اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)0%

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 215

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 115437
تحميل: 8897

توضيحات:

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115437 / تحميل: 8897
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فذهل المسلمون لذلك وتفرّقت جموعهم وعادت فلول قريش المنهزمة إلى الحرب وقتل عدد كبير من المسلمين وأشاع المشركون نبأ مقتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكادت كتائب الشرك أن تصل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لولا استبسال علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسهل بن حنيف وقلة قليلة ثبتت في ساحة المعركة إذ فرّت البقية الباقية من المسلمين بما فيهم كبار الصحابة(١) ، حتى أن بعضهم بدرت منه فكرة التبرّي من الإسلام فقال: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان(٢) .

واستشهد حمزة بن عبد المطلب عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإصابة فكسرت رباعيته السفلى وشقت شفته وسال الدم على وجهه فجعل يمسحه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله (٣) وقاتل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صارت قوسه شظايا. وطعن أُبي بن خلف حين هجم عليه يريد قتله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومات أُبي على أثرها واستبسل علي ابن أبي طالب بصورة لا نظير لها وهو يفرق كل من يتقدم نحو رسول الله ويهده بسيفه فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله هذه المواساة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنه مني وأنا منه) .

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ٢٣٧، السيرة النبوية: ٢ / ٨٣ ، شرح نهج البلاغة: ١٥ / ٢٠.

(٢) بحار الأنوار : ٢٠ / ٢٧. وقد وردت آيات القرآن تبين القتال ونوازع المسلمين في سورة آل عمران: ٣ / ١٢١ ـ ١٨٠.

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ١١٧ ، بحار الأنوار: ٢٠ / ١٠٢.

١٢١

فقال جبرئيل:وأنا منكما ، فسمعوا صوتاً يقول:(لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي) (١) .

وانسحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبقية الباقية معه من المسلمين إلى الجبل وهدأت المعركة وجاء أبو سفيان يستهزئ ويسخر بالمسلمين قائلاً: اعل هبل. وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرد على الكفر مظهراً بذلك عدم انكسار العقيدة رغم الانكسار في ساحة المعركة فقال قولوا: (الله أعلى وأجل).

وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالردّ ثانية على شعار أبي سفيان الكافر حين قال: نحن لنا العزّى ولا عزّى لكم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم) (٢) .

ورجع المشركون إلى مكّة وقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون بدفن الشهداء فهالهم المنظر الفظيع الذي تركته قريش فقد مثّلت بجثث الشهداء. ولما أبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمزة بن عبد المطلب ببطن الوادي وقد أُخرج كبده ومُثّل به بوحشية وحقد; حزن حزناً شديداً وقال:ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا .

ولم تكن التضحيات الجسام والخسارة الكبيرة في ساحة المعركة لتثني أهل العقيدة والرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاستمرار في الدفاع عن حياض الإسلام وكيان الدولة الفتية، ففي اليوم التالي من رجوعهم إلى المدينة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستنفار المسلمين لطلب العدو ومطاردته على أن لا يخرج إلاّ من حضر الغزوة فخرج المسلمون على ما بهم من جُراح إلى منطقة حمراء الأسد وبهذا اتّبع الرسول القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسلوباً جديداً لإرعاب العدو، ممّا جعل الخوف يسيطر عليهم فأسرعوا في مسيرهم نحو مكّة (٣) ورجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون إلى المدينة وقد استردوا كثيراً من معنوياتهم.

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري: ٣ / ١١٦، مجمع الزوائد: ٦ / ١١٤، بحار الأنوار: ٢٠ / ٧١.

(٢) السيرة النبوية: ٢ / ٩٤.

(٣) السيرة النبوية: ٢ / ١٠٢، الطبقات الكبرى: ٢ / ٤٩.

١٢٢

٦ ـ محاولات الغدر بالمسلمين :

كان من الطبيعي في مجتمع تحكمه القوة والغلبة بالسيف أن يطمع المشركون في المسلمين بعد النكسة في اُحد، لكن النبي القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقظاً ومدركاً لكل المتغيرات حريصاً على سلامة الرسالة وقوّتها مجتهداً في بناء الدولة والمحافظة عليها، فكان يتحسّس الأخبار ويستطلع النوايا ويسرع في الرّد قبل أن يدرك المشركون أهدافهم فخرجت سرية أبي سلمة ترد غدر بني أسد بالمدينة ونجحت السرية في مهمتها(١) وتمكن المسلمون أيضاً من رد كيد مشرك كان يعدّ لغزو المدينة.

وقد تمكنت جماعة من المشركين من الغدر بالمسلمين حين قدم جمع من قبيلتي (عضل) و(القارة) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تطلب من يفقّهها الدين واستجاب نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سعياً منه لنشر الرسالة الإسلامية ولكن يد الغدر فتكت بالمسلمين الدعاة عند منطقة (ماء الرجيع). وقبل أن يبلغ خبر مصرعهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقترح أبو براء العامري على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرسل مبلغين إلى أهل (نجد) يدعون إلى الإسلام بعد أن رفض هو الدخول في الإسلام، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني أخشى عليهم أهل نجد قال أبو براء: (لا تخف، أنا لهم جار). وقد كان للجوار اعتبار وأهمية تعدل النسب في عرف الجزيرة العربية لذا اطمأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرسل وفداً من الدعاة للتبليغ ولكن الغدر طالهم فعدا عليهم عامر بن الطفيل وقبائل بني سليم في منطقة (بئر معونة) وفتكوا بهم ولم يسلم منهم إلا عمرو بن أمية الذي أطلقوه فعاد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر ولكنه في طريقه قتل رجلين ظنّاً منه أنهما من العامريين، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزن لذلك وقال له: بئس ما صنعت قتلت

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ٣٤٠.

١٢٣

رجلين كان لهما مني أمان وجوار، لأدفعنّ ديتهما) (١) .

٧ ـ غزوة بني النضير(٢) :

تتابعت النكبات على المسلمين حتى بدى للمنافقين وليهود المدينة أن هيبة المسلمين قد ضاعت، وأراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكمته السياسية أن يحدّد ملامح التصرف الصحيح مع يهود (بني النضير) مبرزاً نواياهم، فاستعان بهم على دفع دية القتيلين. فتلقوه قرب مساكنهم مرحّبين به وبجماعة من المسلمين وهم يضمرون السوء، فطلبوا منه الجلوس ريثما يحققون له طلبه. فجلس مستنداً إلى جدار بيت من بيوتهم فأسرعوا ـ مستغلّين الفرصة ـ لإلقاء حجر عليه وقتله، فهبط الوحي عليه يخبره، فانسلّ من بينهم تاركاً الصحابة معهم، فاضطرب بنو النضير وأمسوا في حيرة من أمرهم وباتوا قلقين بشدة من سوء فعلتهم، وأسرع الصحابة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد يستطلعون سرّ عودته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (همّت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله بذلك فقمت)(٣) .

وبذلك استحلّ الله دماءهم إذ نقضوا عهد الموادعة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهمّوا بالغدر به فلم يكن لهم إلاّ الجلاء عن المدينة. وتدخّل زعيم النفاق عبد الله بن اُبي وغيره يمنّون بني النضير بعدم الامتثال لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والثبات له ووعدهم بأ نّه وجماعته سيمدونهم مقابل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولن يخذلوهم، وتحصن بنو النضير في حصونهم متمرّدين على أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية ٣ : ١٩٣ ـ ١٩٥ .

(٢) وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة .

(٣) الطبقات الكبرى: ٢ / ٥٧ ، امتاع الاسماع: ١ / ١٨٧.

١٢٤

واستخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن اُم مكتوم على المدينة حين علم بمساعي المنافقين وخرج لمحاصرة بني النضير واتّبع معهم اسلوباً اضطرّهم إلى التسليم والخروج بما تحمله إبلهم فقط أذلّةً خاسئين (١).

وغنم المسلمون أموالاً وسلاحاً كثيراً ولكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع المسلمين وعرض عليهم رأيه في أن تكون الغنائم للمهاجرين خاصة كي يتحقّق لهم الاستقلال الاقتصادي إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة وهما من فقراء الأنصار فأعطاهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الغنائم(٢) .

٨ ـ مناوشات عسكرية بعد اُحد :

ساد الهدوء والاستقرار أجواء المدينة واضطرب المنافقون قلقاً من انكشاف أساليبهم وأيقنوا أن الدور القادم هو دور تحطيمهم. وفي هذا الظرف وردت أخبار للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ غطفان تعدّ العدّة لغزو المدينة فأسرع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون في الخروج إليهم ولكنهم فوجئوا بالعدو قد أعدّ واستعدّ لملاقاتهم فتهيّب كل من الفريقين الآخر ولم يقع أي قتال. وفي هذه الغزوة صلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الخوف بالمسلمين إذ لم يتسنَّ لهم الغفلة عن العدو برهة من الزمن، وعاد المسلمون إلى المدينة دون قتال(٣) ، وسميت هذه الغزوة بـ (ذات الرقاع).

بدر الموعد ( بدر الصفراء ) مرّت الأيام الحرجة على المسلمين بسرعة وقد ازدادوا خبرة قتالية وتنزّلت عليهم أحكام الشريعة فتهذّبت العلاقات وانتظمت شؤون حياتهم في عامة جوانبها وازداد الإيمان رسوخاً وثباتاً وبرزت نماذج رائعة من الصمود والتضحية والفداء والإخلاص للدين الإسلامي وللاُمة المسلمة وأوشكت أن تنمحي آثار الانكسار في اُحد. وحلّ موعد التهديد الذي أطلقه زعيم الكفر أبو سفيان في اُحد حين قال: موعدنا وموعدكم بدر، قاصداً الانتقام لقتلى المشركين يوم بدر. فخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه وعسكر هناك ثمانية أيام ولم تفلح مساعي المشركين لتخويف المسلمين وثنيهم عن الخروج بل تملّكهم الخوف حين علموا بما عزم عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون فاضطر أبو سفيان إلى أن يخرج إلى الموعد المحدد ولكنه كرّ راجعاً بحجّة الجفاف والجدب المؤثر على الاستعداد العسكري. وبذلك وصمت قريش بعار الهزيمة والجبن وارتفعت معنويات المسلمين واستردّوا عافيتهم ونشاطهم.

ــــــــــــ

(١) وصفت سورة الحشر احداث جلاء بني النضير.

(٢) الإرشاد: ٤٧.

(٣) راجع السيرة النبوية: ٢ / ٢٠٤.

١٢٥

وبعد فترة قليلة أفادت الأخبار بأنّ سكان دومة الجندل يقطعون الطريق ويتجهزون لغزو المدينة، فخرج اليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألف من المسلمين للقائهم، وما أن سمعوا بخروجه إليهم حتّى لاذوا بالفرار مخلّفين وراءهم ما كان معهم من غنائم فاستولى عليها المسلمون دون قتال (١) .

٩ ـ غزوة بني المصطلق ودور النفاق :

ووردت أخبار جديدة تفيد بأن الحارث بن أبي ضرار ـ زعيم بني المصطلق ـ يعدّ لغزو المدينة فاستوثق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كعادته قبل كل تحرك ـ من صدق الخبر وندب المسلمين فخرجوا إليهم والتقوا عند ماء يدعى (المريسيع) ونشبت الحرب ففر المشركون بعد قتل عشرة اشخاص منهم، وغنم المسلمون

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية لابن كثير: ٣ / ١٧٧، الطبقات الكبرى: ٢ / ٦٢.

١٢٦

غنائم كثيرة وسُبيت أعداد كبيرة من عوائل بني المصطلق، كانت من بينهم جويرية بنت الحارث فأعتقها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم تزوجها، وأطلق المسلمون ما في أيديهم من الأسرى إكراماً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولها(١) .

وفي هذه الغزوة كادت أن تقع فتنة بين المهاجرين والأنصار بسبب بعض النعرات القبليّة ولما علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك قال (دعوها فإنها فتنة) (٢) . وأسرع عبد الله بن اُبي رأس النفاق يبتغي الفتنة ويؤجج الخلاف فوجّه اللّوم لمن حوله من أهل المدينة إذ آووا ونصروا المهاجرين ثم قال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، وكادت أن تفلح مساعى ابن اُبي لولا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد أن توثق من تحريض ابن أبيّ ونفاقه ـ أمر بالعودة إلى المدينة على وجه السرعة رافضاً رأي عمر بن الخطاب بقتل ابن أبي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟! لا) (٣) . ولم يأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستراحة في الطريق فسار بالمسلمين يوماً وليلة ثم أذن لهم بالاستراحة فأخلد الجميع للنوم من شدة التعب ولم تتح فرصة للتحدث وتعميق الخلاف. وعلى أبواب المدينة طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي الإذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قتل أبيه بيده دون أحد من المسلمين خشية أن تثيره العاطفة فيثأر لأبيه فقال نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) . ثم وقف عبد الله (الأبن) ليمنع أباه من دخول المدينة إلاّ بإذن من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) ، وفي هذا الظرف نزلت سورة المنافقين لتفضح سلوكهم ونواياهم.

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٣ / ٢٠٤، إمتاع الأسماع: ١ / ١٩٥.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٢٩٠.

(٣) إمتاع الأسماع: ١ / ٢٠٢.

(٤) راجع السيرة النبوية: ٢ / ٢٩٢.

١٢٧

١٠ ـ إبطال أعراف جاهلية :

برحمته الفياضة وبطيب قلبه المفعم حباً للإنسانية وقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وقال لقريش:(يا من حضر إشهدوا أن زيداً هذا ابني) (١) . وانتقل زيد من رقّ العبودية إلى بنوة أكرم خلق الله وآمن زيد بالنبي المرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أول أيام البعثة المباركة إيماناً صادقاً. ومضت الأيام حتى بلغ زيد مرحلة الرجولة في ظل رعاية النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبجرأة الثائر العظيم والمصلح الكبير اختار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زينب بنت جحش (ابنة عمته) زوجاً لزيد، فامتنعت أن تتنازل عن مكانتها الاجتماعية ونسبها الرفيع لتتزوج رجلاً سبق له أن كان رقّاً. ولكن إيمانها الصادق دفعها لتستجيب لأمر الله تعالى حيث يقول:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٢) .

وبذلك ضرب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثالاً رائعاً للقضاء على الأعراف الجاهلية البالية تطبيقاً لقيم الرسالة الخالدة. ولكن تفاوت الثقافة وتنافر الطباع حالا دون نجاح تجربة رائدة في مجتمع كان لا يزال يعاني من ترسّبات الجاهلية وتدخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلح ما فسد محاولاً أن لا يصل إلى طريق مسدود فقال لزيد:(أمسك عليك زوجك واتق الله) وتكررت شكوى زيد من زينب فكان آخرها الطلاق.

ثم نزل الأمر الإلهي ليبطل ما تعارف عليه العرب من اعتبار الأدعياء (من ادعي بنوّتهم) أبناءً فقال تعالى: ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ

ــــــــــــ

(١) أسد الغابة: ٢ / ٢٣٥، الاستيعاب مادة: زيد.

(٢) الأحزاب (٣٣): ٣٦.

١٢٨

وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (١) ، وأبقى لهم حقّ الموالاة والأخوة في الدين.

وأراد الله سبحانه أن ينسف هذا العُرف الباطل فأمر نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتزوج زينب بعد طلاقها من زيد، وإكمال عدّتها بعد أن نزلت الآيات الكريمة تحثّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إبطال هذا العرف الجاهلي وأن لا يخشى الناس بل يمضي في تطبيق أحكام الله تعالى بكل شجاعة (٢) .

ــــــــــــ

(١) الأحزاب (٣٣) : ٤.

(٢) راجع سورة الأحزاب (٣٣) : ٣٧ ـ ٤٠ ، وراجع تفسير الميزان: ١٦ / ٢٩٠ ، مفاتيح الغيب: ٢٥ / ٢١٢ ، روح المعاني: ٢٢ / ٢٣.

١٢٩

الفصل الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم

١ ـ تحالف قوى الشرك وغزوة الخندق :

أشرفت السنة الخامسة على الانقضاء وكانت كل الأحداث والتحركات العسكرية التي خاضها المسلمون تهدف إلى الدفاع عن كيان الدولة الفتيّة، وتوفير الأمن في محيط المدينة وأفرزت الأحداث تنوعاً وتعدداً في الجهات والأطراف المعادية للدين وللدولة الإسلامية. فسعى اليهود لاستثمار هذا التنوع بتجميعه وتمويله وإثارة النزعة العدائية فيه لاستئصال الوجود الإسلامي من الجزيرة، ومن ذلك أنهم أوهموا المشركين الذين تساءلوا عن مدى أفضلية الدين الإسلامي على الشرك ، بأن الوثنية خير من دين الإسلام(١) وتمكنوا من جمع قبائل المشركين وتعبئتهم وسوقهم صوب المدينة عاصمة الدولة الإسلامية. وسرعان ما وصل الخبر إلى مسامع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القائد المتحفز اليقظ والمدرك لكل التحركات السياسية، من خلال العيون الثقات.

واستشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه في معالجة الأمر وتوصلوا إلى فكرة حفر خندق يحصّن الجانب المكشوف من المدينة. وخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المسلمين ليشاركهم في حفر ذلك الخندق بعد تقسيم العمل بينهم وكان يحضّهم بقوله:

ــــــــــــ

(١) كما ورد في قوله تعالى في الآية : ٥١ من سورة النساء.

١٣٠

 (لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم إغفر للأنصار والمهاجرة) (١) .

ولم يخل الأمر عن دور للمنافقين والمتقاعسين عن العمل رغم الهمة والحماس الذي أظهره المخلصون من المسلمين(٢) .

وأحاطت قوى الأحزاب المشركة البالغة نحو عشرة آلاف مقاتل بالمدينة يمنعها الخندق وتسيطر عليها الدهشة لهذا الأسلوب الدفاعي الذي لم تكن تألفه من قبل. وخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلاثة آلاف مقاتل ونزل في سفح جبل سلع ووزّع المهام والأدوار لمواجهة الطوارئ.

وبقيت الأحزاب تحاصر المدينة ما يقرب من شهر عاجزين عن اقتحامها، وكانت هناك مواقف رائعة للمسلمين وكان بطلها الأوحد علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وقد توّج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موقف علي بن أبي طالب البطولي عندما خرج لمبارزة صنديد من صناديد العرب ـ هو عمرو بن عبد ود ـ بعد أن أحجم المسلمون عن الخروج إليه بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(برز الإيمان كله إلى الشرك كله) (٣) .

وحاول المشركون الاستعانة بيهود بني قريظة بالرغم من انهم كانوا قد تعاهدوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يدخلوا في حرب ضد المسلمين، وتيقّن الرسول القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عزيمة اليهود على المشاركة في القتال وفتح جبهة داخليّة ضدّ المسلمين فأرسل إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فرجعوا مؤكدين الخبر فكبّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح) (٤) .

ــــــــــــ

(١) راجع البداية والنهاية لابن كثير: ٤ / ٩٦ ، والمغازي: ١ / ٤٥٣.

(٢) نزلت آيات من القرآن الكريم تفضح السلوك التخاذلي وتدعم مركزية العمل بوجود الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . راجع سورة الأحزاب ، الآيات : ١٢ ـ ٢٠ .

(٣) بحار الأنوار: ٢٠ / ٢١٥. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٨٣ و ١٤ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ و ١٩/٦٣ ـ ٦٤ والسيرة النبوية : ٣ / ٢٨١ وراجع مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٢ .

(٤) المغازي: ١ / ٤٥٦ ، بحار الأنوار: ٢٠ / ٢٢٢.

١٣١

٢ ـ الضغط على المسلمين :

لقد تعرض المسلمون لضغوط عديدة أثناء الحصار منها:

١ ـ تناقص الأقوات (المواد الغذائية) حتى بدى شبح المجاعة يدنو من المسلمين(١) .

٢ ـ صعوبة الظروف الجوّية حيث البرد القارس في ليالي الشتاء الطويلة.

٣ ـ الحرب النفسيّة المريرة التي شنّتها جيوب المنافقين في صفوف المسلمين وتخذيلهم عن القتال وتخويفهم من مغبّة الاستمرار في الصمود.

٤ ـ السهر المستمر طوال مدة الحصار حذراً من الهجوم المباغت، فقد أتعب ذلك المسلمين بالنظر إلى عددهم القليل إذا ما قيس إلى كثرة قوّات الأحزاب.

٥ ـ غدر بني قريظة حيث أصبح خطراً حقيقياً يهدد قوات المسلمين داخلياً ويزيدهم قلقاً على سلامة أهاليهم داخل المدينة.

٣ ـ هزيمة العدو :

لقد كانت قوى الأحزاب ذات نوايا وأهداف متخالفة، فاليهود كانوا يحاولون استعادة نفوذهم على المدينة بينما كانت قريش مندفعة بعدائها للرسول والرسالة وكانت غطفان وفزارة وغيرها طامعة في محاصيل خيبر التي وعدها اليهود. هذا من جانب. ومن جانب آخر أحدثت قسوة ظروف الحصار كللاً ومللاً في نفوس الأحزاب إلى جانب ما واجههوه من التحصين وقوة المسلمين التي أبدوها وما قام به (نُعيم بن مسعود) من إحداث شرخ في تحالف الأحزاب واليهود إذ أقدم ـ بعد إسلامه ـ إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً: مرني ما شئت. فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أنت فينا رجل واحد، فَخَذِّل عنا ما استطعت فإنّ الحرب خدعة) .

ــــــــــــ

(١) راجع المغازي: ٢ / ٤٦٥، ٤٧٥، ٤٨٩.

١٣٢

وأرسل الله سبحانه وتعالى على الأحزاب ريحاً عاتية باردة أحدثت فيهم رعباً وقلقاً فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم، فنادى أبو سفيان بقريش للرحيل فأخذوا معهم من المتاع ما استطاعوا حمله وفرّوا هاربين وتبعتهم سائر القبائل حتى إذا أصبح الصباح لم يبق أحد منهم( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) (١) .

٤ ـ غزو بني قريظة وتصفية يهود المدينة :

لقد كشف يهود قريظة عن الحقد والعداء الذي انطوت عليه نفوسهم يوم الخندق ولولا أن الله أخزى الأحزاب لتمكن يهود بني قريظة من الفتك بالمسلمين من خلف ظهورهم فكان لابد للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معالجة موقفهم الخياني، ولهذا أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتحرك المسلمون لمحاصرة اليهود في حصونهم من دون أن يعطي فرصة للاستراحة مظهراً بذلك أهمية الحركة العسكرية الجديدة فأذّن المؤذن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة(٢) .

وأعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رايته لعلي عليه‌السلام وتبعه المسلمون مع ما بهم من ألم الجوع والسهر والجهد من أثر محاصرة الأحزاب... واستولى الهلع والخوف على اليهود حين رأوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين يحيطون بهم وأيقنوا أن النبي غير منصرف عنهم حتى يناجزهم.

وطلب اليهود أبا لبابة بن عبد المنذر ـ وكان من حلفائهم الأوس ـ

ــــــــــــ

(١) نزلت سورة الأحزاب وفيها تفاصيل ما جرى يوم الخندق.

(٢) الطبري: ٣ / ١٧٩.

١٣٣

يستشيرونه في أمرهم ولكنه كشف لهم عمّا كان يعلمه من مصيرهم حين قاموا إليه صغاراً وكباراً يبكون(١) . ولم يقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرض بني قريظة وهو الارتحال عن المدينة من دون عقوبة بسبب موقفهم الخياني السابق وأبى إلاّ النزول على حكم الله ورسوله، وحاول الأوس التوسط ـ بطلب من اليهود ـ لدى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألا ترضون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلاً منكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :فقولوا لهم أن يختاروا من الأوس من شاءوا . فاختار اليهود سعد بن معاذ(٢) حَكَماً وكان هذا من سوء حظ اليهود; لأن سعداً جاءهم يوم تجمعت الأحزاب طالباً منهم الحياد في الموقف فأبوا ذلك. وكان سعد جريحاً فحملوه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقبله وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن حوله:قوموا إلى سيدكم ، فقاموا إليه. ثم حكم سعد بقتل الرجال وسبي النساء والذراري وتقسيم الأموال على المسلمين، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة (٣) .

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين بعد ما أخرج الخمس، للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم، ثم أعطى الخمس إلى زيد بن حارثة وأمره أن يشتري بها خيلاً وسلاحاً وغيرها من عدّة الحرب استعداداً للمهام اللاحقة (٤) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٢٣٧.

(٢) السيرة النبوية: ٢ / ٢٣٩، الإرشاد: ٥٠.

(٣) راجع السيرة النبوية: ٢ / ٢٤٠ ، المغازي: ٢ / ٥١٠.

(٤) السيرة النبوية: ٢ / ٢٤١ .

١٣٤

الباب الخامس: فيه فصول:

الفصل الأول: مرحلة الفتح.

الفصل الثاني: الإسلام خارج الجزيرة.

الفصل الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة.

الفصل الرابع: أيام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخيرة.

الفصل الخامس: من معالم الرسالة الإسلامية الخالدة.

الفصل السادس: تراث خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الفصل الأول: مرحلة الفتح

١ ـ صلح الحديبية :

كادت تنقضي السنة السادسة للهجرة وكانت تلك السّنة سنة جهاد مستمر ودفاع مستميت بالنسبة للمسلمين. واهتم المسلمون بنشر الرسالة الإسلامية وبناء الإنسان والمجتمع الإسلامي وتكوين الحضارة الإسلامية. وقد ادرك كل من كان في الجزيرة العربية عظمة هذا الدين وعرف أن من المستحيل استئصاله والقضاء عليه، فالصراع مع قريش ـ وهي أكبر قوة سياسية وعسكرية آنذاك ـ ومع اليهود وباقي القوى المشركة لم يمنع من انتشار الإسلام وسطوع معانيه وبلوغ أهدافه.

ولم يكن البيت الحرام ملكاً لأحد أو حكراً لمذهب أو أصحاب معتقد معيّن، فقد كانت هنالك أصنام وأوثان متعددة يحج إليها من يعتقد بها، إلاّ أن طغيان قريش وعتوّها صدّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين عن زيارة البيت الحرام.

وفي هذه الفترة أدرك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرج قريش في موقفها تجاه الإسلام فقرر أن ينطلق بالمسلمين في رحلة عبادية مؤدياً العمرة، ليعلن من خلالها مواصلته للدعوة الإسلامية ويوضح ما يمكنه من مفاهيم العقيدة الإسلامية ومعالمها واحترامها وتقديسها للبيت الحرام، وتكون حركته هذه مرحلة انفتاح رسالي جديد وعهد انتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الانتشار والهجوم.

١٣٥

سلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه طريقاً وعراً ثم هبطوا إلى منطقة سهلة تدعى بـ(الحديبية) فبركت ناقة رسول الله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(ما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل بمكة) (١) ، فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بالنزول فيها ـ وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها) (٢) ، ولكنّ قريشاً بقيت تترصد المسلمين ووقف فرسانها في طريقهم، ثم بعثت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بديل بن ورقاء في وفد من خزاعة لتستعلم هدف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصده عن دخول مكة، وعاد الوفد ليقنع قريشاً أن السلم والعمرة هدف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . واستكبرت قريش وبعثت بوفد آخر يرأسه الحليس ـ سيد الأحابيش ـ فلما رآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبلاً قال: (إن هذا من قوم يتألهون) (أي يعظمون الله). فلما رأى الحليس الهدي رجع إلى قريش من دون أن يلتقي بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقنع قريشاً ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين جاءوا معتمرين ولكن لم تقتنع قريش فأرسلت مسعود بن عروة الثقفي الذي انبهر من مشهد المسلمين وهم يتسابقون لالتقاط القطرات المتناثرة من وضوئهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعاد إلى قريش قائلاً: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل (محمد) في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم(٣) .

وقد أعرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن احترامه للأشهر الحرم من خلال رحلة المسلمين العباديّة حيث لم يحملوا معهم سوى سلاح المسافر، كما دعا القبائل المجاورة أن يكونوا إلى جانب المسلمين في هذه الرحلة رغم أنهم لم يكونوا مسلمين مؤكداً أن العلاقة بين الإسلام وباقي القوى غير قائمة على أساس الحرب.

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢٠ / ٢٢٩.

(٢) الطبري: ٣ / ٢١٦.

(٣) المغازي: ٢ / ٥٩٨.

١٣٦

واستنفر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألفاً وأربعمائة مسلم ـ على أقل التقادير ـ وساق الهدي أمامه (سبعين بعيراً). وبلغ قريشاً نبأ خروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين لأداء العمرة فأصبحت قريش في ضيق من أمرها وكان أمامها طريقان: إما أن تسمح للمسلمين بأداء العمرة وبذلك يتحقق للمسلمين أملهم في زيارة البيت الحرام ويحظى المهاجرون بالاتصال بأهلهم وذويهم وربما دعوتهم إلى الإسلام، أو أن تمنع قريش المسلمين عن دخول مكة وبذلك ستتعرض مكانة قريش للاهتزاز وتكون محطّاً للوم القبائل الأُُخرى بسبب سوء معاملتها لقوم مسالمين يبتغون أداء مناسك العمرة وتعظيم الكعبة المشرفة لا غير.

لقد أبت قريش إلاّ العتو والمعاندة فأخرجت مجموعة من فرسانها تقدّر بمئتي فارس بقيادة خالد بن الوليد لمواجهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين. ولما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج محرماً لا غازياً قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة .

ثمّ أمر بالعدول عن طريق فرسان قريش تجنباً لوقوع قتال تتخذه قريش ذريعة لصحة موقفها وفخراً لها. وأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خراش بن أمية الخزاعي ليفاوض قريشاً في الأمر، فعقروا ناقته وكادوا أن يقتلوه. ولم ترع قريش حرمة ولاذمة للأعراف والتقاليد. ولم تلبث قريش أن كلفت خمسين رجلاً للتحرش بالمسلمين عسى أن يبدر منهم ما ينفي صفة السلم عنهم. وفشلت خطتهم وتمكن المسلمون من أسرهم فعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم مؤكداً بذلك هدفه السلمي (١) .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري: ٣ / ٢٢٣.

١٣٧

وأراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث إلى قريش رسولاً آخر ـ ولم يتمكن من إرسال علي بن أبي طالب ممثلاً عنه; لأنّ علياً كان قد وتر قريش بقتل صناديدها في معارك الدفاع عن الإسلام، فانتدب عمر بن الخطاب ولكن عمر خاف من قريش على نفسه رغم أنه لم يقتل فرداً من أفرادها واقترح على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرسل عثمان بن عفان(١) ; لكونه أموياً وذا قرابة مع أبي سفيان. وتأخر عثمان في العودة من قريش وأشيع خبر مقتله، فكان هذا إنذاراً بفشل كل المساعي السلمية لدخول مكة. ولم يجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدّاً من التهيّؤ للقتال، وهنا كانت بيعة الرضوان إذ جلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات مهما كلف الأمر، وهدأ استنفار المسلمين بعودة عثمان. وأرسلت قريش سهيل بن عمرو لمفاوضة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

شروط الصلح :

وبسبب تشدد (سهيل) في شروط الصلح كادت المفاوضات أن تفشل، وأخيراً تمّ الاتفاق على عدّة شروط للصلح، هي:

١ ـ تعهّد الطرفين بترك الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض.

٢ ـ من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع ( محمّد ) لم يردّوه عليه.

٣ ـ من أحب أن يدخل في عقد (محمّد) وعهده دخل فيه ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

٤ ـ يرجع ( محمّد ) بأصحابه إلى المدينة عامه هذا فلا يدخل مكة، وإنما

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٣١٥.

١٣٨

يدخل مكة في العام القادم فيقيم فيها ثلاثة أيام ليس معه سوى سلاح الراكب، والسيوف في القِرَب(١) .

٥ ـ لا يُستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون الله بمكة علانية وبحرية وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة وأن لا يؤذى أحد ولا يعيّر(٢) .

٦ ـ لا إسلال (سرقة) ولا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر(٣) .

٧ ـ لا تعين قريش على ( محمّد ) وأصحابه أحداً بنفس ولا سلاح(٤) .

ولم يرضَ نفر من المسلمين ببنود الصلح، فاعترضوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متصوّرين أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تراجع أمام قريش ولم يدركوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسدد من الله وأنه ينظر بعين متطلّعة إلى مستقبل الرسالة الإسلامية ومصالحها العليا. وردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المعترضين بقوله: (أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني) . وأقرّ النبي ما كرهه بعض المسلمين، وجاءت قضية تسليم أبي جندل لقريش (٥) إثارة جديدة في ظرف توتّر فيه الوضع النفسي عند بعضهم.

ولكن هذا الصلح كان في الواقع فتحاً مبيناً وكبيراً للمسلمين على خلاف ما كان يبدو للبعض من ظاهر بنود الصلح ; إذ انقلبت شروط المعاهدة لصالح المسلمين بعد قليل.

وفي طريق الرجوع إلى المدينة نزلت آيات القرآن الكريم (٦) لتؤكد البعد الحقيقي للصلح مع زعيمة الوثنية، وتبشّر المسلمين بدخول مكة قريباً.

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ٣ / ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٠ / ٣٥٢.

(٣) مجمع البيان: ٩ / ١١٧.

(٤) بحار الأنوار: ٢٠ / ٣٥٢.

(٥) السيرة الحلبية: ٣ / ٢١، السيرة النبوية: ٢ / ٢١٨، بحار الأنوار: ٢٠ / ٢٥٢.

(٦) راجع سورة الفتح (٤٨): ١ ـ ٧ و ١٨ ـ ٢٨ .

١٣٩

نتائج صلح الحديبية :

١ ـ اعترفت قريش بكيان المسلمين كقوة عسكرية وسياسية منظمة، وكدولة حقيقية جديدة.

٢ ـ دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين وتصاغر دورهم، وظهر ضعفهم عند المواجهة.

٣ ـ أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام ودخلت قبائل كثيرة في الإسلام. وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوقّع منذ بدء حركته الرسالية الإسلامية أن تترك قريش له فرصة يعبّر فيها بحرّية عن موقفه، ويشرح الإسلام للناس بأمان.

٤ ـ أمن المسلمون جانب قريش فحوّلوا ثقلهم وجهودهم لمواجهة اليهود وسائر المناوئين.

٥ ـ جعلت مفاوضات الصلح حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليهم.

٦ ـ مكّن الصلح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يراسل الملوك ورؤساء الدول خارج الجزيرة لدعوتهم إلى الإسلام، وأن يستعدّ لغزوة مؤتة، كخطوة لنقل الإسلام خارج منطقة الجزيرة العربية.

٧ ـ مهّد الصلح لفتح مكة ـ الّتي كانت أهم قلاع الوثنية حين ذاك ـ في مراحل لاحقة.

٢ ـ انطلاقة الرسالة الإسلامية إلى خارج المدينة :

لقد كانت محاولات قريش للقضاء على الإسلام فيما مضى عاملاً لانشغال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين في معارك الدفاع والتحصين وتثبيت أركان الدولة والمجتمع الإسلامي عدة سنين فلم يستطع خلالها أن يبلّغ بحريّة تامّة رسالته السماوية العالمية والخاتمة لكل الأديان. ولكن بتوقيع معاهدة صلح الحديبية أمن الرسول جانب قريش وأتاحت هذه العملية فرصة مناسبة لأن يبعث الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفراءه إلى زعماء القوى الكبرى المحيطة بالجزيرة العربية والى كل رؤساء المجاميع في الجزيرة وخارجها يدعوهم إلى الإسلام بعد بيان التعاليم الإلهية لهم.

فقد روي أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في أصحابه: (أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة وكافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم) .

١٤٠