اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)0%

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 215

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 115440
تحميل: 8897

توضيحات:

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115440 / تحميل: 8897
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي المساء التقى علي وهند بن أبي هالة بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن علما بمكانه وقد أدلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصاياه لعلي عليه‌السلام بحفظ ذمته وأداء أمانته ـ إذ كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستودع أمانات العرب ـ وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ويلحق به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له مطَمْئِناً: (إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليّ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما) (١) .

وبعد ثلاثة أيام حين عرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد سكن الناس عن طلبه، تحرّك نحو يثرب يغذو السير ولا يعبأ بمشقة مستعيناً بالله واثقاً من نصره.

وحينما وصل منطقة (قباء)(٢) تريّث فيها أياماً ينتظر قدوم ابن عمّه علي ابن أبي طالب والفواطم عليه ليدخلوا جميعاً يثرب التي كانت تموج بالفرح والبهجة لقدوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين دخل صاحب النبي ورفيق سفره إلى يثرب تاركاً الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قباء! وما إن وصل علي بن أبي طالبعليه‌السلام منهكاً من تعب الطريق ومخاطره ـ حيث كانت قريش قد تعقّبتهم حين علمت بخروجه بالفواطم ـ اعتنقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى رحمةً لما به(٣) .

وأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بـ (قباء) عدة أيام وكان أوّل عمل قام به هو كسر الأصنام(٤) ثم أسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة فأدركته صلاة الظهر في بطن وادي (رانوناء) فكانت أول صلاة جمعة في الإسلام وخرج مسلمو يثرب بزينتهم وسلاحهم يستقبلون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحيطون بركبه وكلٌ يريد أن يتطلع إليه ويملأ عينيه من هذا الرجل الذي آمن به وأحبه(٥) .

وما كان يمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزل أحد من المسلمين إلاّ ويأخذ بزمام ناقته ويعرض عليه المقام عنده وهو يقابلهم بطلاقة الوجه والبشر وتجنباً من إحراج أحد منهم كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: خلّوا الناقة إنّها مأمورة .

ــــــــــــ

(١) أعيان الشيعة: ١ / ٢٣٧.

(٢) وصل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قباء في ٨ ربيع الأول.

(٣) راجع الكامل في التأريخ: ٢ / ١٠٦.

(٤) البدء والتأريخ: ٤ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٥) وصل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة يثرب في ١٢ ربيع الأول.

١٠١

وأخيراً بركت الناقة عند مربد يعود لغلامين يتيمين من بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري فأسرعت زوجته فأدخلت رحل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دارها فنزل عندهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن تمّ بناء المسجد النبوي وبيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وقد غيّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسم يثرب إلى (طيبة) (٢) واعتبر هجرته إليها مبدءاً للتأريخ الإسلامي (٣) .

٢ ـ بناء المسجد :

لقد اجتاز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين دائرة بناء الفرد ، وبوصوله إلى يثرب شرع في التخطيط لتكوين الدولة التي تحكمها قوانين السماء والشريعة الإسلامية السمحاء ومن ثم بناء الحضارة الإسلامية لتشمل كل الإنسانية في مرحلة ما بعد الدولة.

ومن اُولى العقبات أمام تأسيس الدولة الإسلامية وجود النظام القبلي الذي كان يحكم العلاقات في مجتمع الجزيرة، كما أن ضعف المسلمين كان لابد له من معالجة واقعية، فكان المنطلق بناء المسجد ليكون مكاناً لمهام متعددة، ومركزاً للسلطة المركزية التي تدير شؤون الدولة. وتمّ تعيين الأرض وشرع المسلمون بهمّة وشوق في العمل الجادّ لبناء المسجد وما يتطلبه من مستلزمات، وكان الرسول هو القدوة والأسوة ومنبع الطاقة التي تُحرِّك المسلمين في العمل فشارك بنفسه في حمل الحجارة واللبن، وبينما هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله أُسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أعطني أحمل عنك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا، اذهب فاحمل غيره.

ــــــــــــ

(١) راجع السيرة النبوية: ١ / ٤٩٤.

(٢) ابن خلدون: المقدمة / ٢٨٣، وتاج العروس: ٢ / ٨٥ .

(٣) تأريخ الطبري (الأمم والملوك) : ٢ / ١١٠ ـ ١١٤.

١٠٢

وتمّ أيضاً بناء دار للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأهل بيته ولم يكن البناء ذا كلفة كبيرة فقد كان بسيطاً كحياتهم، ولم ينس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفقراء الذين لم يجدوا لهم مسكناً يأوون إليه فألحق لهم مكاناً بجانب المسجد(١) .

وأصبح المسجد مرتكزاً في حياة المسلمين العبادية والحياتية فعّالاً في بناء الفرد والمجتمع.

٣ ـ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

ثم خطا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطوة اُخرى لإقامة الدولة الجديدة والقضاء على بعض قيم النظام القبلي من دون أن يمس القبيلة بشيء ، مستثمراً حالة التعاطف وحرارة الإيمان التي بدت من المسلمين فجعل أساس العلاقة بين الأفراد رابطة العقيدة والدين متجاوزاً علقة الدم والعصبية، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي(٢) ، وأخذ كل رجل من الأنصار أخاً له من المهاجرين يشاركه الحياة. وبذا طوت المدينة صفحة دامية من تأريخها إذ كانت لا تخلو أيامها من صراع مرير بين الأوس والخزرج يؤججه اليهود بخبثهم ودسائسهم وانفتح على العالم عهد جديد من الحياة الإنسانية الراقية حيث زرع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عنصر بقاء الأمة، وفاعليتها الإيمانية.

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ١٩ / ١١٢ ، السيرة النبوية : ١ / ٤٩٦ .

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٥٠٤.

١٠٣

أبعاد ونتائج التآخي بين المسلمين

البعد الاقتصادي :

١ ـ إعالة المهاجرين وإعادة تأهيلهم اقتصادياً للعودة لممارسة حياتهم الطبيعية.

٢ ـ إزالة الفوارق الطبقية في محاولة للقضاء على الفقر.

٣ ـ السعي للاستقلال الاقتصادي بعيداً عن مركز الثروة غير المشروعة وقطع أيادي اليهود المرابية.

٤ ـ إنجاز مشاريع اقتصادية: زراعية مع تنشيط حركة التجارة ـ من خلال تلاقح فاعلية المهاجرين والأنصار وأفكارهم وترابط جهودهم واستثمار كل الموارد المتاحة في المدينة.

البعد الاجتماعي :

١ ـ القضاء على الأمراض الاجتماعية المتأصلة في المجتمع ومخلفات التناحر القبلي وإشاعة روح الحب والود والتآلف لسد الثغرات لئلاّ يستغلّها المتآمرون على الإسلام، وتوفير الجهود والطاقات البشرية لخدمة الإسلام في مراحله اللاحقة.

٢ ـ إلغاء النظام القبلي وإحلال النظام والقيم الإسلامية محله في التعامل اليومي.

٣ ـ تهيئة المسلمين نفسياً وتربيتهم على التضحية والإيثار للانفتاح على العالم لنشر الرسالة الإسلامية الذي يتطلب مرونة عالية وقيم رفيعة تتوفر في الداعية المسلم.

البعد السياسي :

١ ـ تكوين نسيج مترابط من المسلمين يتحرك مستجيباً لأوامر الرسول والرسالة كفرد واحد في ظرف تعددت فيه الجهات المعادية ولم تتوقف عن دسائسها.

٢ ـ تناقل الخبرات التنظيمية ووسائل المقاومة والصمود والتجربة الإيمانية وطرق التحرك وسط المهاجرين والأنصار إذ لم يعش الأنصار تجربة المهاجرين ومحنتهم.

٣ ـ بناء الفرد كخطوة من خطوات بناء الدولة وهيكلها الإداري.

٤ ـ إشعار المسلمين بالقوّة في الدفاع عن أنفسهم وفق قيم الإسلام بعيداً عن الروح القبلية والعنصرية.

١٠٤

٤ ـ معاهدة المدينة :

ولكي ينتقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين من حالة الصراع والمقاومة إلى مرحلة البناء وتطبيق الشريعة الإسلامية كان لابد من توفير أجواء الأمن والاستقرار ـ ولو نسبياً ـ فالصراع قد يعيق انتشارها في الوسط الجماهيري.

وفي يثرب كانت قوى تنافس المسلمين في الوجود، فاليهود كانوا يشكلون عبئاً كبيراً بقوتهم الاقتصادية وخبثهم السياسي المعروف إضافة إلى عُدّتهم وعددهم الذي لا يستهان به. والمشركون أيضاً قوة أخرى وإن ضعف دورهم بقدوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين ولكنه لم ينته تماماً ـ فجاملهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقابلهم بالحسنى.

وكان لابد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً أن يحتوي وجود المنافقين.

وفي خارج المدينة كانت قريش وسائر القبائل المشركة تمثل تهديداً حقيقياً للكيان الإسلامي الفتيّ وكان على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعد لمواجهتهم ودفع خطرهم.

وهنا تجلت عظمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقدرته السياسية في التعامل مع القوى المتعددة مُظهراً النوايا الحسنة والطيبة تجاه الآخرين، داعياً جميعهم إلى السلام والأمان.

وكتبت معاهدة صلح وتعاون بين المسلمين واليهود لبناء دولة تعود بمركزيتها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتمتع الجميع فيها بالحقوق الإنسانية على السواء.

ويمكن القول بأن الصحيفة كانت بمثابة أوّل مشروع دستوري لبناء دولة إسلامية متحضرة في مجتمع المدينة الذي سوف ينطلق نحو المجتمع العربي ثم المجتمع الإنساني العالمي لتقبل النظام الإسلامي الجديد.

وأهم ما تضمنته الصحيفة هو ما يلي:

١ ـ إبراز وجود المجتمع المسلم وإشعار الفرد المسلم بقوة انتمائه إليه.

٢ ـ الإبقاء على الوجود القبلي ـ مع تحجيم دوره وصلاحياته ـ لتخفيف العب عن كاهل الدولة، بإشراكه في بعض النشاطات الاجتماعية والاستعانة به لحل جملة من المشكلات.

٣ ـ التأكيد على حرية العقيدة بالسماح لليهود بالبقاء على ديانتهم وممارسة طقوسهم واعتبارهم مواطنين في الدولة الإسلامية الجديدة.

١٠٥

٤ ـ ترسيخ دعائم الأمن في المدينة بجعلها حرماً آمناً لا يجوز القتال فيه.

٥ ـ إقرار سيادة الدولة والنظام الإسلامي وإرجاع قرار الفصل في الخصومات إلى القيادة الإسلامية المتمثلة في شخص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦ ـ توسيع دائرة المجتمع السياسي باعتبار أنّ المسلمين واليهود يتعايشون في نظام سياسي واحد ويدافعون عنه.

٧ ـ الحث على إشاعة روح التعاون بين أفراد المجتمع المسلم كي يتجاوز الأزمات التي تعترضه.

٥ ـ النفاق وبدايات الاستقرار في المدينة :

اهتم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببناء المجتمع المسلم ومن هنا فرض الهجرة على كل مسلم إلاّ بعذر وذلك لاستقطاب كل الطاقات والكفاءات وسحبها إلى المدينة. وقد تمتعت المدينة في هذا العهد الجديد بحياة الأمن والاستقرار فأصبح الأمر مزعجاً لسائر القوى التي رفضت دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاً ورأت فيه طرفاً يهدد معتقدها واليوم أصبح كياناً يرتقي بالإنسان نحو الفضائل وقوة تنمو باطّراد لا يصدّه أحد عن نشر رسالته فأسلمت أعداد كبيرة منهم ومضى قسم آخر يخطط للابتعاد عنه أو التحالف معه.

ومن جانب آخر كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرصد حركة النفاق ومساعي اليهود الحاقدة لتقويض الكيان الإسلامي الفتيّ بتمزيق صفوفه بالتفرقة في ما بين المسلمين. ولم تمض فترة طويلة حتى دخل الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة(١) ، واتسق النظام الاجتماعي العام تحت حكم الإسلام وقيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفي هذه الفترة شرّعت أحكام الزكاة والصيام وأحكام إقامة الحدود، كما شرع الأذان لإقامة الصلاة وقبل ذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أعدّ منادياً ينادي للصلاة

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٥٠٠.

١٠٦

إذا جاء وقتها ، ونزل الوحي الإلهي يعلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صيغة الأذان(١) فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه بلالاً وعلّمه كيفية الأذان.

٦ ـ تحويل القبلة:

وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال فترة تواجده في مكة يتجه في صلاته نحو بيت المقدس ولم يغيّر من اتجاه صلاته بعد هجرته المباركة إلى سبعة عشر شهراً ثم أمره الله أن يتجه في صلاته نحو الكعبة.

وقد أمعن اليهود في عدائهم للدين الإسلامي واستهزائهم بالرسول والرسالة حتّى أنهم كانوا يفخرون على المسلمين بتبعيّتهم لقبلة اليهود فكان هذا يحزن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصبح ينتظر نزول الوحي الإلهي بتغيير القبلة ، وخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوف الليل يطيل النظر إلى آفاق السماء فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيلعليه‌السلام فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه قوله تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (٢) .

وقد كانت حادثة تحويل القبلة بمثابة اختبار للمسلمين في مدى طاعتهم وانقيادهم لأوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحدّياً لعناد اليهود واستهزائهم وردّاً لكيدهم كما كانت منطلقاً جديداً من منطلقات بناء الشخصية المسلمة (٣) .

٧ ـ بدايات الصراع العسكري :

لقد كانت القوّة هي التي تحكم الناس وتسودهم، وفي هذا الظرف تحرّك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون ـ بعد الاستقرار النسبي في المدينة ـ ليؤكّد لكل القوى المؤثرة في الجزيرة بل وخارجها ـ كالروم وفارس ـ إصراره على نشر الرسالة الإسلامية وبناء الحضارة وفق تعاليم السماء، وكان للمسلمين من أدوات البناء ما لم يملكه غيرهم، فهم أصحاب عقيدة وفكر وطلاّب حقٍّ وعدل، ومشرّعي سلام وأمان، وأهل سيف وقتال.

ــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٨٣ ، تهذيب الأحكام: ١ / ٢١٥.

(٢) البقرة (٢): ١٤٤ .

(٣) راجع مجمع البيان: ١ / ٤١٣ .

١٠٧

وقد توقع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ قريشاً ومن نصب له العداء سيلجأون لمحاولة استئصال المسلمين ولو بعد حين فكان طلبه من الأنصار في بيعة العقبة الثانية النصرة والقتال كما أن قريشاً هي التي تمادت في التعدي والظلم بل وخرجت تتتبّع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين للقضاء عليهم، وفي مكة قد صادرت الأملاك ونهبت البيوت. وكانت الرغبة لدى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ـ المهاجرين خصوصاً ـ أن تدخل قريش في الإسلام طواعية أو أن لا تمضي في غيّها على أقل تقدير.

من هنا بدأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبعث (السرايا) وهي عبارة عن مجاميع صغيرة تتحرك لتعلن عن وجودها وعدم استسلامها. وإذا نظرنا إلى عدّتها البسيطة وعددها القليل الذي لا يتجاوز الستين فرداً وكلهم من المهاجرين وليس فيهم من الأنصار الذين بايعوا على القتال والنصرة، ندرك أنها لم تكن مرشّحة للقتال وإنّما كانت هذه السرايا وسيلة للضغط على قريش اقتصادياً (١) أيضاً لعلّها تسمع نداء الحق بأُذُن صاغية وبقلب مفتوح أو تهادن المسلمين فلا تتعرض لهم لينتشر الإسلام في أطراف أخرى، وفي الوقت نفسه كان ينبغي إشعار اليهود والمنافقين بقوة الإسلام وهيبة المسلمين.

وهكذا بعد مضيّ سبعة أشهر على الهجرة المباركة انطلقت أول سريّة وكان عدد أفرادها ثلاثين رجلاً بقيادة حمزة عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ثم تلتها سرية أخرى بقيادة عبيدة بن الحارث. وسرية ثالثة بقيادة سعد بن أبي وقاص.

وخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صفر من العام الثاني للهجرة على رأس مجموعة من أتباعه لاعتراض قوافل قريش ولكن لم يحصل الصدام بين الطرفين في حركته نحو الأبواء وبواط وفي خروجه إلى ذي العشيرة وادَعَ بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة .

ــــــــــــ

(١) إذ إن مصدرها المالي هو التجارة من خلال حركة القوافل بين مكة والشام واليمن.

١٠٨

وتحرك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لردّ الاعتبار ومعاقبة المعتدي حين أغار كرز بن جابر الفهري على أطراف المدينة لسلب الإبل والمواشي فخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لملاحقته وخلّف زيد بن حارثة على المدينة(١) .

وانطلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حركته العسكرية من مفهوم الجهاد والتضحية من أجل الدين بدلاً عن مفهوم العصبية والثأر ، محترماً أعراف وتقاليد الصلح والمواعدة وحرمة الأشهر الحرم .

الفصل الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية

١ ـ غزوة بدر الكبرى :

بنزول الأمر الإلهي بالقتال انتقلت الرسالة الإسلامية إلى مرحلة جديدة من الصراع مع قوى الشرك والضلالة، وتحركت في نفوس المهاجرين الرغبة الجادة لاسترداد حقوقهم المسلوبة من قبل والتي استلبتها قريش منهم لا لشيء إلاّ لأنهم آمنوا بالله وحده.

ورصد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قافلة قريش التي فاتته في طريق ذهابها إلى الشام في غزوة ذات العشيرة وخرج في عدّة خفيفة وعدد قليل يرتجي ملاقاة قافلة ضمّت أسهماً تجارية ضخمة لأغلب المكيين. ولم تكن حركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرّية فقد بلغ خبرها إلى مكة وإلى أبي سفيان قائد القافلة فتحوّل في مسيره إلى اتجاه آخر حيث لا يدركه المسلمون... وخرجت قريش فزعة تطلب مالها تلهبها مشاعر الحقد والحسد للمسلمين، على أن عدداً من كبارها نظر إلى الأمر بتدبّر ورويّة وآثر عدم الخروج لملاقاة المسلمين وخصوصاً بعد أن ورد خبر نجاة أبي سفيان بالقافلة التجاريّة.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٥٩٨، المغازي: ١ / ١١ ـ ١٢.

١٠٩

خرجت قريش بعدد يناهز الألف في عدّة ثقيلة يدفعها تجبّرها، والاغترار بمنزلتها بين العرب ومع جموع أخرى هبّت لنصرتها مصرّةً على لقاء المسلمين أو لتثبت أنها لا تخذل كي لا يتعرض لها المسلمون ثانية، فقريش ما ذلّت مذ عزّت، كما أعرب عن ذلك بعض أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أراد مواجهة قريش لأوّل مرة(١) .

نزلت قريش وصفّت صفوفها للقتال على مقربة من (ماء بدر) حيث سبقهم المسلمون في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهيّأ الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين مقدمات النصر وأسبابه فسهّل لهم الوصول إلى موقع القتال وألقى عليهم الأمن والاطمئنان ووعدهم بالنصر على أعدائهم وإظهار دين الحق(٢) .

وبالرغم من أن المسلمين لم يتوقعوا خروج قريش لملاقاتهم ولكن بعد أن فاتتهم القافلة وتحول الهدف إلى القتال أراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يختبر نوايا المهاجرين والأنصار فوقف وقال:(أشيروا عليّ أيها الناس) .

فقام بعض المهاجرين وتكلّم بكلام يدل على الخوف والجبن عن مواجهة العدو ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله إمضِ لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها:( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغِماد(٣) لسرنا معك.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيراً. ثم كرر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: أشيروا عليّ أيها الناس ، يريد بذلك أن يسمع رأي الأنصار إذ كانوا قد بايعوه على الدفاع والذبّ عنه بالنفس والنفيس في العقبة قبل الهجرة.

فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يارسول الله تريدنا؟

ــــــــــــ

(١) راجع المغازي للواقدي: ١ / ٤٨، السيرة الحلبية: ٢ / ١٦٠، وبحار الأنوار: ١٩ / ٢١٧.

(٢) الانفال (٨): ٧ ـ ١٦.

(٣) برك الغماد : موضع وراء مكة مما يلي البحر.

١١٠

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أجل. قال: إنّا قد آمنا بك وصدقّناك وشهدنا أن كل ما جئت به حق. وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يانبي الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك مابقي منا رجل، وما نكره أن يلقانا عدونا غداً; إنا لصُبّر عند الحرب، صِدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك.

عندها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) (١) .

وفي كل موقف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو ويسأل الله النصر بعد أن تهيّأ المسلمون للحرب وقاموا بالإعدادات اللازمة بدءاً باختيار الموقع المناسب وإعداد الماء واتّخاذ التحوّطات لملاقاة العدو، والنبي القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان دائماً هو الطاقة المتدفقة التي تبعث في نفوسهم الصبر والجلد، والاطمئنان كما كان يثير الحماس فيهم ويخبرهم بالمدد الإلهي(٢) .

واحتفّ المسلمون حول النبي وهم يظهرون أروع صور الاستعداد للتضحية من أجل العقيدة ويفكّرون في خطة بديلة لودارت الحرب على غير ما يحبون فأعدّوا عريشاً كمقرّ لقيادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لِيشرف من خلاله على المعركة. وخرجت سرية الاستطلاع لمعرفة أحوال قريش وعادوا بالأخبار الّلازمة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقدّر عددهم ما بين (٩٥٠ ـ ١٠٠٠) مقاتل(٣) .

وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصفّ المسلمين صفوفاً وأعطى رايته الكبرى لعلي ابن أبي طالب عليه‌السلام وأرسل إلى قريش طالباً منها أن ترجع، فهو يكره قتالها،

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) الأنفال (٨): ٦٥.

(٣) راجع المغازي: ١ / ٥٠.

١١١

فدبّ الخلاف بين صفوف المشركين بين راغب في السلم ومصرّ على العدوان(١) .

وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يبدأ المسلمون القتال، ووقف يدعو الله قائلاً:(اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم) .

وكما هو المعتاد في كل الحروب القديمة برز من المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون نظراء لهم من قريش ليبارزوهم. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب:(يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله) (٢) .

فقُتل من برز من قريش والتحم الجيشان ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبعث الحماس في نفوس المسلمين. ثم أخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفاً من الحصى ورمى بها على قريش وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم أحد إلاّ اشتغل بفرك عينيه (٣) فكانت هزيمة قريش ووقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قليب بدر بعد طرح جثث المشركين فيه، وناداهم بأسمائهم وقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً . فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً قد ماتوا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهم ليسمعون كما تسمعون ولكن منعوا من الجواب (٤) .

نتائج المعركة :

خلّفت معركة بدر نتائج عظيمة فقد فرّ المشركون نحو مكة والخيبة والذل يحيطان بهم من كل جانب تاركين خلفهم سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً وغنائم كثيرة... وبدت بين صفوف المسلمين المنتصرين بوادر اختلاف حول كيفية

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ٦١، بحار الأنوار: ١٩ / ٢٥٢.

(٢) المغازي: ١ / ٦٨.

(٣) إعلام الورى: ١ / ١٦٩، السيرة النبوية: ١ / ٦٢٨.

(٤) إعلام الورى: ١ / ١٧١، السيرة النبوية: ١ / ٦٣٨.

١١٢

تقسيم الغنائم فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجمعها حتى يرى فيها رأيه، ونزل الأمر الإلهي في سورة الأنفال بتقسيم الغنائم وتشريع أحكام الخمس، فأعطى رسول الله لكل فرد مقاتل حصته على قدم المساواة مع غيره(١) .

وبشأن الأسرى أعلن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ من علّم من الأسرى عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة فذلك فداؤه مظهراً بذلك سماحة العقيدة الإسلامية وحثّها على التعلم وبناء الإنسان المتحضّر. وأما الباقي من الأسرى فجعل فداء كل واحد منهم أربعة آلاف درهم، وشمل هذا القرار أبا العاص زوج زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون تمييز له عن غيره من المشركين.

وحين أرسلت زينب قلادتها لفداء زوجها بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرؤية القلادة متذكراً زوجته خديجة فالتفت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسلمين قائلاً: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها مالها فافعلوا (٢) . وما أيسر هذا الطلب لنبي الرحمة من المسلمين وأسرع أبو العاص إلى مكة ليرسل زينب إلى المدينة كما وعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسرت بشائر النصر والفتح المبين نحو المدينة فأوجفت قلوب اليهود والمنافقين خيفة ورعباً وسَعَوا لتكذيب الخبر في حين انتشى المسلمون فرحاً وسروراً وخرجوا لاستقبال النبي القائد المنتصر.

وحلّت الكارثة بأهل مكة وخيّم الحزن على أجوائها وصعق المشركون من هول الصدمة وعمّت الأحزان بيوتات مكة وأطرافها.

وتضمّنت آيات الذكر الحكيم نصوصاً صريحة عن هذه المعركة المصيرية وهي تذكر تفاصيل الأحداث وتظهر الإمداد الإلهي للأُمة المسلمة المخلصة لربها

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ١٠٤، السيرة النبوية: ١ / ٦٤٢.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٦٥٢، البحار: ١٩ / ٣٤٨.

١١٣

في سبيل نشر رسالته(١) .

وقد استبسل علي بن أبي طالبعليه‌السلام للدفاع في هذه الغزوة الكبرى حين قتل الوليد بن عتبة وأعان عمّه حمزة وعبيدة بن الحارث على قتل شيبة وعتبة منازلاً لهما. وقد عدّ الشيخ المفيد ستة وثلاثين نفراً ممن قتلهم عليعليه‌السلام يوم بدر سوى من اشترك في قتله(٢) ، وقال ابن اسحاق : اكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعليّ(٣) .

وألجأت هذه الهزيمة قريشاً إلى تحويل مسير تجارتها من الشام إلى العراق بعد أن أصبح للمسلمين كيان قوي، له آثاره على تركيبة مجتمع الجزيرة حيث بدت تظهر بالتدريج وبدأت قريش تفقد هيبتها بين القبائل في الوقت الذي أخذت تشتد أواصر المسلمين فيما بينهم وبين الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ اهتمام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزواج الزهراءعليها‌السلام :

حلّت الزهراء من قلب النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنزلة الرفيعة إذ كان يجد فيها السلوة والعزاء ، والصورة الطيبة التي تركتها خديجةعليها‌السلام ، والذرية الطاهرة. وشاركت الزهراءعليها‌السلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هموم الرسالة وعملت كثيراً للتخفيف عنه حتى قال عنها: (إنها أم أبيها).

وحين بلغت الزهراءعليها‌السلام في بيت النبوة مبلغ النساء وقد نهلت من معين النبوة وسلسبيل الرسالة خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يردّهم بحكمة ردّاً جميلاً بقوله: إني انتظر

ــــــــــــ

(١) الانفال (٨): ٩، ١١، ١٢ ، ٤٢، ٤٤، وآل عمران (٣): ١٣ و١٢٣ و١٢٧.

(٢) الإرشاد : ٣٩ ـ ٤٠ .

(٣) المناقب : ٣ / ١٢٠ .

١١٤

فيها القضاء أو يقول: أنتظر أمر السماء(١) .

وفرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقدم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لخطبة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وقال له:اُبشرك يا عليَّ فإن الله عزّوجلّ قد زوجكها في السماء من قبل أن أزوجكها في الأرض، وقد هبط عليَّ من قبل أن تأتيني ملك من السماء فقال: يا محمد إن الله ـ عزّوجلّ ـ اطّلع إلى الأرض إطلاعة فاختارك من خلقه فبعثك برسالته، ثم اطّلع إلى الأرض ثانية فاختار لك منها أخاً ووزيراً وصاحباً وختناً فزوّجه ابنتك فاطمة عليها‌السلام ، وقد احتفلت بذلك ملائكة السماء. يا محمد إن الله ـ عزّ وجلّ ـ أمرني أن آمرك أن تزوّج علياً في الأرض فاطمة، وتبشرهما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين خيّرين فاضلين في الدنيا والآخرة (٢) .

وأمام جمع من المهاجرين والأنصار أجرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقد الزواج لقاء مهر يسير ليجعله سنّة تقتدي به الأمة. وحين وضع أثاث بيت الزهراء عليها‌السلام بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أكثر أوعيته من الخزف دمعت عيناه وهو يقول: اللهم بارك لأهل بيت جلّ آنيتهم من الخزف (٣) وأبدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اهتماماً بالغاً في زواج ابنته الزهراء عليها‌السلام في كل تفاصيله، وقد تجلت ناحية من نواحي اهتمامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في دعائه للزوجين يوم الزفاف إذ قال: (اللهم اجمع شملهما وألّف بين قلبيهما واجعلهما وذريتهما من ورثة جنّة النعيم وارزقهما ذرية طاهرة طيّبة مباركة واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك ويأمرون بما رضيت) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً:(يا ربّ إنك لم تبعث نبياً إلاّ وقد جعلت له عترة اللهم فاجعل عترتي الهادية من علي وفاطمة) ثم قال:(طهّركما الله وطهّر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما

ــــــــــــ

(١) حياة النبي وسيرته: ١ / ٣٠٩، نقلاً عن المنتقى للكازروني اليماني.

(٢) كشف الغمة : ١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٨.

(٣) كشف الغمة: ١ / ٣٥٩.

١١٥

وحرب لمن حاربكما) (١) .

٣ ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع :

لمس اليهود خطر تنامي قوة الإسلام والمسلمين في المدينة. فالكيان الطري أصبح أشد عوداً وأقوى شكيمةً وتحولت الرسالة الإسلامية إلى قوة تحكم.

وقبل بدر كانت معاهدة الصلح صمّام الأمان الذي يقبض على طرفي الصراع ويحول دون الانفجار، لكن النصر المؤزر للمسلمين فجّر روح العداء وألهب نزعة الشرّ اليهودية تعينها أطراف النفاق الاُخرى، وجعلوا يتغامزون ويتآمرون، ويرسلون الأشعار ويجهدون في التحريض على المسلمين الذين أصبح لهم سلطان جديد مضافاً إلى دينهم الجديد.

ولم تكن أخبارهم لتخفى على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وتحركت في نفوس المسلمين الجرأة في الدفاع والحرص على الإسلام والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يتمالك الفدائي المسلم ـ هو سالم بن عمير ـ نفسه حين سمع رجلاً مشركاً ـ هو أبو عفك من بني عوف ـ يسيء للنبي فقتله(٢) وتكرَّرت المحاولة مع مشركة حاقدة ـ هي عصماء بنت مروان ـ(٣) وتمكن المسلمون أيضاً من اغتيال كعب بن الأشرف إذ تمادى في التعريض والاستهزاء والنيل من أعراض المسلمين(٤) .

ولم تتوقف مساعي اليهود التحريضية ونشر الأباطيل والدعايات الكاذبة والتشهير بالمسلمين ناقضين بذلك عهد الموادعة والتعايش السلمي وأراد نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخلص وإياهم إلى الاستقرار فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يهود بني قينقاع يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة وينذرهم من مغبّة سياساتهم وتصرّفاتهم اللامحمودة فقال لهم بعد أن جمعهم في سوقهم:(يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني رسول الله تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم) .

ــــــــــــ

(١) كشف الغمة: ١ / ٣٦٢، مناقب آل أبي طالب: ٣ / ٣٥٥.

(٢) المغازي: ١ / ١٧٤.

(٣) المصدر السابق : ١ / ١٧٢.

(٤) السيرة النبوية: ٢ / ٥١.

١١٦

ولم يزدهم ذلك إلاّ علوّا واستكباراً فقالوا:يا محمد، لا يغرّنك مَن لقيت، إنّك قهرت أقواماً وإنّا والله أصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن إنّك لم تقاتل مثلنا (١) .

وتجلّت خسّة اليهود حين أساؤوا إلى امرأة من المسلمين ونالوا من كرامتها وانتهى الأمر إلى قتل يهودي ومسلم فعندها سار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين فحاصر يهود بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد، فلم يبق لهم إلاّ الاستسلام والنزول على حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجلائهم عن المدينة تاركين عدّتهم وأدواتهم، فخلت المدينة من أهم عناصر الشر وساد الهدوء السياسي فيها إذ تضاءل تواجد ودور غير المسلمين في المدينة، بعد أن لمسوا قوة المسلمين وتطوّر التنظيم الإداري وازدياد قوّة القيادة والدولة الإسلامية التي كانت تعمل وفق مخطط حكيم.

٤ ـ ردود فعل قريش بعد انتصارات المسلمين :

جمع أبو سفيان عدداً من فرسان قريش وقادهم نحو المدينة تدفعهم نواياهم الغادرة إلى الفتك بالمسلمين وردّ اعتبار قريش المفقود في بدر. وعلى مقربة من المدينة عاثوا في الأرض فساداً وكرّوا فارّين خوفاً من أن تنالهم سيوف المسلمين.

وخفّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون في أثر المشركين يدفعهم ولاؤهم لدينهم تأكيداً منهم على الدفاع عن سيادة الدولة الفتية وحفظها من أيادي السوء...

وقد اتخذ المشركون كل ما يعينهم على الهرب فألقوا ما معهم من (سويق) وهو مؤونتهم، والتقطه المسلمون من خلفهم وسميت الغزوة بذلك غزوة السويق وكان هذا خزياً آخر لحق قريشاً. وتأكيداً للقبائل التي تطاير الخبر إليها أنّ وجود الإسلام كقوة منظمة قد أصبح واقعاً مفروضاً .

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ١٧٦.

١١٧

وكان همّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه المرحلة توفير الأمان في أوساط المجتمع المسلم في المدينة وصدّ أيّ عدوان محتمل. على أن بعض القبائل التي كانت تأبى الدخول في الإسلام وتبطن العداء له لم تكن لتهتدي إلى تصرف مناسب مع الرسول والمسلمين، فكانوا يعدون العدّة للهجوم على المدينة ويفرّون حين يسمعون بخروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم.

وخرجت سرية اُخرى بقيادة زيد بن حارثة بعد أن وجهها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقطع الطريق الجديد لتجارة قريش عن طريق العراق. وقد نجحت السرية في مهمتها.

٥ ـ غزوة أُحد(١) :

مرّت الأيام التي تلت معركة بدر ثقيلة على قريش والمشركين. وفي المدينة لم يزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواصل عمليّة بناء الإنسان والدولة حيث كانت الآيات الإلهية تترى وهي تشرّع للإنسان سلوكه وحياته والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفصّل التعاليم ويطبق الأحكام ويهدي إلى طاعة الله.

وتظافرت الأسباب والدواعي عند مشركي مكة ومن والاهم لخوض حرب جديدة ضد الإسلام تزيح عن كاهلهم كابوس الهزيمة في بدر وتطفىء غليل الحقد

ــــــــــــ

(١) وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة.

١١٨

الذي مازال يؤجّجه أبو سفيان زعيم البيت الأُموي والخاسر الأكبر في بدر، كما كان عويل النساء ومطامع التجار الذين فقدوا كل الطرق الآمنة للتجارة عاملين آخرين لذلك.

فكانت الحرب محاولة لإضعاف المسلمين وتأمين طرق التجارة إلى الشام، والحدّ من تنامي قوة المسلمين العسكرية لتجنيب مكة من خطر الاحتلال والقضاء على الشرك فيها. ومما أسهم في إعداد الحرب أيضاً تحريض يهود ومنافقي المدينة لقريش وغيرها لغزو المدينة والقضاء على الإسلام.

وسارع العباس بن عبد المطلب إلى الكتابة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره عن اجتماع كلمة قريش على الحرب وتهيئتهم للعدّة والعدد حيث استنفروا معهم القبائل واتخذوا عدة أساليب لإثارة الحرب والعزيمة على القتال إذ خرجت النسوة معهم.

ووصل الكتاب سرّاً إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكتم الخبر عن المسلمين حتى يستوضح الأمر ويعدّ له العدّة اللازمة.

واقتربت جحافل الشرك من المدينة فبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحباب بن المنذر سراً ليستطلع العدو ـ بعد أن بعث أنساً ومؤنساً ابني فضالة ـ فجاء الخبر والوصف متوافقين مع كتاب العباس وخبر ابني فضالة، وبات عدد من المسلمين من الذين أخبرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر في حيطة وحذر خشية مداهمة العدو.

ثم استشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بعد أن أعلن قدوم قريش للحرب فاختلفت آراؤهم بين التحصّن في المدينة أو الخروج لملاقاة العدو خارجها. ولم يكن عسيراً على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحدد الخطة مسبقاً لكنه أراد أن يشعر المسلمين بمسؤوليتهم. ثم كان الاتفاق على خروج المسلمين للقاء العدو وقتاله خارج المدينة. ثم صلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الجمعة وصعد المنبر وخطب وأخذ يعظ الناس ويذكّرهم بطاعة الله وأمرهم بالجد والجهاد والصبر. ثم نزل ودخل داره ولبس

١١٩

لامته مما أثار المسلمين وهزهم بشدة وظنوا أنهم أكرهوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخروج من المدينة فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل (١) .

وخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألف مقاتل من المسلمين ورفض أن يستعين باليهود ضد المشركين قائلاً:لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك (٢) . ولم يستطع المنافقون إخفاء حقدهم فانخذل عبد الله بن أبي عن رسول الله بثلاثمئة وبقي رسول الله بسبعمئة وكان المشركون أكثر من ثلاثة آلاف(٣) .

وعند جبل أحد وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطة محكمة ليضمن النصر المؤزر ثم قام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخطب الناس قائلاً: (أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثمّ إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط فإنّ جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلاّ من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإنّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمرِ العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر) (٤) .

واصطف المشركون للقتال الذي سرعان ما نشب ولم يمض زمن طويل حتى ولّت قوى الشرك الأدبار، وكادت نساؤهم أن تقع بأيدى المسلمين سبايا، وبدا انتصار المسلمين واضحاً في ساحة المعركة حتى وسوس الشيطان في نفوس بعض الرماة الذين وضعهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوق الجبل وأمرهم بعدم ترك مكانهم مهما كانت نتيجة المعركة حتّى يتلقّوا أمراً جديداً منه فَعَصَوْا أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتركوا مواقعهم سعياً وراء الغنائم فكرّت قوى الشرك ثانية بقيادة خالد بن الوليد من موقع الثغرة التي نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تركها.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٢٣، المغازي: ١ / ٢١٤.

(٢) الطبقات لابن سعد: ٢ / ٣٩.

(٣) الطبري: ٣ / ١٠٧.

(٤) المغازي: ١ / ٢٢١.

١٢٠