اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)0%

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 215

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 115472
تحميل: 8897

توضيحات:

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115472 / تحميل: 8897
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الثاني: سنّة البشارة على مدى العصور

لقد صرّح القرآن الكريم بأن العهد التاريخي للبشرية قد بدأ بظاهرة وجود النبوّات وبعث الأنبياء وإرسال الرسل. الذين مضوا يقودون مجتمعاتهم نحو حياة أفضل ووجود إنساني أكمل; مما يمكن أن نستنتج منه أنّ إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات البشريّة يعتبر بداية العصر التاريخي للبشرية .

قال تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) .

لقد قضت حكمة الله ورحمته بإرسال الأنبياء حاملين إلى الإنسانية منهاج هدايتها الذي يخرجها من عهد الغريزة إلى عهد العقل، ومن منطق الصراع الذي مرجعه الغريزة والقوّة إلى منطق النظام ومرجعه القانون. وخرج المجتمع البشري بالنبوّات عن كونه تكويناً حيوانياً ـ بيولوجيّاً إلى كونه ظاهرة عقلية روحية وحققت النبوّات للإنسان مشروع وحدة أرقى من وحدته الدموية البيولوجية وهي الوحدة القائمة على أساس المعتقد، وبذلك تطوّرت العلاقات الإنسانية

ــــــــــــ

(١) البقرة (٢) : ٢١٣ .

٢١

مرتفعة من علاقات المادة إلى علاقات المعاني والاختلافات التي نشأت في النوع الإنساني بعد إشراق عهد النبوّات غدت اختلافات في المعنى، واختلافات في الدين والمعتقد; فإن أسباب الصراع لم تُلغ بالدين الذي جاءت به النبوّات بل استمرّت وتنوّعت، ولكن المرجع لم يعد الغريزة بل غدا القانون مرجعاً في هذا المضمار والقانون الذي يتضمنه الدين يكون قاعدة ثابتة لوحدة الإنسانية وتعاونها وتكاملها(١) .

وأوضح الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام في الخطبة الأُولى من نهج البلاغة ـ بعد أن استعرض تاريخ خلق العالم وتاريخ خلق آدم عليه‌السلام وإسكانه في الأرض ـ أن إشراق النبوّة وتسلسلها على مدى العصور هو المحور في تاريخ الإنسان وحركته نحو الكمال كما صرّح به القرآن الكريم موضحاً منهجه في التعامل مع التاريخ.

قالعليه‌السلام : (... واصطفى سُبحانه من ولد (آدم) أنبياء، أخذ على الوحي ميثاقهم(٢) ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم(٣) ، فجهلوا حقّه، واتّخذوا الأنداد معه(٤) ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته(٥) ، واقتطعتهم عن عبادته ..

فبعث فيهم رُسُله ، وواتر إليهم أنبياءه; ليستأدُوهم ميثاق فطرته(٦) ، ويذكّروهم مَنسيَّ نعمته، ويحْتجّوا عليهم بالتّبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول (٧) ، ويُروهم آيات

ــــــــــــ

(١) حركة التاريخ عند الإمام عليعليه‌السلام : ٧١ ـ ٧٣ .

(٢) أخذ عليهم الميثاق أن يبلّغوا ما أوحي إليهم ، أو أخذ عليهم أن لا يشرّعوا للناس إلاّ ما يوحى إليهم.

(٣) عهد الله إلى الناس : هو ما يعبر عنه بميثاق الفطرة.

(٤) الأنداد: المعبودين من دونه سبحانه وتعالى .

(٥) اجتالتهم : صرفتهم عن قصدهم الذي وُجّهوا إليه بالهداية المغروزة في فطرهم .

(٦) كأن الله تعالى بما أودع في الإنسان من الغرائز والقوى، وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى، قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أوتي من ذلك فيما خلق له، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات، فبعث النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق .

(٧) دفائن العقول : أنوار العرفان التي تكشف للإنسان أسرار الكائنات ، وترتفع به إلى الإيقان بصانع الموجودات، وقد يحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام وحجب من الخيال، فيأتي النبيون لإثارة تلك المعارف الكامنة، وإبراز تلك الأسرار الباطنة.

٢٢

المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تُحْييهم، وآجال تُفنيهم، وأوصاب تُهرمهم(١) ، وأحداث تتابع عليهم.

ولم يُخْل الله سبحانه خلقه من نبيٍّ مرسل ، أو كتاب مُنْزل ، أو حجّة لازمة، أو محجّة قائمة(٢) .

رُسلٌ لا تقصِّرُ بهم قلّة عددهم، ولا كثرة المكذّبين لهم : من سابق سُمّي له من بعده، أو غابر عرّفه من قبله(٣) .

على ذلك نسلت القرون(٤) ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء .

إلى أن بعث الله سبحانه مُحمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لإنجاز عدته (٥) ، وإتمام نبوّته.

مأخوذاً على النبيّين ميثاقه، مشهورة سماته(٦) ، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ مللٌ متفرّقة وأهواءٌ منتشرة، وطوائف متشتِّتة، بين مشبِّه لله بخلقه، أو مُلحد في اسمه، أو مشير إلى غيره(٧) .

فهداهم به من الضّلالة ، وأنقذهم بمكانه من الجهالة.

ــــــــــــ

(١) السقف المرفوع : السماء. والمهاد الموضوع : الأرض والأوصاب : المتاعب .

(٢) المحجة : الطريق القويمة الواضحة .

(٣) من سابق بيان للرسل ، وكثير من الأنبياء السابقين سميت لهم الأنبياء الذين يأتون بعدهم فبشروا بهم، كما ترى ذلك في التوراة والغابر : الذي يأتي بعد أن يشير به السابق جاء معروفاً بتعريف من قبله .

(٤) مضت متتابعة .

(٥) الضمير في عدته لله تعالى : لأن الله وعد بإرسال محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لسان أنبيائه السابقين. وكذلك الضمير في نبوته : لأنّ الله تعالى أنبأ به، وأنّه سيبعث وحياً لأنبيائه. فهذا الخبر الغيبي قبل حصوله يسمى نبوة. ولما كان الله هو المخبر به أضيفت النبوة إليه .

(٦) سماته : علاماته التي ذكرت في كتب الأنبياء السابقين الذين بشّروا به .

(٧) الملحد في إسم الله : الذي يميل به عن حقيقة مسمّاه فيعتقد في الله صفات يجب تنزيهه عنها. والمشير إلى غيره، الذي يشرك معه في التصرّف إلهاً آخر فيعبده ويستعين به.

٢٣

ثم اختار سبحانه لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاءَهُ، ورضي له ما عنده ، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخلَّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها إذْ لم يتْرُكوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا علم قائم) (١) .

إنّ بشائر الأنبياء السابقين بنبوّة الأنبياء اللاحقين تنفع الأجيال المعاصرة لهم وكذا الأجيال اللاحقة; إذ تفتح عيونهم وتجعلهم على أهبة الاستقبال للنبيّ المبشَّر بنبّوته، كما أنّها تزيل عنهم الريب وتعطيهم مزيداً من الثقة والاطمئنان.

على أن اليأس من الإصلاح إذا ملأ القلب يجعل الإنسان يفكر بطرق أبواب الشّر والخيانة، فالبشائر بمجي الأنبياء المصلحين تزيل اليأس من النفوس التي تنتظر الإصلاح وتوجّهها إلى حبّ الحياة وقرع أبواب الخير.

وتزيد البشائر إيمان المؤمنين بنبوّة نبيّهم، وتجعل الكافرين في شكٍّ من كفرهم، فيضعف صمودهم أمام دعوة النبي إلى الحقّ ممّا يمهّد لقبولهم الدعوة.

وإذا أدّت البشارة إلى حصول الثقة فقد لا تُطلب المعجزة من النبيّ، كما تكون النبوّة المحفوفة بالبشارة أنفذ إلى القلوب وأقرب إلى الإذعان بها. على أنّها تبعّد الناس عن وطأة المفاجأة أمام واقع غير منتظر، وتخرج دعوة النبيّ عن الغرابة في نفوس الناس(٢) .

على أن الأنبياء جميعاً يشكّلون خطاً واحداً، فالسابق يبشّر باللاحق، واللاحق يؤمن بالسابق. وقد تكفّلت الآية (٨١) من سورة آل عمران بالتصريح بسنّة البشائر هذه. فضلاً عن الشواهد والتطبيقات التي سوف نلاحظها في البحث الآتي.

ــــــــــــ

(١) أي أنّ الأنبياء لم يهملوا أممهم مما يرشدهم بعد موت أنبيائهم، وقد كان من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل ما كان منهم، فإنّه خلّف في أمته كتاب الله تعالى حاوياً لجميع ما يحتاجون إليه في دينهم، كما خلّف أهل بيته المعصومين وجعلهم قرناء للكتاب المجيد كما صرّح بذلك في حديث الثقلين الذي تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورواه جمع غفير من المحدثين.

(٢) محمد في القرآن : ٣٦ ـ ٣٧.

٢٤

بشارات الأنبياء برسالة محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ لقد نصّ القرآن الكريم على بشارة إبراهيم الخليلعليه‌السلام برسالة خاتم النبيينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسلوب الدعاء قائلاً ـ بعد الكلام عن بيت الله الحرام في مكة المكرّمة ورفع القواعد من البيت والدعاء بقبول عمله وعمل إسماعيلعليه‌السلام وطلب تحقيق اُمة مسلمة من ذريتهما ـ :( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

٢ ـ وصرّح القرآن الكريم بأنّ البشارة بنبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمي كانت موجودة في العهدين القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل). والعهدان كانا في عصر نزول القرآن الكريم وظهور محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو لم تكن البشارة موجودة فيهما لجاهر بتكذيبها أصحاب العهدين.

قال تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ) (٢) .

٣ ـ وصرّحت الآية السادسة من سورة الصف بأن عيسىعليه‌السلام صدَّقَ التوراة بصراحة وبشّر برسالة نبيّ من بعده اسمه أحمد. وقد خاطب عيسى عليه‌السلام بني إسرائيل جميعاً لا الحواريين فحسب.

أهل الكتاب ينتظرون خاتم النبييّن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لم يكتف الأنبياء السابقون بذكر الأوصاف العامة للنبيّ المبشَّر به، بل

ــــــــــــ

(١) البقرة (٢) : ١٢٩.

(٢) الأعراف (٧) : ١٥٧.

٢٥

ذكروا أيضاً العلائم التي يستطيع المبَشَّرون من خلالها معرفته بشكل دقيق، مثل : محل ولادته، ومحل هجرته وخصائص زمن بعثته، وعلائم جسمية خاصة وخصائص يتفردّ بها في سلوكه وشريعته.. ولهذا قال القرآن عن بني إسرائيل بأنهم كانوا يعرفون رسول الإسلام المبشَّر به في العهدين كما يعرفون أبناءَهم(١) .

بل رتبوا على ذلك آثاراً عملية فاكتشفوا محل هجرته ودولته فاستقروا فيها(٢) وأخذوا يستفتحون برسالته على الذين كفروا ويستنصرون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأوس والخزرج(٣) وتسرّبت هذه الأخبار إلى غيرهم عن طريق رهبانهم وعلمائهم فانتشرت في المدينة وتسرّبت إلى مكة(٤) .

وذهب وفد من قريش بعد إعلان الرسالة إلى اليهود في المدينة للتَثبّت من صحة دعوى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوّة وحصلوا على معلومات اختبروا بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) واتضح لهم من خلالها صدق دعواه.

وقد آمن جمع من أهل الكتاب وغيرهم بالنبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أساس هذه العلائم التي عرفوها من دون أن يطلبوا منه معجزة خاصة(٦) ، وهذه البشائر تحتفظ بها لحد الآن بعض نسخ التوراة والإنجيل(٧) .

وهكذا تسلسلت البشائر بنبوة خاتم النبيين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ولادته،

ــــــــــــ

(١) الانعام (٦) : ٢٠.

(٢) سيرة رسول الله : ١ / ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) البقرة (٢): ٨٩ .

(٤) أشعة البيت النبوي : ١ / ٧٠ ، عن الأغاني: ١٦ / ٧٥ ، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٢ ، حياة نبي الإسلام : ٢٣ ، عن سيرة ابن هشام: ١ / ١٨١ ، وأعلام الورى : ٢٦.

(٥) راجع ما جاء في شأن نزول سورة الكهف.

(٦) المائدة (٥): ٨٣ .

(٧) سيرة رسول الله وأهل بيته : ١ / ٣٩ ، إنجيل يوحنّا وأشعة البيت النبوي : ١ / ٧٠ ، عن التوراة وراجع: بشارات عهدين، والبشارات والمقارنات.

٢٦

وخلال فترة حياته قبل بعثته، وقد عرف واشتهر منها إخبار بحيرا الراهب وغيره إبّان البعثة المباركة(١) .

وقد شهد علي أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذه الحقيقة التأريخية حين قال في إحدى خطبه:(... إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإنجاز عِدَتِه وإتمام نبوّتِه، مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورةً سِماتُه..) (٢) .

وقد جاء في طبقات ابن سعد عن سهل مولى عتيبة انه كان نصرانياً من أهل حريس، وانه كان يتيماً في حجر أمه وعمّه وأنه كان يقرأ الإنجيل، قال: (...فأخذت مصحفاً لعمي فقرأته حتّى مرّت بي ورقة فأنكرت كتابتها حين مرّت بي ومسستها بيدي، قال: فنظرت; فإذا فصول الورقة ملصق بغراء ، قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم يكثر الاحتباء ولا يقبل الصدقة ويركب الحمار والبعير ويحتلب الشاة ويلبس قميصاً مرقوعاً، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرّية إسماعيل، اسمه أحمد. قال سهل: فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء عمّي فلّما رأى الورقة ضربني وقال: مالك وفتح هذه الورقة وقراءتها؟! فقلت: فيها نعت النبيّ أحمد، فقال: إنّه لم يأتِ بَعدُ (٣) .

ــــــــــــ

(١) راجع كتب السيرة النبويّة والتفسير حيث تضمّنت جملة من هذه البشائر.

(٢) لاحظ الخطبة الأولى من نهج البلاغة.

(٣) الطبقات الكبرى: ١ / ٣٦٣.

٢٧

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية خاتم النبيينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ الأمي العالم :

لقد تميّز خاتم النبيين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشري(١) ولم ينشأ في بيئة علم وإنما نشأ في مجتمع جاهلي، ولم يكذب أحد هذه الحقيقة التي نادى بها القرآن(٢) .

ترعرع ونما في قوم هم من أشد الأقوام جهلاً وأبعدهم عن العلوم والمعارف، ولقد سمّى هو ذلك العصر بالعصر الجاهلي ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلاّ من عالم خبير بالعلم والجهل والعقل والحمق.

أضف إلى ذلك أنه قد جاء بكتاب يدعو إلى العلم والثقافة والفكر والتعقّل واحتوى على صنوف المعارف والعلوم، وبدأ بتعليم الناس الكتاب والحكمة(٣) وفق منهج بديع حتى أنشأ حضارة فريدة اخترقت الغرب والشرق بعلومها ومعارفها ولا زالت تتلألأ بهاءً ونوراً.

فهو أمي ولكنه يكافح الجهل والجاهلية وعبّاد الأصنام، وبعث بدين قيّم

ــــــــــــ

(١) النحل (١٦) : ١٠٣.

(٢) العنكبوت (٢٩): ٤٨.

(٣) الجمعة (٦٢) : ٢.

٢٨

إلى البشرية وبشريعة عالمية تتحدّى البشرية على مدى التأريخ. فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع كلمه ورجاحة عقله وثقافته ومناهج تربيته.

ومن هنا قال تعالى:( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١) وقال له:( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (٢) .

أجل ، لقد أوحى الله إليه ما أوحى وعلّمه الكتاب والحكمة وجعله نوراً وسراجاً منيراً وبرهاناً وشاهداً ورسولاً مبيناً وناصحاً أميناً ومذكّراً ومبشّراً ونذيراً(٣) .

ولقد شرح الله له صدره وأعدّه لقبول الوحي والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه العصبية والأنانية الجاهلية فكان أسمى قائد عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية والتعليم.

إنها نقلة كبيرة أن يصبح المجتمع الجاهلي في بضع سنين حارساً أميناً ومدافعاً قوياً لكتاب الهداية ومشعل العلم ويقف أمام محاولات التشويه والتحريف، إنها معجزة هذا الكتاب الخالد وذلك الرسول الأمي الرائد والذي كان أبعد الناس ـ في ذلك المجتمع الجاهلي ـ عن الخرافات والأساطير. إنه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به بكل جوانب وجوده.

٢ ـ أوّل المسلمين العابدين :

إن الخضوع المطلق لله خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظيم

ــــــــــــ

(١) الأعراف (٧) : ١٥٨.

(٢) النساء (٤) : ١١٣.

(٣) المائدة (٥) : ١٥ ، الأحزاب (٣٣) : ٤٦ ، النساء (٤): ١٧٤ ، الفتح (٤٨): ٨ ، الزخرف (٤٣): ٢٩ ، الأعراف (٧) : ٦٨ ، الغاشية (٨٨) : ٢١ ، الإسراء (١٧) : ١٠٥ ، المائدة (٥) : ١٩ .

٢٩

قدرته ونفاذ حكمته، والعبودية الاختيارية الكاملة تجاه الإله الأحد الفرد الصمد هي القمة الاولى التي لابد لكل إنسان أن يجتازها كي يتهيّأ للاجتباء والاصطفاء الإلهي. وقد شهد القرآن الكريم بذلك لهذا النبيّ العظيم حين قال عنه :( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (١) .

إنّه وسام الكمال الذي حازه هذا العبد المسلم وفاق في عبوديته من سواه على الإطلاق وتجلّت هذه العبودية المثلى في قوله وسلوكه حتى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(قرّة عيني في الصلاة) (٢) فهو ينتظر وقت الصلاة ويشتد شوقه للوقوف بين يدي الله ويقول لمؤذّنه بلال:أرحنا يا بلال (٣) وقد كان يحدّث أهله ويحدّثونه فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه(٤) . وكان إذا صلّى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل(٥) ويبكي حتى يبل مصلاّه خشية من الله عزّ وجلّ(٦) ، وكان يصلّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟! فيقول:أفلا أكون عبداً شكوراً (٧) ؟

وكان يصوم شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر(٨) ، وكان اذا دخل شهر رمضان يتغيّر لونه وتكثر صلاته ويبتهل في الدعاء (٩) واذا دخل العشر

ــــــــــــ

(١) الأنعام (٦): ١٦١ ـ ١٦٣.

(٢) أمالي الطوسي: ٢ / ١٤١.

(٣) بحار الأنوار: ٨٣ / ١٦.

(٤) أخلاق النبي وآدابه: ٢٥١.

(٥) المصدر السابق : ٢٠١.

(٦) سنن النبي: ٣٢.

(٧) أخلاق النبي : ١٩٩ ، وصحيح البخاري : ١ / ٣٨١ / الحديث ١٠٧٨.

(٨) وسائل الشيعة: ٤ / ٣٠٩.

(٩) سنن النبي: ٣٠٠.

٣٠

الأواخر منه شدّ المئزر واجتنب النساء وأحيى الليل وتفرّغ للعبادة(١) . وكان يقول عن الدعاء :(الدعاء مخّ العبادة) (٢) و(سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض) (٣) وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدعاء في كل عمل كبير أو صغير، حتى كان يستغفر الله كل يوم سبعين مرّة ويتوب إليه سبعين مرة من غير ذنب(٤) ، ولم يستيقظ من نوم قطّ إلاّ خرّ لله ساجداً(٥) وكان يحمد الله في كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة ويقول:(الحمد لله ربّ العالمين كثيراً على كل حال) (٦) ولقد كان دؤوباً على قراءة القرآن وشغوفاً به.

ونزل عليه جبرئيل مخففاً لمّا أجهد نفسه بالعبادة بقوله تعالى:( طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) (٧)

٣ ـ الثقة المطلقة بالله تعالى:

قال الله تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أليس الله بكاف عبده ) (٨) .

وقال له أيضاً :( وتوكّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ) (٩) .

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال الله تعالى على ثقة مطلقة به سبحانه.

ــــــــــــ

(١) الكافي: ٤ / ١٥٥.

(٢) المحجة البيضاء: ٢ / ٢٨٢.

(٣) المصدر السابق : ٢ / ٢٨٤.

(٤) بحار الأنوار: ١٦ / ٢١٧.

(٥) المصدر السابق : ١٦ / ٢٥٣.

(٦) الكافي : ٢ / ٥٠٣ .

(٧) طه (٢٠) : ١ ـ ٢ .

(٨) الزمر (٣٩): ٣٦.

(٩) الشعراء (٢٦): ٢١٧ ـ ٢١٩.

٣١

جاء عن جابر أنه قال : كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلق بالشجرة فاخترطه وقال: تخافني؟ قال:لا . قال: فمن يمنعك منّي؟ قال:الله . فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله السيف فقال: من يمنعك منّي؟ فقال:كن خير آخذ . فقال:تشهد أن لا اله الاّ الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا اُقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس(١) .

٤ ـ الشجاعة الفائقة :

قال الله تعالى:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ) (٢) وجاء عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ـ الذي طأطأ له فرسان العرب ـ أنّه:كنّا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ اتّقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما يكون أحد أدنى من القوم منه (٣) .

ووصف المقداد ثبات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد بعد أن تفرّق الناس وتركوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده فقال: والذي بعثه بالحق إن رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زال شبراً واحداً. إنه لفي وجه العدوّ تثوب إليه طائفة من أصحابه مرّة

وتتفرّق عنه مرّة، فربّما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أويرمي بالحجر حتى تحاجروا(٤) .

ــــــــــــ

(١) رياض الصالحين (للنووي) : ٥ / الحديث ٧٨ ، وصحيح مسلم: ٤ / ٤٦٥.

(٢) الأحزاب (٣٣): ٣٩.

(٣) فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ١ / ١٣٨.

(٤) مغازي الواقدي: ١ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٣٢

٥ ـ زهد منقطع النظير :

قال تعالى:( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (١) .

وعن أبي أمامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه قال:عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا ربّ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً.. فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ شكرتُك وحمدتُك (٢) .

ونام على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقيل له: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءاً فقال:ما لي وما للدنيا؟! ما أنا في الدنيا الاّ كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها (٣) .

وقال ابن عباس: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءاً وكان اكثر خبزهم خبز الشعير(٤) .

وقالت عائشة: ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلاّ إحداهما تمر(٥) .

وقالت : تُوفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعاً من شعير(٦) .

وعن أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبز، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة . فقال:

ــــــــــــ

(١) طه (٢٠): ١٣١.

(٢) سنن الترمذي : ٤ / ٥١٨ / الحديث ٢٣٧٧.

(٣) المصدر السابق .

(٤) سنن الترمذي : ٤ / ٥٠١ / الحديث ٢٣٦٠.

(٥) صحيح البخاري: ٥ / ٢٣٧١ / الحديث ٦٠٩٠.

(٦) صحيح البخاري : ٣ / ١٠٦٨ / الحديث ٢٧٥٩.

٣٣

أما إنّه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام (١) .

وعن قتادة قال: كنّا عند أنس وعنده خبّاز له فقال: ما أكل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبزاً مرقّقاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله (٢) .

٦ ـ جود وحلم عظيمان :

قال ابن عبّاس: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان.. إن جبريل كان يلقاه في كل سنة من رمضان.. فإذا لقيه جبريل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة(٣) .

وقال جابر: ما سُئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً قطّ فقال لا(٤) .

وروي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى صاحب بزٍّ فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار. فقال: يا رسول الله أكسني قميصاً كساك الله من ثياب الجنة فنزع القميص فكساه إيّاه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم وبقي معه درهمان فاذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله، دفع إليّ أهلي درهمان اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فدفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها الدرهمين فقالت: أخاف أن يضربوني فمشى معها إلى أهلها فسلّم فعرفوا صوته، ثمّ عاد فسلّم، ثمّ عاد فثلّث، فردّوا، فقال: أسمعتم أوّل السلام؟ فقالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام. فما أشخصك بأبينا وأمِّنا؟ قال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها ، قال صاحبها: هي حرّة لوجه الله لممشاك معها. فبشّرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخير وبالجنّة; وقال: لقد بارك الله في

ــــــــــــ

(١) الطبقات (لابن سعد) : ١ / ٤٠٠.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٥٨٢ / الحديث ١١٨٨٧.

(٣) صحيح مسلم : ٤ / ٤٨١ / الحديث ٣٣٠٨ ، ومسند أحمد: ١ ٠/ ٥٩٨ / الحديث ٣٤١٥.

(٤) سنن الدارمي: ١ / ٣٤.

٣٤

العشرة كسا الله نبيّه قميصاً ورجلاً من الأنصار قميصاً وأعتق منها رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته (١) .

وكان إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل(٢) .

وعن عائشة: أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما انتقم لنفسه شيئاً يؤتى إليه إلاّ أن تنتهك حرمات الله. ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله ولا سُئل شيئاً قط فمنعه إلاّ أن يُسألَ مأثماً فإنه كان أبعد الناس منه(٣) .

وعن عبيد بن عمير: أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أتي في غير حدٍّ إلاّ عفا عنه(٤) .

وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين. فما قال لي اُفٍّ قطّ، وما قال لشي صنعتهُ: لِم صنَعْتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لِمَ تركتَه؟(٥) .

وجاءه أعرابي فجذب رداءه بشدّة حتى أثرت حاشية الرداء على عاتق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء .

لقد عُرفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعفو والسماحة طيلة حياته... فقد عفا عن وحشي قاتل عمه حمزة... كما عفا عن المرأة اليهودية التي قدمت له شاة مسمومة وعفا عن أبي سفيان وجعل الدخول إلى داره أماناً من القتل. وعفا عن قريش التي عتت عن أمر ربّها وحاربته بكل ما لديها.. وهو في ذروة القدرة والعزّة قائلاً لهم: (اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون اذهبوا فأنتم الطلقاء) (٦) .

ــــــــــــ

(١) المعجم الكبير (الطبراني) : ١٢ / ٣٣٧ / الحديث ١٣٦٠٧.

(٢) حياة النبي وسيرته : ٣ / ٣١١ .

(٣) حياة النبي وسيرته : ٣ / ٣٠٦.

(٤) المصدر : ٣ / ٣٠٧.

(٥) صحيح البخاري : ٥ / ٢٢٦٠ / الحديث ٥٧٣٨.

(٦) محمد في القرآن: ٦٠ ـ ٦٥.

٣٥

لقد أفصح القرآن عن عظمة حلم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى:( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) (١) ، ووصف مدى رأفته ورحمته بقوله تعالى:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (٢) .

٧ ـ حياؤه وتواضعه :

عن أبي سعيد الخدريّ: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها وإذا كره شيئاً عُرف في وجهه(٣) .

وعن عليعليه‌السلام : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله قال:نعم وإذا أراد أن لا يفعل سكت، وكان لا يقول لشيء لا(٤) .

وعن يحيى بن أبي كثير أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:آكُل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد. فإنّما أنا عبد (٥) كما اشتهر عنه أنه كان يسلّم على الصبيان(٦) .

وكلّم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً فأرعد. فقال:هَوِّن عليك فإني لستُ بملِك إنّما أنا ابن امرأة تأكل القديد (٧) .

وعن أبي أمامة: خرج علينا رسول الله متوكّئاً على عصا، فقمنا إليه فقال:(لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) (٨) .

ــــــــــــ

(١) آل عمران (٣): ١٥٩.

(٢) التوبة (٩): ١٢٨.

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٠٦ / ألحديث ٣٣٦٩.

(٤) مجمع الزوائد: ٩ / ١٣.

(٥) الطبقات ( لابن سعد ) : ١ / ٣٧ / ومجمع الزوائد: ٩ / ١٩.

(٦) حياة النبي وسيرته : ٣ / ٣١٣ / عن ابن سعد.

(٧) سنن ابن ماجة : ٢ / ١١٠١ / الحديث ٣٣١٢.

(٨) سنن أبي داود : ٤ / ٣٥٨ / الحديث ٥٢٣٠.

٣٦

وكان يداعب أصحابه ولا يقول إلاّ حقّاً(١) ولقد شارك أصحابه في بناء المسجد(٢) وحفر الخندق(٣) وكان يكثر من مشاورة أصحابه بالرغم من أنّه كان أرجح الناس عقلاً(٤) .

وكان يقول :(اللهم أحيني مسكيناً وتوفّني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين وإنّ أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة) (٥) .

هذه صورة موجزة جداً عن بعض ملامح شخصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض جوانب سلوكه الفردي والاجتماعي. وهناك صور رائعة وكثيرة عن سلوكه وسيرته الإدارية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والأسرية التي تستحق الدراسة المعمّقة للتأسي بها والاستلهام منها، نتركها إلى الفصول اللاحقة.

ــــــــــــ

(١) سنن الترمذي : ٤ / ٣٠٤ / الحديث ١٩٩٠.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٨٠ .

(٣) الطبقات (لابن سعد): ١ / ٢٤٠.

(٤) الدر المنثور : ٢ / ٣٥٩ ، والمواهب اللدنيّة: ٢ / ٣٣١.

(٥) سنن الترمذي : ٤ / ٤٩٩ / الحديث ٢٣٥٢.

٣٧

الباب الثاني: فيه فصول:

الفصل الأول: دور الولادة والنشأة.

الفصل الثاني دور الفتوّة والشباب.

الفصل الثالث من الزواج إلى البعثة.

الفصل الأول: دور الولادة والنشأة

١ ـ ملامح انهيار المجتمع الوثني:

استحكم الفساد والظلم في مجتمع الجزيرة في الفترة التي سبقت البعثة النبوية فلم تعد كتلة المجتمع واحدة ولم تكن الخصائص الاجتماعية والثقافية التي أوجدتها طبيعة الحياة في الصحراء كافية لإيقاف حالة الانهيار التي بدت ملامحها على المجتمع في الجزيرة العربية. وما الأحلاف التي نشأت إلا تعبير عن ظاهرة اجتماعية لمقاومة ذلك التحلل ولكنها في تعددها دليل على انعدام القوة المركزية في المجتمع.

٣٨

ولا نلاحظ حركة إصلاحية تغييرية يذكرها لنا التأريخ تكون قد سعت للنهوض بالمجتمع والارتقاء به نحو الحياة الفضلى سوى حركة بعض الأفراد التي تعبر عن حالة الرفض لهذا التفسخ والظلم الاجتماعي متمثلة في حالة التحنّث التي أبداها عدد قليل من أبناء الجزيرة العربية ولم ترتق إلى مستوى النظرية أو الحركةالتغييرية الفاعلة في المجتمع... (١) وتفكك المجتمع القرشي قد نلاحظه أيضاً في ظاهرة اختلافهم حول بناء الكعبة في الوقت الذي كانت قريش من أعز القبائل العربية وأشدها تماسكاً. ويمكن لنا أن نستدل على تمادي المجتمع في الفساد من خلال الإنذارات المتكررة من اليهود القاطنين في الجزيرة العربية واستفتاحهم على أهالي الجزيرة بظهور المصلح المنقذ للبشرية برسالته السماوية وكانوا يقولون لهم: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم (٢) .

٢ ـ إيمان آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترعرع في عائلة تدين بالتوحيد وتتمتع بسمو الأخلاق وعلو المنزلة. فإيمان جدّه عبد المطلب نلمسه من كلامه ودعائه عند هجوم أبرهة الحبشي لهدم الكعبة إذ لم يلتجئ إلى الأصنام بل توكل على الله لحماية الكعبة(٣) بل يمكن أن نقول إن عبد المطلب كان عارفاً بشأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومستقبله المرتبط بالسماء من خلال الأخبار التي أكدت ذلك وتجلّت اهتماماته به في الاستسقاء بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو رضيع، وما ذلك إلاّ لما كان يعلمه من مكانته عند الله المنعم الرازق(٤) ، والشاهد الآخر هو تحذيره لأُم أيمن من الغفلة عنه عندما كان صغيراً(٥) .

وكذلك حال عمه أبي طالب الذي استمر في رعاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعمه لأجل تبليغ الرسالة والصدع بها حتى آخر لحظات عمره المبارك متحملاً في ذلك

ــــــــــــ

(١) راجع السيرة النبوية: ١/٢٢٥.

(٢) بحار الأنوار: ١٥/٢٣١، وراجع السيرة النبوية: ١/٢١١، البقرة: ٢/٨٩.

(٣) السيرة النبوية: ١ / ٤٣ ـ ٦٢ ، الكامل في التأريخ: ١ / ٢٦٠ ، بحار الأنوار: ٥ / ١٣٠.

(٤) السيرة الحلبية : ١ / ١٨٢ ، الملل والنحل للشهرستاني: ٢ / ٢٤٨.

(٥) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ١ / ٦٤، وراجع تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٠.

٣٩

أذى قريش وقطيعتهم وحصارهم له في الشعب. ونلمس هذا في ما روي عن أبي طالبعليه‌السلام في عدة مواقف ترتبط بحرصه على سلامة حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وأما والدا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالروايات دالّة على نبذهما للشرك والأوثان ويكفي دليلاً قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات) وفيه إيعاز إلى طهارة آبائه وأمهاته من كل دنس وشرك (٢) .

٣ ـ مولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ما إن استنفذت الديانة النصرانية أغراضها في المجتمع البشري ولم تعد لها فاعلية تذكر حتى حلّت في الدنيا كلّ مظاهر التيه والزّيغ، وأمسى الناس كافة ضُلاّل فتن وحيرة، استخفّتهم الجاهلية الجهلاء، ولم تكن أوضاع الروم بأقل سوءاً من أوضاع منافسيهم في فارس، وما كانت جزيرة العرب أفضل وضعاً من الاثنين. والكل على شفا حفرة من النّار.

وقد وصف القرآن بصورة بليغة جانباً مأساوياً من حياة البشر آنذاك، كما وصف سيد أهل بيت النبوة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ذلك الوضع المأساوي وصفاً دقيقاً عن حس ومعايشة في عدّة خطب، منها قوله في وصف حال المجتمع الذي بُعث فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(أرسله على حين فترة من الرسل وطول هجعة من الأُمم واعتزام من الفتن، وانتشار من الأُمور وتلظّ من الحروب والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها ، قد درست منار الهدى ، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهمة لأهلها ، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية : ١ / ٩٧٩ ، تاريخ ابن عساكر: ١ / ٦٩ ، مجمع البيان: ٧ / ٣٧ ، مستدرك الحاكم: ٢ / ٦٢٣ ، الطبقات الكبرى: ١ / ١٦٨، السيرة الحلبية: ١ / ١٨٩ ، اصول الكافي: ١ / ٤٤٨ ، الغدير: ٧ / ٣٤٥.

(٢) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: ١ / ٥٨ ، وراجع أوائل المقالات للشيخ المفيد: ١٢ و١٣.

٤٠