اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)0%

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 215

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 115466
تحميل: 8897

توضيحات:

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115466 / تحميل: 8897
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من نتائج غزوة تبوك :

١ ـ لقد برز المسلمون كقوة كبيرة منظمة، تملك العقيدة القوية فتهابهم الدول المجاورة والديانات الأخرى وكان هذا إنذاراً حقيقياً لكل القوى في خارج البلاد الإسلامية وداخلها بعدم التعرض للإسلام والمسلمين.

٢ ـ ضمن المسلمون عن طريق المعاهدات مع زعماء المناطق الحدودية (من جهة الشمال) أمن هذه المنطقة.

٣ ـ استفاد المسلمون من قدرتهم على تعبئة جيش كبير في العدة والعدد وازدادت خبرتهم في التنظيم والإعداد، وكانت الرحلة إلى تبوك بمثابة استطلاع ميداني استفاد منه المسلمون في المراحل اللاحقة.

٤ ـ كانت غزوة تبوك اختباراً لمعنويات المسلمين وتمييزاً للمنافقين وفرزهم عن سائر المسلمين.

٥ ـ مسجد ضرار : لقد جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشريعة السمحاء ودين التوحيد وعمل جاهداً أن يبني الإنسان الصالح والمجتمع السليم وفق التعاليم الربانية، ولقد خاض كل المحن والابتلاءات والمعارك من أجل تطهير الإنسان من دنس الشرك ووساوس الشيطان والأمراض النفسية.

١٦١

وتحركت نوازع الحسد والبغض لدى مجموعة من المنافقين فعمدوا إلى بناء مسجد في مقابل مسجد ( قباء ) زاعمين أنّه لذوي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وأسرعوا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلبون منه أن يصلّي فيه ليضفي الشرعية على عملهم فأخّر الاستجابة لأنه كان على استعداد للخروج إلى تبوك، فلمّا رجع من تبوك نزل الأمر الإلهي بالنهي عن الصلاة في هذا المسجد لأنّه كان عاملاً لتفريق كلمة المسلمين والإضرار بالاُمة، وشتان بين بنيان أسس على التقوى وآخر للإضرار بالمسلمين ومن هنا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدمه وإحراقه (١) .

٦ ـ عام الوفود :

بدت سيطرة الإسلام على الجزيرة واضحة ولم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلجأ إلى القوة والقتال إلاّ بعد إعذار وإنذار، بل وفي أكثر الوقائع كان قتال المسلمين دفاعاً، على أن بعض قوى الشرك لا تعي الحق ولا تهتدي سبيلاً إلاّ بعد عنف وقوة وتهديد ووعيد.

وحين عاد المسلمون إلى عاصمة دولتهم ـ المدينة المنورة ـ سيّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدة سرايا لتطهير البلاد من أماكن الوثنية وأصنام الشرك.

ولقوة المسلمين والانتصارات المتلاحقة بدأت كل قبائل الجزيرة وزعمائها يسمعون بآذان صاغية نداء الإسلام ووضوح أهدافه وهدايته، فأخذت الوفود تقدم إلى المدينة لتعلن إسلامها بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لذلك سمي هذا العام بعام الوفود (٢) ـ وكان النبي يستقبلهم ويحسن إليهم ويرسل لهم من يعلمهم فرائض القرآن وشرائع الإسلام.

إسلام قبيلة ثقيف :

أملت ظروف النصر الإلهي على كل عاقل أن يتدبر أمره ويحكّم عقله تجاه الإسلام. وكانت حكمة الرسول بالغة إذ أجّل فتح الطائف يوم امتنعت ثقيف فيها وها هي اليوم ترسل وفدها لتعلن إسلامها بعد أن عاندت وكابرت وقتلت سيداً من سادتها (عروة بن مسعود الثقفي) يوم جاءها مسلماً يدعوها إلى الدين الجديد.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢٠ / ٥٣٠، بحار الأنوار: ٢٠ / ٢٥٣.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ذكر سنة تسع وتسميتها سنة الوفود .

١٦٢

ورحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقدم الوفد الثقفي وضربت لهم قبة في ناحية المسجد النبوي وكلّفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالد بن سعيد ليقوم بمهام التشريفات ثم بدأ الوفد يفاوض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام بشروط هي: أنه يترك صنم القبيلة مدة من الزمن وأبى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا التوحيد الناصع الخالص لله وتنازل القوم شيئاً فشيئاً حتى قبلوا الإسلام بشرط أن يعفيهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كسر أصنامهم بأنفسهم كما شرطوا عليه أن يعفيهم من الصلاة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(لا خير في دين لا صلاة فيه) ، فقبلوا الإسلام وبقي الوفد مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدة من الزمن يتعلمون أحكام الدين. ثم كلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة أن يذهبا إلى الطائف لهدم الأصنام فيها(١) .

٧ ـ وفاة إبراهيم ابن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

في غمرة أفراح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنجاح الإسلام وانتشار الرسالة حيث كان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وعك إبراهيم بعد أن دخل في عامه الثاني وجعلت أُمّه (ماريا) تمرّضه ولم ينفع معه شيء فأبلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باحتضار ولده فأقبل وإبراهيم يجود بنفسه في حضن اُمه فأخذه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: (يا إبراهيم إنا لن نغني عنك من الله شيئاً إنا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرّب ولولا أنه وعدٌ صادق وموعود جامع فإن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجداً شديداً ما وجدناه) (٢) .

وبدت علامات الحزن واضحة على قسمات وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل له: يا

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٥٣٧، السيرة الحلبية: ٣ / ٢١٦.

(٢) السيرة الحلبية: ٣ / ٣١١، بحار الأنوار: ٢٢ / ١٥٧.

١٦٣

رسول الله أولست قد نهيتنا عن هذا؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(ماعن الحزن نهيت ولكني نهيت عن خمش الوجوه وشق الجيوب ورنّة الشيطا ن(١) .

وروي أنه قال:(إنما هذا رحمة ومن لا يَرحم لا يُرحم) (٢) .

ولعظيم منزلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الله سبحانه وما أظهر من معجزات للعالمين حتى آمنوا به ظن بعضالمسلمين أنّ كسوف الشمس في يوم وفاة إبراهيم إنما كان من آيات الله لموته.

وسرعان ما ردّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا الزعم خشية أن تتحول الخرافة إلى سُنّة ومعتقد يتخذها الجاهلون. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته) (٣) .

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ٣ / ٣١١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٢ / ١٥١.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٨٧ .

١٦٤

الفصل الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة

١ ـ إعلان البراءة من المشركين :

لم يبق في الجزيرة العربية من بقي على الشرك والوثنية سوى أفراد قلائل بعد أن انتشرت العقيدة الإسلامية والشريعة السمحاء في أرجائها واعتنقها كثير من الناس. وهنا كان لابد من إعلان صريح حازم يلغي كل مظاهر الشرك والوثنية في مناسك أكبر تجمع عبادي سياسي.

وحان الوقت المناسب لتعلن الدولة الإسلامية شعاراتها في كل مكان وتنهي مرحلة المداراة وتأليف القلوب التي تطلبتها المرحلة السابقة.

واختار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم النحر زماناً ومنطقة منى(١) مكاناً لهذا الإعلان واختار أبا بكر ليقرأ مطلع سورة التوبة(٢) التي نزلت لذلك وتضمّنت إعلان البراءة من المشركين جميعاً بصراحة وتمثّلت بنود البراءة في ما يلي:

١ ـ لا يدخل الجنة كافر.

٢ ـ لا يطوف في البيت الحرام عُريان; إذ كانت تقاليد الجاهلية تسمح بذلك.

٣ ـ لا يحج بعد هذا العام مشرك.

٤ ـ من كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فأجله إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فإلى أربعة أشهر ثم يقتل من وُجِدَ في دار الإسلام مشركاً.

ــــــــــــ

(١) العاشر من ذي الحجة عام ( ٩ هـ ) .

(٢) التوبة (٩) : ١ ـ ١٣ .

١٦٥

ونزل الوحي الإلهي ليبلّغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبدأً مهمّاً نصّه:(أنّه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك) . فاستدعى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً وأمره أن يركب ناقته العضباء ويلحق بأبي بكر ويأخذ منه البلاغ ويؤديه للناس(١) .

ووقف علي بن أبي طالب بين جموع الحجيج وهو يتلو البيان الإلهي بقوة وجرأة تتوائم مع حزم القرار ووضوحه. ووقف الناس ينصتون إليه بحذر ودقة. وكان أثر الإعلان على المشركين أن قدموا مسلمين على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ مباهلة نصارى نجران :

اجتمع زعماء نصارى نجران وحكماؤهم يتدارسون أمر كتاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يدعوهم فيه إلى الإسلام. ولم يتوصلوا إلى رأي قاطع إذ كانت في أيديهم تعاليم تؤكد وجود نبي بعد عيسىعليه‌السلام ، وما ظهر من محمد فهو يشير إلى نبوّته. من هنا قرّروا أن يرسلوا وفداً يقابل شخص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحاوره.

واستقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوفد الكبير وقد بدى عليه عدم الرضا لمظهرهم الذي كان يحمل طابع الوثنية، فقد كانوا يرتدون الديباج والحرير ويلبسون الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم. ثم غدوا عليه ثانية وقد بدّلوا مظهرهم فرحّب بهم واحترمهم وفسح لهم المجال ليمارسوا طقوسهم(٢) .

ثم عرض عليهم الإسلام وتلا عليهم آيات من القرآن فامتنعوا وكثر الحجاج معهم، فخلصوا إلى أن يباهلهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان ذلك بأمر من الله عزّ وجلّ واتفقوا على اليوم اللاحق موعداً.

ــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٣٢٦، الإرشاد: ٣٧، الواقدي: ٣ / ١٠٧٧، خصائص النسائي: ٢٠، صحيح الترمذي: ٢ / ١٨٣، مسند أحمد: ٣ / ٢٨٣، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: ٢ / ٣٤٣.

(٢) السيرة الحلبية: ٣ / ٢١١، السيرة النبوية: ١ / ٥٧٤.

١٦٦

وخرج إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يحمل الحسين وبيده الحسن وخلفه ابنته فاطمة وابن عمّه علي بن أبي طالب امتثالاً لأمر الله تعالى الذي نصّ عليه الذكر الحكيم قائلاً: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) ولم يصحب سواهم أحداً من المسلمين ليثبت للجميع صدق نبوته ورسالته وهنا قال أسقف نجران: يا معشر النصارى اني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني.

وحين أبوا أن يباهلوا النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين قال لهم الرسول:أمّا إذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا، فقال :إني أناجزكم القتال . فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلّة، ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال:والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل نجران وأهله حتى الطّير على رؤوس الشّجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا. فرجعوا إلى بلادهم دون أن يسلموا(٢) .

وروي أن السيد والعاقب من زعمائهم لم يلبثا إلاّ يسيراً حتى عادا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعلنا إسلامهما (٣) .

ــــــــــــ

(١) آل عمران (٣) : ٦١.

(٢) التفسير الكبير (للرازي): ٨ / ٨٥ .

(٣) الطبقات الكبرى: ١ / ٣٥٧.

١٦٧

٣ ـ حجة الوداع :

كان الرسول الأكرم القدوة الحسنة للإنسانية جمعاء، يبلّغ آيات الله ويفسّرها ويفصّل أحكامها ببيان جلي، وجماهير المسلمين حريصة على الاقتداء به في القول والعمل. وبحلول شهر ذي القعدة من العام العاشر للهجرة عزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أداء فريضة الحج ـ ولم يكن قد حج من قبل وذلك ليطلع الأمة على أحكام الله في فريضة الحج فتقاطرت ألوف المسلمين على المدينة وتجهّزوا للخروج مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بلغ عددهم ما يقارب مائة ألف مسلم من مختلف الحواضر والبوادي والقبائل، تجمعهم المودة الصادقة والاُخوة الإسلامية والاستجابة لنداء الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كانوا بالأمس القريب أعداءاً متنافرين، جُهّالاً كافرين. واصطحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه كل نسائه وابنته الصديقة فاطمة الزهراء، وتخلّف زوجها علي بن أبي طالب في مهمة بعثه بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستعمل على المدينة أبا دجانة الأنصاري.

وفي منطقة ذي الحليفة أحرم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلبس قطعتين من قماش أبيض ولبّى عند الإحرام قائلاً:(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لبيك لا شريك لك لبيك) .

وفي الرابع من شهر ذي الحجة الحرام شارف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة وقطع التلبية، ثم دخل المسجد الحرام وهو يكثر الثناء على الله ويحمده ويشكره فأستلم الحجر وطاف سبعاً وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم ثم سعى بين الصفا والمروة والتفت إلى الحجيج قائلاً:(من لم يَسُق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عُمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه) .

١٦٨

ولم يستجب بعض المسلمين لأمر الرسول هذا ظناً منهم أنّ عليهم أن يفعلوا كما يفعل الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عدم التحلّل من الإحرام، فغضب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لموقفهم وقال:(لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم) (١) .

وأقفل علي بن أبي طالبعليه‌السلام راجعاً من اليمن إلى مكة ليلتحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ساق معه (٣٤) هدياً. وعلى مقربة من مكة تعجل لدخولها واستخلف أحد افراد سريته عليها. وسرّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلقاء عليّ وما حقّقه من نجاح باهر في اليمن وقال له:انطلق فطف بالبيت وحِلّ كما حلّ أصحابك . فقالعليه‌السلام :يا رسول الله اني أهللت كما أهللت ، ثم قالعليه‌السلام : إني قلت حين أحرمت:اللهم إني أهلّ بما اهل به عبدك ونبيك ورسولك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ثمّ أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعود إلى سريته ويصحبها إلى مكة، ولما قدموا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتكوا علياًعليه‌السلام لأنه كان قد رفض تصرّفاً خاطئاً فعلوه في غيابه، فأجابهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً:(أيها الناس لا تشكوا علياً، فوالله إنه لأخشن في ذات الله من أن يشتكى) (٢) .

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة توجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جموع المسلمين نحو عرفات.

ومكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرفات حتى غروب اليوم التاسع، ومع الظلام ركب ناقته وأفاض إلى المزدلفة وأمضى فيها شطراً من الليل ولم يزل واقفاً من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر الحرام. ثمّ توجّه في اليوم العاشر إلى (منى) وأدّى مناسكها من رمي الجمرات والنحر والحلق ثمّ توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

وقد سمّيت هذه الحجة بـ (حجة الوداع) لأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودّع المسلمين في هذه الحجة التي اشار فيها إلى دنوّ وفاته كما سُمّيت بـ (حجة البلاغ) لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلّغ فيها ما اُنزل إليه من ربّه في شأن الخلافة من بعده، ومنهم من سمّاها بـ (حجة الإسلام) لأنها الحجّة الاُولى للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي بيّن فيها أحكام الإسلام الثابتة في مناسك الحج.

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٢١ / ٣١٩.

(٢) السيرة النبوية: ٢ / ٦٠٣، بحار الأنوار: ٢١ / ٣٨٥.

١٦٩

خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع :

وروي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب خطاباً جامعاً فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:(أيها الناس اسمعوا مني اُبين لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى الذي ائتمنه عليها وإنّ ربا الجاهلية موضوع، وإن أوّل رباً أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.

أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحتقرون من أعمالكم.

أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يُحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم الله. وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس إن لنساءكم عليكم حقاً وإن لكم عليهن حقاً. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيراً .

أيها الناس إنما المؤمنون إخوة فلا يحلّ لامرىً مال أخيه إلاّ عن طيب نفس. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض; فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

١٧٠

أيها الناس إن ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجميّ فضل إلاّ بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :فليبلّغ الشاهد منكم الغائب (١) .

أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادّعي إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً... والسلام عليكم ورحمة الله) (٢) .

٤ ـ تعيين الوصي(٣) :

أتمّ المسلمون حجّهم الأكبر وهم يحتفّون بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أخذوا مناسكهم عنه، وقرّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعود إلى المدينة، ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة (رابغ) قرب (غدير خم) وقبل أن يتفرّق الحجيج ويرجعوا إلى بلدانهم من هذه المنطقة نزل الوحي الإلهي بآية التبليغ الآمرة والمحذّرة: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٢١ / ٤٠٥.

(٢) العقد الفريد: ٤ / ٥٧، الطبقات الكبرى: ٢ / ١٨٤، الخصال: ص٤٨٧، بحار الأنوار: ٢١ / ٤٠٥، وقد ورد النص في مصادر السيرة والتأريخ مع اختلاف بالزيادة والنقصان.

(٣) للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني الجزء الأوّل.

١٧١

النَّاسِ ) (١) .

لقد حمل هذا الخطاب الإلهي أمراً مهماً جدّاً فأي تبليغ مهم هذا قد طُلب من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انجازه ولم يكن قد أنجزه إلى ذلك الحين؟ وقد أمضى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقارب ثلاثة وعشرين عاماً يبلّغ آيات الله وأحكامه ويدعو الناس إلى دين الله! وقد نال ما نال من عظيم المحن والبلاء والجهد، كي يقال له:( فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) .

وهنا أصدر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوامره بأن تقف القوافل حتى يلحق آخرها بأولها في يوم قائظ يضطر المرء فيه أن يلفّ رأسه وقدميه من شدة حرّ الرمضاء ليتلو عليهم أمر السماء ويتمم تبليغ الرسالة الخاتمة. إنها الحكمة الإلهية أن يتم التبليغ في هذا المكان وفي هذا الظرف كي يبقى عالقاً في وجدان الأمة، حيّاً في ذاكرتها على مرّ الزمن حفاظاً على الرسالة والأمة الإسلامية.

وجمعت الرحال وصنع منها منبر صعد عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن صلّى في جموع المسلمين فحمد الله واثنى عليه وقال بصوت رفيع يسمعه كل من حضر:(أيها الناس يوشك أن اُدعى فأجيب وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيراً. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :اللهم أشهد . ثم قال:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإني فرطكم على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض وإنّ عرضه مابين صنعاء وبُصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين .

فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلوا. والآخر الأصغر عترتي. وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربّي فلا تقدّموهما فتهلكوا

ــــــــــــ

(١) المائدة (٥) : ٦٧ .

١٧٢

ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا.

ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب حتى رؤي بياض أبطيهما وعرفه الناس أجمعون. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟) قالوا: الله ورسوله أعلم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه) ـ يقولها ثلاث مرات ـ .

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب) .

ثم لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي الله بقوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ) (١) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي بعدي) .

ثم أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تنصب خيمة لعليعليه‌السلام وأن يدخل عليه المسلمون فوجاً فوجاً ليسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس كلهم ذلك وأمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممن معه أن يفعلن ذلك.

وكان في مقدمة المهنّئين أبو بكر وعمر بن الخطاب، كلٌ يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(٢) .

٥ ـ ظهور المتنبئين :

تفرّقت جموع الحجيج من منطقة غدير خم متّجهة نحو العراق والشام واليمن، واتّجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو المدينة. وحمل الجميع وصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخلافة والقيادة من بعده لربيبه علي بن أبي طالبعليه‌السلام لتستمر حركة الرسالة

ــــــــــــ

(١) المائدة (٥): ٣ .

(٢) راجع تأريخ اليعقوبي: ٣ / ١١٢، ومسند أحمد: ٤ / ٢٨١، البداية والنهاية: ٥ / ٢١٣، وموسوعة الغدير: ١ / ٤٣، ١٦٥، ١٩٦، ٢١٥، ٢٣٠، ٢٣٨، ٢٧٦، ٢٨٣، ٢٨٥، ٢٩٧، ٣٧٩، ٣٩٢، ٤٠٢، والجزء: ١١ / ١٣١.

١٧٣

الإسلامية بنهج نبويّ وتجتاز العقبات بعد رحيل القائد الأوّل وذلك بعد أن عرّف بعليّعليه‌السلام في ذلك اليوم التاريخي الخالد بل منذ يوم الدار حيث أ نّه وصفه بالوزير الناصح والأخ المؤازر والعضد المدافع والخليفة الذي يجب على الناس من بعده أن يطيعوه ويتّبعوه ويتّخذوه لأنفسهم قائداً وزعيماً.

وبعد أن انبسط سلطان الدين وقويت مركزية القرار في المدينة لم يعد بأمر خطير نفور جماعة عن الدين أو ارتداد أفراد عن التسليم لما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو وجود أفراد في الأطراف البعيدة عن المدينة يرون في عنصر الدين وسيلة لتحقيق بعض آمالهم ورغباتهم المريضة.

من هنا أخذ مسيلمة يدّعي النبوّة كذباً وكتب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً ذكر فيه أ نّه بُعث أيضاً ويطلب فيه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشاركه في سلطان الأرض. ولما وقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مضمون الرسالة التفت إلى من حملها إليه وقال:(لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما برسالتي فلِمَ اتّبعتما هذا الأحمق وتركتما دينكما؟) .

ثم ردّ على مسيلمة الكذّاب برسالة كتب فيها:(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب. السلام على من اتّبع الهدى، أما بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (١) .

وقد أفلح المسلمون في القضاء على حركات الارتداد التي قام بها بعض الدجّالين مثل الأسود العنسي ومسيلمة وطلحة.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٦٠٠.

١٧٤

٦ ـ التعبئة العامّة لغزو الروم (١) :

أبدى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اهتماماً كبيراً للحدود الشمالية للدولة الإسلامية حيث تتواجد دولة الروم المنظمة وصاحبة الجيش القوي. ولم تكن دولة فارس ذات أثر مُقلق على الدولة الإسلامية لأنّ علامات الانهيار كانت قد بدت عليها، كما أنها لم تكن تملك عقيدة روحية تدافع عنها كالمسيحية لدى الروم، فهي التي كانت تشكّل خطراً على الكيان الإسلامي الفتيّ، خاصة وأن بعض عناصر الشغب والنفاق قد أجليت عن الدولة الإسلامية فذهبت إلى الشام ولحق بها آخرون، وكان وجود نصارى نجران عاملاً سياسياً يدفع الروم لنصرتهم.

ومع ذلك فإنّ كل هذه الاُمور لم تكن عوامل آنيّة تستدعي الاهتمام الكبير الذي ظهر واضحاً من إعداد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجيش كبير ضمّ وجوه كبار الصحابة ما خلا علياً وبعض المخلصين معه فقد أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخلو الجو السياسي من أمور قد تعيق عمليّة انتقال السلطة إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام للقيام بمهام الخلافة من بعده، بعد أن لمس النبيّ تحسّساً وانزعاجاً من بعض الأطراف بعد تأكيده المستمر على مرجعيّة عليّ عليه‌السلام وصلاحيّته لإتمام مسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصاً بعد بيعة الغدير، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخلو الظرف من التوتر السياسي في المدينة ليتم استلام علي عليه‌السلام لزمام الدولة من بعده دون صِدام وشجار; ولهذا عقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءً وسلّمه إلى أُسامة بن زيد ـ القائد الشاب الذي نصبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إشارة بليغة إلى أهمية الكفاءة في القيادة ـ وجعل تحت إمرته شيوخ الأنصار والمهاجرين، وقال له: (سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش فاُغز صباحاً على أهل اُبنى) .

ــــــــــــ

(١) عقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللواء لاُسامة في صفر عام ( ١١ هـ ) .

١٧٥

ولكنّ روح التمرد والطمع في السلطان وقلّة الانضباط دفعت بعض العناصر إلى عدم التسليم التام لأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعلّها كانت عارفة بالأهداف التي قصدها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن هنا حاولت أن تؤخّر حركة الجيش المجتمع في معسكر (الجرف). وبلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فغضب وخرج ـ وهو ملتحف قطيفة، وقد عصَّبَ جبهته بعصابة من ألم الحمّى التي أصابته ـ إلى المسجد فصعد المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه وقال:( أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أُسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لَخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ وإنّهما لمخيلان لكل خير (١) ، واستوصوا به خيراً فإنه من خياركم) (٢) .

واشتدت الحمى برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يُغفله ثقل المرض عن الاهتمام الكبير لخروج الجيش فكان يقول:(أنفذوا جيش أُسامة) (٣) لكل من كان يعوده من أصحابه ويزيد إصراراً بقوله:(جهّزوا جيش أُسامة لعن الله من تخلف عنه) (٤) . وأوصل بعض المسلمين أنباء تدهور صحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معسكر المسلمين في الجرف فرجع أُسامة لِيعود النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحثّه النبيّ على المضيّ نحو هدفه الذي رسمه له وقال له:(اُغد على بركة الله) .

فعاد أُسامة مسرعاً إلى جيشه يحثه على الرحيل والتوجه للقيام بالمهمة المخوّلة إليه ولكن المتقاعسين وذوي الأطماع في الخلافة تمكّنوا من عرقلة مسيرة الجيش زاعمين أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتضر، بالرغم من تأكيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتعجيل في المسير وعدم التردّد في المهمّة التي جعلها على عاتق جيش أُسامة.

ــــــــــــ

(١) بمعنى أنهما ممن يتفرّس فيهما كل خير. والخوليّ: هو الراعي الحسن القيام على المال.

(٢) الطبقات الكبرى: ٢ / ١٩٠، ط دار الفكر.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الملل والنحل : ١ / ٢٣.

١٧٦

الفصل الرابع: أيام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخيرة

١ ـ الحيلولة دون كتابة الوصية :

ورغم ثقل الحمى وألم المرض خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستنداً على عليعليه‌السلام والفضل بن العباس ليصلي بالناس وليقطع بذلك الطريق على الوصوليين الذين خطّطوا لمصادرة الخلافة والزعامة التي طمحوا لها من قبل حيث تمرّدوا على أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج مع جيش أُسامة بكل بساطة والتفت النبيّ ـ بعد الصلاة ـ إلى الناس فقال:(أيها الناس سُعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ الله، ولم اُحرّم إلا ما حرّم الله) (١) فأطلق بقوله هذا تحذيراً آخر أن لا يعصوه وإن لاحت في الأفق النوايا السيئة التي ستجلب الويلات للأُمة حين يتزعّمها جهّالها.

واشتد مرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجتمع الصحابة في داره ولحق بهم من تخلّف عن جيش أُسامة فلامهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تخلّفهم واعتذروا بأعذار واهية. وحاول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريقة أخرى أن يصون الأمة من التردّي والسقوط فقال لهم: ايتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، فقال عمر ابن الخطاب: إنّ رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله (٢) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٩٥٤، الطبقات الكبرى: ٢ / ٢١٥.

(٢) صحيح البخاري كتاب العلم باب كتابة العلم وكتاب الجهاد باب جوائز الوفد.

١٧٧

وهكذا وقع التنازع والاختلاف وقالت النسوة من وراء الحجاب: إئتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته. فقال عمر: اسكتن فإنكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتنّ أعينكن وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :هن خير منكم (١) .

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع .

وكم كانت الأمة بحاجة ماسة إلى كتاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا، حتى أن إبن عباس كان يأسف كلما يذكر ذلك ويقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله(٢) .

ولم يصرّ نبي الرحمة على كتابة الكتاب بعد اختلافهم عنده خوفاً من تماديهم في الإساءة وإنكارهم لما هو أكبر، فقد علمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما في نفوسهم، وحين راجعوه ثانية بشأن الكتاب قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أبعد الذي قلتم؟!) (٣) وأوصاهم ثلاث وصايا، لكن كتب التأريخ لم تذكر سوى اثنتين منها وهما: إخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد كما كان يجيزهم.

وعلّق السيد محسن الأمين العاملي على ذلك قائلاً: والمتأمل لا يكاد يشكّ في أن الثالثة سكت عنها المحدّثون عمداً لا نسياناً وأنّ السياسة قد اضطرتهم إلى السكوت عنها وتناسيها وأنّها هي طلب الدواة والكتف ليكتبها لهم(٤) .

٢ ـ الزهراء عليها‌السلام تزور أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أقبلت الزهراءعليها‌السلام وهي تجر أذيال الحزن وتتطلع إلى أبيها وهو على

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى : ٢ / ٢٤٤ ، كنز العمال: ٣ / ١٣٨.

(٢) صحيح البخاري كتاب العلم: ١ / ٢٢ و ٢ / ١٤، الملل والنحل: ١ / ٢٢، الطبقات الكبرى: ٢ / ٢٤٤.

(٣) بحار الأنوار: ٢٢ / ٤٦٩.

(٤) أعيان الشيعة: ١ / ٢٩٤ راجع صحيح البخاري: باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٧٨

وشك الالتحاق بربّه فجلست عنده منكسرة القلب دامعة العين وهي تردد:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمالَ اليتامى عصمة للأرامل

وفي هذه اللحظات فتح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينيه وقال بصوت خافت:يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (١) .

وكأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد بذلك أن يهيّىء ابنته فاطمةعليها‌السلام لما سيجري من أحداث مؤسفة فإن ذلك كان هو الأنسب لتلك من قول أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

ثم إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أومأ إلى حبيبته الزهراءعليها‌السلام أن تدنو منه ليحدثها فانحنت عليه فسارّها بشيء فبكت ثم سارّها ثانية فضحكت. وقد أثارت هذه الظاهرة فضول بعض الحاضرين فسألوها عن سرّ ذلك فقالتعليها‌السلام :ما كنت لاُفشي سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكنّها سئلت بعد وفاة أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقالت: أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قد حضر أجله وأنه يقبض في وجعه هذا، فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت (٢) .

٣ ـ اللحظات الأخيرة من عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وكان عليعليه‌السلام ملازماً للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازمة ذي الظل لظلّه حتى آخر لحظات حياته الشريفة وهو يوصيه ويعلّمه ويضع سرّه عنده. وفي الساعة

ــــــــــــ

(١) آل عمران (٣): ١٤٤ .

(٢) الطبقات الكبرى: ٢ / ٢٤٧، الكامل في التأريخ: ٢ / ٢١٩.

١٧٩

الأخيرة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادعوا لي أخي ـ وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بعثه في حاجة فجاءه بعض المسلمين فلم يعبأ بهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى جاء عليعليه‌السلام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: اُدن مني. فدنا عليعليه‌السلام فاستند إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه حتى بدت عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علامات الاحتضار(١) ، وتوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في حجر عليعليه‌السلام كما قد صرّح بذلك عليعليه‌السلام نفسه في إحدى خطبه(٢) الشهيرة.

٤ ـ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومراسم دفنه :

ولم يكن حول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اللحظات الأخيرة إلاّ علي بن أبي طالب وبنو هاشم ونساؤه. وقد علم الناس بوفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الضجيج والصراخ الذي علا من بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزناً على فراق الحبيب، وخفقت القلوب هلعة لرحيل أشرف خلق الله. وانتشر خبر الوفاة في المدينة انتشار النار في الهشيم ودخل الناس في حزن وذهول رغم أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد مهّد لذلك ونعى نفسه الشريفة عدّة مرات وأوصى الأمة بما يلزمها من طاعة وليّها وخليفته من بعده علي ابن أبي طالب. لقد كانت وفاته صدمة عنيفة هزّت وجدان المسلمين، فهاجت المدينة بسكانها وازدادت حيرة المجتمعين حول دار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام كلمة عمر بن الخطاب التي قالها وهو يهدد بالسيف: إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات، إنه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران(٣) .

ورغم أ نّه لا تشابه بين غياب موسىعليه‌السلام ووفاة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن مواقف عمر التالية لعلّها تكشف النقاب عن إصراره على هذه المقارنة.

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى: ٢ / ٢٦٣.

(٢) نهج البلاغة: خطبة ١٩٧.

(٣) الكامل في التأريخ: ٢ / ٣٢٣، الطبقات الكبرى : ٢ / ٢٦٦، السيرة النبوية لزيني دحلان: ٢ / ٣٠٦.

١٨٠