مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة13%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234408 / تحميل: 8791
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الفصل الأوّل

دور أهل البيت في الشام

الشام قبل ورود أهلالبيت عليهم‌السلام

ظهور الآيات في الشام بعد مقتل الحسينعليه‌السلام :

رُويت عدّة روايات حول ظهور آيات كونيّة في الشام بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام (١) ، نذكر بعضها:

روى الطبراني، بإسناده عن ابن شهاب قال: ( ما رُفع بالشام حجر يوم قَتْل الحسين بن علي إلاّ عن دم، رضي الله عنه )(٢) .

وقال الزرندي: ( روى أبو الشيخ في كتاب السنّة.. بسنده إلى يزيد بن أبي زياد قال: شهدت مقتل الحسين وأنا ابن خمس عشرة سنة، فصار الفرس(٣) في

____________________

(١) لعلّ هذه الآيات والتغيّرات الكونيّة التي حدثت في الشام، هي التي أدّت إلى تغيّر الأوضاع وانقلاب المعادلة ضدّ يزيد، كما سنأتي عليه في البحوث اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٣/ ١٢٠، ح٢٨٣٥. وقال الهيثمي (مجمع الزوائد ٩/ ١٩٦) بعد ذكره الخبر عن الزهري: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وفي ذخائر العُقبى (ص١٤٥) بعد ذكره الرواية قال: خرّجه ابن السري.

(٣) هكذا في المصدر ولعلّ الصحيح الورس وهو: نبت يُستعمَل لتلوين الملابس الحريرية، لاحتوائه على مادّة حمراء، ينبت في بلاد العرب والحبشة والهند، كما جاء في المعجم الوسيط مادّة (ورس).

٨١

عسكرهم رماداً واحمرّت السماء لقتله، وانكسفت الشمس لقتله، حتّى بدت الكواكب نصف النهار، وظنّ الناس أنّ القيامة قد قامت، ولم يُرفَع حجر في الشام إلاّ رُؤي تحته دم عبيط )(١) .

وقال مُحبّ الدِّين الطبري: ( رُوي عن جعفر بن سليمان قال: حدّثتني خالتي أمّ سالم قالت: لما قُتل الحسين مُطرنا مطراً كالدم على البيوت والخدر.

قالت: وبلغني أنّه كان بخراسان والشام والكوفة )(٢) .

حالة الناس:

إنّ قتل الحسينعليه‌السلام أفجَعَ كلّ الناس، ما خلا السلطة الحاكمة، وبنو أُميّة، وأهالي دمشق، والبصرة - على ما في بعض الروايات -:

روى الشيخ الجليل جعفر بن محمّد بن قولويه، بإسناده عن يونس بن ظبيان، وأبي سلمة السرّاج، والمفضّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول:( لما مضى الحسين بن عليّ عليهما‌السلام بكى عليه جميع ما خلق الله إلاّ ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان ) (٣) .

وروى الشيخ الطوسي، بإسناده عن الحسين بن فاختة، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، قال:( إنّ أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام لما قُتل بكتْ عليه السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار، وما يُرى وما لا يُرى، إلاّ ثلاثة أشياء فإنّها لم تبكِ عليه ) .

فقلتُ: جُعلت فداك، وما هذه الثلاثة

____________________

(١) نظم درر السمطين: ٢٢٠.

(٢) ذخائر العُقبى: ١٤٥، ثمّ قال: خرّجه ابن بنت منيع؛ إحقاق الحقّ ١١/ ٤٦٠، وقال: ورواه ابن عساكر في تاريخه على ما في مُنتخبه ٤/ ٣٣٩، والذهبي في تاريخ الإسلام ٢/ ٣٤٩.

(٣) كامل الزيارات: ٨٠ ح٤، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٢٠٦.

٨٢

أشياء التي لم تبكِ عليه؟ فقال:( البصرة، ودمشق، وآل الحَكم بن أبي العاص ) (١) .

ولا شكّ أنّ المقصود من البصرة ودمشق أهلهما، كما في قوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ... ) (٢) ، أي أهلها.

أمّا أهل دمشق؛ فلطول زمان تسلّط بني أميّة عليهم، وبثّ الفتنة والدعايات الكاذبة ضدّ آل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المصر.

وأمّا البصرة؛ فحسبها أنّها البلدة التي اتّخذها الناكثون موضعاً للوقوف في وجه الإمام المفترض الطاعة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولبقاء آثار حرب الجمل دور لا يمكن التغافل عنه.

وأمّا آل عثمان وآل الحكم بن أبي العاص؛ فإنّهم من بني أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن، كما تقدّم.

المهمّ أنّ أهل الشام لم يتأثّروا في بادئ الأمر بقتل الحسينعليه‌السلام ، بل راحوا يهنئون يزيد بالفتح(٣) !!.

أمْرُ يزيد بإرسال رأس الإمامعليه‌السلام وأُسرته إلى الشام!

أمر يزيدُ عبيدَ الله بن زياد بإرسال الرأس الشريف وبقيّة عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ؛ ممّن صرّح بهذا الأمر ابن سعد، فإنّه نقل بإسناده عن عامر، قال: ( وقَدِم رسول من قِبل يزيد بن معاوية، يأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من ولده وأهل بيته ونسائه، فأسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة آلاف درهم، فتجهّزوا بها )(٥) .

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٥٤، مجلس ٢، ح٧٣، ونحوه في كامل الزيارات: ٨٠ ح٥ بتفاوت.

(٢) يوسف: ٨٢.

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٠.

(٤) وهذا هو مؤيّد آخر لرضى يزيد بقتل سيّد الشهداءعليه‌السلام .

(٥) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله من القسم غير المطبوع من الكتاب): ٨١.

٨٣

وقال السيّد ابن طاووس: ( وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه، يأمره فيه بحمل رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس مَن قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله )(١) .

وقال ابن الجوزي: ( ثمّ دعا ابنُ زياد زحرَ بن قيس، فبعث معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد، وجاء رسولٌ من قِبل يزيد فأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من أهله )(٢) .

وممّا يؤيِّد ذلك، ما نقله الطبري وابن الأثير عن هشام الكلبي، عن مجيء بريد من يزيد بن معاوية إلى عبيد الله حاملاً كتابه إليه بأن سرِّح الأُسارى إليَّ (٣) .

مَن حمل الرأس الشريف؟

وقع خلاف بين أهل السير في مَن دُفع إليه رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس أصحابه الأوفياء حتّى يحملها إلى يزيد، والأقوال ثلاثة:

أ) زحر بن قيس الجعفي:

هذا هو رأي الأغلب(٤) ، يؤيّده ما رواه الطبري الإمامي، بإسناده عن إبراهيم بن سعد أنّه كان مع زهير بن القين حين صحب الحسينعليه‌السلام ، فقال له:( يا زهير، اعلم أنّ هاهنا مشهدي، ويَحمِل هذا من جسدي - يعني رأسه - زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يُعطيه شيئاً ) (٥) .

____________________

(١) الملهوف: ٢٠٨. ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤.

(٤) الإرشاد ٢/١١٨؛ الفتوح ٢/١٨٠؛ الكامل في التاريخ ٤/٨٣؛ البداية والنهاية ٨/١٩٣؛ مقتل الخوارزمي ٢/٥٥؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩١.

(٥) دلائل الإمامة: ١٨٢ ح٩٧.

٨٤

وكان معه أبو بُردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة.

قال الشيخ المفيد: ( ولما فرغ القوم من التطواف به - أي بالرأس الشريف - بالكوفة ردّوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة، حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق )(١) .

ب) مُحَفّز بن ثعلبة العائذي:

صرّح بذلك البلاذري، قال: ( وأمر عبيد الله بن زياد بعليّ بن الحسين، فغُلّ بغِلّ إلى عنقه، وجهَّز نساءه وصبيانه، ثمّ سرّح بهم مع مُحفَّز بن ثعلبة من عائذة قريش، وشمر بن ذي الجوشن )(٢) .

ونُقل عن عوانة بن الحكم أنّه قال: ( قُتل الحسين بكربلاء، قتله سنان بن أنس، واحتزّ رأسه خولي بن يزيد، وجاء به إلى ابن زياد، فبعث به إلى يزيد مع مُحفّز بن ثعلبة )(٣) .

ج) عمر بن سعد:

تفرّد بذكره الشبراوي، قال: ( ويُقال: إنّ الذي حضر بالرأس إلى الشام عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وفي عنق عليّ بن الحسين ويديه الغِلّ )(٤) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦.

(٣) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦. وذُكر هذا المعنى في تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

(٤) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

٨٥

أهلالبيت عليهم‌السلام في الشام

أصبح أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسارى!

هذه هي الفاجعة الكبرى، والمأساة العُظمى، جاءوا إلى الشام وعلى رأسهم سيّد العابدين وزين المتهجّدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، وقد جُعل الغِلّ في عنقه ويده(١) ، يحمله بعير يطلع بغير وطاء، والأُسارى من أهل بيت الرسول من النساء والصبيان راكبين أقتاباً يابسة، ورأس الحسينعليه‌السلام على علَم، وحولهم الجنود بالرماح إنْ دمعت عين أحدهم قُرع رأسه بالرمح، ساقوا بهم من منزل إلى منزل كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم..

نعم، إنّهم جاءوا إلى الشام مشدودين على أقتاب الجمال موثوقين بالحبال، والنساء مكشفاف الوجوه و... إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

روي عن زينب الكبرى (سلام الله عليها) أنّها قالت: (قد علم الله ما صار إلينا. قُتل خيرنا، وانسقنا كما تُساق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب! )(٢) .

وجاء في رسالة ابن عبّاس ليزيد: ( ألا ومن أعجب الأعاجيب - وما عشت أراك الدهر العجيب - حملك بنات عبد المطّلب وغُلمة صغاراً من ولْده إليك بالشام، كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا وأنّك تأمر علينا، ولعَمْرِي، لئن كنت تُصبح وتُمسي آمناً لجرح يدي... )(٣) .

وقال ابن حبان: ( ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٣؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

(٢) أخبار الزينبات المنسوب إلى العلاّمة أبي عبيد الله الأعرج بن الإمام السجّاد: ١١٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢/ ٢٥٠.

٨٦

أُسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أقتاب، مُكشّفات الوجوه والشعور )(١) .

وقال: ( ثمّ أركب الأُسارى من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النساء والصبيان أقتاباً يابسة مُكشّفات الشعور، وأُدخلوا دمشق كذلك )(٢) .

وقال ابن عبد ربّه: ( وحمَل أهلُ الشام بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا على أحقاب الإبل )(٣) .

واليعقوبي: ( وأُخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونُصب رأسه على رمح )(٤) .

وقال ابن أعثم والخوارزمي: ( فسار القوم بحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء، من بلد ومن منزل إلى منزل، كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم )(٥) .

وقال سبط ابن الجوزي: ( ولما أسلم وحشي قاتل حمزة قال له رسول الله:( غيّب وجهك عنّي، فإنّي لا أُحبّ مَن قَتَل الأحبّة )، قال هذا والإسلام يجبّ ما قبله، فكيف يقدر الرسول أن يَرى مَن ذبح الحسين وأمر بقتله وحمَل أهله على أقتاب الجمال؟! )(٦) .

وقال الباعوني: ( وحمل أهل الشام بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا على

____________________

(١) كتاب الثقات ٢/ ٣١٢.

(٢) المصدر نفسه ٢/ ٣١٣، ونحوه في عبرات المصطفين ٢/ ٢٦٥.

(٣) العقد الفريد ٥/ ١٣٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢/ ٢٤٥.

(٥) الفتوح ٢/ ١٨٠، مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥، ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩.

(٦) تذكرة الخواص: ٢٧٤؛ نظم درر السمطين: ٢٢٢.

٨٧

الأقتاب )(١) .

وفي شذرات الذهب: ( ولما تمّ قتلُه حُمِل رأسه وحرم بيته وزين العابدين معهم إلى دمشق كالسبايا، قاتل الله فاعل ذلك وأخزاه ومَن أمر به أو رضيه )(٢) .

وقال الشبراوي: ( ثمّ أرسل بها إلى يزيد بن معاوية، وأرسل معه الصبيان والنساء مشدودين على أقتاب الجمال، موثوقين بالحبال، والنساء مُكشّفات الوجوه والرؤوس )(٣) .

وقال: ( ومن عجائب الدهر الشنيعة وحوادثه الفظيعة أن يُحمل آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أقتاب الجمال، موثّقين بالحبال، والنساء مُكشّفات الوجوه والرؤوس، من العراق إلى أن دخلوا دمشق، فأُقيموا على درج الجامع حيث يُقام الأُسارى والسبي، والأمر كلّه لله، لا حول ولا قوّة إلاّ به )(٤) .

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: ( فسار بهم مُحَفّز حتّى دخل الشام، كما يُسار بسبايا الكفّار، ويتصفّح وجوههم أهل الأقطار )(٥) .

كيف ورد أهل بيت الحسينعليه‌السلام دمشق؟!

لقد دخل أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دمشق نهاراً، وأهلها قد علّقوا الستور والحُجب والديباج، فرحين مُستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، كأنّه العيد الأكبر عندهم.

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٢٧٣.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٧.

(٣) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

(٤) المصدر نفسه: ٦٩.

(٥) تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

٨٨

روى الخوارزمي، بإسناده عن زيد، عن أبيهعليه‌السلام قال: ( إنّ سهل بن سعد قال: خرجت إلى بيت المقدس، حتى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مُطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار قد علّقوا الستور والحُجب والديباج، وهم فرحون مُستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن.

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا هؤلاء، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟!

قالوا: يا شيخ نراك غريباً!

فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحملت حديثه.

فقالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها!

قلت: ولِمَ ذاك؟

فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يُهدى من أرض العراق إلى الشام، وسيأتي الآن.

قلت: واعجباه! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟! فمن أيّ باب يدخل؟

فأشاروا إلى باب يُقال له: باب الساعات. فسرت نحو الباب، فبينما أنا هنالك، إذ جاءت الرايات يتلو بعضها بعضاً، وإذا أنا بفارس بيده رمح منزوع السنان، وعليه رأس مَن أشبه الناس وجهاً برسول الله، وإذا النسوة من ورائه على جمال بغير وطاء، فدنوت من إحداهنّ فقلت لها: يا جارية، مَن أنت؟

فقالت: أنا سكينة بنت الحسين.

فقلت لها: ألكِ حاجة إليّ - فأنا سهل بن سعد، ممّن رأى جدّك وسمعت حديثه -؟

قالت: يا سهل، قل لصاحب الرأس: أن يتقدّم بالرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله.

قال: فدنوت من صاحب الرأس وقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار؟

قال: وما هي؟

قلت: تُقدِّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك، ودفعت له ما وعدته... )(١) .

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٠؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٧.

٨٩

إنّ هذه الرواية تكشف عن عدّة نقاط:

١ - الوضع العامّ، المتمثِّل بحالة الفرح والانبساط والاشتغال باللهو، وهي ناشئة عن الجهل السائد، وقد بيّنا جذوره في مدخل هذا الكتاب.

٢ - الوضع الخاصّ، وهو وجود ضمائر حيّة تعرف الأمور، وتُميّز الحقّ من الباطل، ممّن رأى سهلُ بن سعد بعضَهم مُصادفةً، وسمع منهم هذا الكلام: ( يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها، هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُهدى من أرض العراق إلى الشام )، وأغلب الظنّ أنّهم قاموا بدور مُهمّ في إيقاظ الناس، بعدما فُسح لهم المجال، إلى جانب الدور المهمّ الذي أدّاه أهل بيت الحسينعليه‌السلام في الشام، وإن لم نعلم تفاصيل ذلك.

٣ - اهتمام حرم الحسينعليه‌السلام بمسألة الحجاب وحفظ مكانة المرأة في الإسلام، مع كونهم في مأساة كبيرة لا تتصوّرها العقول، فلقد قدموا من سفر بعيد، ونالت منهم جراحات اللسان والسنان ما نالت، ومع ذلك تقول سكينة: ( قل لصاحب الرأس: أن يتقدّم بالرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله ).

ونحو ذلك ما رواه السيّد ابن طاووس وابن نما، قال - واللفظ للأوّل -: (قال الراوي: وسار القوم برأس الحسينعليه‌السلام ونسائه والأسرى من رجاله، فلما قربوا من دمشق دنت أُمّ كلثوم من الشمر - وكانت من جملتهم - فقالت: لي إليك حاجة.

فقال: وما حاجتك؟

قالت: إذا دخلت بنا البلد، فاحملنا في درب قليل النُظَّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل ويُنحّونا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال، فأمر في جواب سؤالها أن تُجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل - بغياً منه وكفراً - وسلك بهم بين النُظَّارة

٩٠

على تلك الصفة، حتّى أتى بهم إلى باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي )(١) .

وروي أنّ السبايا لما وردوا مدينة دمشق أُدخلوا من باب يُقال له: باب (توما)(٢) .

وروى محمّد بن أبي طالب قال: ( إنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً، واقتسمتها القبائل ليتقرّبوا بذلك إلى عبيد الله وإلى يزيد )(٣) .

رأس الحسين يتلو القرآن!

كيف ينطق الرأس الشريف؟ وما الذي نطق به؟ لقد نطق بالقرآن؛ لكي يثبت للجميع أنّه شهيد القرآن، وإذا كان هو القرآن الناطق في حياته، فكيف لا ينطق به بعد استشهاده؟!

المروي في التاريخ، أنّ الرأس الشريف تلا هذه الآية الشريفة:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٤) .

روى ابن عساكر، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل قال: ( رأيت رأس الحسين بن علي (رضي الله عنه) على القنا وهو يقول:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٥) .

____________________

(١) الملهوف: ٢١٠. ونحوه في مُثير الأحزان: ٩٧ وفيه: فأمر (شمر) بضدّ ما سألته بغياً منه وعتوَّاً.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١.

(٣) بحار الأنوار ٤٥/ ٦٢.

(٤) البقرة: ١٣٧.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٧/ ٥٠٩.

٩١

وجاء في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور:

( وقال: إنّ كلّ راوٍ لهذا الحديث قال لمن رواه له: الله، إنّك سمعته من فلان؟ قال: الله، إنّي سمعته منه، إلى الأعمش! قال الأعمش: فقلت لسلمة بن كهيل: الله، إنّك سمعته منه؟ قال: الله، إنّي سمعته منه بباب الفراديس بدمشق! لا مُثّل لي ولا شُبّه لي وهو يقول:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (١) .

تكلّم رأس الحسينعليه‌السلام بدمشق!

أخرج ابن عساكر، بإسناده عن المنهال بن عمرو قال: أنا - والله - رأيت رأس الحسين بن علي حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتّى بلغ قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٢) ، قال: فأنطق الرأس بلسان ذرب فقال:( أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي ) (٣) .

وروى ابن شهر آشوب عن الحافظ السروي أنّه قال: ( وسُمع أيضاً صوتهعليه‌السلام بدمشق:( لا قوّة إلاّ بالله ) (٤) .

____________________

( ١ ) مُختصر تاريخ دمشق ١٠/ ٩٢. وروى الخبر الشيخ الجليل أبو محمّد جعفر بن أحمد بن علي القمّي ( المسلسلات: ٢٥١)؛ والعلاّمة الجويني ( فرائد السمطين ٢/ ١٦٩ ح٤٥٨ ) بإسنادهما. وانظر: تهذيب تاريخ دمشق ٦/ ٢٣٦؛ الوافي بالوفيات ١٥/ ٣٢٣؛ قيد الشريد لمحمّد بن طولون: ٧٥.

( ٢ ) الكهف: ٩.

( ٣ ) تاريخ مدينة دمشق ١٧/ ٢٤٦، وانظر: الخرائج والجرائح ٢/ ٥٧٧؛ الثاقب في المناقب: ٣٣٣ ح٢٧٤، وفيه أنّه قال:( أمري أعجب من أمر أصحاب الكهف والرقيم ) ، الخصائص الكبرى ٢/ ١٢٧؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٨، ح٣٦؛ الصراط المستقيم ٢/ ١٧٩ ح٥٧؛ مناقب أمير المؤمنين للصنعاني ٢/ ٢٦٧؛ الكواكب الدُّرِّية ١/ ٥٧؛ إسعاف الراغبين: ١٩٦؛ نور الأبصار: ١٣٥؛ مدينة المعاجز: ٢٧٤؛ إثبات الهُداة ٥/ ١٩٣ ح٣٢؛ إحقاق الحقّ ١١/ ٤٥٣؛ عبرات المصطفين ٢/ ٣٣٠؛ العوالم ١٧/ ٤١٢.

( ٤ ) المناقب ٤/ ٦١.

٩٢

على درج المسجد:

أمر يزيد عليه اللعنة بإيقاف الأُسارى من أُسرة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) بدرجة المسجد، حيث توقَف الأُسارى لينظر الناس إليهم، صرّح بذلك المؤرّخون، ومنهم مطهّر بن طاهر المقدسي( ١) ، وابن العبرى( ٢) ، قال - واللفظ للأخير -: ( ثمّ بعث ( أي ابن زياد ) به ( أي رأس الحسين ( عليه السلام) ) وبأولاده إلى يزيد بن معاوية، فأمر نساءه وبناته فأُقمن بدرجة المسجد حيث توقَف الأسارى ينظر الناس إليهم ).

مع الشيخ الشامي:

قال ابن أعثم: ( وأُتي بحرم رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حتّى أُدخلوا من مدينة دمشق من باب يُقال له: ( باب توما)، ثمّ أُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يُقام السبي، وإذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم وقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين! منكم.

فقال له عليّ بن الحسين:( يا شيخ، هل قرأت القرآن؟! )

فقال: نعم، قرأته.

قال:( فعرفت هذه الآية: ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... ) (٣) ؟! ) .

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال عليّ بن الحسين ( رضي الله عنه):( فنحن القُربى يا شيخ! ) .

قال:( فهل قرأت في ( بني إسرائيل): ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ... ) (٤) ؟! ) .

____________________

(١) البدء والتاريخ ٦/ ١٢.

(٢) تاريخ مُختصر الدول: ١٩٠.

(٣) الشورى: ٢٣.

(٤) الإسراء: ٢٦.

٩٣

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال عليّ ( رضي الله عنه):( نحن القُربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الآية: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ( ١ ) ،فنحن ذو القُربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الآية: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) ؟! ) .

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال:( فنحن أهل البيت الذين خُصصنا بآية الطهارة! ) .

قال: فبقى الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمَّ، إنّي تائبٌ إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس )(٣) .

وفي اللهوف قال: قال الراوي: ( بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال: ( تالله، إنّكم هُم؟! ).

فقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :( تالله، لنحن هم من غير شكّ، وحقّ جدّنا رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إنّا لنحن هم ) .

قال: فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد( صلَّى الله عليه وآله ) من الجنّ والإنس. ثمّ قال: هل لي من توبة؟

فقال له:( نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت

____________________

( ١ ) الأنفال: ٤١.

( ٢ ) الأحزاب: ٣٣.

( ٣ ) الفتوح ٢/ ١٨٣. ونحوه في: تفسير فرات الكوفي: ١٥٣ ح١٩١؛ أمالي الصدوق: ٢٣٠؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٤؛ روضة الواعظين ١/ ١٩١؛ الاحتجاج ٢/ ١٢٠؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٦ ح٩؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١؛ الدرّ المنثور ذيل آية ٢٣: الشورى و٢٦: الإسراء، بتفاوت يسير، وفيه: أنّ الشيخ الشامي قال - بعدما رفع يده إلى السماء -: اللّهم، إنّي أتوب إليك - ثلاث مرّات - اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد ومن قتلة أهل بيت محمّد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم.

٩٤

معنا ) . فقال: ( أنا تائب). فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقُتِل )(١) .

تأمّل وملاحظات:

نستنتج من هذا الخبر عدّة أُمور:

١ - إنّ هذا أوّل موقف تكلّم به الإمام زين العابدين بعد تحمُّله شِدَّة السفر وشقَّته، وبعدما رأى من المعاناة؛ لأنّه روي أنّ الإمام ( عليه السلام ) لم يتكلّم في الطريق - من الكوفة إلى الشام - حتّى وصل الشام( ٢) .

٢ - الإمام ( عليه السلام ) يقوم بأداء الرسالة في أوّل فرصة وأوّل نقطة يجد بها الطينة الطيّبة. فمع أنّ ذاك الشيخ الشاميّ لم يكن إلاّ رجلاً عاش في كَنف حُكم الأُمويّين مدّة طويلة، ولم يرَ عليّاً ولا أحداً من أبنائه، ولكنّه كان على فطرة سليمة، بينما الذين قاموا بقتل الإمام الحسين وسبي أهل بيته، فقد كان كثير منهم ممّن رأى عليّاً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وصلّى خلفهم! وسلّم عليهم ولكنّهم كانوا خبثاء!

٣ - هذا الخبر يدلّ على سيطرة الجوّ الإعلامي المسموم، على مجتمع وبيئة تربَّت في أحضان بني أُميّة، لقد أذاعوا بأنّ المقتول هو رجل خارجيّ، خرج على أمير المؤمنين! وخليفة المسلمين! كان يريد بثّ الفتنة والفرقة في المجتمع( ٣) ؛ ولذلك نرى أنّ الشيخ الشامي حينما يواجه الإمام ( عليه السلام ) أوّل مرّة يحمد الله على قتل

____________________

( ١ ) الملهوف: ٢١١، ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤. وروى الخبر ابن حجر ( الصواعق المحرقة: ٣٤١ باب وصيّة النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) بهم )؛ ينابيع المودّة ٢/ ٣٠٢ عن الطبراني مُلخّصاً.

( ٢ ) انظر: تاريخ الطبري ٤/ ٣٥١؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩١؛ الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ مُثير الأحزان: ٩٧.

( ٣ ) ومن هنا نجد أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) يهتمّ بهذا الجانب بنفسه، حيث يقول:( إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ) .

٩٥

الحسين ( عليه السلام ) ويقول: ( الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم! وأراح الرجال من سطوتكم! وأمكن أمير المؤمنين منكم! ).

ولكن حينما ينكشف له الواقع يتوب إلى الله من قوله، ويتبرّأ من قَتَلة أهل بيت رسول الله ( عليهم السلام ) وأعدائهم، وكانت أكثريّة المجتمع الشامي، على غرار هذا الشيخ، قد ضلّلهم الدعاية الأُموية وحجبتهم عن معرفة أهل بيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله)؛ ومن ثَمَّ لم يتحمّل يزيد ذلك وأمر بقتل ذلك الشيخ؛ كي يظلّ مُسيطراً على الأوضاع في زعمه.

متى وصل الرأس الشريف؟

بالنسبة إلى زمان وصول الرأس الشريف هناك عدّة احتمالات:

الأوّل: أنّ الرأس الشريف حُمل مع تسييرهم أهل البيت إلى الشام، وهناك بعض الشواهد التاريخية تؤيّد ذلك.

* منها: ما رواه ابن حبّان بقوله: ( ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام، مع أُسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) )(١) .

* ومنها: ما رواه السيّد ابن طاووس، عن الإمام زين العابدين أنّه قال:( حملني على بعير يطلع بغير وطاء، ورأس الحسين ( عليه السلام ) على عَلَم ونسوتنا خلفي على بغال... والفارطة خلفنا وحولنا بالرّماح ) (٢) .

* ومنها: ما رواه ابن الأثير: ( ثمّ أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام، إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة

____________________

( ١ ) كتاب الثقات ٢/ ٣١٢.

( ٢ ) إقبال الأعمال: ٥٨٣.

٩٦

معه، وأرسل معه النساء والصبيان وفيهم عليّ بن الحسين )(١) .

* ومنها: ما نقله السيّد ابن طاووس أيضاً: ( وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه أعاد الجواب إليه، أمره فيه بحمل رأس الحسين ( عليه السلام ) ورؤوس مَن قُتل معه وبحمل أثقاله ونسائه وعياله )(٢) .

الثاني: أنّ الرأس الشريف أُوصل إلى دمشق قبل وصول أهل البيت ( عليهم السلام)، وهناك بعض الشواهد تؤيّد هذا الاحتمال:

منها: ما صرّح به ابن أعثم والخوارزمي بقولهما - واللفظ للأوّل -: ( ثمّ دعا ابن زياد بزحر بن قيس الجعفي، فسلّم إليه رأس الحسين بن علي ( رضي الله عنهما ) ورؤوس إخوته... ورؤوس أهل بيته وشيعته ( رضي الله عنهم أجمعين )، ودعا علي بن الحسين، فحمله وحمل أخواته وعمّاته ونساءهم إلى يزيد بن معاوية... وسبق زحر بن قيس برأس الحسين ( عليه السلام ) إلى دمشق حتى دخل على يزيد، فسلّم عليه ودفع إليه كتاب عبيد الله بن زياد، قال: فأخذ يزيد كتاب عبيد الله بن زياد فوضعه بين يديه، ثمّ قال: هات ما عندك يا زحر، فقال: أبشِر يا أمير المؤمنين!... )(٣) .

ومُقتضى هذا الاحتمال، أنّ الرأس الشريف أُرجع بعد ذلك إلى خارج دمشق؛ لكي يُدخَل مع الأُسارى الشام.

الثالث: أنّ أهل بيت الحسين ( عليه السلام ) سُرِّحوا إلى دمشق بعدما أُنفذ برأس الحسين ( عليه السلام)، ولكنّهم لحقوا بالذين معهم الرأس الشريف، فأُدخِلوا مع الرأس الشريف الشام.

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣.

( ٢ ) الملهوف: ٢٠٨. وكذا ما روى في شذرات الذهب ١/ ٦٧؛ والإتحاف ٥٥ و٦٩.

( ٣ ) الفتوح ٢/ ١٨٠؛ نحوه مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥ بتفاوت يسير.

٩٧

روى الشيخ المفيد والطبرسي ما يؤيّد ذلك، قالا: ( ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد - بعد إنفاذه برأس الحسين - أمر بنسائه وصبيانه فجُهّزوا وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بغِلّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مُحفَّز بن ثعلبة العائذي، وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس... )(١) .

ويمكن أن يُقال: إنّ الرأس الشريف أُنفذ مع إنفاذ أهل البيت إلى الشام وأُدخِل معهم دمشق، ولكنّه أُدخل بالرأس الشريف مجلس يزيد قبل إدخالهم مجلسه، وهذا يتَّحد مع الاحتمال الأوّل الذي ربّما ذكره الأكثر، ويُحمل عليه الاحتمال الثاني أيضاً.

أمّا زمن دخول الرأس الشريف في الشام تحديداً، فقد صرّح بعض العلماء كونه في أوّل يوم من شهر صفر.

قال أبو ريحان البيروني: (في اليوم الأوّل من صفر، أُدخل رأس الحسينعليه‌السلام مدينة دمشق، فوضعه بين يديه، ونقر ثناياه بقضيب كان في يده، وهو يقول: لست من خندف إن لم أنتقم... الأبيات )(٢) .

وقال الكفعمي: ( وفي أوّله (صفر) أُدخل رأس الحسينعليه‌السلام إلى دمشق، وهو عيد عند بني أُميّة )(٣) .

وعليه يُحمل ما ذكره الشيخ البهائي بقوله: ( الأوّل من صفر، فيه حُمِل رأس أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام إلى دمشق، وجعلوه بنو أُميّة عيداً )(٤) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

(٢) الآثار الباقية: ٣٢١.

(٣) مصباح الكفعمي: ٥١٠.

(٤) توضيح المقاصد: ٥.

٩٨

رأس الإمامعليه‌السلام بين يدي يزيد!

قال الحافظ البدخشاني: ( ولما قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين (رضي الله عنه) بين يديه، فاستبشر الشقيّ بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران... )(١) .

وقال الدينوري: ( قالوا: إنّ ابن زياد جهّز علي بن الحسين ومَن كان معه من الحرم، ووجّه بهم إلى يزيد بن معاوية، مع زحر بن قيس ومحقن بن تغلبة(٢) ، وشمر بن ذي الجوشن، فساروا حتّى قدموا الشام ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق، وأُدخل معهم رأس الحسين، فرُمي بين يديه، ثمّ تكلّم شمر بن ذي الجوشن فقال: يا أمير المؤمنين، ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستّين رجلاً من شيعته... )(٣) .

ثمّ ذكر الدينوري كلاماً تفرّد هو بنسبته إلى شمر، خلافاً لغيره من المؤرّخين الذين يرون أنّ المتكلّم كان زحر بن قيس.

قال الشيخ المفيد - وغيره(٤) : ( روى عبد الله بن ربيعة الحميري فقال: إنّي لعند يزيد بن معاوية بدمشق، إذ أقبل زحر بن قيس حتّى دخل عليه، فقال له يزيد: ويلك! ما وراءك وما عندك؟

قال: أبشِر - يا أمير المؤمنين - بفتح الله ونصره! ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حُكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فأحطنا بهم من كلّ ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون

____________________

(١) نُزل الأبرار: ١٥٩.

(٢) الظاهر أنّه تصحيف مُحفّز بن ثعلبة.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٦٠.

(٤) ممّن سنذكرهم في الهامش الآتي.

٩٩

منّا بالآكام والحفر لواذاً، كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله، يا أمير المؤمنين! ما كانوا إلاّ جزر جَزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مُجرّدة، وثيابهم مُرمّلة، وخدودهم مُعفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الرياح، زوّارهم العقبان والرخم.

فأطرق يزيد هُنيهة، ثمّ رفع رأسه فقال: فقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما لو أنّي صاحبه لعفوت عنه )(١) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٨.

ورواه أيضاً ابن سعد في الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين): ٨١، وفيه (... في سبعين من شيعته.. فاختاروا القتال على الاستسلام، فناهضناهم عند شروق الشمس، ثمّ جرّدنا فيهم السيوف اليمانية، فجعلوا يبرقطون إلى غير وزر فنُصرنا الله عليهم.. حتّى كفى المؤمنين مؤونتهم.. أجسامهم مُطرّحة مُجرّدة.. ومناخرهم مُرمّلة تسفي عليهم الريح ذيولها بقي سبسب تنتابهم عرج الضباع.. )، وابن عبد ربّه، بإسناده عن الغاز بن ربيعة الجرشي في العقد الفريد: ٥/ ١٣٠، وفيه (... سبعة عشر رجلاً من أهل بيته... وهامهم مُرمّلة... فأبوا إلاّ القتال... الريح بقاع سبسب )، وابن أعثم في الفتوح: ٢/ ١٨٠ وفيه: (... في اثنين وثلاثين من شيعته وإخوته وأهل بيته... فأبوا علينا... فقاتلناهم من وقت شروق الشمس إلى أن أضحى النهار... ما كانوا إلاّ كقهوة الحامل... أجسادهم بالعراء مُجرّدة وثيابهم بالدماء مُرمّلة وخدودهم بالتراب مُعفّرة )، والطبري في تاريخه: ٤/ ٣٥١، وفيه: ( كان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي... فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم مع شروق الشمس... الرخم بقيّ سبسب )، وابن الجوزي في المنتظم: ٥/ ٣٤١، وفيه (... فاختاروا القتال، فغدونا عليهم من شروق الشمس... )، وابن الأثير في الكامل في التاريخ: ٢/ ٨٣، وابن نما عن العذري بن ربيعة بن عمرو الجرشي في: مُثير الأحزان: ٩٨، وفيه: ( فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم من شروق الشمس... والرخم بقاع قرقر سبسب، لا مُكفّنين ولا موسّدين... )، وابن كثير في البداية والنهاية: ٨/ ١٩٣، والباعوني عن روح بن زنباع في جواهر المطالب: ٢/ ٢٧٠، وفيه (... في تسعة عشر رجلاً من أهل بيته وستّين رجلاً من شيعته... فأبوا إلاّ القتال، فعدونا عليهم مع شروق الشمس... الرياح بقاع سبسب طعمة للعقاب والرخم ).

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب(١) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / ٦١ MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

__________________

(١) راجع : الاربعين ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١.

٢٧٢

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / ٥٨ DA / المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

٢٧٣

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان )(١) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

__________________

(١) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٢٧٤

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / ٦٢ MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ / ٥٨ DB / في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

٢٧٥

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ، و

٢٧٦

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / ٦٢ MB / بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / ٥٩ DA / تحقّق وقت قبل وقت

٢٧٧

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار ـ كلفظ المضطرّ ـ ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب ـ بالفتح ـ كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة ـ كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما ـ. وأمّا الموجب ـ بالكسر ـ فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه ـ تعالى ـ بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه ـ تعالى ـ وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا ـ بالكسر ـ تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

٢٧٨

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين ـ أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة ـ لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله ـ تعالى ـ على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل(١) حيث قال : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ هو ما يفيض الوجوب إلى الغير ـ أي : إلى اثره ـ ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء(٢) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره ـ أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير ـ. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

__________________

(١) هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني ـ ره ـ. منه.

(٢) هامش دال : آقا رضي القزويني ـ ره ـ. منه.

٢٧٩

اللهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب ـ تعالى ـ عند الحكماء موجب بالفتح ـ وفاعليته ـ تعالى ـ عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه ـ تعالى ـ لفظ الموجب ـ بالفتح ـ ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب ـ بالكسر ـ بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب ـ أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا ـ ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى الله ـ تعالى ـ مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل ـ أي : الايجاب بمعنى / ٥٩ DB / امتناع الانفكاك مطلقا ـ ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا ـ كما تقدّم ـ.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة ـ نظرا إلى عدم صدق / ٦٣ MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة ـ ؛

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460