مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد أمين الأميني
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 460
المشاهدات: 225083
تحميل: 8088

توضيحات:

الجزء 6
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225083 / تحميل: 8088
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 6

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الأوّل

دور أهل البيت في الشام

الشام قبل ورود أهلالبيت عليهم‌السلام

ظهور الآيات في الشام بعد مقتل الحسينعليه‌السلام :

رُويت عدّة روايات حول ظهور آيات كونيّة في الشام بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام (١) ، نذكر بعضها:

روى الطبراني، بإسناده عن ابن شهاب قال: ( ما رُفع بالشام حجر يوم قَتْل الحسين بن علي إلاّ عن دم، رضي الله عنه )(٢) .

وقال الزرندي: ( روى أبو الشيخ في كتاب السنّة.. بسنده إلى يزيد بن أبي زياد قال: شهدت مقتل الحسين وأنا ابن خمس عشرة سنة، فصار الفرس(٣) في

____________________

(١) لعلّ هذه الآيات والتغيّرات الكونيّة التي حدثت في الشام، هي التي أدّت إلى تغيّر الأوضاع وانقلاب المعادلة ضدّ يزيد، كما سنأتي عليه في البحوث اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٣/ ١٢٠، ح٢٨٣٥. وقال الهيثمي (مجمع الزوائد ٩/ ١٩٦) بعد ذكره الخبر عن الزهري: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وفي ذخائر العُقبى (ص١٤٥) بعد ذكره الرواية قال: خرّجه ابن السري.

(٣) هكذا في المصدر ولعلّ الصحيح الورس وهو: نبت يُستعمَل لتلوين الملابس الحريرية، لاحتوائه على مادّة حمراء، ينبت في بلاد العرب والحبشة والهند، كما جاء في المعجم الوسيط مادّة (ورس).

٨١

عسكرهم رماداً واحمرّت السماء لقتله، وانكسفت الشمس لقتله، حتّى بدت الكواكب نصف النهار، وظنّ الناس أنّ القيامة قد قامت، ولم يُرفَع حجر في الشام إلاّ رُؤي تحته دم عبيط )(١) .

وقال مُحبّ الدِّين الطبري: ( رُوي عن جعفر بن سليمان قال: حدّثتني خالتي أمّ سالم قالت: لما قُتل الحسين مُطرنا مطراً كالدم على البيوت والخدر.

قالت: وبلغني أنّه كان بخراسان والشام والكوفة )(٢) .

حالة الناس:

إنّ قتل الحسينعليه‌السلام أفجَعَ كلّ الناس، ما خلا السلطة الحاكمة، وبنو أُميّة، وأهالي دمشق، والبصرة - على ما في بعض الروايات -:

روى الشيخ الجليل جعفر بن محمّد بن قولويه، بإسناده عن يونس بن ظبيان، وأبي سلمة السرّاج، والمفضّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول:( لما مضى الحسين بن عليّ عليهما‌السلام بكى عليه جميع ما خلق الله إلاّ ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان ) (٣) .

وروى الشيخ الطوسي، بإسناده عن الحسين بن فاختة، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، قال:( إنّ أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام لما قُتل بكتْ عليه السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار، وما يُرى وما لا يُرى، إلاّ ثلاثة أشياء فإنّها لم تبكِ عليه ) .

فقلتُ: جُعلت فداك، وما هذه الثلاثة

____________________

(١) نظم درر السمطين: ٢٢٠.

(٢) ذخائر العُقبى: ١٤٥، ثمّ قال: خرّجه ابن بنت منيع؛ إحقاق الحقّ ١١/ ٤٦٠، وقال: ورواه ابن عساكر في تاريخه على ما في مُنتخبه ٤/ ٣٣٩، والذهبي في تاريخ الإسلام ٢/ ٣٤٩.

(٣) كامل الزيارات: ٨٠ ح٤، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٢٠٦.

٨٢

أشياء التي لم تبكِ عليه؟ فقال:( البصرة، ودمشق، وآل الحَكم بن أبي العاص ) (١) .

ولا شكّ أنّ المقصود من البصرة ودمشق أهلهما، كما في قوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ... ) (٢) ، أي أهلها.

أمّا أهل دمشق؛ فلطول زمان تسلّط بني أميّة عليهم، وبثّ الفتنة والدعايات الكاذبة ضدّ آل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المصر.

وأمّا البصرة؛ فحسبها أنّها البلدة التي اتّخذها الناكثون موضعاً للوقوف في وجه الإمام المفترض الطاعة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولبقاء آثار حرب الجمل دور لا يمكن التغافل عنه.

وأمّا آل عثمان وآل الحكم بن أبي العاص؛ فإنّهم من بني أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن، كما تقدّم.

المهمّ أنّ أهل الشام لم يتأثّروا في بادئ الأمر بقتل الحسينعليه‌السلام ، بل راحوا يهنئون يزيد بالفتح(٣) !!.

أمْرُ يزيد بإرسال رأس الإمامعليه‌السلام وأُسرته إلى الشام!

أمر يزيدُ عبيدَ الله بن زياد بإرسال الرأس الشريف وبقيّة عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ؛ ممّن صرّح بهذا الأمر ابن سعد، فإنّه نقل بإسناده عن عامر، قال: ( وقَدِم رسول من قِبل يزيد بن معاوية، يأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من ولده وأهل بيته ونسائه، فأسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة آلاف درهم، فتجهّزوا بها )(٥) .

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٥٤، مجلس ٢، ح٧٣، ونحوه في كامل الزيارات: ٨٠ ح٥ بتفاوت.

(٢) يوسف: ٨٢.

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٠.

(٤) وهذا هو مؤيّد آخر لرضى يزيد بقتل سيّد الشهداءعليه‌السلام .

(٥) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله من القسم غير المطبوع من الكتاب): ٨١.

٨٣

وقال السيّد ابن طاووس: ( وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه، يأمره فيه بحمل رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس مَن قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله )(١) .

وقال ابن الجوزي: ( ثمّ دعا ابنُ زياد زحرَ بن قيس، فبعث معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد، وجاء رسولٌ من قِبل يزيد فأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من أهله )(٢) .

وممّا يؤيِّد ذلك، ما نقله الطبري وابن الأثير عن هشام الكلبي، عن مجيء بريد من يزيد بن معاوية إلى عبيد الله حاملاً كتابه إليه بأن سرِّح الأُسارى إليَّ (٣) .

مَن حمل الرأس الشريف؟

وقع خلاف بين أهل السير في مَن دُفع إليه رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس أصحابه الأوفياء حتّى يحملها إلى يزيد، والأقوال ثلاثة:

أ) زحر بن قيس الجعفي:

هذا هو رأي الأغلب(٤) ، يؤيّده ما رواه الطبري الإمامي، بإسناده عن إبراهيم بن سعد أنّه كان مع زهير بن القين حين صحب الحسينعليه‌السلام ، فقال له:( يا زهير، اعلم أنّ هاهنا مشهدي، ويَحمِل هذا من جسدي - يعني رأسه - زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يُعطيه شيئاً ) (٥) .

____________________

(١) الملهوف: ٢٠٨. ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤.

(٤) الإرشاد ٢/١١٨؛ الفتوح ٢/١٨٠؛ الكامل في التاريخ ٤/٨٣؛ البداية والنهاية ٨/١٩٣؛ مقتل الخوارزمي ٢/٥٥؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩١.

(٥) دلائل الإمامة: ١٨٢ ح٩٧.

٨٤

وكان معه أبو بُردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة.

قال الشيخ المفيد: ( ولما فرغ القوم من التطواف به - أي بالرأس الشريف - بالكوفة ردّوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة، حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق )(١) .

ب) مُحَفّز بن ثعلبة العائذي:

صرّح بذلك البلاذري، قال: ( وأمر عبيد الله بن زياد بعليّ بن الحسين، فغُلّ بغِلّ إلى عنقه، وجهَّز نساءه وصبيانه، ثمّ سرّح بهم مع مُحفَّز بن ثعلبة من عائذة قريش، وشمر بن ذي الجوشن )(٢) .

ونُقل عن عوانة بن الحكم أنّه قال: ( قُتل الحسين بكربلاء، قتله سنان بن أنس، واحتزّ رأسه خولي بن يزيد، وجاء به إلى ابن زياد، فبعث به إلى يزيد مع مُحفّز بن ثعلبة )(٣) .

ج) عمر بن سعد:

تفرّد بذكره الشبراوي، قال: ( ويُقال: إنّ الذي حضر بالرأس إلى الشام عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وفي عنق عليّ بن الحسين ويديه الغِلّ )(٤) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦.

(٣) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦. وذُكر هذا المعنى في تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

(٤) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

٨٥

أهلالبيت عليهم‌السلام في الشام

أصبح أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسارى!

هذه هي الفاجعة الكبرى، والمأساة العُظمى، جاءوا إلى الشام وعلى رأسهم سيّد العابدين وزين المتهجّدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، وقد جُعل الغِلّ في عنقه ويده(١) ، يحمله بعير يطلع بغير وطاء، والأُسارى من أهل بيت الرسول من النساء والصبيان راكبين أقتاباً يابسة، ورأس الحسينعليه‌السلام على علَم، وحولهم الجنود بالرماح إنْ دمعت عين أحدهم قُرع رأسه بالرمح، ساقوا بهم من منزل إلى منزل كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم..

نعم، إنّهم جاءوا إلى الشام مشدودين على أقتاب الجمال موثوقين بالحبال، والنساء مكشفاف الوجوه و... إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

روي عن زينب الكبرى (سلام الله عليها) أنّها قالت: (قد علم الله ما صار إلينا. قُتل خيرنا، وانسقنا كما تُساق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب! )(٢) .

وجاء في رسالة ابن عبّاس ليزيد: ( ألا ومن أعجب الأعاجيب - وما عشت أراك الدهر العجيب - حملك بنات عبد المطّلب وغُلمة صغاراً من ولْده إليك بالشام، كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا وأنّك تأمر علينا، ولعَمْرِي، لئن كنت تُصبح وتُمسي آمناً لجرح يدي... )(٣) .

وقال ابن حبان: ( ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٣؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

(٢) أخبار الزينبات المنسوب إلى العلاّمة أبي عبيد الله الأعرج بن الإمام السجّاد: ١١٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢/ ٢٥٠.

٨٦

أُسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أقتاب، مُكشّفات الوجوه والشعور )(١) .

وقال: ( ثمّ أركب الأُسارى من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النساء والصبيان أقتاباً يابسة مُكشّفات الشعور، وأُدخلوا دمشق كذلك )(٢) .

وقال ابن عبد ربّه: ( وحمَل أهلُ الشام بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا على أحقاب الإبل )(٣) .

واليعقوبي: ( وأُخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونُصب رأسه على رمح )(٤) .

وقال ابن أعثم والخوارزمي: ( فسار القوم بحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء، من بلد ومن منزل إلى منزل، كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم )(٥) .

وقال سبط ابن الجوزي: ( ولما أسلم وحشي قاتل حمزة قال له رسول الله:( غيّب وجهك عنّي، فإنّي لا أُحبّ مَن قَتَل الأحبّة )، قال هذا والإسلام يجبّ ما قبله، فكيف يقدر الرسول أن يَرى مَن ذبح الحسين وأمر بقتله وحمَل أهله على أقتاب الجمال؟! )(٦) .

وقال الباعوني: ( وحمل أهل الشام بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا على

____________________

(١) كتاب الثقات ٢/ ٣١٢.

(٢) المصدر نفسه ٢/ ٣١٣، ونحوه في عبرات المصطفين ٢/ ٢٦٥.

(٣) العقد الفريد ٥/ ١٣٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢/ ٢٤٥.

(٥) الفتوح ٢/ ١٨٠، مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥، ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩.

(٦) تذكرة الخواص: ٢٧٤؛ نظم درر السمطين: ٢٢٢.

٨٧

الأقتاب )(١) .

وفي شذرات الذهب: ( ولما تمّ قتلُه حُمِل رأسه وحرم بيته وزين العابدين معهم إلى دمشق كالسبايا، قاتل الله فاعل ذلك وأخزاه ومَن أمر به أو رضيه )(٢) .

وقال الشبراوي: ( ثمّ أرسل بها إلى يزيد بن معاوية، وأرسل معه الصبيان والنساء مشدودين على أقتاب الجمال، موثوقين بالحبال، والنساء مُكشّفات الوجوه والرؤوس )(٣) .

وقال: ( ومن عجائب الدهر الشنيعة وحوادثه الفظيعة أن يُحمل آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أقتاب الجمال، موثّقين بالحبال، والنساء مُكشّفات الوجوه والرؤوس، من العراق إلى أن دخلوا دمشق، فأُقيموا على درج الجامع حيث يُقام الأُسارى والسبي، والأمر كلّه لله، لا حول ولا قوّة إلاّ به )(٤) .

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: ( فسار بهم مُحَفّز حتّى دخل الشام، كما يُسار بسبايا الكفّار، ويتصفّح وجوههم أهل الأقطار )(٥) .

كيف ورد أهل بيت الحسينعليه‌السلام دمشق؟!

لقد دخل أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دمشق نهاراً، وأهلها قد علّقوا الستور والحُجب والديباج، فرحين مُستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، كأنّه العيد الأكبر عندهم.

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٢٧٣.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٧.

(٣) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

(٤) المصدر نفسه: ٦٩.

(٥) تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

٨٨

روى الخوارزمي، بإسناده عن زيد، عن أبيهعليه‌السلام قال: ( إنّ سهل بن سعد قال: خرجت إلى بيت المقدس، حتى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مُطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار قد علّقوا الستور والحُجب والديباج، وهم فرحون مُستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن.

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا هؤلاء، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟!

قالوا: يا شيخ نراك غريباً!

فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحملت حديثه.

فقالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها!

قلت: ولِمَ ذاك؟

فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يُهدى من أرض العراق إلى الشام، وسيأتي الآن.

قلت: واعجباه! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟! فمن أيّ باب يدخل؟

فأشاروا إلى باب يُقال له: باب الساعات. فسرت نحو الباب، فبينما أنا هنالك، إذ جاءت الرايات يتلو بعضها بعضاً، وإذا أنا بفارس بيده رمح منزوع السنان، وعليه رأس مَن أشبه الناس وجهاً برسول الله، وإذا النسوة من ورائه على جمال بغير وطاء، فدنوت من إحداهنّ فقلت لها: يا جارية، مَن أنت؟

فقالت: أنا سكينة بنت الحسين.

فقلت لها: ألكِ حاجة إليّ - فأنا سهل بن سعد، ممّن رأى جدّك وسمعت حديثه -؟

قالت: يا سهل، قل لصاحب الرأس: أن يتقدّم بالرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله.

قال: فدنوت من صاحب الرأس وقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار؟

قال: وما هي؟

قلت: تُقدِّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك، ودفعت له ما وعدته... )(١) .

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٠؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٧.

٨٩

إنّ هذه الرواية تكشف عن عدّة نقاط:

١ - الوضع العامّ، المتمثِّل بحالة الفرح والانبساط والاشتغال باللهو، وهي ناشئة عن الجهل السائد، وقد بيّنا جذوره في مدخل هذا الكتاب.

٢ - الوضع الخاصّ، وهو وجود ضمائر حيّة تعرف الأمور، وتُميّز الحقّ من الباطل، ممّن رأى سهلُ بن سعد بعضَهم مُصادفةً، وسمع منهم هذا الكلام: ( يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها، هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُهدى من أرض العراق إلى الشام )، وأغلب الظنّ أنّهم قاموا بدور مُهمّ في إيقاظ الناس، بعدما فُسح لهم المجال، إلى جانب الدور المهمّ الذي أدّاه أهل بيت الحسينعليه‌السلام في الشام، وإن لم نعلم تفاصيل ذلك.

٣ - اهتمام حرم الحسينعليه‌السلام بمسألة الحجاب وحفظ مكانة المرأة في الإسلام، مع كونهم في مأساة كبيرة لا تتصوّرها العقول، فلقد قدموا من سفر بعيد، ونالت منهم جراحات اللسان والسنان ما نالت، ومع ذلك تقول سكينة: ( قل لصاحب الرأس: أن يتقدّم بالرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله ).

ونحو ذلك ما رواه السيّد ابن طاووس وابن نما، قال - واللفظ للأوّل -: (قال الراوي: وسار القوم برأس الحسينعليه‌السلام ونسائه والأسرى من رجاله، فلما قربوا من دمشق دنت أُمّ كلثوم من الشمر - وكانت من جملتهم - فقالت: لي إليك حاجة.

فقال: وما حاجتك؟

قالت: إذا دخلت بنا البلد، فاحملنا في درب قليل النُظَّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل ويُنحّونا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال، فأمر في جواب سؤالها أن تُجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل - بغياً منه وكفراً - وسلك بهم بين النُظَّارة

٩٠

على تلك الصفة، حتّى أتى بهم إلى باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي )(١) .

وروي أنّ السبايا لما وردوا مدينة دمشق أُدخلوا من باب يُقال له: باب (توما)(٢) .

وروى محمّد بن أبي طالب قال: ( إنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً، واقتسمتها القبائل ليتقرّبوا بذلك إلى عبيد الله وإلى يزيد )(٣) .

رأس الحسين يتلو القرآن!

كيف ينطق الرأس الشريف؟ وما الذي نطق به؟ لقد نطق بالقرآن؛ لكي يثبت للجميع أنّه شهيد القرآن، وإذا كان هو القرآن الناطق في حياته، فكيف لا ينطق به بعد استشهاده؟!

المروي في التاريخ، أنّ الرأس الشريف تلا هذه الآية الشريفة:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٤) .

روى ابن عساكر، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل قال: ( رأيت رأس الحسين بن علي (رضي الله عنه) على القنا وهو يقول:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٥) .

____________________

(١) الملهوف: ٢١٠. ونحوه في مُثير الأحزان: ٩٧ وفيه: فأمر (شمر) بضدّ ما سألته بغياً منه وعتوَّاً.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١.

(٣) بحار الأنوار ٤٥/ ٦٢.

(٤) البقرة: ١٣٧.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٧/ ٥٠٩.

٩١

وجاء في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور:

( وقال: إنّ كلّ راوٍ لهذا الحديث قال لمن رواه له: الله، إنّك سمعته من فلان؟ قال: الله، إنّي سمعته منه، إلى الأعمش! قال الأعمش: فقلت لسلمة بن كهيل: الله، إنّك سمعته منه؟ قال: الله، إنّي سمعته منه بباب الفراديس بدمشق! لا مُثّل لي ولا شُبّه لي وهو يقول:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (١) .

تكلّم رأس الحسينعليه‌السلام بدمشق!

أخرج ابن عساكر، بإسناده عن المنهال بن عمرو قال: أنا - والله - رأيت رأس الحسين بن علي حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتّى بلغ قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٢) ، قال: فأنطق الرأس بلسان ذرب فقال:( أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي ) (٣) .

وروى ابن شهر آشوب عن الحافظ السروي أنّه قال: ( وسُمع أيضاً صوتهعليه‌السلام بدمشق:( لا قوّة إلاّ بالله ) (٤) .

____________________

( ١ ) مُختصر تاريخ دمشق ١٠/ ٩٢. وروى الخبر الشيخ الجليل أبو محمّد جعفر بن أحمد بن علي القمّي ( المسلسلات: ٢٥١)؛ والعلاّمة الجويني ( فرائد السمطين ٢/ ١٦٩ ح٤٥٨ ) بإسنادهما. وانظر: تهذيب تاريخ دمشق ٦/ ٢٣٦؛ الوافي بالوفيات ١٥/ ٣٢٣؛ قيد الشريد لمحمّد بن طولون: ٧٥.

( ٢ ) الكهف: ٩.

( ٣ ) تاريخ مدينة دمشق ١٧/ ٢٤٦، وانظر: الخرائج والجرائح ٢/ ٥٧٧؛ الثاقب في المناقب: ٣٣٣ ح٢٧٤، وفيه أنّه قال:( أمري أعجب من أمر أصحاب الكهف والرقيم ) ، الخصائص الكبرى ٢/ ١٢٧؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٨، ح٣٦؛ الصراط المستقيم ٢/ ١٧٩ ح٥٧؛ مناقب أمير المؤمنين للصنعاني ٢/ ٢٦٧؛ الكواكب الدُّرِّية ١/ ٥٧؛ إسعاف الراغبين: ١٩٦؛ نور الأبصار: ١٣٥؛ مدينة المعاجز: ٢٧٤؛ إثبات الهُداة ٥/ ١٩٣ ح٣٢؛ إحقاق الحقّ ١١/ ٤٥٣؛ عبرات المصطفين ٢/ ٣٣٠؛ العوالم ١٧/ ٤١٢.

( ٤ ) المناقب ٤/ ٦١.

٩٢

على درج المسجد:

أمر يزيد عليه اللعنة بإيقاف الأُسارى من أُسرة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) بدرجة المسجد، حيث توقَف الأُسارى لينظر الناس إليهم، صرّح بذلك المؤرّخون، ومنهم مطهّر بن طاهر المقدسي( ١) ، وابن العبرى( ٢) ، قال - واللفظ للأخير -: ( ثمّ بعث ( أي ابن زياد ) به ( أي رأس الحسين ( عليه السلام) ) وبأولاده إلى يزيد بن معاوية، فأمر نساءه وبناته فأُقمن بدرجة المسجد حيث توقَف الأسارى ينظر الناس إليهم ).

مع الشيخ الشامي:

قال ابن أعثم: ( وأُتي بحرم رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حتّى أُدخلوا من مدينة دمشق من باب يُقال له: ( باب توما)، ثمّ أُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يُقام السبي، وإذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم وقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين! منكم.

فقال له عليّ بن الحسين:( يا شيخ، هل قرأت القرآن؟! )

فقال: نعم، قرأته.

قال:( فعرفت هذه الآية: ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... ) (٣) ؟! ) .

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال عليّ بن الحسين ( رضي الله عنه):( فنحن القُربى يا شيخ! ) .

قال:( فهل قرأت في ( بني إسرائيل): ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ... ) (٤) ؟! ) .

____________________

(١) البدء والتاريخ ٦/ ١٢.

(٢) تاريخ مُختصر الدول: ١٩٠.

(٣) الشورى: ٢٣.

(٤) الإسراء: ٢٦.

٩٣

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال عليّ ( رضي الله عنه):( نحن القُربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الآية: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ( ١ ) ،فنحن ذو القُربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الآية: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) ؟! ) .

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال:( فنحن أهل البيت الذين خُصصنا بآية الطهارة! ) .

قال: فبقى الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمَّ، إنّي تائبٌ إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس )(٣) .

وفي اللهوف قال: قال الراوي: ( بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال: ( تالله، إنّكم هُم؟! ).

فقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :( تالله، لنحن هم من غير شكّ، وحقّ جدّنا رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إنّا لنحن هم ) .

قال: فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد( صلَّى الله عليه وآله ) من الجنّ والإنس. ثمّ قال: هل لي من توبة؟

فقال له:( نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت

____________________

( ١ ) الأنفال: ٤١.

( ٢ ) الأحزاب: ٣٣.

( ٣ ) الفتوح ٢/ ١٨٣. ونحوه في: تفسير فرات الكوفي: ١٥٣ ح١٩١؛ أمالي الصدوق: ٢٣٠؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٤؛ روضة الواعظين ١/ ١٩١؛ الاحتجاج ٢/ ١٢٠؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٦ ح٩؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١؛ الدرّ المنثور ذيل آية ٢٣: الشورى و٢٦: الإسراء، بتفاوت يسير، وفيه: أنّ الشيخ الشامي قال - بعدما رفع يده إلى السماء -: اللّهم، إنّي أتوب إليك - ثلاث مرّات - اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد ومن قتلة أهل بيت محمّد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم.

٩٤

معنا ) . فقال: ( أنا تائب). فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقُتِل )(١) .

تأمّل وملاحظات:

نستنتج من هذا الخبر عدّة أُمور:

١ - إنّ هذا أوّل موقف تكلّم به الإمام زين العابدين بعد تحمُّله شِدَّة السفر وشقَّته، وبعدما رأى من المعاناة؛ لأنّه روي أنّ الإمام ( عليه السلام ) لم يتكلّم في الطريق - من الكوفة إلى الشام - حتّى وصل الشام( ٢) .

٢ - الإمام ( عليه السلام ) يقوم بأداء الرسالة في أوّل فرصة وأوّل نقطة يجد بها الطينة الطيّبة. فمع أنّ ذاك الشيخ الشاميّ لم يكن إلاّ رجلاً عاش في كَنف حُكم الأُمويّين مدّة طويلة، ولم يرَ عليّاً ولا أحداً من أبنائه، ولكنّه كان على فطرة سليمة، بينما الذين قاموا بقتل الإمام الحسين وسبي أهل بيته، فقد كان كثير منهم ممّن رأى عليّاً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وصلّى خلفهم! وسلّم عليهم ولكنّهم كانوا خبثاء!

٣ - هذا الخبر يدلّ على سيطرة الجوّ الإعلامي المسموم، على مجتمع وبيئة تربَّت في أحضان بني أُميّة، لقد أذاعوا بأنّ المقتول هو رجل خارجيّ، خرج على أمير المؤمنين! وخليفة المسلمين! كان يريد بثّ الفتنة والفرقة في المجتمع( ٣) ؛ ولذلك نرى أنّ الشيخ الشامي حينما يواجه الإمام ( عليه السلام ) أوّل مرّة يحمد الله على قتل

____________________

( ١ ) الملهوف: ٢١١، ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤. وروى الخبر ابن حجر ( الصواعق المحرقة: ٣٤١ باب وصيّة النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) بهم )؛ ينابيع المودّة ٢/ ٣٠٢ عن الطبراني مُلخّصاً.

( ٢ ) انظر: تاريخ الطبري ٤/ ٣٥١؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩١؛ الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ مُثير الأحزان: ٩٧.

( ٣ ) ومن هنا نجد أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) يهتمّ بهذا الجانب بنفسه، حيث يقول:( إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ) .

٩٥

الحسين ( عليه السلام ) ويقول: ( الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم! وأراح الرجال من سطوتكم! وأمكن أمير المؤمنين منكم! ).

ولكن حينما ينكشف له الواقع يتوب إلى الله من قوله، ويتبرّأ من قَتَلة أهل بيت رسول الله ( عليهم السلام ) وأعدائهم، وكانت أكثريّة المجتمع الشامي، على غرار هذا الشيخ، قد ضلّلهم الدعاية الأُموية وحجبتهم عن معرفة أهل بيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله)؛ ومن ثَمَّ لم يتحمّل يزيد ذلك وأمر بقتل ذلك الشيخ؛ كي يظلّ مُسيطراً على الأوضاع في زعمه.

متى وصل الرأس الشريف؟

بالنسبة إلى زمان وصول الرأس الشريف هناك عدّة احتمالات:

الأوّل: أنّ الرأس الشريف حُمل مع تسييرهم أهل البيت إلى الشام، وهناك بعض الشواهد التاريخية تؤيّد ذلك.

* منها: ما رواه ابن حبّان بقوله: ( ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام، مع أُسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) )(١) .

* ومنها: ما رواه السيّد ابن طاووس، عن الإمام زين العابدين أنّه قال:( حملني على بعير يطلع بغير وطاء، ورأس الحسين ( عليه السلام ) على عَلَم ونسوتنا خلفي على بغال... والفارطة خلفنا وحولنا بالرّماح ) (٢) .

* ومنها: ما رواه ابن الأثير: ( ثمّ أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام، إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة

____________________

( ١ ) كتاب الثقات ٢/ ٣١٢.

( ٢ ) إقبال الأعمال: ٥٨٣.

٩٦

معه، وأرسل معه النساء والصبيان وفيهم عليّ بن الحسين )(١) .

* ومنها: ما نقله السيّد ابن طاووس أيضاً: ( وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه أعاد الجواب إليه، أمره فيه بحمل رأس الحسين ( عليه السلام ) ورؤوس مَن قُتل معه وبحمل أثقاله ونسائه وعياله )(٢) .

الثاني: أنّ الرأس الشريف أُوصل إلى دمشق قبل وصول أهل البيت ( عليهم السلام)، وهناك بعض الشواهد تؤيّد هذا الاحتمال:

منها: ما صرّح به ابن أعثم والخوارزمي بقولهما - واللفظ للأوّل -: ( ثمّ دعا ابن زياد بزحر بن قيس الجعفي، فسلّم إليه رأس الحسين بن علي ( رضي الله عنهما ) ورؤوس إخوته... ورؤوس أهل بيته وشيعته ( رضي الله عنهم أجمعين )، ودعا علي بن الحسين، فحمله وحمل أخواته وعمّاته ونساءهم إلى يزيد بن معاوية... وسبق زحر بن قيس برأس الحسين ( عليه السلام ) إلى دمشق حتى دخل على يزيد، فسلّم عليه ودفع إليه كتاب عبيد الله بن زياد، قال: فأخذ يزيد كتاب عبيد الله بن زياد فوضعه بين يديه، ثمّ قال: هات ما عندك يا زحر، فقال: أبشِر يا أمير المؤمنين!... )(٣) .

ومُقتضى هذا الاحتمال، أنّ الرأس الشريف أُرجع بعد ذلك إلى خارج دمشق؛ لكي يُدخَل مع الأُسارى الشام.

الثالث: أنّ أهل بيت الحسين ( عليه السلام ) سُرِّحوا إلى دمشق بعدما أُنفذ برأس الحسين ( عليه السلام)، ولكنّهم لحقوا بالذين معهم الرأس الشريف، فأُدخِلوا مع الرأس الشريف الشام.

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣.

( ٢ ) الملهوف: ٢٠٨. وكذا ما روى في شذرات الذهب ١/ ٦٧؛ والإتحاف ٥٥ و٦٩.

( ٣ ) الفتوح ٢/ ١٨٠؛ نحوه مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥ بتفاوت يسير.

٩٧

روى الشيخ المفيد والطبرسي ما يؤيّد ذلك، قالا: ( ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد - بعد إنفاذه برأس الحسين - أمر بنسائه وصبيانه فجُهّزوا وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بغِلّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مُحفَّز بن ثعلبة العائذي، وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس... )(١) .

ويمكن أن يُقال: إنّ الرأس الشريف أُنفذ مع إنفاذ أهل البيت إلى الشام وأُدخِل معهم دمشق، ولكنّه أُدخل بالرأس الشريف مجلس يزيد قبل إدخالهم مجلسه، وهذا يتَّحد مع الاحتمال الأوّل الذي ربّما ذكره الأكثر، ويُحمل عليه الاحتمال الثاني أيضاً.

أمّا زمن دخول الرأس الشريف في الشام تحديداً، فقد صرّح بعض العلماء كونه في أوّل يوم من شهر صفر.

قال أبو ريحان البيروني: (في اليوم الأوّل من صفر، أُدخل رأس الحسينعليه‌السلام مدينة دمشق، فوضعه بين يديه، ونقر ثناياه بقضيب كان في يده، وهو يقول: لست من خندف إن لم أنتقم... الأبيات )(٢) .

وقال الكفعمي: ( وفي أوّله (صفر) أُدخل رأس الحسينعليه‌السلام إلى دمشق، وهو عيد عند بني أُميّة )(٣) .

وعليه يُحمل ما ذكره الشيخ البهائي بقوله: ( الأوّل من صفر، فيه حُمِل رأس أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام إلى دمشق، وجعلوه بنو أُميّة عيداً )(٤) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

(٢) الآثار الباقية: ٣٢١.

(٣) مصباح الكفعمي: ٥١٠.

(٤) توضيح المقاصد: ٥.

٩٨

رأس الإمامعليه‌السلام بين يدي يزيد!

قال الحافظ البدخشاني: ( ولما قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين (رضي الله عنه) بين يديه، فاستبشر الشقيّ بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران... )(١) .

وقال الدينوري: ( قالوا: إنّ ابن زياد جهّز علي بن الحسين ومَن كان معه من الحرم، ووجّه بهم إلى يزيد بن معاوية، مع زحر بن قيس ومحقن بن تغلبة(٢) ، وشمر بن ذي الجوشن، فساروا حتّى قدموا الشام ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق، وأُدخل معهم رأس الحسين، فرُمي بين يديه، ثمّ تكلّم شمر بن ذي الجوشن فقال: يا أمير المؤمنين، ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستّين رجلاً من شيعته... )(٣) .

ثمّ ذكر الدينوري كلاماً تفرّد هو بنسبته إلى شمر، خلافاً لغيره من المؤرّخين الذين يرون أنّ المتكلّم كان زحر بن قيس.

قال الشيخ المفيد - وغيره(٤) : ( روى عبد الله بن ربيعة الحميري فقال: إنّي لعند يزيد بن معاوية بدمشق، إذ أقبل زحر بن قيس حتّى دخل عليه، فقال له يزيد: ويلك! ما وراءك وما عندك؟

قال: أبشِر - يا أمير المؤمنين - بفتح الله ونصره! ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حُكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فأحطنا بهم من كلّ ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون

____________________

(١) نُزل الأبرار: ١٥٩.

(٢) الظاهر أنّه تصحيف مُحفّز بن ثعلبة.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٦٠.

(٤) ممّن سنذكرهم في الهامش الآتي.

٩٩

منّا بالآكام والحفر لواذاً، كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله، يا أمير المؤمنين! ما كانوا إلاّ جزر جَزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مُجرّدة، وثيابهم مُرمّلة، وخدودهم مُعفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الرياح، زوّارهم العقبان والرخم.

فأطرق يزيد هُنيهة، ثمّ رفع رأسه فقال: فقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما لو أنّي صاحبه لعفوت عنه )(١) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٨.

ورواه أيضاً ابن سعد في الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين): ٨١، وفيه (... في سبعين من شيعته.. فاختاروا القتال على الاستسلام، فناهضناهم عند شروق الشمس، ثمّ جرّدنا فيهم السيوف اليمانية، فجعلوا يبرقطون إلى غير وزر فنُصرنا الله عليهم.. حتّى كفى المؤمنين مؤونتهم.. أجسامهم مُطرّحة مُجرّدة.. ومناخرهم مُرمّلة تسفي عليهم الريح ذيولها بقي سبسب تنتابهم عرج الضباع.. )، وابن عبد ربّه، بإسناده عن الغاز بن ربيعة الجرشي في العقد الفريد: ٥/ ١٣٠، وفيه (... سبعة عشر رجلاً من أهل بيته... وهامهم مُرمّلة... فأبوا إلاّ القتال... الريح بقاع سبسب )، وابن أعثم في الفتوح: ٢/ ١٨٠ وفيه: (... في اثنين وثلاثين من شيعته وإخوته وأهل بيته... فأبوا علينا... فقاتلناهم من وقت شروق الشمس إلى أن أضحى النهار... ما كانوا إلاّ كقهوة الحامل... أجسادهم بالعراء مُجرّدة وثيابهم بالدماء مُرمّلة وخدودهم بالتراب مُعفّرة )، والطبري في تاريخه: ٤/ ٣٥١، وفيه: ( كان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي... فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم مع شروق الشمس... الرخم بقيّ سبسب )، وابن الجوزي في المنتظم: ٥/ ٣٤١، وفيه (... فاختاروا القتال، فغدونا عليهم من شروق الشمس... )، وابن الأثير في الكامل في التاريخ: ٢/ ٨٣، وابن نما عن العذري بن ربيعة بن عمرو الجرشي في: مُثير الأحزان: ٩٨، وفيه: ( فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم من شروق الشمس... والرخم بقاع قرقر سبسب، لا مُكفّنين ولا موسّدين... )، وابن كثير في البداية والنهاية: ٨/ ١٩٣، والباعوني عن روح بن زنباع في جواهر المطالب: ٢/ ٢٧٠، وفيه (... في تسعة عشر رجلاً من أهل بيته وستّين رجلاً من شيعته... فأبوا إلاّ القتال، فعدونا عليهم مع شروق الشمس... الرياح بقاع سبسب طعمة للعقاب والرخم ).

١٠٠