مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة17%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

الجزء ٦
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234272 / تحميل: 8788
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الفصل الأوّل

دور أهل البيت في الشام

الشام قبل ورود أهلالبيت عليهم‌السلام

ظهور الآيات في الشام بعد مقتل الحسينعليه‌السلام :

رُويت عدّة روايات حول ظهور آيات كونيّة في الشام بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام (١) ، نذكر بعضها:

روى الطبراني، بإسناده عن ابن شهاب قال: ( ما رُفع بالشام حجر يوم قَتْل الحسين بن علي إلاّ عن دم، رضي الله عنه )(٢) .

وقال الزرندي: ( روى أبو الشيخ في كتاب السنّة.. بسنده إلى يزيد بن أبي زياد قال: شهدت مقتل الحسين وأنا ابن خمس عشرة سنة، فصار الفرس(٣) في

____________________

(١) لعلّ هذه الآيات والتغيّرات الكونيّة التي حدثت في الشام، هي التي أدّت إلى تغيّر الأوضاع وانقلاب المعادلة ضدّ يزيد، كما سنأتي عليه في البحوث اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٣/ ١٢٠، ح٢٨٣٥. وقال الهيثمي (مجمع الزوائد ٩/ ١٩٦) بعد ذكره الخبر عن الزهري: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وفي ذخائر العُقبى (ص١٤٥) بعد ذكره الرواية قال: خرّجه ابن السري.

(٣) هكذا في المصدر ولعلّ الصحيح الورس وهو: نبت يُستعمَل لتلوين الملابس الحريرية، لاحتوائه على مادّة حمراء، ينبت في بلاد العرب والحبشة والهند، كما جاء في المعجم الوسيط مادّة (ورس).

٨١

عسكرهم رماداً واحمرّت السماء لقتله، وانكسفت الشمس لقتله، حتّى بدت الكواكب نصف النهار، وظنّ الناس أنّ القيامة قد قامت، ولم يُرفَع حجر في الشام إلاّ رُؤي تحته دم عبيط )(١) .

وقال مُحبّ الدِّين الطبري: ( رُوي عن جعفر بن سليمان قال: حدّثتني خالتي أمّ سالم قالت: لما قُتل الحسين مُطرنا مطراً كالدم على البيوت والخدر.

قالت: وبلغني أنّه كان بخراسان والشام والكوفة )(٢) .

حالة الناس:

إنّ قتل الحسينعليه‌السلام أفجَعَ كلّ الناس، ما خلا السلطة الحاكمة، وبنو أُميّة، وأهالي دمشق، والبصرة - على ما في بعض الروايات -:

روى الشيخ الجليل جعفر بن محمّد بن قولويه، بإسناده عن يونس بن ظبيان، وأبي سلمة السرّاج، والمفضّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول:( لما مضى الحسين بن عليّ عليهما‌السلام بكى عليه جميع ما خلق الله إلاّ ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان ) (٣) .

وروى الشيخ الطوسي، بإسناده عن الحسين بن فاختة، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، قال:( إنّ أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام لما قُتل بكتْ عليه السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار، وما يُرى وما لا يُرى، إلاّ ثلاثة أشياء فإنّها لم تبكِ عليه ) .

فقلتُ: جُعلت فداك، وما هذه الثلاثة

____________________

(١) نظم درر السمطين: ٢٢٠.

(٢) ذخائر العُقبى: ١٤٥، ثمّ قال: خرّجه ابن بنت منيع؛ إحقاق الحقّ ١١/ ٤٦٠، وقال: ورواه ابن عساكر في تاريخه على ما في مُنتخبه ٤/ ٣٣٩، والذهبي في تاريخ الإسلام ٢/ ٣٤٩.

(٣) كامل الزيارات: ٨٠ ح٤، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٢٠٦.

٨٢

أشياء التي لم تبكِ عليه؟ فقال:( البصرة، ودمشق، وآل الحَكم بن أبي العاص ) (١) .

ولا شكّ أنّ المقصود من البصرة ودمشق أهلهما، كما في قوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ... ) (٢) ، أي أهلها.

أمّا أهل دمشق؛ فلطول زمان تسلّط بني أميّة عليهم، وبثّ الفتنة والدعايات الكاذبة ضدّ آل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المصر.

وأمّا البصرة؛ فحسبها أنّها البلدة التي اتّخذها الناكثون موضعاً للوقوف في وجه الإمام المفترض الطاعة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولبقاء آثار حرب الجمل دور لا يمكن التغافل عنه.

وأمّا آل عثمان وآل الحكم بن أبي العاص؛ فإنّهم من بني أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن، كما تقدّم.

المهمّ أنّ أهل الشام لم يتأثّروا في بادئ الأمر بقتل الحسينعليه‌السلام ، بل راحوا يهنئون يزيد بالفتح(٣) !!.

أمْرُ يزيد بإرسال رأس الإمامعليه‌السلام وأُسرته إلى الشام!

أمر يزيدُ عبيدَ الله بن زياد بإرسال الرأس الشريف وبقيّة عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ؛ ممّن صرّح بهذا الأمر ابن سعد، فإنّه نقل بإسناده عن عامر، قال: ( وقَدِم رسول من قِبل يزيد بن معاوية، يأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من ولده وأهل بيته ونسائه، فأسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة آلاف درهم، فتجهّزوا بها )(٥) .

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٥٤، مجلس ٢، ح٧٣، ونحوه في كامل الزيارات: ٨٠ ح٥ بتفاوت.

(٢) يوسف: ٨٢.

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٠.

(٤) وهذا هو مؤيّد آخر لرضى يزيد بقتل سيّد الشهداءعليه‌السلام .

(٥) الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله من القسم غير المطبوع من الكتاب): ٨١.

٨٣

وقال السيّد ابن طاووس: ( وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه، يأمره فيه بحمل رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس مَن قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله )(١) .

وقال ابن الجوزي: ( ثمّ دعا ابنُ زياد زحرَ بن قيس، فبعث معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد، وجاء رسولٌ من قِبل يزيد فأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من أهله )(٢) .

وممّا يؤيِّد ذلك، ما نقله الطبري وابن الأثير عن هشام الكلبي، عن مجيء بريد من يزيد بن معاوية إلى عبيد الله حاملاً كتابه إليه بأن سرِّح الأُسارى إليَّ (٣) .

مَن حمل الرأس الشريف؟

وقع خلاف بين أهل السير في مَن دُفع إليه رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس أصحابه الأوفياء حتّى يحملها إلى يزيد، والأقوال ثلاثة:

أ) زحر بن قيس الجعفي:

هذا هو رأي الأغلب(٤) ، يؤيّده ما رواه الطبري الإمامي، بإسناده عن إبراهيم بن سعد أنّه كان مع زهير بن القين حين صحب الحسينعليه‌السلام ، فقال له:( يا زهير، اعلم أنّ هاهنا مشهدي، ويَحمِل هذا من جسدي - يعني رأسه - زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يُعطيه شيئاً ) (٥) .

____________________

(١) الملهوف: ٢٠٨. ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

(٢) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤.

(٤) الإرشاد ٢/١١٨؛ الفتوح ٢/١٨٠؛ الكامل في التاريخ ٤/٨٣؛ البداية والنهاية ٨/١٩٣؛ مقتل الخوارزمي ٢/٥٥؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩١.

(٥) دلائل الإمامة: ١٨٢ ح٩٧.

٨٤

وكان معه أبو بُردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة.

قال الشيخ المفيد: ( ولما فرغ القوم من التطواف به - أي بالرأس الشريف - بالكوفة ردّوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة، حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق )(١) .

ب) مُحَفّز بن ثعلبة العائذي:

صرّح بذلك البلاذري، قال: ( وأمر عبيد الله بن زياد بعليّ بن الحسين، فغُلّ بغِلّ إلى عنقه، وجهَّز نساءه وصبيانه، ثمّ سرّح بهم مع مُحفَّز بن ثعلبة من عائذة قريش، وشمر بن ذي الجوشن )(٢) .

ونُقل عن عوانة بن الحكم أنّه قال: ( قُتل الحسين بكربلاء، قتله سنان بن أنس، واحتزّ رأسه خولي بن يزيد، وجاء به إلى ابن زياد، فبعث به إلى يزيد مع مُحفّز بن ثعلبة )(٣) .

ج) عمر بن سعد:

تفرّد بذكره الشبراوي، قال: ( ويُقال: إنّ الذي حضر بالرأس إلى الشام عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وفي عنق عليّ بن الحسين ويديه الغِلّ )(٤) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦.

(٣) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٦. وذُكر هذا المعنى في تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

(٤) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

٨٥

أهلالبيت عليهم‌السلام في الشام

أصبح أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسارى!

هذه هي الفاجعة الكبرى، والمأساة العُظمى، جاءوا إلى الشام وعلى رأسهم سيّد العابدين وزين المتهجّدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، وقد جُعل الغِلّ في عنقه ويده(١) ، يحمله بعير يطلع بغير وطاء، والأُسارى من أهل بيت الرسول من النساء والصبيان راكبين أقتاباً يابسة، ورأس الحسينعليه‌السلام على علَم، وحولهم الجنود بالرماح إنْ دمعت عين أحدهم قُرع رأسه بالرمح، ساقوا بهم من منزل إلى منزل كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم..

نعم، إنّهم جاءوا إلى الشام مشدودين على أقتاب الجمال موثوقين بالحبال، والنساء مكشفاف الوجوه و... إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

روي عن زينب الكبرى (سلام الله عليها) أنّها قالت: (قد علم الله ما صار إلينا. قُتل خيرنا، وانسقنا كما تُساق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب! )(٢) .

وجاء في رسالة ابن عبّاس ليزيد: ( ألا ومن أعجب الأعاجيب - وما عشت أراك الدهر العجيب - حملك بنات عبد المطّلب وغُلمة صغاراً من ولْده إليك بالشام، كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا وأنّك تأمر علينا، ولعَمْرِي، لئن كنت تُصبح وتُمسي آمناً لجرح يدي... )(٣) .

وقال ابن حبان: ( ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٣؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

(٢) أخبار الزينبات المنسوب إلى العلاّمة أبي عبيد الله الأعرج بن الإمام السجّاد: ١١٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢/ ٢٥٠.

٨٦

أُسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أقتاب، مُكشّفات الوجوه والشعور )(١) .

وقال: ( ثمّ أركب الأُسارى من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النساء والصبيان أقتاباً يابسة مُكشّفات الشعور، وأُدخلوا دمشق كذلك )(٢) .

وقال ابن عبد ربّه: ( وحمَل أهلُ الشام بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا على أحقاب الإبل )(٣) .

واليعقوبي: ( وأُخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونُصب رأسه على رمح )(٤) .

وقال ابن أعثم والخوارزمي: ( فسار القوم بحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء، من بلد ومن منزل إلى منزل، كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم )(٥) .

وقال سبط ابن الجوزي: ( ولما أسلم وحشي قاتل حمزة قال له رسول الله:( غيّب وجهك عنّي، فإنّي لا أُحبّ مَن قَتَل الأحبّة )، قال هذا والإسلام يجبّ ما قبله، فكيف يقدر الرسول أن يَرى مَن ذبح الحسين وأمر بقتله وحمَل أهله على أقتاب الجمال؟! )(٦) .

وقال الباعوني: ( وحمل أهل الشام بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا على

____________________

(١) كتاب الثقات ٢/ ٣١٢.

(٢) المصدر نفسه ٢/ ٣١٣، ونحوه في عبرات المصطفين ٢/ ٢٦٥.

(٣) العقد الفريد ٥/ ١٣٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢/ ٢٤٥.

(٥) الفتوح ٢/ ١٨٠، مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥، ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩.

(٦) تذكرة الخواص: ٢٧٤؛ نظم درر السمطين: ٢٢٢.

٨٧

الأقتاب )(١) .

وفي شذرات الذهب: ( ولما تمّ قتلُه حُمِل رأسه وحرم بيته وزين العابدين معهم إلى دمشق كالسبايا، قاتل الله فاعل ذلك وأخزاه ومَن أمر به أو رضيه )(٢) .

وقال الشبراوي: ( ثمّ أرسل بها إلى يزيد بن معاوية، وأرسل معه الصبيان والنساء مشدودين على أقتاب الجمال، موثوقين بالحبال، والنساء مُكشّفات الوجوه والرؤوس )(٣) .

وقال: ( ومن عجائب الدهر الشنيعة وحوادثه الفظيعة أن يُحمل آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أقتاب الجمال، موثّقين بالحبال، والنساء مُكشّفات الوجوه والرؤوس، من العراق إلى أن دخلوا دمشق، فأُقيموا على درج الجامع حيث يُقام الأُسارى والسبي، والأمر كلّه لله، لا حول ولا قوّة إلاّ به )(٤) .

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: ( فسار بهم مُحَفّز حتّى دخل الشام، كما يُسار بسبايا الكفّار، ويتصفّح وجوههم أهل الأقطار )(٥) .

كيف ورد أهل بيت الحسينعليه‌السلام دمشق؟!

لقد دخل أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دمشق نهاراً، وأهلها قد علّقوا الستور والحُجب والديباج، فرحين مُستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، كأنّه العيد الأكبر عندهم.

____________________

(١) جواهر المطالب ٢/ ٢٧٣.

(٢) شذرات الذهب ١/ ٦٧.

(٣) الإتحاف بحُبّ الأشراف: ٥٥.

(٤) المصدر نفسه: ٦٩.

(٥) تسلية المجالس ٢/ ٣٧٢.

٨٨

روى الخوارزمي، بإسناده عن زيد، عن أبيهعليه‌السلام قال: ( إنّ سهل بن سعد قال: خرجت إلى بيت المقدس، حتى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مُطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار قد علّقوا الستور والحُجب والديباج، وهم فرحون مُستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن.

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا هؤلاء، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟!

قالوا: يا شيخ نراك غريباً!

فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحملت حديثه.

فقالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها!

قلت: ولِمَ ذاك؟

فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يُهدى من أرض العراق إلى الشام، وسيأتي الآن.

قلت: واعجباه! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟! فمن أيّ باب يدخل؟

فأشاروا إلى باب يُقال له: باب الساعات. فسرت نحو الباب، فبينما أنا هنالك، إذ جاءت الرايات يتلو بعضها بعضاً، وإذا أنا بفارس بيده رمح منزوع السنان، وعليه رأس مَن أشبه الناس وجهاً برسول الله، وإذا النسوة من ورائه على جمال بغير وطاء، فدنوت من إحداهنّ فقلت لها: يا جارية، مَن أنت؟

فقالت: أنا سكينة بنت الحسين.

فقلت لها: ألكِ حاجة إليّ - فأنا سهل بن سعد، ممّن رأى جدّك وسمعت حديثه -؟

قالت: يا سهل، قل لصاحب الرأس: أن يتقدّم بالرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله.

قال: فدنوت من صاحب الرأس وقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار؟

قال: وما هي؟

قلت: تُقدِّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك، ودفعت له ما وعدته... )(١) .

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٠؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٧.

٨٩

إنّ هذه الرواية تكشف عن عدّة نقاط:

١ - الوضع العامّ، المتمثِّل بحالة الفرح والانبساط والاشتغال باللهو، وهي ناشئة عن الجهل السائد، وقد بيّنا جذوره في مدخل هذا الكتاب.

٢ - الوضع الخاصّ، وهو وجود ضمائر حيّة تعرف الأمور، وتُميّز الحقّ من الباطل، ممّن رأى سهلُ بن سعد بعضَهم مُصادفةً، وسمع منهم هذا الكلام: ( يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها، هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُهدى من أرض العراق إلى الشام )، وأغلب الظنّ أنّهم قاموا بدور مُهمّ في إيقاظ الناس، بعدما فُسح لهم المجال، إلى جانب الدور المهمّ الذي أدّاه أهل بيت الحسينعليه‌السلام في الشام، وإن لم نعلم تفاصيل ذلك.

٣ - اهتمام حرم الحسينعليه‌السلام بمسألة الحجاب وحفظ مكانة المرأة في الإسلام، مع كونهم في مأساة كبيرة لا تتصوّرها العقول، فلقد قدموا من سفر بعيد، ونالت منهم جراحات اللسان والسنان ما نالت، ومع ذلك تقول سكينة: ( قل لصاحب الرأس: أن يتقدّم بالرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله ).

ونحو ذلك ما رواه السيّد ابن طاووس وابن نما، قال - واللفظ للأوّل -: (قال الراوي: وسار القوم برأس الحسينعليه‌السلام ونسائه والأسرى من رجاله، فلما قربوا من دمشق دنت أُمّ كلثوم من الشمر - وكانت من جملتهم - فقالت: لي إليك حاجة.

فقال: وما حاجتك؟

قالت: إذا دخلت بنا البلد، فاحملنا في درب قليل النُظَّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل ويُنحّونا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال، فأمر في جواب سؤالها أن تُجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل - بغياً منه وكفراً - وسلك بهم بين النُظَّارة

٩٠

على تلك الصفة، حتّى أتى بهم إلى باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي )(١) .

وروي أنّ السبايا لما وردوا مدينة دمشق أُدخلوا من باب يُقال له: باب (توما)(٢) .

وروى محمّد بن أبي طالب قال: ( إنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً، واقتسمتها القبائل ليتقرّبوا بذلك إلى عبيد الله وإلى يزيد )(٣) .

رأس الحسين يتلو القرآن!

كيف ينطق الرأس الشريف؟ وما الذي نطق به؟ لقد نطق بالقرآن؛ لكي يثبت للجميع أنّه شهيد القرآن، وإذا كان هو القرآن الناطق في حياته، فكيف لا ينطق به بعد استشهاده؟!

المروي في التاريخ، أنّ الرأس الشريف تلا هذه الآية الشريفة:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٤) .

روى ابن عساكر، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل قال: ( رأيت رأس الحسين بن علي (رضي الله عنه) على القنا وهو يقول:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٥) .

____________________

(١) الملهوف: ٢١٠. ونحوه في مُثير الأحزان: ٩٧ وفيه: فأمر (شمر) بضدّ ما سألته بغياً منه وعتوَّاً.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١.

(٣) بحار الأنوار ٤٥/ ٦٢.

(٤) البقرة: ١٣٧.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٧/ ٥٠٩.

٩١

وجاء في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور:

( وقال: إنّ كلّ راوٍ لهذا الحديث قال لمن رواه له: الله، إنّك سمعته من فلان؟ قال: الله، إنّي سمعته منه، إلى الأعمش! قال الأعمش: فقلت لسلمة بن كهيل: الله، إنّك سمعته منه؟ قال: الله، إنّي سمعته منه بباب الفراديس بدمشق! لا مُثّل لي ولا شُبّه لي وهو يقول:( ... فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (١) .

تكلّم رأس الحسينعليه‌السلام بدمشق!

أخرج ابن عساكر، بإسناده عن المنهال بن عمرو قال: أنا - والله - رأيت رأس الحسين بن علي حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتّى بلغ قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٢) ، قال: فأنطق الرأس بلسان ذرب فقال:( أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي ) (٣) .

وروى ابن شهر آشوب عن الحافظ السروي أنّه قال: ( وسُمع أيضاً صوتهعليه‌السلام بدمشق:( لا قوّة إلاّ بالله ) (٤) .

____________________

( ١ ) مُختصر تاريخ دمشق ١٠/ ٩٢. وروى الخبر الشيخ الجليل أبو محمّد جعفر بن أحمد بن علي القمّي ( المسلسلات: ٢٥١)؛ والعلاّمة الجويني ( فرائد السمطين ٢/ ١٦٩ ح٤٥٨ ) بإسنادهما. وانظر: تهذيب تاريخ دمشق ٦/ ٢٣٦؛ الوافي بالوفيات ١٥/ ٣٢٣؛ قيد الشريد لمحمّد بن طولون: ٧٥.

( ٢ ) الكهف: ٩.

( ٣ ) تاريخ مدينة دمشق ١٧/ ٢٤٦، وانظر: الخرائج والجرائح ٢/ ٥٧٧؛ الثاقب في المناقب: ٣٣٣ ح٢٧٤، وفيه أنّه قال:( أمري أعجب من أمر أصحاب الكهف والرقيم ) ، الخصائص الكبرى ٢/ ١٢٧؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٨، ح٣٦؛ الصراط المستقيم ٢/ ١٧٩ ح٥٧؛ مناقب أمير المؤمنين للصنعاني ٢/ ٢٦٧؛ الكواكب الدُّرِّية ١/ ٥٧؛ إسعاف الراغبين: ١٩٦؛ نور الأبصار: ١٣٥؛ مدينة المعاجز: ٢٧٤؛ إثبات الهُداة ٥/ ١٩٣ ح٣٢؛ إحقاق الحقّ ١١/ ٤٥٣؛ عبرات المصطفين ٢/ ٣٣٠؛ العوالم ١٧/ ٤١٢.

( ٤ ) المناقب ٤/ ٦١.

٩٢

على درج المسجد:

أمر يزيد عليه اللعنة بإيقاف الأُسارى من أُسرة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) بدرجة المسجد، حيث توقَف الأُسارى لينظر الناس إليهم، صرّح بذلك المؤرّخون، ومنهم مطهّر بن طاهر المقدسي( ١) ، وابن العبرى( ٢) ، قال - واللفظ للأخير -: ( ثمّ بعث ( أي ابن زياد ) به ( أي رأس الحسين ( عليه السلام) ) وبأولاده إلى يزيد بن معاوية، فأمر نساءه وبناته فأُقمن بدرجة المسجد حيث توقَف الأسارى ينظر الناس إليهم ).

مع الشيخ الشامي:

قال ابن أعثم: ( وأُتي بحرم رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حتّى أُدخلوا من مدينة دمشق من باب يُقال له: ( باب توما)، ثمّ أُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يُقام السبي، وإذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم وقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين! منكم.

فقال له عليّ بن الحسين:( يا شيخ، هل قرأت القرآن؟! )

فقال: نعم، قرأته.

قال:( فعرفت هذه الآية: ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... ) (٣) ؟! ) .

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال عليّ بن الحسين ( رضي الله عنه):( فنحن القُربى يا شيخ! ) .

قال:( فهل قرأت في ( بني إسرائيل): ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ... ) (٤) ؟! ) .

____________________

(١) البدء والتاريخ ٦/ ١٢.

(٢) تاريخ مُختصر الدول: ١٩٠.

(٣) الشورى: ٢٣.

(٤) الإسراء: ٢٦.

٩٣

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال عليّ ( رضي الله عنه):( نحن القُربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الآية: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ( ١ ) ،فنحن ذو القُربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الآية: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) ؟! ) .

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال:( فنحن أهل البيت الذين خُصصنا بآية الطهارة! ) .

قال: فبقى الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمَّ، إنّي تائبٌ إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس )(٣) .

وفي اللهوف قال: قال الراوي: ( بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال: ( تالله، إنّكم هُم؟! ).

فقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :( تالله، لنحن هم من غير شكّ، وحقّ جدّنا رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إنّا لنحن هم ) .

قال: فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد( صلَّى الله عليه وآله ) من الجنّ والإنس. ثمّ قال: هل لي من توبة؟

فقال له:( نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت

____________________

( ١ ) الأنفال: ٤١.

( ٢ ) الأحزاب: ٣٣.

( ٣ ) الفتوح ٢/ ١٨٣. ونحوه في: تفسير فرات الكوفي: ١٥٣ ح١٩١؛ أمالي الصدوق: ٢٣٠؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٤؛ روضة الواعظين ١/ ١٩١؛ الاحتجاج ٢/ ١٢٠؛ عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٦ ح٩؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٦١؛ الدرّ المنثور ذيل آية ٢٣: الشورى و٢٦: الإسراء، بتفاوت يسير، وفيه: أنّ الشيخ الشامي قال - بعدما رفع يده إلى السماء -: اللّهم، إنّي أتوب إليك - ثلاث مرّات - اللّهمّ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد ومن قتلة أهل بيت محمّد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم.

٩٤

معنا ) . فقال: ( أنا تائب). فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقُتِل )(١) .

تأمّل وملاحظات:

نستنتج من هذا الخبر عدّة أُمور:

١ - إنّ هذا أوّل موقف تكلّم به الإمام زين العابدين بعد تحمُّله شِدَّة السفر وشقَّته، وبعدما رأى من المعاناة؛ لأنّه روي أنّ الإمام ( عليه السلام ) لم يتكلّم في الطريق - من الكوفة إلى الشام - حتّى وصل الشام( ٢) .

٢ - الإمام ( عليه السلام ) يقوم بأداء الرسالة في أوّل فرصة وأوّل نقطة يجد بها الطينة الطيّبة. فمع أنّ ذاك الشيخ الشاميّ لم يكن إلاّ رجلاً عاش في كَنف حُكم الأُمويّين مدّة طويلة، ولم يرَ عليّاً ولا أحداً من أبنائه، ولكنّه كان على فطرة سليمة، بينما الذين قاموا بقتل الإمام الحسين وسبي أهل بيته، فقد كان كثير منهم ممّن رأى عليّاً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وصلّى خلفهم! وسلّم عليهم ولكنّهم كانوا خبثاء!

٣ - هذا الخبر يدلّ على سيطرة الجوّ الإعلامي المسموم، على مجتمع وبيئة تربَّت في أحضان بني أُميّة، لقد أذاعوا بأنّ المقتول هو رجل خارجيّ، خرج على أمير المؤمنين! وخليفة المسلمين! كان يريد بثّ الفتنة والفرقة في المجتمع( ٣) ؛ ولذلك نرى أنّ الشيخ الشامي حينما يواجه الإمام ( عليه السلام ) أوّل مرّة يحمد الله على قتل

____________________

( ١ ) الملهوف: ٢١١، ونحوه في تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤. وروى الخبر ابن حجر ( الصواعق المحرقة: ٣٤١ باب وصيّة النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) بهم )؛ ينابيع المودّة ٢/ ٣٠٢ عن الطبراني مُلخّصاً.

( ٢ ) انظر: تاريخ الطبري ٤/ ٣٥١؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩١؛ الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨؛ مُثير الأحزان: ٩٧.

( ٣ ) ومن هنا نجد أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) يهتمّ بهذا الجانب بنفسه، حيث يقول:( إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ) .

٩٥

الحسين ( عليه السلام ) ويقول: ( الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم! وأراح الرجال من سطوتكم! وأمكن أمير المؤمنين منكم! ).

ولكن حينما ينكشف له الواقع يتوب إلى الله من قوله، ويتبرّأ من قَتَلة أهل بيت رسول الله ( عليهم السلام ) وأعدائهم، وكانت أكثريّة المجتمع الشامي، على غرار هذا الشيخ، قد ضلّلهم الدعاية الأُموية وحجبتهم عن معرفة أهل بيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله)؛ ومن ثَمَّ لم يتحمّل يزيد ذلك وأمر بقتل ذلك الشيخ؛ كي يظلّ مُسيطراً على الأوضاع في زعمه.

متى وصل الرأس الشريف؟

بالنسبة إلى زمان وصول الرأس الشريف هناك عدّة احتمالات:

الأوّل: أنّ الرأس الشريف حُمل مع تسييرهم أهل البيت إلى الشام، وهناك بعض الشواهد التاريخية تؤيّد ذلك.

* منها: ما رواه ابن حبّان بقوله: ( ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام، مع أُسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) )(١) .

* ومنها: ما رواه السيّد ابن طاووس، عن الإمام زين العابدين أنّه قال:( حملني على بعير يطلع بغير وطاء، ورأس الحسين ( عليه السلام ) على عَلَم ونسوتنا خلفي على بغال... والفارطة خلفنا وحولنا بالرّماح ) (٢) .

* ومنها: ما رواه ابن الأثير: ( ثمّ أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام، إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة

____________________

( ١ ) كتاب الثقات ٢/ ٣١٢.

( ٢ ) إقبال الأعمال: ٥٨٣.

٩٦

معه، وأرسل معه النساء والصبيان وفيهم عليّ بن الحسين )(١) .

* ومنها: ما نقله السيّد ابن طاووس أيضاً: ( وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه أعاد الجواب إليه، أمره فيه بحمل رأس الحسين ( عليه السلام ) ورؤوس مَن قُتل معه وبحمل أثقاله ونسائه وعياله )(٢) .

الثاني: أنّ الرأس الشريف أُوصل إلى دمشق قبل وصول أهل البيت ( عليهم السلام)، وهناك بعض الشواهد تؤيّد هذا الاحتمال:

منها: ما صرّح به ابن أعثم والخوارزمي بقولهما - واللفظ للأوّل -: ( ثمّ دعا ابن زياد بزحر بن قيس الجعفي، فسلّم إليه رأس الحسين بن علي ( رضي الله عنهما ) ورؤوس إخوته... ورؤوس أهل بيته وشيعته ( رضي الله عنهم أجمعين )، ودعا علي بن الحسين، فحمله وحمل أخواته وعمّاته ونساءهم إلى يزيد بن معاوية... وسبق زحر بن قيس برأس الحسين ( عليه السلام ) إلى دمشق حتى دخل على يزيد، فسلّم عليه ودفع إليه كتاب عبيد الله بن زياد، قال: فأخذ يزيد كتاب عبيد الله بن زياد فوضعه بين يديه، ثمّ قال: هات ما عندك يا زحر، فقال: أبشِر يا أمير المؤمنين!... )(٣) .

ومُقتضى هذا الاحتمال، أنّ الرأس الشريف أُرجع بعد ذلك إلى خارج دمشق؛ لكي يُدخَل مع الأُسارى الشام.

الثالث: أنّ أهل بيت الحسين ( عليه السلام ) سُرِّحوا إلى دمشق بعدما أُنفذ برأس الحسين ( عليه السلام)، ولكنّهم لحقوا بالذين معهم الرأس الشريف، فأُدخِلوا مع الرأس الشريف الشام.

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٣.

( ٢ ) الملهوف: ٢٠٨. وكذا ما روى في شذرات الذهب ١/ ٦٧؛ والإتحاف ٥٥ و٦٩.

( ٣ ) الفتوح ٢/ ١٨٠؛ نحوه مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٥ بتفاوت يسير.

٩٧

روى الشيخ المفيد والطبرسي ما يؤيّد ذلك، قالا: ( ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد - بعد إنفاذه برأس الحسين - أمر بنسائه وصبيانه فجُهّزوا وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بغِلّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مُحفَّز بن ثعلبة العائذي، وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس... )(١) .

ويمكن أن يُقال: إنّ الرأس الشريف أُنفذ مع إنفاذ أهل البيت إلى الشام وأُدخِل معهم دمشق، ولكنّه أُدخل بالرأس الشريف مجلس يزيد قبل إدخالهم مجلسه، وهذا يتَّحد مع الاحتمال الأوّل الذي ربّما ذكره الأكثر، ويُحمل عليه الاحتمال الثاني أيضاً.

أمّا زمن دخول الرأس الشريف في الشام تحديداً، فقد صرّح بعض العلماء كونه في أوّل يوم من شهر صفر.

قال أبو ريحان البيروني: (في اليوم الأوّل من صفر، أُدخل رأس الحسينعليه‌السلام مدينة دمشق، فوضعه بين يديه، ونقر ثناياه بقضيب كان في يده، وهو يقول: لست من خندف إن لم أنتقم... الأبيات )(٢) .

وقال الكفعمي: ( وفي أوّله (صفر) أُدخل رأس الحسينعليه‌السلام إلى دمشق، وهو عيد عند بني أُميّة )(٣) .

وعليه يُحمل ما ذكره الشيخ البهائي بقوله: ( الأوّل من صفر، فيه حُمِل رأس أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام إلى دمشق، وجعلوه بنو أُميّة عيداً )(٤) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٩؛ إعلام الورى: ٢٤٨.

(٢) الآثار الباقية: ٣٢١.

(٣) مصباح الكفعمي: ٥١٠.

(٤) توضيح المقاصد: ٥.

٩٨

رأس الإمامعليه‌السلام بين يدي يزيد!

قال الحافظ البدخشاني: ( ولما قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين (رضي الله عنه) بين يديه، فاستبشر الشقيّ بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران... )(١) .

وقال الدينوري: ( قالوا: إنّ ابن زياد جهّز علي بن الحسين ومَن كان معه من الحرم، ووجّه بهم إلى يزيد بن معاوية، مع زحر بن قيس ومحقن بن تغلبة(٢) ، وشمر بن ذي الجوشن، فساروا حتّى قدموا الشام ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق، وأُدخل معهم رأس الحسين، فرُمي بين يديه، ثمّ تكلّم شمر بن ذي الجوشن فقال: يا أمير المؤمنين، ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستّين رجلاً من شيعته... )(٣) .

ثمّ ذكر الدينوري كلاماً تفرّد هو بنسبته إلى شمر، خلافاً لغيره من المؤرّخين الذين يرون أنّ المتكلّم كان زحر بن قيس.

قال الشيخ المفيد - وغيره(٤) : ( روى عبد الله بن ربيعة الحميري فقال: إنّي لعند يزيد بن معاوية بدمشق، إذ أقبل زحر بن قيس حتّى دخل عليه، فقال له يزيد: ويلك! ما وراءك وما عندك؟

قال: أبشِر - يا أمير المؤمنين - بفتح الله ونصره! ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حُكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فأحطنا بهم من كلّ ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون

____________________

(١) نُزل الأبرار: ١٥٩.

(٢) الظاهر أنّه تصحيف مُحفّز بن ثعلبة.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٦٠.

(٤) ممّن سنذكرهم في الهامش الآتي.

٩٩

منّا بالآكام والحفر لواذاً، كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله، يا أمير المؤمنين! ما كانوا إلاّ جزر جَزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مُجرّدة، وثيابهم مُرمّلة، وخدودهم مُعفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الرياح، زوّارهم العقبان والرخم.

فأطرق يزيد هُنيهة، ثمّ رفع رأسه فقال: فقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما لو أنّي صاحبه لعفوت عنه )(١) .

____________________

(١) الإرشاد ٢/ ١١٨.

ورواه أيضاً ابن سعد في الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين): ٨١، وفيه (... في سبعين من شيعته.. فاختاروا القتال على الاستسلام، فناهضناهم عند شروق الشمس، ثمّ جرّدنا فيهم السيوف اليمانية، فجعلوا يبرقطون إلى غير وزر فنُصرنا الله عليهم.. حتّى كفى المؤمنين مؤونتهم.. أجسامهم مُطرّحة مُجرّدة.. ومناخرهم مُرمّلة تسفي عليهم الريح ذيولها بقي سبسب تنتابهم عرج الضباع.. )، وابن عبد ربّه، بإسناده عن الغاز بن ربيعة الجرشي في العقد الفريد: ٥/ ١٣٠، وفيه (... سبعة عشر رجلاً من أهل بيته... وهامهم مُرمّلة... فأبوا إلاّ القتال... الريح بقاع سبسب )، وابن أعثم في الفتوح: ٢/ ١٨٠ وفيه: (... في اثنين وثلاثين من شيعته وإخوته وأهل بيته... فأبوا علينا... فقاتلناهم من وقت شروق الشمس إلى أن أضحى النهار... ما كانوا إلاّ كقهوة الحامل... أجسادهم بالعراء مُجرّدة وثيابهم بالدماء مُرمّلة وخدودهم بالتراب مُعفّرة )، والطبري في تاريخه: ٤/ ٣٥١، وفيه: ( كان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي... فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم مع شروق الشمس... الرخم بقيّ سبسب )، وابن الجوزي في المنتظم: ٥/ ٣٤١، وفيه (... فاختاروا القتال، فغدونا عليهم من شروق الشمس... )، وابن الأثير في الكامل في التاريخ: ٢/ ٨٣، وابن نما عن العذري بن ربيعة بن عمرو الجرشي في: مُثير الأحزان: ٩٨، وفيه: ( فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم من شروق الشمس... والرخم بقاع قرقر سبسب، لا مُكفّنين ولا موسّدين... )، وابن كثير في البداية والنهاية: ٨/ ١٩٣، والباعوني عن روح بن زنباع في جواهر المطالب: ٢/ ٢٧٠، وفيه (... في تسعة عشر رجلاً من أهل بيته وستّين رجلاً من شيعته... فأبوا إلاّ القتال، فعدونا عليهم مع شروق الشمس... الرياح بقاع سبسب طعمة للعقاب والرخم ).

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

قال الطبري في تاريخه : زعموا أن الحسن البصري لما بلغه قتل حجر وأصحابه ، قال: صلّوا عليهم وكفنّوهم واستقبلوا بهم القبلة؟. قالوا : نعم. قال : حجّوهم وربّ الكعبة.

وذكر كثير من أهل الأخبار أن معاوية لما حضرته الوفاة ، جعل يغرغر بالموت ، ويقول : إن يومي منك يا حجر بن عدي لطويل.

(أقول) : ولكن هيهات ينفع الندم.

ترجمة حجر بن عدي

(الدرجات الرفيعة للسيد علي خان ، ص ٤٢٣)

هو حجر بن عديّ بن معاوية بن جبلة بن الأدبر الكندي. يكنى أبا عبد الرحمن ، ويسمى حجر الخير.

قال ابن عبد البرّ في (الإستيعاب) : كان حجر من فضلاء الصحابة ، شجاعا من المقدمين.

وقال غيره : كان من الأبدال ، وكان صاحب راية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو بعد من الرؤساء والزهاد. وشهد القادسية ، وهو الّذي فتح مرج عذراء. ومحبته وإخلاصه لأمير المؤمنينعليه‌السلام أشهر من أن تذكر. وكان على كندة يوم صفين ، وعلى الميسرة يوم النهروان.

وفي (أعلام الزركلي) : وسكن الكوفة إلى أن قدم زياد ابن أبيه واليا عليها ، فدعا به زياد فجاءه ، فحذّره من الخروج على بني أمية. فما لبث أن عرفت عنه الدعوة إلى مناوأتهم والاشتغال في السرّ بالقيام عليهم. فجيء به إلى دمشق ، فأمر معاوية بقتله بعد أن أعطاه الأمان ، فقتل في مرج عذراء (من قرى دمشق) مع أصحاب له.

٣٩٣ ـ إثارة مروان بن الحكم الفتنة بين معاوية والحسينعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٤ ص ٥١ ط إيران)

روى الكلبي أن مروان بن الحكم قال يوما للحسينعليه‌السلام : لو لا فخركم بفاطمة

٣٦١

بم كنتم تفخرون علينا؟. فوثب الحسين (وكان شديد القبضة) فقبض على حلقه فعصره ، ولوى عمامته على عنقه حتّى غشي عليه ، ثم تركه.

وأقبل الحسينعليه‌السلام على جماعة من قريش ، فقال : أنشدتكم الله إلا صدّقتموني إن صدقت. أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن أخي؟. أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي؟. قالوا : الله م لا.قال : وإني لا أعلم أن في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه ، طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والله ما بين جابرسا وجابلقا [مدينتان إحداهما بباب المشرق والأخرى بباب المغرب] رجلان ممن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إذ كان ، وعلامة قولي فيك أنك إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك!.

قال : فو الله ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب ، فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه.

٣٩٤ ـ دعايات مفتعلة :

شعر معاوية أن الأمة بكافة فصائلها تقدّم الإمام الحسينعليه‌السلام ، باعتباره الحاكم الّذي يلي الخلافة بعد هلاك معاوية وبدون منافس. وذلك لشياع ذكره في الأمصار وعلى كل لسان. فهم كانوا لا يشكّون بأن الخلافة سوف تؤول إليه بعد هلاك معاوية. لذلك بدأ معاوية يختلق القصص المنقولة عن بعض الوشّائين والنمّامين ، بأن الحسينعليه‌السلام يفكر في الخروج عليه. لذلك كتب معاوية للحسينعليه‌السلام كتابا يذكّره فيه بعهده وصلحه.

٣٩٥ ـ كتاب معاوية للحسينعليه‌السلام يتهمه فيه بالفتنة وشقّ عصا الطاعة ، ويتوعده بالبطش به :

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ١٣١)

قال السيد علي جلال الحسيني في كتابه (الحسين) ج ١ ص ١٦٤ :

روى ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ج ١ ص ٢٨٤ وما بعدها ، وأبو عمرو محمّد بن عمر الكشي في (معرفة أخبار الرجال) ، وأبو جعفر الطوسي في (اختيار الرجال) طبع بومبي ص ٣٢ وما بعدها ؛ أن معاوية كتب إلى الحسينعليه‌السلام :

أما بعد ، فقد انتهت إليّ أمور عنك ، إن كانت حقا فقد أظنك تركتها رغبة فدعها ، ولعمر الله إنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإن أحقّ الناس بالوفاء لمن

٣٦٢

أعطى بيعته ، من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها. وإن كان الّذي بلغني باطلا ، فإنك أنت أعدل الناس لذلك ، وحظّ نفسك فاذكر ، وبعهد الله أوف!. فإنك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك. فاتّق شقّ عصا هذه الأمة ، وأن يردّهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت الناس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يستخفّنك السفهاء والذين لا يعلمون.

٣٩٦ ـ ردّ الحسينعليه‌السلام على كتاب معاوية ، وبيان بعض أعماله ونقضه للعهد:

(المصدر السابق ، ص ١٣٢)

فلما وصل الكتاب إلى الحسين رضي الله عنه ، كتب إليه :

أما بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى. وأما ما ذكرت أنه رقى إليك عني ، فإنه إنما رقاه إليك الملّاقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. واعلم بأني ما أردت لك حربا ولا عليك خلافا ، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك ، وإلى أوليائك القاسطين (الجائرين) الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشيطان.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة ، وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلما وعدوانا ، من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظّة والمواثيق المؤكدة ، جرأة على الله واستخفافا بعهده.

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، العبد الصالح الّذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفر لونه؟. فقتلته بعد ما أمنّته وأعطيته من العهود ما لو فهمته (الوعول) لنزلت من رؤوس الجبال.

أولست بمدّع (زياد بن سمية) المولود على فراش (عبيد) عبد ثقيف؟. فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعمدا ، واتبعت هواك بغير هدى من الله. ثم سلطّته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل عيونهم ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

٣٦٣

أولست قاتل الحضرمي الّذي كتب إليك فيه زياد بن سمية أنه على دين علي كرم الله وجهه ، فكتبت إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليعليه‌السلام ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك؟!.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتق شقّ عصا هذه الأمة ، وأن تردّهم إلى فتنة. وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظرا لنفسي ولديني ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من أن أجاهدك ، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله ، وإن تركته فإني أستغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت : إني إن أنكرك تنكرني ، وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ، فإني أرجو أن لا يضرني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، لأنك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفيت بشرط. ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا ، فقتلتهم مخافة أمر ، لعلك لولم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب. واعلم أن لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة وقتلك أولياءه على التّهمة ، ونفيك لهم أولياءه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب. وما أراك إلا قد خسرت نفسك ، وتبّرت دينك ، وغششت رعيتك ، وأخربت أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقي ، والسلام.

فقال معاوية : إن أثرنا بأبي عبد الله إلا أسدا.

استخلاف معاوية ليزيد

٣٩٧ ـ عزم معاوية على البيعة ليزيد بعد وفاة الحسنعليه‌السلام :

(الاستيعاب لابن عبد البر ، ج ١ ص ٣٧٦)

وكان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسنعليه‌السلام وعرّض بها ، بعد أن

٣٦٤

نكث بشروط صلحه مع الحسنعليه‌السلام ، ولكنه لم يكشفها ولا عزم عليها إلا بعد وفاة الحسنعليه‌السلام .

٣٩٨ ـ اعتماد معاوية على داهيتين :

(خطط الشام لمحمد كرد علي ، ج ١ ص ١٣٦)

ولما مات الحسنعليه‌السلام بعد أربعة أشهر من استيلائه على العراق ، صفا الجو لمعاوية وبايع له الناس. فملك العراق والحجاز ومصر ، وأجمعت القلوب على مبايعته طوعا أو كرها. وكان ممن مالأ معاوية على تحقيق رغائبه عمرو بن العاص ، قريبه وعامله على مصر ، والمغيرة بن شعبة عامله على الكوفة. وهما الداهيتان اللتان يقول فيهما الحسن البصري : إنهما أفسدا هذه الأمة ، لاحتيال الأول برفع المصاحف يوم صفين وتقرير التحكيم ، ولأن الثاني كان من الداعين لأخذ البيعة ليزيد.

٣٩٩ ـ المغيرة بن شعبة يشير على معاوية باستخلاف يزيد :

(تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٢٠٥)

قال الحسن البصري : أفسد أمر الناس اثنان : عمرو بن العاص ، يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت ، ونال من القراء ، فحكمّ الخوارج ، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.

والمغيرة بن شعبة ، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة ، فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي فأقبل معزولا ، فأبطأ عنه. فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك؟. قال :أمر كنت أوطّئه وأهيّئه!. قال : وما هو؟. قال : البيعة ليزيد من بعدك. قال : أوقد فعلت؟. قال : نعم. قال : ارجع إلى عملك!.

فلما خرج قال له أصحابه : ما وراءك؟. قال : وضعت رجل معاوية في غرز غيّ ، لا يزال فيه إلى يوم القيامة.

قال الحسن البصري : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم ، ولو لا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.

٤٠٠ ـ البيعة ليزيد :(العقد الفريد لابن عبد ربه ، ج ٤ ص ٣٠٢)

روى أبو الحسن المدائني قال : لما مات زياد بن أبيه سنة ٥٣ ه‍ ، أظهر معاوية عهدا مفتعلا ، فقرأه على الناس ، فيه عقد الولاية ليزيد بعده فلم يزل يروّض الناس لبيعته سبع سنين

٣٦٥

فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه.فوفد عليه من كل مصر قوم. وكان فيمن وفد عليه من البصرة الأحنف بن قيس. ثم جلس معاوية في أصحابه ، وأذن للوفود فدخلوا عليه. وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد. فأول من تكلم الضحاك بن قيس الخ.

٤٠١ ـ كلام الأحنف بن قيس في يزيد وبيعته :

(المصدر السابق)

ثم تكلم الأحنف بن قيس ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم بيزيد ، في ليله ونهاره ، وسرّه وعلانيته ، ومدخله ومخرجه. فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تشاور الناس فيه ، وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.

٤٠٢ ـ خطبة مروان في مسجد المدينة يدعو إلى يزيد :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٧١)

أخبرنا سيد الحفّاظ أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي حدثنا من أدرك مروان بن الحكم ، أنه خطب الناس على المنبر ليدعو إلى يزيد بن معاوية [وكان والي معاوية على المدينة]. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق ، فجلس على قوائم المنبر ، فقال : لا ، ولا نعمة عين لك ، أدين الهرقليّة [نسبة إلى هرقل ملك الروم] ، كلما ذهب واحد جاء آخر؟. هلك أبو بكر فترك ولدا هم أطيب وأكثر من ولد معاوية ، ثم نحّاها عنهم وجعلها في رجل من بني عديّ بن كعب. ثم هلك عمر ابن الخطاب فترك ولدا هم أطيب وأكثر من ولد معاوية ، فنحّاها عنهم وجعلها شورى بين الناس.

(قال) : وقالت عائشة : يا مروان ، أما والله إنكم للشجرة الملعونة التي ذكر الله في القرآن.

رواية أخرى للخطبة : (الفتوح لابن أعثم ، ج ٥ ص ١٧١)

وذكر هذه القصة أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه أطول من هذه.

قال : كتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره أن يدعو الناس إلى بيعة يزيد ، ويخبره في كتابه أن أهل مصر والشام والعراق قد بايعوا.

٣٦٦

فأرسل مروان إلى وجوه أهل المدينة ، فجمعهم في المسجد الأعظم. ثم صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الطاعة وحضّ عليها ، وذكر الفتنة وحذّر منها.

ثم قال في بعض كلامه : أيها الناس إن أمير المؤمنين قد كبر سنّه ، ودقّ عظمه ، ورقّ جلده ، وخشي الفتنة من بعده. وقد أراه الله رأيا حسنا ، وقد أراد أن يختار لكم وليّ عهد ، يكون لكم من بعده مفزعا ، يجمع الله به الألفة ويحقن به الدماء ، وأراد أن يكون ذلك عن مشورة منكم وتراض ، فماذا تقولون؟.

(قال) فقال الناس من كل جانب : إنا مانكره ذلك إذا كان رضا. فقال مروان :فإنه قد اختار لكم الرضا الّذي يسير بسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وهو ابنه (يزيد). قال : فسكت الناس.

وتكلم عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : كذبت والله ، وكذب من أمّرك بهذا.والله ما (يزيد) بمختار ولا رضا ، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية في يزيد الخمور ، يزيد القرود ، يزيد الفهود.

فقال مروان : إن هذا المتكلم هو الّذي أنزل الله فيه :( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) [الأحقاف : ١٧].

(قال) فغضب عبد الرحمن ، وقال : يابن الزرقاء! أفينا تتأوّل القرآن ، وأنت الطريد ابن الطريد!. ثم بادر إليه فأخذ برجليه ، وقال : انزل يا عدوّ الله عن منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس مثلك من يتكلم [بهذا] على أعواده.

قال : فضجّت بنو أمية في المسجد. وبلغ ذلك عائشة فخرجت من منزلها متلفّعة بملاءة لها ، ومعها نسوة من قريش ، حتّى دخلت المسجد. فلما نظر إليها مروان كأنه فزع من ذلك ، فقال : سألتك بالله يا أم المؤمنين إن قلت إلا حقا. فقالت عائشة : لا أقول إلا حقا. أشهد لقد لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباك ولعنك ، فأنت فضض من لعنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت الطريد ابن الطريد. أتكلّم أخي عبد الرحمن بما تكلمه!.فسكت مروان ولم يردّ عليها شيئا ، [ورجعت عائشة إلى منزلها] وتفرّق الناس.

٤٠٣ ـ عزل مروان بن الحكم عن المدينة :

ذكر الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص ١٧٥ : أن معاوية بعد وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام وتولية يزيد ، بعث إلى مروان وكان عامله على المدينة ، يطلب منه أخذ البيعة ليزيد من أهل المدينة ، فحاول مروان ذلك فلم يستطع. فبعث إلى معاوية

٣٦٧

بعدم تجاوب أهل المدينة معه. فعزله ، وعيّن مكانه سعيد بن العاص ، وهو جلف قاس ، فأظهر الغلظة ، وأخذهم بالعزم والشدة. ثم قدم معاوية بنفسه إلى المدينة.

ترجمة مروان بن الحكم

[وأبيه الحكم بن أبي العاص]

هو أبو الحكم ، مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.

قال الذهبي في (العبر في خبر من غبر) ج ١ ص ٧١ :

وكان مروان كاتب السرّ لابن عمه عثمان ، وبسببه جرى على عثمان ما جرى. وكان قصيرا ، كبير الرأس واللحية ، دقيق الرقبة ، أوقص ، أحمر الوجه. يلقّب : خيط باطل ، لدقّة عنقه. عاش ثلاثا وستين سنة.

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) ج ٥ ص ١٢٥ طبعة أنيقة : وكان والده الحكم مغموصا عليه في إسلامه ، وكان إظهاره الإسلام في يوم فتح مكة ، فكان يمرّ خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخلج بأنفه ويغمز بعينيه ، فبقي على ذلك التخليج وأصابته خبلة.

وكان الحكم يفشي أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعنه وسيّره إلى الطائف مع بنيه ، وقال : لا يساكنّي. فلم يزالوا طرداء حتّى ردّهم عثمان ، فكان ذلك مما نقم فيه عليه.

عن أبي هريرة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت في النوم بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة «فأصبح كالمتغيّظ. فما رؤي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتّى مات (راجع مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ١٧٣).

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) : حدثنا روح بن عبد المؤمن المقري عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : استأذن الحكم بن أبي العاص على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ائذنوا له لعنة الله عليه ، وعلى من يخرج من صلبه ، إلا المؤمنين وقليل ما هم ، يشرفون في الدنيا ، ويتّضعون في الآخرة».

٣٦٨

وكانت أم مروان صفية ، ويقال الصعبة بنت أبي طلحة ، وأمها مارية بنت موهب كندية ، وهي الزرقاء التي يعيّرون بها ، فيقال : بنو الزرقاء. وكان موهب قينا (أي عبدا).

وفي (أخبار الدول) للقرماني ، ص ١٣٢ :

روى الحاكم في كتاب (الفتن والملاحم) من المستدرك عن عبد الرحمن بن عوف ، أنه قال : كان لا يولد لأحد ولد إلا أتي به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدعو له. فأدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال : «هذا الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون».

ثم روى الحاكم عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : إن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرف صوته ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ائذنوا له لعنة الله عليه ذو مكر وخديعة. يعطون في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق».

٤٠٤ ـ جملة من أعمال مروان المشينة :

(شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي ، ص ٦٩)

ذكر الذهبي وابن عبد البر وغيرهما شيئا من مخازي مروان ، منها : أنه أول من شقّ عصا المسلمين بلا شبهة. وقتل النعمان بن بشير ، أول مولود من الأنصار في الإسلام. وخرج على ابن الزبير بعد أن بايعه على الطاعة. وقتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل (غيلة من خلفه).

٤٠٥ ـ الغدر صفة متأصلة في مروان :

(نهج البلاغة ، خطبة رقم ٧١)

ومما يثبت أن صفة الغدر متأصلة في مروان ، أنه لما أخذ أسيرا يوم الجمل ، استشفع الحسن والحسينعليهما‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام في أن يطلق سراحه ، فخلّى سبيله. فقالا لأبيهما : أتحبّ أن يبايعك يا أمير المؤمنين؟. فقالعليه‌السلام : أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنها كفّ يهودية ، لو بايعني بكفّه

٣٦٩

لغدر بسبته (أي إسته). أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه. وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر [يقصد بالأكبش الأربعة أولاد عبد الملك بن مروان وهم : الوليد وسليمان ويزيد وهشام].

٤٠٦ ـ هلاك مروان بن الحكم :

روى الواقدي كما في (تاريخ الطبري) ج ٢ ص ٥٧٦ قال :

تزوج مروان أرملة يزيد وهي (فاختة). وكان زواجه منها أشبه بأخذ الميراث ، منه بأن يكون زواجا ومصاهرة. وقد آلم ذلك نفس خالد بن يزيد ، الّذي أصبح في حجره. وكان مروان لا يألو جهدا في إسقاط خالد من أعين الناس ، وأخيرا حرمه مما كان قد وعده به في (الجابية) من أن تكون له الخلافة بعده.

فما كان من فاختة إلا أن انتقمت لابنها خالد من غدر مروان ، فغطّته بالوسادة وهو في سريره ، حتّى قتلته.

وقال الذهبي في (دول الإسلام) :

فلم يلبث أن وثبت عليه زوجته لكونه شتمها ، فوضعت على وجهه مخدّة كبيرة وهو نائم ، وقعدت هي وجواريها فوقها ، حتّى مات.

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) ص ١٥٩ طبع ليدن :

غدر مروان بخالد بن يزيد بن معاوية فيما وعده من ولاية العهد ، وأمه فاختة.ودخل عليه خالد على مرحلة من دمشق ، فقال له مروان : ما أدخلك عليّ في هذا الوقت يابن الرطبة؟!. فقال خالد : أمين مختبر ، أبعدها الله وأسحقها. وأتى أمه فأخبرها بما قال مروان. فقالت له : لن تسمع منه مثلها أبدا. ودخل مروان على أم خالد فتركته حتّى نام ، ثم عمدت إلى مرفقة محشوة ريشا فجعلتها على وجهه ، وجلست وجواريها عليها حتّى مات غمّا. ثم صرخت وجواريها وولولن وقلن :مات أمير المؤمنين بالفجأة.

وقال المسعودي في (مروج الذهب) ج ٣ ص ٩٨ :

فمنهم من رأى أنها وضعت على نفسه وسادة وقعدت فوقها مع جواريها حتّى مات. ومنهم من رأى أنها أعدت له لبنا مسموما ، فلما دخل عليها ناولته إياه فشرب. فلما استقر في جوفه وقع يجود بنفسه وأمسك لسانه. فحضره عبد الملك وغيره من ولده ، فجعل مروان يشير إلى أم خالد ، يخبرهم أنها قتلته ، وأم خالد

٣٧٠

تقول : بأبي وأمي أنت ، حتّى عند النزع لم تشتغل عني ؛ إنه يوصيكم بي حتّى هلك.

٤٠٧ ـ معاوية ينقض عهوده ويحاول تولية يزيد :

(مختصر تاريخ العرب لسيد أمير علي ، ص ٧٢)

ولكي يضمن معاوية الخلافة لابنه يزيد ، لم يتردد قط في نكث العهود مع الحسين ابن عليعليهما‌السلام .

وقد كان الصلح المعقود بين الحسنعليه‌السلام ومعاوية ينص على الاعتراف بحق الحسينعليه‌السلام في الخلافة ، ولكن معاوية نقض العهد ، وأخذ لابنه البيعة. فحنق الحسينعليه‌السلام ، وزاد في حنقه فساد يزيد ، فلم يعترف قط بطاغية الشام.

وفي (عمدة الطالب في أنساب أبي طالب) ص ١٨٠ ط نجف :

وكان معاوية قد نقض شرط الحسن بن عليعليه‌السلام بعد موته ، وبايع لابنه يزيد.وامتنع الحسينعليه‌السلام من بيعته. وأعمل معاوية الحيلة حتّى أوهم الناس أنه بايعه ، وبقي على ذلك حتّى مات معاوية.

٤٠٨ ـ قدوم معاوية إلى المدينة لأخذ البيعة ليزيد :

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ١٢٧)

روى ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة) في قدوم معاوية إلى المدينة لأخذ البيعة لابنه يزيد ، أنه لما نزل المدينة دعا الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنه إلى مجلس يضم خاصته. فلما استقرّ بهم المجلس ابتدأ معاوية فقال :

أما بعد ، فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم ، وأشهد ألا إله إلا الله ، المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا ، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة ، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. فأدّى عن الله وصدع بأمره ، وصبر على الأذى في جنبه ، حتّى وضح دين الله ، وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون. فمضى صلوات الله عليه ، وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له ، زهادة واختيارا لله ، وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى. فهذه صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طالما عالجناه ، مشاهدة ومكافحة ، ومعاينة وسماعا ، وما أعلم

٣٧١

منه فوق ما تعلمان. وقد كان أمر (يزيد) ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية ، من سدّ الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين وأحمد الفعل. هذا معناي في (يزيد) ، وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ، ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، ومع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الّذي يرجح بالصم الصلاب. وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة ، قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم [يريد بذلك عمرو بن العاص] ، وفي رسول الله أسوة حسنة. فمهلا بني عبد المطلب ، فأنا وأنتم شعبا نفع وجد ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ، ما يحمد به البصيرة في عتابكما. وأستغفر الله لي ولكما.

٤٠٩ ـ ردّ الإمام الحسينعليه‌السلام على كلام معاوية :

(المصدر السابق ، ص ١٢٨)

قال : فتيسّر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسينعليه‌السلام وقال : على رسلك ، فأنا المراد ، ونصيبي في التهمة أوفر. فأمسك ابن عباس.

فقام الحسينعليه‌السلام فحمد الله وصلّى على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال :

أما بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبّست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة ، والنكب عن استبلاغ البيعة. وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السّرج ، ولقد فضّلت حتّى أفرطت ، واستأثرت حتّى أجحفت ، ومنعت حتّى بخلت ، وجرت حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتّى أخذ الشيطان حظه الأوفر ونصيبه الأكمل. وفهمت ما ذكرته عن (يزيد) من اكتماله وسياسته لأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به ، من استفزازه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبّق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي ، تجده ناصرا. ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر

٣٧٢

هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحتفا في ظلم ، حتّى ملأت الأسقية. وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثنا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسولعليه‌السلام ولادة ، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول ، فأذعن للحجة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية ، من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميره له وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص فضيلة بصحبة الرسول وببيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتّى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه فعاله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم». فكيف تحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها ، بالمجتمع عليه من الصواب؟. أم كيف ضاهيت بصاحب تابعا ، وحولك من يؤمن في صحبته ويعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون؟. تريد أن تلبس الناس شبهة ، يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟.( أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) وأستغفر الله لي ولكم.

٤١٠ ـ جرأة أبي قتادة الأنصاري على معاوية :

(أخبار الدول وآثار الأول للقرماني ، ص ١٢٩)

قال ابن أبي الدنيا : حجّ معاوية سنة إحدى وخمسين ، فلما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري. فقال له معاوية : تلقّاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار!.قال : لم يكن لنا دواب. قال : فأين النواضح؟. قال : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. فسكت.

يقول القرماني : ولم نذكر في هذا الكتاب ما شجر بين معاوية وبين عليعليه‌السلام لما يتطرق للنفوس الضعيفة وأهل الأهواء من البغض لمعاوية رضي الله عنه.ونسكت عن حرب الصحابة ، فالذي جرى بينهم كان اجتهادا مجردا.

٣٧٣

تعليق على القرماني :

رغم احترامي للشيخ القرماني الدمشقي ، وثقتي بدينه وتقواه وتعظيمه لأهل البيتعليهم‌السلام ، إلا أن كلامه المتقدم لا يمكن السكوت عليه ، من عدة وجوه :

١ ـ يقول : إن ما شجر بين الصحابة الأولين هو من قبيل أن الواحد منهم قد اجتهد فأخطأ. وأقول : إن الخطأ في الاجتهاد مقبول بالنسبة لأهل العلم والذين قضوا حياتهم في الدين والفقه ، فهؤلاء بعد تحصيلهم كل هذه العلوم إذا اجتهدوا وصدف أن أخطؤوا فيمكن التجاوز عنهم. لكن هذا لا ينطبق على مثل مروان بن الحكم ومعاوية والحجاج وغيرهم. فمعاوية رجل ليس عنده أي رصيد من الدين ، وكل أعماله كانت صادرة من مصلحته الشخصية ، وهذا هو الّذي دعاه إلى تولية يزيد ، وهو يعلم أنه أفجر الناس أجمعين. فليس معاوية من الذين يجوز لهم الاجتهاد في أمور الدين أصلا ، حتّى نقول إنه اجتهد فأخطأ أو أصاب.

٢ ـ إن الاجتهاد الّذي يحتمل فيه الإصابة والخطأ ، هو الاجتهاد في الأمور المبهمة المشتبه فيها ، وليس في الأشياء الواضحة الثابتة مثل خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام . فكيف يجوز لأحد أن يجتهد فيها ، ويقول إنها صحيحة أو غير صحيحة بعد أن اجتمع المسلمون عليها. وهذا انطلاقا من كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«لا اجتهاد في موضع النص». فما عمله معاوية في عدم مبايعته للإمام عليعليه‌السلام وإراقته الدماء في سبيل ذلك ، هو ليس اجتهاد ، وإنما هو خروج كامل عن الدين والإسلام.

٣ ـ إن القرماني يقول : إن ما شجر بين الصحابة يلزم عدم ذكره بل ستره ، وإذا علمنا أن ما فعله معاوية وأمثاله من العمل على اقتتال المسلمين وإراقة دمائهم ، وبالتالي ضياع الإسلام تشتيت المسلمين ، هو يحصل في كل زمان ، ولا أحد يسكت عنه ، فكيف نسكت عن الأولين الذين هم كانوا أول من فتح باب الفتن والدماء على هذه الأمة ، وهم الذين سنّوا أساس الكفر والنفاق؟ إن هؤلاء أولى بالذكر والتعرية والإنكار ممن جاء بعدهم ، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

٣٧٤

٤١١ ـ قصة عن مداهنة الناس لمعاوية لكسب الأموال :

(مرآة الجنان لليافعي ، ج ١ ص ١٤٦ ط ١)

روي أن معاوية لما نصّب ولده يزيد في ولاية العهد ، أقعده في قبة حمراء ، فجعل الناس يسلّمون على معاوية ، ثم يميلون إلى يزيد. حتّى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية ، فقال : يا أمير المؤمنين لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها.والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية : ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟. فقال :أخاف الله إن كذبت ، وأخافكم إن صدقت. فقال معاوية [للرجل] : جزاك الله خيرا عن الطاعة ، وأمر له بألوف. فلما خرج لقيه ذلك الرجل ، فقال : يا أبا بحر إني لأعلم كذا وكذا وذمّ يزيد ، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت. فقال الأحنف : إن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها.

٤١٢ ـ أيهما يخدع الآخر؟ :

يروى أنه لما ألزم معاوية الناس على البيعة ليزيد بولاية العهد ، بدأ الناس يتوافدون عليه جماعات لتهنئته وتقريظه. فخلا يزيد بأبيه يوما فقال له : يا أبت ، إني متعجب ما أدري أنحن نخدع الناس ، أم أن الناس يخدعوننا؟. فقال معاوية ليزيد قوله المشهور : يا بني ، من خادعته فتخادع لك ليخدعك ، فقد خدعته.

وهذا يبيّن أن كل أعمال معاوية هي خداع في خداع. ومن أوضح الأمثلة على هذا الخداع قصة أرينب بنت اسحق!.

قصة أرينب بنت اسحق

[التي تدل على كرم أخلاق مولانا الحسين]

[في مقابل دناءة أخلاق معاوية ويزيد]

تمهيد للقصة :

بعد أن ضرب معاوية على فخذه وهو يصلي في مسجد دمشق ، ونجا من الموت بأعجوبة ، جاءته الوفود إلى الشام تهنّئه بالصحة والسلامة. وكان من جملة من جاءه مسلّما واليه على العراق عبد الله بن سلّام ومعه زوجته (أرينب بنت اسحق) ذات

٣٧٥

الجمال الأخّاذ. وكان يزيد يجلس في إحدى شرفات قصر الخضراء حين رآها تدخل مع زوجها ، فهاج في صدره حبّ قديم وكان يعرفها من قبل ، فافتتن بها.

ثم إنه دخل على أبيه معاوية وقال له : لا بدّ لي من زواج (أرينب) مهما كلف الأمر. وبما أن يزيد هو الابن المدلل لأبيه ، والذي لا تردّ له حاجة ، عمل معاوية على تنفيذ رغبة ابنه ، ولو كان في ذلك المهانة والعار ، والدناءة وغضب الجبار.

٤١٣ ـ قصة أرينب بنت اسحق :

(الإتحاف بحب الإشراف للشبراوي ، ص ٢٠١ ـ ٢٠٩)

يقول الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي :

فمن مكارم أخلاق الإمام الحسينعليه‌السلام ما حكاه ابن بدرون في (شرح قصيدة ابن عبدون) من قصة أرينب بنت اسحق زوجة عبد الله بن سلّام القرشي. وكان عبد الله هذا واليا لمعاوية على العراق ، وكانت أرينب هذه من أجمل نساء وقتها وأحسنهن أدبا وأكثرهن مالا. وكان يزيد بن معاوية قد سمع بجمالها وبما هي عليه من الأدب وحسن الخلق والخلق ، ففتن بها ، فلما عيل صبره استراح في ذلك مع أحد خصيان معاوية ، وكان ذلك الخصي خاصّا بمعاوية واسمه رفيف ، فذكر رفيف ذلك لمعاوية ، وذكر شغفه بأرينب ، وأنه ضاق ذرعه بأمرها.

فبعث معاوية إلى يزيد فاستخبره من أمره ، فبثّ له شأنه ، فقال معاوية : مهلا يا يزيد!. قال : علام تأمرني بالمهل ، وقد انقطع منها الأمل. قال له معاوية : فأين حجاك ومروءتك؟. فقال له يزيد : قد عيل الصبر والحجى ، ولو كان أحد ينتفع به في الهوى ، لكان أولى الناس بالصبر عليه داود حين ابتلي به.

قال له : اكتم أمرك يا بني ، فإن البوح به غير نافعك ، والله بالغ أمره فيك ، ولا بدّ مما هو كائن.

وكانت أرينب بنت اسحق مثلا في أهل زمانها ، لجمالها وتمام كمالها وشرفها وكثرة مالها. فأخذ معاوية في الحيلة حتّى يبلغ يزيد رضاه فيها.

فكتب معاوية إلى (عبد الله بن سلّام) وكان استعمله على العراق ، أن أقبل حين تنظر في كتابي لأمر فيه حظك إنشاء الله ، ولا تتأخر عنه ، وجدّ السير.

وكان عند معاوية يومئذ بالشام أبو هريرة وأبو الدرداء صاحبا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .فلما قدم عليه عبد الله بن سلام الشام ، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيأه له ، وأعدّ

٣٧٦

فيه منزله ، ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء : إن الله قد قسم بين عباده نعما ، أوجب عليهم شكرها ، وحتم عليهم حفظها ، فحباني منهاعزوجل بأتم الشرف وأكرم الذكر ، وأوسع عليّ رزقه ، وجعلني راعي خلقه وأمينه في بلاده ، والحاكم في أمر عباده ، ليبلوني أأشكر أم أكفر. وأول ما ينبغي للعبد أن يفتقده وينظر فيه ، من استرعاه الله أمره ومن لا غنى له عنه. وقد بلغت لي ابنة [أي أدركت سن البلوغ] أريد إنكاحها ، وأنظر في اختيار من يباعلها ، لعل من يكون بعدي يقتدي فيه بهديي ، ويتّبع فيه أثري ، فإنه قد يبتزّ الملك بعدي ، من يغلب عليه ز هو الشيطان ، وتزيينه إلى تعطيل بناتهم ، فلا يردن لهن كفوا. وقد رضيت لابنتي عبد الله بن سلام القرشي ، لدينه وشرفه ومروءته وأدبه.

فقال أبو هريرة وأبو الدرداء : إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما خصّه به أنت ، لأنك صاحب رسول الله وكاتبه وصهره. قال معاوية :فاذكرا ذلك عني لعبد الله ، وقد جعلت لها في نفسها شوري ، غير أني لأرجو أن لا تخرج من رأيي إنشاء الله تعالى.

فخرجا من عنده متوجهين إلى منزل عبد الله بن سلام بالذي قاله لهما معاوية.

ثم إن معاوية دخل على ابنته فقال لها : إذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة ، وعرضا عليك أمر عبد الله بن سلّام وإنكاحي إياك منه ، وحضّاك إلى المسارعة إلى هواي ، فقولي لهما : عبد الله بن سلام كفؤ كريم وقريب حميم ، غير أن تحته أرينب بنت اسحق ، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء ، فأتناول منه ما يسخط الله فيه فيعذبني عليه ، ولست بفاعلة حتّى يفارقها.

فلما ذكر ذلك أبو هريرة وأبو الدرداء لعبد الله بن سلام ، وأعلماه بالذي أمرهما معاوية ، وأنهما جاءاه خاطبين!. قال لهما : نعم ، أنتما تعلمان رضاي بذلك وحرصي على صهارة أمير المؤمنين. فرجعا إلى معاوية وذكرا له ذلك. فقال : أنا راض بذلك وطالب له ، لكني قد أعلمتكما أني جعلت لها في نفسها شوري ، فادخلا عليها واعرضا عليها ما أحببته لها. فدخلا عليها وعرضا عليها ذلك ، فقالت كالذي قال لها أبوها.

فأعلما عبد الله بن سلام بذلك ، فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا بقاء أرينب عنده ، أشهدها على طلاقها ثلاثا ، وأرسلهما يعلمان بذلك معاوية وابنته. فأظهر معاوية

٣٧٧

كراهية لما فعله عبد الله بن سلام ، وقال : ما أحببت طلاق زوجته ولا استحسنته ، ولكن انصرفا في عافية. ثم عودا إلينا فإننا نسعى في رضاها ، ويكون ذلك إنشاء الله.

وكتب إلى يزيد يعلمه بما كان من طلاق عبد الله لزوجته أرينب بنت اسحق.

ثم عاد أبو هريرة وأبو الدرداء إلى معاوية ، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها رضاها ، تبرّيا من الأمر ، ونظرا في القدر. وقال : لم يكن لي أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى في نفسها. فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلام لزوجته أرينب ليسرّاها ، وذكرا من فضل عبد الله وكمال مروءته وكريم فخره. فقالت : جفّ القلم بما هو كائن ، وإنه في قريش لرفيع القدر ، وقد تعلمان أن التزويج جدّه جدّ وهزله جدّ ، والأناة في الأمور آمن لما يخاف فيها من المحذور ، وأن الأمور إذا جاءت خلاف الهوى بعد التأني فيها ، كان المرء بحسن العزاء خليقا ، وبالصبر عليها حقيقا. وإني سائلة عنه حتّى أعرف دخلة خبره ، ويتضح لي بالذي أريد علمه من أمره ، وإن كنت أعلم أن لا اختيار لأحدهما فيما هو كائن ، ومعلمتكما بالذي يزينه الله في أمره ، ولا قوة إلا بالله. قال الشيخان : وفقك الله وخار لك.

وتحدث الناس بالذي كان من طلاق عبد الله بن سلام امرأته ، وخطبته ابنة معاوية. واستحث عبد الله بن سلام الشيخين ، فأتياها ، فقالا لها : اصنعي ما أنت صانعة واستخيري الله ، فإنه يهدي من استهداه. قالت : أرجو والحمد لله أن يكون الله قد خار ، فإنه لا يكل إلى غيره من توكل عليه. وقد سألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي ، مع اختلاف من استشرتهم فيه ، فمنهم الناهي عنه والآمر به ، واختلافهم أقل ما كرهت.

فلما بلغّاه كلامها ، علم أنه مخدوع. وقال متعزيا : ليس لأمر الله رادّ ، ولا لما بدّ منه صادّ ، فإن المرء وإن كمل له علمه واجتمع له عقله ، ليس بدافع عن نفسه قدرا برأي ولا كيد. ولعل ما سرّوا به لا يدوم لهم سروره ، ولا يدفع عنهم محذوره.

وشاع أمره وفشا في الناس ، وقالوا : خدعه معاوية حتّى طلقّ امرأته ، وإنما أرادها لابنه يزيد ، بئس ما صنع.

ولما انقضت أقراؤها (وهي العدّة) وجّه معاوية أبا الدرداء إلى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد. فخرج حتّى قدمها ، وبها يومئذ الحسين بن عليعليهما‌السلام . فقال

٣٧٨

أبو الدرداء حين قدم العراق : ما ينبغي لذي نهى أن يبدأ بشيء غير زيارة الحسينعليه‌السلام سيد شباب أهل الجنة ، إذا دخل موضعا هو فيه ، فإذا أديت حقه ذهبت إلى ما جئت إليه.

مبادرة رائعة :

فلما رآه الحسينعليه‌السلام قام إليه وصافحه إجلالا لصحبته من جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولموضعه من الإسلام. وقال له : ما أتى بك يا أبا الدرداء؟. قال : وجّهني معاوية خاطبا لابنه يزيد (أرينب بنت اسحق) فرأيت عليّ حقا أن لا أبدأ بشيء قبل السلام عليك. فشكر له الحسينعليه‌السلام ذلك وأثنى عليه. ثم قال : لقد كنت أردت نكاحها وعزمت على الإرسال إليها ، إذا انقضت أقراؤها ، فلم يمنعني من ذلك إلا تخيّر فعلك ، فقد أتى الله بك ، فاخطب رحمك الله لي وله [أي يزيد] التحري من تختاره منا ، وهي أمانة في عنقك حتّى تؤديها إليها ، واعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه. فقال : أفعل إنشاء الله.

فلما دخل أبو الدرداء على أرينب ، قال : أيتها المرأة ، إن الله خلق الأمور بقدرته ، وكوّنها بعزته ، فجعل لكل أمر قدرا ، ولكل قدر سببا ، فليس لأحد عن قدر الله مستخلص ، ولا للخروج من عمله مناص ، فكان ما سبق لك وقدّر عليك ، الّذي كان من فراق عبد الله بن سلام إياك ، ولعل ذلك لا يضرّك ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا. وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن مليكها وولي عهده والخليفة من بعده : يزيد ابن معاوية ، والحسين ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن أول من أقرّ به من أمته وسيد شباب أهل الجنة يوم القيامة. وقد بلغك سناهما وفضلهما ، وجئتك خاطبا لهما ، فاختاري أيهما شئت.

فسكتت طويلا ، ثم قالت : يا أبا الدرداء ، لو كان هذا الأمر جاءني وأنت غائب ، لأشخصت فيه الرسل إليك ، واتبعت فيه رأيك ولم أقتطعه دونك. فأما إذ كنت المرسل فيه ، فقد فوّضت أمري بعد الله إليك ، وجعلته في يديك ، فاختر لي أرضاهما لديك ، والله شاهد عليك ، فاقض في قصدي بالتحري ، ولا يصدّنك عن ذلك اتباع هوى ، فليس أمرهما عليك خفيّا ، ولست فيما طوّقتك غبيّا.

قال أبو الدرداء : أيتها المرأة إنما عليّ إعلامك ، وعليك الاختيار لنفسك.فقالت : عفا الله عنك ، إنما أنا بنت أخيك ومن لا غنى به عنك ، فلا تمنعك رهبة

٣٧٩

أحد من قول الحق فيما طوّقتك. فقد وجبت عليك إذا الأمانة فيما حمّلتك. والله خير من روعي وخيف ، إنه بنا خبير لطيف.

فلما لم يجد بدّا من القول والإشارة ، قال : أي بنيّة ، ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليّ لك وأرضى عندي ، والله أعلم بخيرهما لك. وقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضعا شفتيه على شفتي حسين ، فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله شفتيه.قالت : قد اخترته ورضيته فتزوجها الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام وساق لها مهرا عظيما.

وبلغ معاوية الّذي كان من فعل أبي الدرداء في ذلك ، ونكاح الحسينعليه‌السلام إياها ، فتعاظمه جدا ولامه شديدا. وقال : من يرسل ذا بله وعمى ، يركب خلاف ما يهوى. وكان عبد الله بن سلام قد استودع أرينب قبل فراقها بدرات مملوءة درّا ، وكان ذلك أعظم ماله لديه وأحبه إليه. وقد كان معاوية اطّرحه وقطع عنه جميع روافده لسوء قوله فيه وتهمته أنه خدعه. فلم يزل يجفوه حتّى عيل صبره ، وقلّ ما في يديه ، ولام نفسه على المقام لديه. فرجع إلى العراق ، وهو يذكر ماله الّذي استودعه إياها ، ولا يدري كيف يصنع فيه ، وأنّى يصل إليه ، وهو يتوقع جحودها لسوء فعله بها ، وطلاقه إياها من غير شيء أنكره عليها.

ردّ الحقّ إلى أهله :

فلما قدم العراق لقي الحسينعليه‌السلام فسلّم عليه ، ثم قال له : قد عرفت ما كان من خبري وخبر أرينب. وكنت قبل فراقي إياها قد استودعتها مالا عظيما ، وكان الّذي كان ، ولم أقبضه ، ووالله ما أنكرت منها في طول صحبتها فتيلا ، ولا أظن بها إلا جميلا. فذاكرها أمري وحاضضها على ردّ مالي إليّ ، فإن الله يحسن إليك ذكرك ، ويجزل به أجرك. فسكت عنه.

ولما انصرف الحسينعليه‌السلام إلى أهله ، قال لها : قدم عبد الله بن سلام ، وهو يحسن الثناء عليك ويحمل النشر عنك ، في حسن صحبتك ، وما آنسه قديما من أمانتك ، فسرّني بذلك وأعجبني. وذكر أنه كان استودعك مالا ، فأدّي إليه أمانته ، وردّي عليه ماله ، فإنه لم يقل إلا صدقا ، ولم يطلب إلا حقا. قالت : صدق.استودعني مالا لا أدري ما هو ، وإنه لمطبوع عليه بخاتمه ، ما حوّل فيه شيء إلى يومه ، وها هو فادفعه إليه بطابعه. فأثنى عليها الحسينعليه‌السلام خيرا. وقال : أدخله عليك حتّى تبرئي إليه منه ، كما دفعه إليك.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460