ٣/ ١٩٩ ح١١٢٨، وفيه: (... بأهل بيتي وقد

٣٨٨

ثمّ إنّ الطبراني قال بعد ذلك: فقال أبو الأسود الدؤلي: نقول:( ... رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا... ) الآية(١) ، ثمّ قال أبو الأسود:

أقـول وزادني جزعاً وغيظاً

ن أزال الله مُـلْكَ بـني زيـاد

وأبـعدهم كما غدروا وخانوا

كـما بـعُدت ثمود وقوم عاد

ولا رجـعت ركـابهم إلـيهم

إذا وقفت إلى يوم التناد(٢) .

وقال القاضي نعمان: ( فقال أبو الأسود الدؤلي: وقد سمعتها تقول:( ... رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣) ، وهذا قول مَن لم يعتقد عداوة أهل بيت محمّد، فأمّا الذين اعتقدوا عداوتهم، وقصدوا لما قصدوا إليه منهم، مصرّون على كفرهم وعلى ما ارتكبوه منهم، وقد قتلوا من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد هذا خلقاً كثيراً قلّ مَن يحصر عددهم ظلماً لهم، واستخفافاً

____________________

أضحوا بحضرتكم منهم أُسارى... هل كان... )؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٧ ذكر بيتين، وفيه: ( بعترتي وبأهلي... منهم أُسارى ومنهم... )؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٩؛ الإرشاد ٢/ ١٢٤ وفيه: ( منهم أُسارى ومنهم... بسوء... ). ومثله في: روضة الواعظين وكشف الغمّة. ومقتل الخوارزمي ٢/ ٧٦: (... فهم أُسارى.../ ضيّعتم حقّنا والله أوجبه، وقد عرى الفيل حقّ البيت والحرم )، وكفاية الطالب: ٤٤١ وفيه: (... بأهل بيتي وأنصاري وشيعتهم... منهم أُسارى وقتلى ضُرِّجوا... ما كان ذاك... )؛ المنتظم ٥/ ٣٤٤ وفيه: ( بعترتي وبأهلي عند منطلقي منهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم... )؛ تذكرة الخواص: ٢٦٧، وفيه: ( بأهل بيتي وأولادي أما لكم عهدٌ أما... هذا جزائي إذا نصحت لكم...)؛ مُثير الأحزان... منهم أُسارى و... )؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٦ وفيه: (... منهم أُسارى ومنهم... )؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢؛ عيون الأخبار ١/ ٢١٣، بتفاوت يسير.

(١) الأعراف: ٢٣.

(٢) المعجم الكبير ٣/ ١٢٦، ح٢٨٥٣؛ مجمع الزوائد ٩/ ١٩٩؛ كفاية الطالب: ٤٤١.

(٣) الأعراف: ٢٣.

٣٨٩

لحقّهم، غير مَن تعاطى ما ليس له منهم، فصرعه تُعاطيه ما ليس له، وتعدّيه إلى غير حظّه وتُسمِّية اسمه )(١) .

خطبة عمرو بن سعيد!

أورد ابن سعد - بعدما ذكر وصول الرأس الشريف إلى المدينة -:

( ثمّ خرج عمرو بن سعيد إلى المنبر، فخطب الناس، ثمّ ذكر حسيناً وما كان من أمره، وقال: والله، لوددتُ أنّ رأسه في جسده، وروحه في بدنه، يسبُّنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته.

فقام ابن أبي حبيش - أحد بني أسد بن عبد العزَّى بن قصي - فقال: أما لو كانت فاطمة حيّةً لأحزنها ما ترى!

فقال عمرو: اسكُت لا سكتَّ، أتُنازعني فاطمة وأنا من عفر ظبايها، والله، إنّه لابْنُنا، وأنّ أُمّه لابنتُنا! أجل - والله - لو كانت حيّةً لأحزنها قتله! ثمّ لم تلُمْ مَن قتله! يدفع عن نفسه!

فقال ابن أبي حبيش: إنّه ابن فاطمة، وفاطمة بنت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى )(٢) .

لقد ذكرنا فيما سبق حقد ابن سعيد وبُغضه لآل بيت رسول الله، بل ما يَثبت بذلك كفره، وإنّ المتأمِّل في هذه الخُطبة والعارف بأجوائها لا يستغرب منها؛ إذ يعلم أنّها أُلقيت في ظلّ أجواء مُضطربة بعد وصول الخبر المدينة، ووصول الرأس الشريف إليها، ولذلك ترى هذا الحاقد يُظهر التراجع في كلامه، ويظهر

____________________

(١) شرح الأخبار ٣/ ١٩٩.

(٢) الطبقات: ٨٥ ترجمة الإمام الحسين من القسم غير المطبوع منه.

٣٩٠

نفسه في موقف المدافع والمتأثّر، ولكنّه مع ذلك تراه لا يستطيع التستُّر على خبث سريرته، حتّى في هذه الكلمات التي يتفوّه بها في هذه الظروف الخاصّة.

قال البلاذري: ( وقام ابن أبي حبيش - وعمرو يخطب - فقال: رحم الله فاطمة، فمضى في خطبته شيئاً، ثمّ قال: وا عجباً لهذا الألثغ! وما أنت وفاطمة؟!

قال: أُمّها خديجة، يريد أنّها من بني أسد بن عبد العزّى.

قال: نعم، والله، وابنة محمّد أخذتها يميناً وأخذتها شمالاً، ورددت أنّ أمير المؤمنين كان نحّاه عين (عنّي ظ) ولم يُرسل به إليّ، وددت - والله - أنّ رأس الحسين كان على عنقه وروحه كانت في جسده )(١) .

وقال الخوارزمي: ( قالوا: ثمّ صعد عمرو بن سعيد - أمير المدينة - المنبر، وخطب وقال في خطبته:

إنّها لَدْمَةٌ بلَدْمَة، وصدمة بصدمة، وموعظة بعد موعظة ( حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) (٢) ، والله، لوددت أنّ رأسه في بدنه، وروحه في جسده أحياناً كان يسبّنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته، ولم يكن من أمره ما كان، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يُريد قتلنا؟! إلاّ أن ندفع عن أنفسنا.

فقام إليه عبد الله بن السائب فقال: أما لو كانت فاطمة حيّة، فرأت رأس الحسين لبكت عليه. فجبهَهُ عمرو بن سعيد وقال: نحن أحقّ بفاطمة منك! أبوها عمّنا! وزوجها أخونا! وابنها ابننا! أما لو كانت فاطمة حيّة لبكت عينها، وحزن كبدها، ولكن ما لامتْ مَن قتله، ودفع عن نفسه )(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٨.

(٢) القمر: ٥.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٦.

٣٩١

إنّ سخافة ما استدلّ به هذا اللعين هو ممّا يُضحك الثكلى، أمِنَ الدفاع أن يُحاصر آلاف الفسقة الفجرة عدّة قليلة وفيهم آخر سبط بقي من آخر رسول لربّ العالمين، وعترته وذُرِّيّته والنساء والأطفال، وعدّة من خيار الأصحاب الذين كانوا رُهبان الليل وأُسد النهار، ثمّ يُقتلون عُطاشى وتُحتزّ رؤوسهم الطاهرة، وتُسبى نساؤهم وتُحمل من مدينة إلى مدينة ونقطة إلى نقطة...؟! وهل هذا إلاّ الانتقام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما اعترف بذلك الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية وسائر أذنابه، بما فيهم عمرو بن سعيد ومروان بن الحَكم وغيرهم.

وأمّا فاطمة وأبوها وزوجها، وسائر الأنبياء من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلقد بكوا على مُصاب الحسينعليه‌السلام ، ولعنوا مَن أمر وارتكب ورضي بقتل الحسينعليه‌السلام .

موقف عبد الله بن جعفر:

إنّ لعبد الله بن جعفر مواقف مُشرِّفة بعد وقوع مأساة كربلاء واستشهاد ولَديه - وهما عون وعبد الله - في ركاب خالهما أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

وممّا يُمكن أن يُستند إليه في توجيه عدم حضوره في كربلاء، ما جاء في زيارة الناحية المقدّسة، المنسوبة للإمام الحجّةعليه‌السلام ، حيث قال في حقّ ولَده:( السلام على محمّد بن عبد الله بن جعفر الشاهد مكان أبيه ) (١) .

فلعلَّ عُذراً لم نعلمه منَعَه من الحضور.

وممّا يُرشدنا إلى موقفه الإيجابي ما ذكره الطبري، بإسناده عن عبد الرحمان ابن عبيد أبي الكنود قال: ( لما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين، دخل عليه بعض مواليه والناس يُعزّونه، قال - ولا أظنّ مولاه ذلك إلاّ أبا

____________________

(١) زيارة الناحية المقدّسة المنسوبة للإمام الحجّةعليه‌السلام .

٣٩٢

اللسلاس - فقال: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين. قال: فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يا بن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟! والله، لو شهدتُه لأحببت أن لا أُفارقه حتّى أُقتل معه، والله، إنّه لممّا يَسخي بنفسي عنهما ويُهوِّن عليَّ المصاب بهما أنّهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي، مواسيين له صابرين معه.

ثمّ أقبل على جُلسائه فقال: الحمد لله عزّ وجلّ عليَّ بمصرع الحسين، إن لا يكن آستْ حسيناً يدي فقد آساه ولدي )(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٧. وروى مضمونه الكامل في التاريخ ٤/ ٨٩؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٦، وذُكر بعضه في الطبقات ( ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع: ٨٥ ).

٣٩٣

عودة بقيّة الركب الحسيني إلى المدينة المنوَّرة:

إنّهم على مقربة من المدينة، مدينة جدّهم، ومهاجر أبيهم، ومأوى أُمّهم، مسقط رأسهم، وموطن أحبَّتهم، ما أصعب الدخول إليها وهم على هذه الحالة...

لقد خرجوا مع الحسينعليه‌السلام ، واليوم رجعوا بلا حسين إلاّ مِن رايته الحمراء.

ومن الطبيعي أن تأخذ المسيرة منحىً عاطفيّاً أكثر من أيّ شيءٍ، فلقد عاش أهل المدينة مع الحسين وتعوّدوا عليه، ورأوا في وجوده وجود جدّه بعلمه وهيبته، وخُلقه وشجاعته وغيرته، وبكلّ مكارم الأخلاق، واليوم يسمعون بوصول أهل بيته قُرب موطنه، أهل بيت خرجوا معه ورجعوا وحدهم، ولكنّهم يحملون رسالته.

ومن هذا المنطلق، نرى أنّ المسيرة لم تكتفِ بالتزام الظاهر العاطفي فحسب، بل إنّها عنيت بالجانب المبدئي والمنهجي أكثر، واستمرّت على ذلك في أشكال مُختلفة، سواء كان ذلك على شكل إقامة العزاء والمأتم، أم استمرار البكاء، أم إلقاء الخُطَب أم بثّ الأدعية العالية المضامين أم غير ذلك.

والغاية من كلّ ذلك هو تنوير الأفكار وإيقاظ المجتمع من السُّبات العميق، الذي استولى على جميع أفراده، ما خلا مَن تمسّك بالقرآن والعترة.

نعم، إنّها لحظات صعبة...

يقول الشيخ ابن نما الحلّي - واصفاً تلك الحال -: ولما رجع صحب آل الرسول من السفر بعد طول الغيبة... وقد خلّفوا السبط مُفترشاً للتراب بعيداً من الأحباب، بقفرة بهماء، وتنوفة شوهاء، لا سمير لمناجيها، ولا سفير لمفاجيها، وأعينهم باكية ليُتْمِ البقيّة الزاكيّة، فأسفتُ ألا أكون رائد أقدامهم ورافد حذي

٣٩٤

لموطئ أقدامهم، وقلت هذه الأبيات بلسان قالي ولسان حالهم:

ولـمّا وردنـا مـاء يثرب بعدما

أسلنا على السبط الشهيد المدْامعا

ومُـدَّت لـما نلقاه من ألم الجَوى

رقاب المطايا واستكانت خواضعا

وجرَّع كأس الموت بالطفّ أنفساً

كـراماً وكـانت للرسول ودايعا

وبـدَّل سـعد الشمِّ من آل هاشم

بـنحس فـكانوا كالبدور طوالعا

وقـفنا على الأطلال نندب أهلها

أسىً وتبكي الخاليات البلاقعا (١)

ما قالته أُمّ كلثوم:

روى العلاّمة المجلسي عن بعض مؤلّفات أصحابنا قال: وأمّا أُمّ كلثوم، فحين توجّهت إلى المدينة جعلت تبكي وتقول:

مـديـنةَ جـدِّنـا لا تـقبلينا

فـبالحسرات والأحـزان جينا

ألا فـاخبر رسـول الله عـنّا

بـأنّا قـد فُـجعنا فـي أبينا

وأنّ رجـالنا بالطفّ صرعى

بـلا رؤوس وقد ذَبحوا البنينا

وأخْـبِر جـدَّنا أنّـا أُسـرنا

وبـعد الأسـر يـا جدَّا سُبينا

ورهطك يا رسول الله أضحوا

عـرايا بـالطفوف مُـسلَّبينا

وقد ذبحوا الحسين ولم يراعوا

جـنابك يـا رسـول الله فينا

فـلو نظرتْ عيونك للأُسارى

عـلى أقـتاب الجمال مُحمّلينا

رسول الله بعد الصَّونِ صارت

عـيون الـناس نـاظرةً إلينا

وكـنتَ تـحوطُنا حتّى تولَّت

عـيونُك ثـارت الأعدا علينا

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١١٢.

٣٩٥

أفـاطمُ لو نظرتِ إلى السبايا

بـناتك فـي الـبلاد مُشتّتينا

أفاطم لو نظرتِ إلى الحيارى

ولـو أبصرتِ زين العابدينا

أفـاطم لـو رأيتينا سُهارى

ومـن سهر الليالي قد عُمينا

أفـاطم مـا لقيتي من عِداكِ

ولا قـيراط مـمّا قـد لقينا

فـلو دامت حياتكِ لم تزالي

إلـى يـوم الـقيامة تندبينا

وعـرّجْ بـالبقيع وقف ونادِ

أيـا بن حبيب ربّ العالمينا

وقـل يا عمُّ يا حسن المزكَّى

عيال أخيك أضحوا ضائعينا

أيـا عـمّاه إنّ أخاك أضحى

بـعيداً عنك بالرّمضا هرينا

بـلا رأس تنوح عليه جهراً

طـيور والوحوش الموحشينا

ولـو عاينت يا مولاي ساقوا

حـريماً لا يـجدْنَ لهم مُعينا

عـلى متن النياق بلا وطاء

وشـاهدت الـعيال مُكشَّفينا

مـديـنة جـدِّنا لا تـقبلينا

فـبالحسرات والأحزان جينا

خـرجنا منك بالأهلين جمعاً

رجـعنا لا رجـال ولا بنينا

وكُنَّا في الخروج بجمع شملٍ

رجـعنا حـاسرين مُـسلَّبينا

وكـنّا فـي أمـان الله جهراً

رجـعنا بـالقطيعة خـائفينا

ومـولانا الـحسين لنا أنيس

رجـعنا والـحسين به رهينا

فـنحن الضائعات بلا كفيل

ونـحن النائحات على أخينا

ونحن السائرت على المطايا

نُـشال على جمال المبغضينا

ونـحن بـنات يـس وطه

ونـحن الـباكيات على أبينا

ونـحن الطاهرات بلا خفاء

ونحن المخلَصون المصطفونا

٣٩٦

ونحن الصابرات على البلايا

ونـحن الصادقون الناصحونا

ألا يـا جـدَّنا قـتلوا حسينا

ولـم يـرعوا جناب الله فينا

ألا يـا جـدّنا بـلغت عدانا

مُـناها واشـتفى الأعداء فينا

لـقد هـتكوا النساء وحمّلوها

عـلى الأقـتاب قهراً أجمعينا

وزيـنب أخرجوها من خِباها

وفـاطم والـهٌ تُـبدي الأنينا

سـكينة تشتكي من حِرّ وجدٍ

تُـنادي الغوث ربَّ العالمينا

وزيـن الـعابدين بـقيد ذيل

ورامـوا قـتله أهل الخؤونا

فـبعدهمُ عـلى الـدُّنيا تراب

فـكأس الموت فيها قد سُقينا

وهذى قصّتي مع شرح حالي

ألا يا سامعون ابكوا علينا(١)

الإمام زين العابدينعليه‌السلام يوفِد بشير بن حَذْلَم:

المتتبِّع لمسيرة الركب الطاهر من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، يُدرك أنّ الإمامعليه‌السلام كان هو المسيطر على الأوضاع، وكان يخرق الإعلام المشوَّه ويُقلِّب الأمر على الحُكّام ويُبيِّن الحقائق المستورة، فكان نهجه وسلوكه نهج الفعل والتأثير، لا الانفعال والتأثّر.

ومن هذا المنطلق؛ نفهم سرّ إيفاد الإمامعليه‌السلام بشير بن حذلم الشاعر إلى المدينة، فلقد تمكّن - بصفته رسول الإمامعليه‌السلام وبكونه شاعراً قويّاً ومؤثّراً عاطفياً - من التأثير في المجتمع، حتّى كاد أن يقلب الوضع في المدينة، بحيث تحرّك أهل المدينة - بما فيها من الرجال والنساء والكبار والصغار - إلى خارجها لاستقبال آل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستثمر الإمامعليه‌السلام هذه الفرصة وألقى عليهم

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٧؛ ينابيع المودّة ٣/ ٩٤.

٣٩٧

كلمته التي سوف ترى مدى تأثيرها بعد ذلك.

قال السيّد ابن طاووس: ( قال بشير بن حَذْلَم: فلما قربنا منها - أي المدينة - نزل عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، فحطّ رحله، وضرب فسطاطه، وأزل نساءه، وقال:( يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟ ).

قلت: بلى يا بن رسول الله، إنّي لشاعر، قال: فادخل المدينة وانْعَ أبا عبد اللهعليه‌السلام .

قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة(١) .

وقال: فلما بلغت مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء، وأنشأتُ أقول:

يا أهل يثرب لا مُقام لكم بها

قُتِلَ الحسين فأدمُعي مدرارُ

الجسمُ منه بكربلاء مُضرَّجٌ

والرأس منه على القناة يُدارُ

قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أُعرِّفكم مكانه )(٢) .

حال المدينة بعد علم أهلها بمصرع الإمامعليه‌السلام :

وروى السيّد ابن طاووس، عن بشير بن حذلم أنّه قال: ( وسمعت جارية تنوح على الحسينعليه‌السلام وتقول:

نـعى سـيّدي نـاعٍ نـعاه فأوجعا

فـأمـرضني نـاعٍ نـعاه فـأفجعا

أعـينَيَّ جـودا بـالمدامع واسـكبا

وجـودا بـدمع بـعد دمـعكما معا

على مَن دهى عرش الجليل فزعزعا

وأصـبح أنـف الدِّين والمجد أجدعا

عـلى ابـن نـبيّ الله وابن وصيّه

وإن كـان عـنّا شاحط الدار أشسعا

____________________

(١) الملهوف: ٢٢٦، عنه تسلية المجالس ٢/ ٤٦٠. وانظر: مُثير الأحزان: ١١٢؛ ينابيع المودّة ٣/ ٩٣.

(٢) الملهوف: ٢٢٦. ونحوه في مُثير الأحزان: ١١٢؛ تسلية المجالس ٢/ ٤٦٠؛ ينابيع المودّة ٣/ ٩٣.

٣٩٨

ثمّ قالت: أيُّها الناعي، جدّدت حزننا بأبي عبد اللهعليه‌السلام ، وخدشت منّا قروحاً لما تندمل، فمَن أنت يرحمك الله؟

قلت: أنا بشير بن حذلم، وجّهني مولاي عليّ بن الحسين، وهو نازل موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ونسائه )(١) .

وروى السيّد ابن طاووس، عن بشير بن حذلم أيضاً أنّه قال: ( فما بقيت في المدينة مُخدّرة ولا مُحجّبة إلاّ برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهنّ، مخمّشة وجوههنّ، ضاربات خدودهنّ، يدعون بالويل والثَّبور، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

وقال ابن نما: ( فلم يبقَ في المدينة مُخدّرة ولا مُحجّبة إلاّ برزت وهنَّ بين باكية ونائحة ولاطمة، فلم يرَ يوم أمرَّ على أهل المدينة منه )(٣) .

وقال في أخبار الزينبات: ( حدّثني إبراهيم بن محمّد الحريري، قال: حدّثني عبد الصمد بن حسّان السعدي، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه، عن الحسن بن الحسن قال:( لما حُملنا إلى يزيد وكنّا بضعة عشر نفساً، أمر أن نسير إلى المدينة، فوصلناها في مُستهلّ... (٤) ، وعلى المدينة عمرو بن سعيد الأشدق... (٥) ، فجاء عبد الملك بن الحارث السهمي فأخبره بقدومنا، فأمر أن يُنادي في أسواق المدينة ألا إنّ زين العابدين وبني عمومته وعمّاته قد قدموا إليكم، فبرزت الرجال والنساء والصبيان، صارخات باكيات، وخرجت نساء

____________________

(١) الملهوف: ٢٢٧.

(٢) الملهوف: ٢٢٦؛ تسلية المجالس ٢/ ٤٦٠؛ ينابيع المودّة ٣/ ٩٣.

(٣) مُثير الأحزان: ١١٢.

(٤) بياض في الأصل.

٣٩٩

بني هاشم حاسرات تُنادي وا حسيناه! وا حسيناه! فأقمنا ثلاثة أيّام بلياليها ونساء بني هاشم وأهل المدينة مجتمعون حولنا ) (١) .

استقبال الناس بقيّة العترة الطاهرة:

قال ابن نما: ( وخرج الناس إلى لقائه ( عليّ بن الحسينعليه‌السلام )، وأخذوا المواضع والطُّرُق )(٢) .

قال السيّد ابن طاووس: ( قال بشير بن حذلم: فتركوني مكاني وبادروا، فضربتُ فرسي حتّى رجعتُ إليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطُّرُق والمواضع، فنزلت عن فرسي، وتخطّيت رقاب الناس، حتّى قربت من باب الفسطاط )(٣) .

وهذا التوصيف يكشف عن مدى زحام الناس حول الإمامعليه‌السلام ، بحيث لم يجد بشير بُدّاً إلاّ أن يتخطّى رقاب الناس، ويوصِل نفسه قُرب باب الفسطاط.

خُطبة الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

روى السيّد ابن طاووس عن بشير: ( وكان عليّ بن الحسينعليهما‌السلام داخلاً، فخرج ومعه خُرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له، وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء، والناس من كلّ ناحية يُعزّونه، فضجّت تلك البُقعة ضجّة شديدة، فأومأ بيده: أن اسكتوا. فسكنت فورتهم، فقالعليه‌السلام :(٤)

____________________

(١) أخبار الزينبات: ١١٣.

(٢) مُثير الأحزان: ١١٢.

(٣) الملهوف: ٢٢٨.

(٤) قال ابن نما: قال بشير: فعدت إلى باب الفسطاط، وإذا هو قد خرج وبيده خرقة يمسح بها دموعه

٤٠٠