مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد أمين الأميني
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 460
المشاهدات: 225106
تحميل: 8088

توضيحات:

الجزء 6
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225106 / تحميل: 8088
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 6

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلى، وقرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأُمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة .

أيّها القوم، إنّ الله تعالى - وله الحمد - ابتلانا بمصائب جليلة، وثُلْمَة في الإسلام عظيمة، قُتِل أبو عبد اللهعليه‌السلام وعترته، وسُبي نساؤه وصِبْيته، وداروا برأسه في البُلدان من فوق عام السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيُّها الناس، فأيُّ رجالات منكم يُسَرّون بعد قتله؟! أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟!

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لُجج البحار، والملائكة المقرَّبون، وأهل السماوات أجمعون.

أيُّها الناس، أيُّ قلبٍ لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثُّلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يُصمّ؟!

أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مُشرَّدين مذمومين شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد تُرْك أو كابل، من غير جُرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثُلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إن هذا إلاّ اختلاق.

والله، لو أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تقدَّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية

____________________

وخادم معه كرسي، فوضعه وجلس وهو مغلوب على لوعته، فعزّاه الناس، فأومئ إليهم: أن اسكتوا. فسكنت فورتهم، فقال... ) مُثير الأحزان: ١١٣.

٤٠١

بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مُصيبة ما أعظمها وأوجعها، وأفجعها وأكظّها، وأفظعها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، إنّه عزيز ذو انتقام ) (١) .

ثمّ قام - عليه السلام - ومشى إلى المدينة ليدخلها...(٢) .

تأمُّل ومُلاحظات:

إنّ هذا الخطاب مع قُصره يحتوي على أُمور مُهمّة، نذكر بعضها:

١ - التركيز على حمد الله وثنائه المستمرّ وعلى كلّ حال وفي كلّ الظروف.

٢ - بيان ما وقع في عالم الكون، وأنّ العوالم بما فيها من البحار والسماوات، والأرض والأشجار، والحيتان والملائكة وأهل السماوات و... بكت على الحسين، وأنّ ما حدث مُصيبة ما أعظمها وأوجعها، وأفجعها وأفظعها وأمرّها وأفدحها و...

٣ - بيان عُمق ما ارتكبوه من الفاجعة، بحيث لم يمكن أن يقع أبشع منها، وأنّه لم يُعهد في التاريخ، حتّى لو أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أوصاهم بذلك - فرضاً - لما زادوا على ما فعلوا بهم، وإليه يُشير العلاّمة الآية، السيّد مهدي بحر العلوم في قوله:

لو أنّهم أُمِرُوا بالبُغض ما صنعوا

فوق الذي صنعوا لو جدَّ جِدُّهم(٣)

٤ - إيقاظ الناس وتوجيههم على ذلك بلزوم اتّخاذ الموقف، في قوله(ع ليه السلام):( أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثُّلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يُصَمّ؟! ) .

____________________

(١) الملهوف: ٢٢٨؛ مُثير الأحزان: ١١٣؛ ينابيع المودّة ٣/ ٩٣ بتفاوت يسير.

(٢) ينابيع المودّة ٣/ ٩٣.

(٣) عبرات المصطفين ٢/ ٣٥٩.

٤٠٢

في المدينة المنوّرة

حالة أهل البيتعليهم‌السلام حين دخولهم المدينة:

قال الشيخ ابن نما الحِلّي يصف الحالة: ثمّ دخل زين العابدينعليه‌السلام وجماعته دار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فرآها مُقفرة الطلول، خالية من سُكَّانه، خالية بأحزانه، قد غشيها القدر النازل، وساورها الخطب الهائل، وأطلَّت عليها عذابات المنايا، وأظلّتها جحافل الرزايا، وهي موحشة العرصات، لفقد السادات...

وقـفت عـلى دار الـنبيّ مـحمّد

فـألفيتها قـد أقـفرت عرصاتها

وأمـست خـلاءً من تلاوة قارئٍ

وعـطّل مـنها صومها وصلاتها

وكـانـت مـلاذاً لـلعلوم وجـنّة

من الخطب يغشي المعتقين صلاتها

فـأقوت من السادات من آل هاشم

ولـم يـجتمع بعد الحسين شتاتها

فعيني لقتل السبط عبرى ولوعتي

عـلى فـقده مـا تنقضي زفراتها

فـيا كبدي كم تصبرين على الأذى

أما آن أن يُغني إذن حَسراتها (١)

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب الكركي: ( ولما شاهدعليه‌السلام منازل أحبّائه، التي كانت مشارق أنوار الإيمان، ومظاهر أسرار القرآن، ومواطن مصابيح العرفان، ومعادن مجاويع الإحسان، تندب بلسان حالها، وتنحب لفقد رجالها، وتذرف عبراتها من مآقيها، وتصاعد زفراتها من تراقيها، وتُنادي بصوت يُنبئ عن شدّة لوعتها، ويُخبر بحدّة كربتها، ويستخبر كلّ راكب وراجل، وينشد كلّ ظاعن ونازل:

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١١٤.

٤٠٣

أيـن مَـن كانوا شموسي وبدوري

أيـن مـا كـانوا جمالي وسروري

أيـن مَـن كـانوا حُماتي ورعاتي

وهُداتي حين تعييني أموري...(١)

مُـذ نـأوا بـالبُعد عن إنسان عيني

كـثر الـشامت إذ قـلَّ نـصيري

يـا عـيوني إن تكن عَزَّت دموعي

فـاذرفي بـالدم مـن قـلبٍ كسير

نادى مجلس كراماتهم، ومدارس تلاواتهم، ومقامات عباداتهم، ومحاريب صلواتهم، أين مَن كُتِب رياض الكرم بجودهم وحُماة الأُمم بوجودهم؟ أين عمّاركِ بركوعهم وسجودهم وقوّامكِ في طاعة معبودهم؟ أين مَن كانت حدائق أنعُمهم في فنائكِ مُغدقة، وجداول كرمهم في خلالكِ مُتدفِّقة، وأعلام علومهم منصوبة، وأروقة شرفهم مضروبة؟ كم أضاءوا بمصابيح نفقاتهم ظلمتك؟ وكم آنسوا بنغمات تلاوتهم وحشتك؟ وكم أحيوا بصلاتهم ليلك ونهارك؟ وكم أناروا بنور تهجُّدهم حنادس أسحارك؟

فأجابه صداها بلسان حالها، وأخبره فناؤها بتنكّر أحوالها: رحلوا عن تقنّعي، فسكنوا في بيت الأحزان قلبي، ونأوا عن ربوعي، فأطالوا لطول نواهم كربي، فآهٍ! فيا شوقاه لمواطئ أقدامهم على صعيدي! آه وا أسفاه لانتقال أقمار وجوههم عن منازل سعودي! خابني زماني بإبعادهم عنّي، فأصبح باب سروري مُرتجى، وعاندني دهري إذ أسلبهم منّي، فليس لي بعدهم في الخلق مُرتجى، فيا كلم قلبي ذُبْ أسفاً، فما لك مأوى في رميم عظامي، ويا سقيم جسمي مُتْ كمداً قبل تقضِّي مدّتي وأيّامي...

وشاهد ( صلوات الله عليه ) منازل أحبّائه مُظلمة لوحشتها، مُقفرة لخلوتها،

____________________

(١) هنا عدّة أبيات لم أذكرها مُراعاةً للاختصار.

٤٠٤

فكأنّي بلسان حاله قد ناجاها، وببيان مقاله ناداها: يا أيّتها المنازل التي غابت عنها حماتها، وغيّرت صفاتها، وحلّت مرابعها، وأقوت مجامعها، حزني لفقد عُمَّارك سرمد، ووجدي لبُعد سمائك لا ينفد، وأنباء مُصيبتهم تُرسل عبراتي، وأحاديث محنتهم تُهيِّج حسراتي، وديارهم الخالية تُحرق قلبي، وربوعهم الخاوية تُذهل لُبِّي، وكيف لا يقدح زند الفراق نار الاشتياق في جوانحي وأحشائي، ويُفرغ فرط الغرام ثوب السقام على جوارحي وأعضائي...؟! )(١) .

حالة المدينة بعد دخول حرم الحسينعليه‌السلام :

قال الخوارزمي: ( قالوا: ولما دخل حرم الحسينعليه‌السلام المدينة عجّت نساء بني هاشم، وصارت المدينة صيحةً واحدة... )(٢) .

وقال ابن فتّال النيسابوري: (... حتّى دخلوا المدينة، فلم يُسمَع واعية مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن عليّ (عليهما السلام ) )(٣) .

رثاء امرأة من بنات عبد المطّلب:

روى ابن الجوزي، بإسناده عن عمّار الدهني، عن أبي جعفر قال: [ لما ] قدموا المدينة خرجت امرأة من بنات عبد المطّلب ناشرةً شعرها واضعةً كُمّها على رأسها تلقّاهم وتقول:

ماذا تقول إن قال النبيّ لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُمم

____________________

(١) تسلية المجالس ٢/ ٤٦٤.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٦، ثمّ ذكر بعد ذلك ضحك عمرو بن سعيد أمير المدينة وتمثُّله بقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي وخطبته على المنبر، وهو ما ذكرناه بعد وصول رأس الحسينعليه‌السلام المدينة، فلا نُعيد.

(٣) روضة الواعظين ١/ ١٩٢.

٤٠٥

بـعـترتي وبـأهلي بـعد مُـفتقدي

مـنهم أُسـارى وقـتلى ضُرِّجوا بدم

مـا كـان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي(١)

عند مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال العلاّمة المجلسي (رحمه الله): ( روي في بعض مؤلّفات أصحابنا: قال الراوي: ( وأمّا زينب، فأخذت بعَضادَتي باب المسجد، ونادت: ( يا جدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين )، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلّما نظرت إلى علي بن الحسين تجدّد حزنها، وزاد وجدها )(٢) .

لبس السواد وإقامة المأتم:

روى البرقي، بإسناده عن عمر بن علي بن الحسين، قال: ( لما قُتل الحسين بن عليعليه‌السلام لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان عليّ بن الحسين يعمل لهنَّ الطعام للمأتم )(٣) .

مُكافأة الحرس:

لقد شكرت العلويّات كلّ الذين قاموا برعايتهنّ من الشام حتّى المدينة، قال الشبلنجي: ( وكان [ الرجل الحارس ] يسألهم عن حالهم ويتلطّف بهم في جميع

____________________

(١) الردّ على المتعصّب العنيد: ٥١. وروي نحوه في: البدء والتاريخ ٦/ ١٢؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٩ و٢٠٠؛ تهذيب الكمال: ٤٢٩ بتفاوت يسير.

لقد ذكرنا - فيما سبق - رثاء ابنة عقيل حينما ورد خبر مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى المدينة، إلاّ أنّ بعض المؤرِّخين - كما ذكرنا أسماءهم آنفاً - روى ذلك بعد وصول حرم الحسينعليه‌السلام المدينة، وهو لا يُنافي ما سبق، إذ هما أمران إيجابيّان لا مانع من جمعهما وتكرُّرهما في زمانين.

(٢) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٨.

(٣) المحاسن: ٤٢٠، باب الإطعام، باب ٢٦، ح١٩٦، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٨ ح٣٣.

٤٠٦

أُمورهم، ولا يشقُّ عليهم في مسيرهم إلى أن دخلوا المدينة، فقالت فاطمة بنت الحسين لأُختها سكينة: قد أحسن هذا الرجل إلينا، فهل لكِ أن تصليه بشيء؟

فقالت: والله، ما معنا ما نصله به، إلاّ ما كان من هذا الحُلْيّ.

قالت: فافعلي. فأخرجتا له سوارين ودُملجين وبعثا بهما إليه فردّهم، وقال: لو كان الذي صنعته رغبةً في الدُّنيا لكان في هذا مُقنِع بزيادة كثيرة، ولكنّي - والله - ما فعلته إلاّ لله، ولقرابتكم من رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) )(١) .

ولقد ذكرنا فيما سبق في مبحث ( حُسن المعاملة في الطريق) ما يدلّ على ذلك، إلاّ أنّ الكلام جرى بين فاطمة بنت علي وأُختها زينب (سلام الله عليهما)، وأنّ التي أرسلت السوار والدُّملج إلى ذلك الرجل هي زينبعليها‌السلام ، وهو الأنسب(٢) .

ولكنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام كافأ بعضهم بأحسن ما يُمكن وفوق ما يُتصوَّر.

روى الطبري الإمامي، بإسناده عن أبي نمير عليّ بن يزيد، قال: ( كنت مع عليّ بن الحسينعليه‌السلام عندما انصرف من الشام إلى المدينة، فكنت أُحسِن إلى نسائه وأتوارى عنهم عند قضاء حوائجهم، فلما نزلوا المدينة بعثوا إليّ بشيء من حُليِّهنّ فلم آخذه، وقلت: فعلت هذا لله عزّ وجلّ (ولرسوله خ). فأخذ عليّ بن الحسينعليه‌السلام حجراً أسود أصمّ، فطبعه بخاتمه، ثمّ قال:( خُذْه وسل كلّ حاجة لك منه، فوالله الذي بعث محمّداً بالحقّ، لقد كنت أسأله الضوء في البيت فينسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتُفتح لي، وآخذه بين يدي السلاطين فلا أرى إلاّ ما أُحبّ ) )(٣) .

____________________

(١) نور الأبصار: ١٣٢.

(٢) ذكر ذلك تاريخ الطبري ٤/ ٢٥٤ والكامل في التاريخ ٤/ ٨٨ ومقتل الخوارزمي ٢/ ٧٤ والبداية والنهاية ٨/ ١٩٧.

(٣) دلائل الإمامة: ٢٠١ ح١١٩، اُنظر: نوادر المعجزات ١١٦/ ٧؛ إثبات الهُداة ٣/ ٢٦، ب ١٧، ف٢٢، ح٦١؛ مدينة المعاجز ٤/ ٢٥٩، ح١٢٩٣.

٤٠٧

هدم بيوت تتعلّق بأُسرة الحسينعليه‌السلام :

وممّا يكشف القناع عن سياسة القمع الأُموي، ما ارتكبوه من هدمٍ لبعض البيوت التي تتعلّق بأُسرة أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وهذا هو تأييد آخر لما ذكرناه مراراً.

قال القاضي نعمان: ( وروي عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال:( أُصيب الحسين عليه‌السلام وعليه دين بضع وسبعون ألف دينار.

( قال: )وكفّ يزيد عن أموال الحسين عليه‌السلام ، غير أنّ سعيد بن العاص هدم دار عليّ بن أبي طالب، ودار عقيل ودار الرباب بنت امرئ القيس، وكانت تحت الحسين، وهي أُمّ سكينة ) (١) .

وهذا هو تأييد آخر لما هو مُسلّم في التاريخ، وركّزنا عليه وأكّدناه مراراً، وقلنا: إنّ ما هو يظهر من بعض الكُتب من إظهار يزيد الحزن على ما وقع لم يكن إلاّ كذباً ونفاقاً وزور، وإلاّ فلماذا هذا الفعل الشنيع؟!

لاحظوا ما قيل من طلب يزيد من الإمامعليه‌السلام أن يكتب إليه كتاباً إذا اضطرّ إلى أمر! ثمّ يفعل بهم هذا!

إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

روى القاضي نعمان عن الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال:

( نيحَ على الحسين بن علي سنة كاملة كلّ يوم وليلة، وثلاث سنين من اليوم الذي أُصيب فيه، وكان المسور بن مخرمة وأبو هريرة وتلك المشيخة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتون مُستترين ومُقنّعين، فيسمعون ويبكون )(٢) .

____________________

(١) شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩، ح١١٧٣.

(٢) دعائم الإسلام ١/ ٢٢٧.

٤٠٨

وهذا الخبر يدلّ على مدى حزن الهاشميّين، واهتمامهم بعزاء سيّد الشهداءعليه‌السلام ، بحيث حزنوا كأشدّ ما يكون الحزن واللوعة، واستمرّوا على ذلك؛ إبقاءً لذكر أبي عبد اللهعليه‌السلام واستمراراً لنهجه.

نَوْحُ الجِنّ:

قال الزرندي: روى جعفر بن محمّد، عن أبيهعليهما‌السلام قال:( نيحَ (على) الحسين بن علي ثلاث سنين، وفي اليوم الذي قُتِل فيه، فكان وائلة بن الأصقع، ومروان بن الحَكم، ومسور بن مخرمة، وتلك المشيخة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يجيئون فيسمعون نوح الجنّ ويبكون ) (١) .

رثاء أُمّ البنين:

روي عن صاحب رياض الأحزان أنّه قال: ( وأقامت أُمّ البنين زوجة أمير المؤمنين العزاء على الحسينعليه‌السلام ، واجتمع عندها نساء بني هاشم يندبن الحسين وأهل بيته )(٢) .

وقال المامقاني: ( ويُستفاد قوّة إيمانها... أنّ بِشْراً كلّما نعى إليها بعد وروده المدينة أحداً من أولادها الأربعة قالت - ما معناه -: أخبرني عن الحسينعليه‌السلام ، فلما نعى إليها الأربعة قالت: قد قطّعت أنياط قلبي، أولادي ومَن تحت الخضراء كلّهم فداءً لأبي عبد الله الحسينعليه‌السلام )(٣) .

قال أبو الفرج الإصفهاني: ( وكانت أُمّ البنين... تخرج إلى البقيع فتندب بنيها

____________________

(١) نظم درر السمطين: ٢٢٤، عنه إحقاق الحقّ ١١/ ٥٨٩.

(٢) رياض الأحزان: ٦٠، على ما في هامش شرح الأخبار ٣/ ١٨٦.

(٣) تنقيح المقال ٣/ ٧٠.

٤٠٩

أشجى ندبة وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمَن يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي!

ذكر ذلك عليّ بن محمّد بن حمزة، عن النوفلي: عن حمّاد بن عيسى الجهني، عن معاوية بن عمّار، عن جعفر بن محمّد )(١) .

وقال أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل: ( وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه، تحمل ولده ( أي ولد العبّاسعليه‌السلام ) عبيد الله، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة وفيهم مروان بن الحَكم، فيبكون لشَجى الندبة.

ومن قولها (رضي الله عنها):

يا مَن رأى العبّاس كرَّ على جماهير النقد

ووراه من أبناء حيدر كلّ ليثٍ ذي لبد

أُنْبِئتُ أنّ ابني أُصيب برأسه مقطوع يد

ويلي على شبلي أمال برأسه ضرب العَمد

لو كان سيفك في يديك لما دنا منك أحد

وقولها أيضاً:

لا تـدعونَّي ويـكَ أُمّ الـبنين

تُـذكّـريني بـليوث الـعرين

كـانت بـنون لـي أُدعى بهم

قد واصلوا الموت بقطع الوَتين

تُـنازع الـخرصان أشـلاءهم

فـكلّهم أمـسى صريعاً طعين

يـا لـيت شِعْرِي أكما أخبروا

بأنّ عبّاساً قطيع اليمين )(٢)

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٩٠.

(٢) شرح الكامل، على ما في هامش شرح الأخبار ٣/ ١٨٦.

٤١٠

حزن وبكاء الرباب بنت امرئ القيس ورثاؤها:

لقد حزنت الرباب زوجة الإمام الحسينعليه‌السلام حزناً بالغاً، ووجدت عليه وجداً شديداً، وقد أبدت من الوفاء شيئاً غريباً.

قال ابن الأثير: ( وكان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرئ القيس، وهي أُم ابنته سكينة، وحُملت إلى الشام فيمَن حُمل من أهله، ثمّ عادت إلى المدينة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنت لأتَّخذ حموّاً بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم). وبقيت بعده سنة لم يُظلّها سقف بيت حتّى بليت وماتت كَمَداً )(١) .

وقال ابن كثير: ( ولما قُتل (الحسينعليه‌السلام ) بكربلاء كانت (رباب) معه، فوجدت عليه وجداً شديداً... وقد خطبها بعده خلقٌ كثير من أشراف قريش، فقالت: ما كنت لأتّخذ حموّاً بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم)، ووالله، لا يؤويني ورجلاً بعد الحسين سقف أبداً، ولم تزل عليه كَمِدة حتّى ماتت. ويُقال: إنّها عاشت بعده أيّاماً يسيرة، فالله أعلم )(٢) .

وما ذكر من إقامتها على قبر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام سنة، ثمّ رجوعها إلى المدينة قائلة:

إلى الحول ثمّ اسمُ السلام عليكما

ومَن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر(٣)

ممّا لا يُمكننا المساعدة عليه، وهو بعيد جدّاً، والمستفاد من البيت البكاء على الحسينعليه‌السلام سنة لا البقاء على قبره الشريف؛ ولذلك ذكر بعض المؤرِّخين ذلك بقول: (قيل). الدالّ على ضعفه(٤) .

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٨.

(٢ و٣) البداية والنهاية ٨/ ٢١٢.

(٤) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٨.

٤١١

نعم، قال سبط ابن الجوزي: ( وعاشت بعد الحسين سنة، ثمّ ماتت كَمَداً، ولم تستظلّ بعد الحسين بسقف )(١) .

وبذلك يُستظهر أنّها قالت ذلك البيت في آخر أيّام حياتها، ولعلّها أنشدته حينما رأت بوادر الموت وعلمت بفراق الروح من الجسم، وإلاّ فمن شأنها أن تكون على هذه الحالة إلى آخر أيّام حياتها ولو طالت.

وذكر بعض المؤرِّخين، أنّها رثته رثاءً حزيناً، فقالت فيه:

إنّ الـذي كـان نوراً يُستضاء به

بـكربلاء قـتيل غـير مـدفون

سـبط الـنبيّ جـزاك الله صالحةً

عـنّا وحُـبيت خـير الـموازين

قـد كـنت جـبلاً صـعْبَاً ألوذ به

وكـنت تَـصحبنا بالرحم والدِّين

مَـن لـليتامى ومَن للسائلين ومَن

يُـغني ويـأوي إلـيه كلّ مسكين

والله لا أبـتغي صـهراً بصهركم

حتّى أُغيَّب بين الرمل والطين(٢)

رثاء عاتكة بنت زيد:

قيل: إنّه بلغ من وفاء أزواج الإمام الحسينعليه‌السلام أنّ زوجته السيّدة عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تنوح عليه، وقد رثته بذوب روحها قائلةً:

وا حـسيناً فـلا نسيتُ حسينا

أَقْـصَـدَتْه أسِـنّـةُ الأعـداء

غـادروه بـكربلاء صـريعاً

لا سَقى الغيثُ بعده كربلاء(٣)

هذا، ولكن نُسبت هذه الأبيات - مع تفاوتٍ يسير - إلى رباب زوجة الإمام

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦٥.

(٢) اُنظر الأغاني ١٦/ ١٤٧.

(٣) مُعجم البلدان ٤/ ٥٠٥، رقم ١٠١٧٦.

٤١٢

الحسين، وأنّها رثت بها الحسينعليه‌السلام في الشام، بعدما أخذت رأسه وقبّلته ووضعته في حجرها وقالتها(١) .

أُمّ سلمة تردُّ الأمانات إلى أهلها:

روى الشيخ الكليني أيضاً، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ( إنّ الحسين صلوات الله عليه لما صار إلى العراق استودع أُمّ سلمة (رضي الله عنها) الكُتب والوصيّة، فلما رجع عليّ بن الحسينعليه‌السلام دفعتها إليه )(٢) .

ونحوه ما ذكره المسعودي بقوله: ( ثمّ أحضر ( أي الإمام الحسينعليه‌السلام ) عليّ بن الحسينعليه‌السلام وكان عليلاً، فأوصى إليه بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياءعليهم‌السلام وعرّفه أن قد دفع العلوم والصُّحُف والسلاح إلى أُمّ سلمة (رضي الله عنها)، وأمرها أن تدفع جميع ذلك إليه )(٣) .

وقال أيضاً: ( فلما قرب استشهاد أبي عبد اللهعليه‌السلام دعاه ( أي عليّ بن الحسينعليه‌السلام )، وأوصى إليه، وأمره أن يتسلّم ما خلّفه عند أُمّ سلمة - رحمها الله - مع مواريث الأنبياء والسلاح والكتاب )(٤) .

وهذا أيضاً ممّا يدلّ على مدى جلالة وعظمة أُمّ سلمة رضوان الله عليها، بحيث إنّها كانت مؤتمنة عند الرسول وآله إلى آخر أيّام حياتها، والأشياء التي حفظتها هي الأشياء التي لابدّ أن تكون عند حجّة الله في الأرض في كلّ زمان.

وممّا يُظهر أهمّية ذلك ما رواه الفقيه ابن حمزة الطوسي، عن أبي خالد الكابلي أنّه

____________________

(١) تاريخ الفرماني على ما في هامش شرح الأخبار ٣/ ١٧٨.

(٢) الكافي ١/ ٢٤٢، ح٣؛ الغيبة ١٩٥/ ١٥٩؛ المناقب ٤/ ١٧٢؛ إعلام الورى: ٢٥٢.

(٣) إثبات الوصيّة: ١٤٢.

(٤) إثبات الوصيّة: ١٤٥.

٤١٣

قال: ( لما قُتِل أبو عبد الله الحسين صلوات الله عليه، وبقيت الشيعة مُتحيّرة، ولزم عليّ بن الحسين ( صلوات الله عليهما ) منزله، اختلفت الشيعة إلى الحسن بن الحسن، وكنت فيمَن يختلف إليه، وجعلت الشيعة تسأله عن مسألة ولا يُجيب فيها، وبقيت لا أدري مَن الإمام مُتحيّراً، وإنّي سألته ذات يوم فقلت له: جُعلت فداك، عندك سلاح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فغضب، ثمّ قال: يا معشر الشيعة، تعنُّونا ( تَعيبوننا خ)؟!

فخرجت من عنده حزيناً كئيباً، لا أدري أين أتوجّه، فمررت بباب عليّ بن الحسين زين العابدين عليه الصلاة والسلام قائم الظهيرة، فإذا أنا به في دهليزه قد فتح بابه، فنظر إليّ فقال:( يا كنكر ) . فقلت: جُعلت فداك، والله، إنّ هذا الاسم ما عرفه أحد إلاّ الله عزّ وجلّ وأنا، وأُمّي كانت تُلقّبني به وتُناديني وأنا صغير.

قال: فقال لي:( كنت عند الحسن بن الحسن؟! ) .

قلت: نعم.

قال:( إن شئت حدّثتك، وإن شئت تحدّثني ) .

فقلت: بأبي أنت وأُمّي! فحدّثني.

قال:( سألتَه عن سلاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا معشر الشيعة، تعنّونا؟ ) .

فقلت: جُعلت فداك، كذا - والله - كانت القضيّة.

فقال للجارية:( ابعثي إليّ بالسفط ). فأخرجتْ إليه سفطاً مختوماً، ففضّ خاتمه وفتحه، ثمّ قال:( هذه درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) . ثمّ أخذها ولبسها، فإذا هي إلى نصف ساقه، قال: فقال لها:( اسبغي ) . فإذا هي تنجرّ في الأرض، ثمّ قال:( تقلّصي ). فرجعت إلى حالها، ثمّ قال صلوات الله عليه:( إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا لبسها قال لها هكذا، وفعلت هكذا مثله ) )(١) .

____________________

(١) الثاقب في المناقب: ٣٦٣، ح٣٠٢، اُنظر: المناقب ٤/ ١٣٥؛ الهداية الكبرى: ٢٢٥؛ مدينة المعاجز ٤/ ٤٢٢، ح١٤٠٦.

٤١٤

فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام تردّ الأمانات إلى أهلها:

روى الشيخ الكليني (رحمه الله)، بإسناده عن أبي الجارود، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( إنّ الحسين بن عليّ عليهما‌السلام لما حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّة ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام مبطوناً معهم، لا يرون إلاّ أنّه لما به، فدفعَت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، ثمّ صار - والله - ذلك الكتاب إلينا يا زياد ) .

قال: قلت: ما في ذلك الكتاب، جعلني الله فداك؟

قال:( فيه - والله - ما يحتاج إليه وُلْد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدُّنيا، والله، إنّ فيه الحدود، حتّى أنّ فيه أرش الخدش ) (١) .

ويبدو أنّ هذه غير الأمانات التي قامت بردّها أُمّ سلمة، فيظهر أنّ الإمامعليه‌السلام قسّم الأمانات والوصيّة وبعض المواريث إلى قسمين، فجعل بعضها بيد ابنته فاطمة، والآخر بيد أُمّ سلمة، لكي يُسلِّماهما من بعده إلى حُجّة الله في أرضه. هذا وعقولنا قاصرة عن إدراك ذلك تفصيلاً.

استمرار بكاء وحزن الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

روى الشيخ الصدوق، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

( البكّاءون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليّ بن الحسينعليهما‌السلام . فأمّا آدم، فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية، وأمّا يعقوب، فبكى على

____________________

(١) اُنظر: بصائر الدرجات: ١٦٨، ح٢٤؛ المناقب ٤/ ١٧٢؛ إثبات الوصيّة: ١٤٢.

٤١٥

يوسف حتّى ذهب بصره، وحتّى قيل له: ( ... تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) (١) ،وأمّا يوسف، فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهل السجن، فقالوا: إمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل، وإمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار، فصالحهم على واحد منهما، وأمّا فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فبكت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى تأذّى بها أهل المدينة، وقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك. فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء، فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف، وأمّا عليّ بن الحسين، فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف، وأمّا عليّ بن الحسين فبكى على الحسين عليهما‌السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وُضِع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال له مولى له: جُعلت فداك، يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عَبْرة ) (٢) .

وقال ابن نما: ( فقد رويت عن والدي رحمة الله عليه، أنّ زين العابدينعليه‌السلام كان - مع حِلمه الذي لا توصف به الرواسي وصبره الذي لا يبلغه الخلّ المواسي - شديد الجزع والشكوى لهذه المصيبة والبلوى، بكى أربعين سنة بدمع مسفوح وقلب مقروح، يقطع نهاره بصيامه وليله بقيامه، فإذا أُحضِر الطعام لإفطاره ذكر قتلاه وقال: وا كرباه، ويُكرِّر ذلك ويقول: قُتِل ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشانا حتّى يبلّ [بالدمع] ثيابه )(٣) .

____________________

(١) يوسف: ٨٥.

(٢) أمالي الصدوق: ٢٠٤، مجلس ٢٩، ح٥؛ الخصال ٢٧٢/ ١٥٤. وروى الفتّال النيسابوري آخره.

(٣) مُثير الأحزان: ١١٥.

٤١٦

وقال: ( قال أبو حمزة الثمالي: سُئلعليه‌السلام عن كثرة بكائه، فقال:

( إنّ يعقوب فَقَدَ سبطاً من أولاده فبكى عليه حتّى ابيضّت عيناه وابنه حيّ في الدُّنيا، ولم يعلم أنّه مات، وقد نظرت إلى أبي وسبعة عشر من أهل بيتي قُتلوا في ساعة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي؟! ) (١) .

وقال السيّد ابن طاووس: ( فاسلك أيّها السامع بهذا المصاب مسلك القدوة من حملة الكتاب، فقد روي عن مولانا زين العابدينعليه‌السلام - وهو ذو الحِلم الذي لا يبلغ الوصف إليه - أنّه كان كثير البكاء لتلك البلوى، عظيم البثّ والشكوى، فروي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال:( إنّ زين العابدين عليه‌السلام بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضره الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه، فيقول: كُلْ يا موالاي. فيقول: قُتِل ابن رسول الله جائعاً، قُتل ابن رسول الله عطشاناً. فلا يزال يُكرّر ذلك ويبكي حتّى يبلّ طعامه من دموعه، ويمتزج شرابه منها، فلم يزل كذلك حتّى لحق بالله عزّ وجلّ ) (٢) .

وروى الخوارزمي، بإسناده عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام قال:( كان أبي عليّ بن الحسين عليه‌السلام إذا حضرت الصلاة يقشعرّ جلده، ويصفرّ لونه، وترتعد فرائصه، ويقف شعره، ويقول - ودموعه تجري على خدّيه -: لو علم العبد مَن يُناجي ما انفتل ).

وبرز يوماً إلى الصحراء، فتبعه مولى له، فوجده قد سجد

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الملهوف: ٢٣٣.

٤١٧

على حجارة خشنة، قال مولاه: فوقفت حيث أسمع شهيقه وبكاءه، فوالله، لقد أحصيت عليه ألف مرّة وهو يقول:( لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً ) . ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غُمرا بالماء من دموع عينيه، فقال له مولاه: يا سيّدي، أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقلّ؟! فقال له:( ويحك! إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبيّ، وله اثنا عشر ابناً، فغيّب الله تعالى واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وذهب بصره من البكاء وابنه حيّ في دار الدُّنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة وعشرين (١) من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي؟! ) (٢) .

وقال الأربلي: وعن جعفر بن محمّدعليهما‌السلام قال:( سُئل عليّ بن الحسين عن كثرة بكائه، قال: لا تلوموني، فإنّ يعقوب فَقَدَ سِبْطاً من ولده فبكى حتّى ابيضّت عيناه ولم يعلم أنّه مات، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي في غداة واحدة قتلى، فترون حزنهم يذهب من قلبي؟! ) (٣) .

____________________

(١) جاء في نقل الملهوف: سبعة عشر، وهو الصحيح، وهناك قرائن على صحّة هذا النقل.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ١٢٤. ورواه السيّد ابن طاووس مُرسلاً بتفاوت يسير (الملهوف: ٢٣٤).

(٣) كشف الغمّة ٢/ ١٠٢.

٤١٨

دور الإمام زين العابدينعليه‌السلام في استمرار الرسالة:

إنّ الإمامعليه‌السلام قد أدّى في دوره بأحسن ما يمكن، بالنسبة إلى استمرار الرسالة الحسينيّة، وتثبيت دعائمها، وثمرتها وتربية النفوس عليها، وذلك بعدّة أُمور:

١ - تثبيت أمر الإمامة: إنّ السلطة الغاشمة والزمرة الحاكمة أرادت وأحبّت أن ترى انخماد كلّ شيء بعد مقتل أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ولكنّ الإمامعليه‌السلام بدوره أثبت أنّ الإمامة أمرٌ خارج عن نطاق إرادة البشر، وأنّها أمر إلهي يُلازمها لطف ربّاني، وعناية ربّانيّة مخصوصة، وبذلك يحمل ما جرى بينهعليه‌السلام وبين عمّه محمّد بن الحنفيّة(١) ، وممّا يؤيّد ذلك ما ذكرناه في رواية أبي خالد الكابلي آنفاً.

٢ - تربية الناس: إنّ الإمامعليه‌السلام بما أنّه يمتلك قوّة وموهبة إلهيّة، فقد قام بتربية الناس، وذلك عبر كلماته ومواعظه التي ربَّما كانت تُلقى في يوم الجمعة، وفي مسجد رسول اللهعليه‌السلام ، ومعلوم أنّ حضور الناس في يوم الجمعة يختلف عمّا سواه.

روى ورّام بن أبي فراس، عن سعيد بن المسيب أنّه قال: ( كان عليّ بن الحسين يعظ الناس، ويُزهّدهم في الدُّنيا، ويرغّبهم في الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد الرسول )(٢) .

٣ - بثّ المعارف الإلهيّة: لما كان الإمامعليه‌السلام يعيش في ظروف سياسيّة شاقَّة جدّاً، فمن الطبيعي أنّه ما كان يسعه أن يحضر الساحة بالنحو المطلوب؛ ولذلك نرى أنّهعليه‌السلام قدّم ثروة علميّة عظيمة في قالب الدُّعاء، وهو يُعالج أموراً عديدة في جوانب مُختلفة، كالمجال التربوي، والعرفاني، والاجتماعي، والسياسي...

____________________

(١) اُنظر الاحتجاج ٢/ ١٤٧ و١٥١.

(٢) تنبيه الخواطر: ٣٦٦.

٤١٩

٤ - الإمام ومسألة أخذ الثأر من قَتَلَة الإمام عليه‌السلام : إنّ المتتبّع في التاريخ ربّما يحصل على قرائن وشواهد عديدة على قيادة الإمامعليه‌السلام مسألة أخذ ثأر قَتَلة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتفصيل ذلك خارج عن عهدة هذا المقال(١) ، بل إنّنا نجد أنّه كان يهتمّ في هذه المسألة في دعائه المستمرّ ليلاً ونهاراً.

قال القاضي نعمان: ( وكان عليّ بن الحسينعليه‌السلام يدعو في كلّ يوم وليلة أن يُريه الله قاتل أبيه مقتولاً، فلما قتل المختار قَتَلَه الحسينعليه‌السلام بعث برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد - مع رسول من قِبله - إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وقال لرسوله: إنّه يُصلّي من الليل، فإذا أصبح وصلّى الغداة هجع ثمّ يقوم [ فيستاك ] فيؤتى بغذائه، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه، فإذا قيل لك: إنّ المائدة وضعت بين يديه. فاستأذن عليه وضَعْ الرأسين على [مائدته]، قل له: المختار يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا بن رسول الله، قد بلّغك الله ثارك. ففعل الرسول ذلك، فلما رأى علي بن الحسين رأسين على [مائدته] خرّ الله ساجداً، وقال:( الحمد لله الذي أجاب دعائي وبلّغني ثأري من قَتَلة أبي ) ، ودعا للمختار وجزّاه خيراً )(٢) .

وممّا يدلّ على مدى تأثير الإمامعليه‌السلام هو ملاحظة ردود فعل السلطة، نذكر بعضها:

١ - إيذاؤهم له وشتمه على المنبر: ذكر سبط ابن الجوزي، عن ابن سعد أنّ والي المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي كان يؤذي علي بن الحسين، ويشتم عليّاً على المنبر وينال منه(٣) .

____________________

(١) اُنظر ذوب النضار: ٩٧ - ٩٨ و١٤٤.

(٢) شرح الأخبار ٣/ ٢٧٠.

(٣) تذكرة الخواص: ٣٢٨.

٤٢٠