اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)0%

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 215

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 115686
تحميل: 8903

توضيحات:

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115686 / تحميل: 8903
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخوف، ودثارها السيف) (١) .

في مثل هذا الظرف العصيب الذي كانت تمر به البشرية سطع النور الإلهي فأضاء العباد والبلاد مبشراً بالحياة الكريمة والسعادة الأبدية. وذلك عندما بوركت أرض الحجاز بمولد النبيّ الأكرم محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عام الفيل سنة (٥٧٠ ميلادية) وفي شهر ربيع الأول على ما هو عليه أكثر المحدثين والمؤرخين.

وأما عن يوم ميلادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد حدّده أهل بيتهعليهم‌السلام ـ وهم أدرى بما في البيت ـ فقالوا:هو يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر ، كما هو المشهور بين الإمامية، وعند غيرهم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد في يوم الاثنين الثاني عشر من الشهر نفسه(٢) .

وتتحدث جملة من المصادر التأريخية والحديثية عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادته مثل: انطفاء نار فارس، وزلزال أصاب الناس حتّى تهدّمت الكنائس والبيَع وزال كلّ شيء يُعبد من دون الله عزّ وجل عن موضعه، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها حتّى عُمّيت على السحرة والكهّان أُمورهم، وطلوع نجوم لم تُر من قبل هذا وقد ولدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول: (الله أكبر، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً)(٣) .

واشتهر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بـ: اسمين: (محمّد) و(أحمد) وقد ذكرهما القرآن الكريم، وروى المؤرخون أنّ جدّه عبد المطلب قد سمّاه (محمداً)، وأجاب من سأله عن سبب التسمية قائلاً: أردت أن يحمد في السماء والأرض (٤) كما أن أُمه

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٨٩).

(٢) راجع ، إمتاع الأسماع: ٣ حيث تجد جميع الأقوال المذكورة حول يوم ميلاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٣) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٨ ، السيرة الحلبية: ١ / ٩٢.

(٤) السيرة الحلبية: ١ / ١٢٨.

٤١

آمنة سمّته قبل جده بـ : (أحمد).

وقد بشّر به الإنجيل على لسان عيسىعليه‌السلام ـ كما أخبر القرآن الكريم بذلك وصدّقه علماء أهل الكتاب ـ وقد حكاه قوله تعالى:( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (١) ولا مانع من أن يعرف الشخص باسمين ولقبين وكنيتين في عرف الجزيرة العربية وغيرها.

٤ ـ رضاعه الميمون :

أصبح محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشغل الشاغل لجدّه عبد المطلب الذي فقد ابنه عبد الله ـ وهو أعزّ أبنائه ـ في وقت مبكّر جداً. من هنا أوكل جدّه رضاعه إلى (ثويبة) وهي جارية لأبي لهب كي يتسنى لهم إرساله إلى بادية بني سعد ليرتضع هناك وينشأ في بيئة نقيّة بعيداً عن الأوبئة التي كانت تهدد الأطفال في مكة ويترعرع بين أبناء البادية كما هي عادة أشراف مكة في إعطاء أطفالهم الرضّع إلى المراضع وكانت مراضع قبيلة بني سعد من المشهورات بهذا الأمر، وكانت تسكن حوالي مكة ونواحي الحرم وكانت نساؤهم يأتين إلى مكة في موسم خاص من كل عام يلتمسن الرضعاء خصوصاً عام ولادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كانت سنة جدب وقحط فكنّ بحاجة إلى مساعدة أشراف مكة.

وزعم بعض المؤرخين أنه لم تقبل أية واحدة من تلك المراضع أن تأخذ (محمداً) بسبب يتمه، وأوشكت قافلة المراضع أن ترجع ومع كل واحدة رضيع إلاّ حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية فقد أعرضت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل الأمر كغيرها من المرضعات وحين لم تجد رضيعاً قالت لزوجها: والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. ورجح لها زوجها ذلك فرجعت إليه واحتضنته والأمل يملأ نفسها

ــــــــــــ

(١) الصف (٦١): ٦ ، راجع السيرة الحلبية: ١ / ٧٩ .

٤٢

في أن تجد بسببه الخير والبركة(١) .

ويردّ هذا الزعم مكانة البيت الهاشمي الرفيعة وشخصية جدّه الذي عرف بالجود والإحسان ومساعدة المحتاجين والمحرومين.

على أن بعض المؤرخين قد ذكر أن أباه قد توفي بعد ولادته بعدة أشهر(٢) .

كما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقبل إلاّ ثدي (حليمة)(٣) .

قالت حليمة: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد. قال ما اسمك ؟ قلت: حليمة. فتبسم عبد المطّلب وقال: بخ بخ سعدٌ وحلم خصلتان فيهما خير الدهر وعزّ الأبد(٤) .

ولم يخب ظنّ حليمة في نيل البركة وزيادة الخير بأخذ يتيم عبد المطلب فقد روي أن ثدي حليمة كان خالياً من اللبن فلما ارتضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه امتلأ ودرّ لبناً.

وتقول حليمة: عندما أخذنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفنا الخير والزيادة في معاشنا ورياشنا حتى أثرينا بعد الجدب والجهد (٥) .

وأمضى وليد (عبد المطلب) في أحضان حليمة وزوجها في مرابع بني سعد ما يقارب خمس سنوات رجعت به خلالها إلى أهله عند فطامه بعد أن أتم السنتين على كره منها; لما وجدت فيه من السعادة والخير، كما أن أُمّه أرادت أن يشتد عود ابنها بعيداً عن مكة، خوفاً عليه من الأمراض فرجعت به مسرورة.

وروي أنها جاءت به ثانيةً إلى مكة خوفاً عليه من أيادي السوء عندما

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ١ / ١٤٦.

(٢) الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١ / ٨١ ، السيرة الحلبية: ١ / ٨١ .

(٣) بحار الأنوار: ١٥ / ٣٤٢.

(٤) السيرة الحلبية: ١ / ١٤٧.

(٥) بحار الأنوار: ١٥ / ٣٤٥ ، المناقب لابن شهرآشوب: ١ / ٢٤ ، وراجع السيرة الحلبية: ١ / ١٤٩.

٤٣

شاهدت جماعة من نصارى الحبشة القادمين إلى الحجاز قد أصرّوا على أخذه معهم إلى الحبشة لأنهم وجدوا فيه علائم النبىّ الموعود، لينالوا بذلك شرف احتضانه وبلوغ المجد باتّباعه(١) .

٥ ـ الاستسقاء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أشار المؤرخون إلى ظاهرة الاستسقاء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي حدثت أكثر من مرة في حياته، حين كان رضيعاً وحين كان غلاماً في حياة جدّه وعمه أبي طالب. فالمرة الأولى: لمّا أصاب أهل مكّة من الجدب العظيم، وأمسك السحاب عنهم سنتين، أمر عبد المطلب ابنه أبا طالب أن يحضر حفيده محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحضره ـ وهو رضيع في قماط ـ فوضعه على يديه واستقبل الكعبة وقدّمه إلى السماء، وقال: يا ربِّ بحق هذا الغلام، وجعل يكرّر قوله ويدعو: اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً، فلم يلبث ساعة حتى أطبقت الغيوم وجه السماء وهطل المطر منهمراً حتى خافوا من شدته على المسجد أن ينهدم(٢) .

وتكرر الاستسقاء ثانياً بعد مدة وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه المرة غلاماً حين خرج به عبد المطلب إلى جبل أبي قبيس ومعه وجوه قريش يرجون الاستجابة ببركة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أشار أبو طالب إلى هذه الواقعة بقصيدة أولها:

أبونا شفيع الناس حين سقوا به

من الغيث رجاس العشير بكور

ونحن ـ سنين المحل ـ قام شفيعنا

بمكّة يدعو والمياه تغور(٣)

ونقل المؤرّخون أن قريشاً طلبت من أبي طالب أن يستسقي لهم فخرج

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ١٦٧ ، بحار الأنوار: ١٥ / ٤٠١ ، السيرة الحلبية: ١ / ١٥٥.

(٢) الملل والنحل: ٢ / ٢٤٨ ، وراجع السيرة الحلبيه: ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٣) السيرة الحلبية: ١ / ٣٣١.

٤٤

أبو طالب إلى المسجد الحرام وبيده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو غلام ـ كأنه شمس دجى تجلّت عنها غمامة ـ فدعا الله بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبلت السحاب في السماء وهطل المطر فسالت به الأودية وسرّ الجميع وقد ذكر أبو طالب هذه الكرامة أيضاً عندما تمادت قريش في عدائها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته المباركة فقال:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذ به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل(١)

وكلّ هذا يعرب لنا عن توحيد كفيلي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالص وإيمانهما بالله تعالى، ولو لم يكن لهما إلاّ هذان الموقفان لكفاهما فخراً واعتزازاً. وهذا يدل أيضاً على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نشأ في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي الحنيفية وتوحيد الله تعالى.

٦ ـ مع اُمّه آمنة :

لم يتمتع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطول رعاية أُمه الحنون التي عاشت بعد أبيه وهي تنتظر أن يشبَّ يتيم عبد الله ليكون لها سلوةً عن فقد زوجها الحبيب ولكن الموت لم يمهلها طويلاً. فقد روي أن حليمة السعدية جاءت بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهله وقد بلغ خمس سنين. وأرادت أُمه آمنة أن تحمله معها وتزور قبر زوجها العزيز ويزور محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخواله من بني النجار في يثرب فيتعرف في هذه السفرة عليهم ولكن هذه الرحلة لم تترك على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ حزناً آخر حيث فقد أُمه في طريق العودة في منطقة تدعى بالأبواء بعد أن زار الدار التي توفيّ ودفن فيها أبوه، وكأنّ تلاحق الأحزان على قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طفولته كانت خطوات إعداد إلهي لتتكامل نفسه الشريفة.

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ١ / ١٩٠، البداية والنهاية: ٣ / ٥٢، بحار الأنوار: ٨ / ٢.

٤٥

وواصلت أُم أيمن رحلتها نحو مكة وهي تصطحب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتسلمه إلى جدّه عبد المطلب الذي ازداد تعلّقاً بحفيده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

٧ ـ مع جدّه عبد المطّلب :

بلغ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قلب عبد المطلب مكانة لم يبلغها أحد من بنيه وأحفاده وهم سادات بطحاء مكة، فقد روي أن عبد المطلب كان يجلس في فناء الكعبة على بساط كان يُمد له وحوله وجوه قريش وساداتها وأولاده، فإذا وقعت عيناه على حفيده (محمد)صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بأن يفرج له حتى يتقدم نحوه ثمّ يجلسه إلى جنبه على ذلك البساط الخاص به(٢) وهذه العناية من سيد قريش قد عزّزت من مكانة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفوس قريش إضافة إلى سمو أخلاقه منذ نعومة أظفاره.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى فترة اليتم هذه التي اجتازها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت رعاية ربه بقوله تعالى:( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) إن فترة اليتم عادة تصب في صياغة الإنسان وإعداده للنضج والاعتماد على النفس في تحمّل الصعاب والمكاره عند مواجهتها والصبر عليها. وهكذا تولّى الله إعداد نبيّه المختار ليكون قادراً على تحمل مهام المستقبل وحمل الرسالة الكبرى التي كانت تنتظر نضجه وكماله. وقد أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الحقيقة بقوله:(أدبني ربي فأحسن تأديبي) (٣) .

ولم يمض من عمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من ثمان سنوات حتى مُني بمحنة ثالثة وهي فقد جدّه العظيم (عبد المطلب)، وقد حزن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لموت جدّه حزناً لا يقل عن حزنه لموت أُمه حتى أنّه بكى بكاء شديداً وهو يتبع نعشه إلى

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ١ / ١٠٥.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ١٦٨.

(٣) مجمع البيان : ٥ / ٣٣٣ تفسير مطلع سورة القلم .

٤٦

مقرّه الأخير، ولم ينس ذكره أبداً; إذ كان يرعاه خير رعاية وكان عارفاً بنبوّته فقد روي أنّه قال ـ لمن أراد أن ينحي عنه محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما كان طفلاً يدرج ـ : دع ابني فإنّ الملك قد أتاه(١) .

الفصل الثاني: دور الفتوّة والشباب

١ ـ كفالة أبي طالب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لقد استمرت رعاية عبد المطلب لحفيده (محمد)صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أوكل أمره إلى ولده أبي طالب لما كان يعلم من أن أبا طالب سيقوم برعاية ابن أخيه خير قيام وهو وإن كان فقيراً لكنّه كان أنبل إخوته وأكرمهم في قريش مكانة واحتراماً. على أنّ أبا طالب كان شقيق عبد الله لأُمه وأبيه وهو مما يزيد أواصر التلاحم مع (محمد)صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحنان والعطف عليه.

وتقبّل أبو طالب هذه المسؤولية بفخر واعتزاز وكانت تعينه في ذلك زوجته الطيبة فاطمة بنت أسد فكانا يؤثران محمداً بالنفقة والكسوة على نفسيهما وعلى أولادهما، وقد عبّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك حين وفاة فاطمة بنت أسد قائلاً:اليوم ماتت أُمي . وكفّنها بقميصه واضطجع في لحدها.

ومنذ وفاة عبد المطلب بدأت مهمة أبي طالب الشاقّة في المحافظة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يقيه بماله ونفسه وجاهه منذ صغره ويدافع عنه وينصره بيده ولسانه طوال حياته حتى نشأ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتلقّى النبوّة وصدع بالرسالة (٢) .

ــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ١ / ٣٥ ، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٤.

٤٧

٢ ـ السفرة الأولى إلى الشام :

كان من عادة قريش الخروج إلى الشام كل عام مرة للتجارة إذ كانت هي المصدر الرئيس للكسب وعزم أبو طالب على الخروج في هذه الرحلة ولم يكن يفكر في استصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خوفاً عليه من وعثاء السفر ومخاطر اجتياز الصحراء، ولكن في لحظة الرحيل غيّر أبو طالب قراره إذ وجد الإصرار لدى ابن أخيه كبيراً حين أغرورقت عيناه بالدموع لفراق عمه، فكانت الرحلة الاُولى لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام بصحبة عمّه. واطّلع محمّد في هذه الرحلة على طبيعة السفر عبر الصحراء وعرف طرق سير القوافل.

وفي هذه الرحلة شاهد بحيرا الراهب محمّداً والتقى به ووجد فيه علامات النبيّ الخاتم الذي بشّر به عيسىعليه‌السلام إذ كان ممن خبر التوراة والإنجيل وغيرهما من المصادر المبشرة بظهور النبي الخاتم، فنصح عمه أبا طالب أن يعود به إلى مكة وأن يحتاط عليه من اليهود لئلاّ يغتالوه (١) فقفل أبو طالب راجعاً إلى مكة ومعه ابن أخيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ رعي الغنم :

لم يرو عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ما ينص على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رعى الأغنام في صباه، نعم روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حديث يعمّ الأنبياء فيما يخص الرعي وحكمة ذلك إذ جاء فيه:(ما بعث الله نبياً قط حتى يسترعيه الغنم، يعلّمه بذلك رعيه للناس) .

ــــــــــــ

(١) سيرة ابن هشام: ١ / ١٩٤، الصحيح من سيرة النبي: ١ / ٩١ ـ ٩٤.

٤٨

كما روي عنهعليه‌السلام في حكمة الحرث والرعي قوله:(إنّ الله عزّ وجلّ أحبّ لأنبيائه من الأعمال: الحرث والرعي، لئلا يكرهوا شيئاً من قطر السماء) (١) .

وروي أيضاً: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان أجيراً لأحد قط(٢) .

ويدل هذا النّص على أنّه لم يكن يرعى الغنم لأهل مكة بأجرة كما زعم بعض المؤرخين من أ نّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رعى الغنم لأهل مكة مستشهداً بحديث جاء في صحيح البخاري(٣) .

وإذا ثبت لدينا رعيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للغنم في صباه أو في عنفوان شبابه أمكن تعليل ذلك بما جاء في النصّ الذي أشرنا إليه من حديث الإمام الصادق عليه‌السلام وهو الإعداد الإلهي له من خلال ممارسة النشاط الذي يؤهله لبلوغ المرتبة السامية من الكمال الذي وصفه الله تعالى به بقوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٤) كمالاً يجعله مستعداً لتحمل أعباء الرسالة الإلهية التي تتطلب رعاية الناس وتربيتهم والصبر على مصاعب هدايتهم وإرشادهم.

٤ ـ حروب الفجار :

كانت للعرب عدّة حروب استحلّت فيها حرمة الأشهر الحرم فسميت بحروب الفجار(٥) .

وزعم بعض المؤرخين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حضر بعض أيامها، وشارك فيها بنحو من المشاركة. وقد شكك بعض المحققين في ذلك لأسباب منها:

ــــــــــــ

(١) علل الشرائع: ص٢٣، سفينة البحار: مادة نبأ.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٢١، البداية والنهاية: ٢ / ٢٩٦.

(٣) صحيح البخاري: كتاب الإجارة، الباب ٣٠٣ ، الحديث رقم ٤٩٩ .

(٤) القلم : ٦٨/٤.

(٥) موسوعة التاريخ الإسلامي ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٥ عن الأغاني ١٩ : ٧٤ ـ ٨٠ .

٤٩

أولاً: أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلما تقدم في العمر كانت شخصيته تزداد تألّقاً وقد عرف بشجاعته الفائقة كسائر بني هاشم، ولكن هذا لا يعني أنهم شاركوا في حرب فيها ظلم وفساد. فقد روي أن أحداً من بني هاشم لم يحضر هذه الحروب فإن أبا طالب كان قد منع أن يكون فيها أحد منهم حين قال: هذا ظلم وعدوان، وقطيعة رحم، واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي(١) . وانسحب عبد الله بن جدعان وحرب بن أُمية ـ وهو قائد قريش وكنانة حينذاك ـ وقالا: لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم(٢) .

ثانياً: اختلفت الروايات حول الدور الذي أدّاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحرب، فبعضهم روى: أنّ عمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقتصر على مناولة النبل لأعمامه والردّ على نبل عدوهم وحفظ متاعهم (٣) . وروى آخر: أنّه قد رمى فيها برميات (٤) ، وروى ثالث أنه طعن أبا البراء ملاعب الأسنة فصرعه (٥) مع أنه كان غلاماً (٦) ، ولا ندري هل كانت العرب تسمح للغلام بخوض المعارك والحروب (٧) .

٥ ـ حلف الفضول :

شعرت قريش بعد حرب الفجار بضعفها وتفرّق كلمتها، وخشيت من طمع العرب فيها بعد أن كانت قويةً منيعةً، فدعا الزبير بن عبد المطلب إلى حلف

ــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٥ .

(٣) راجع موسوعة التاريخ الإسلامي : ١ / ٣٠٤ .

(٤) السيرة النبوية لزيني دحلان: ١ / ٢٥١، السيرة الحلبية: ١ / ١٢٧.

(٥) السيرة النبوية لزيني دحلان: ١ / ٢٥١، السيرة الحلبية: ١ / ١٢٧.

(٦) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٦.

(٧) راجع الصحيح في السيرة : ١ / ٩٥ .

٥٠

الفضول حيث اجتمعت بنو هاشم وزهرة وتميم وبنو أسد في دار عبد الله بن جدعان، وغمس المتحالفون أيديهم فى ماء زمزم وتحالفوا على نصرة المظلوم، والتأسي بالمعاش، والنهي عن المنكر(١) وكان أشرف حلف في العهد الجاهلي. وقد شارك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحلف وكان يومئذ قد جاوز العشرين من عمره(٢) وقد أثنى عليه بعد نبوّته وأمضاه. بقوله: ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)(٣) .

وقيل في سبب تسميته بحلف الفضول أنه قد حضره ثلاثة نفر أسماؤهم مشتقة من مادة (الفضل) وكان السبب في عقد هذا الحلف ما روي من أنه: أتى رجل من زبيد أو من بني أسد بن خزيمة مكة في شهر ذي القعدة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي وحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي قريشاً فأبت الأحلاف من قريش معونة الزبيدي على العاص بن وائل وانتهروه فلما رأى الزبيدي الشرّ صعد على جبل أبي قبيس واستغاث فقام الزبير بن عبد المطلب ودعا إلى الحلف المذكور; فعقد، ثم مشوا إلى العاص وانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه(٤) .

٦ ـ التجارة بأموال خديجة :

بدأت شخصية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتلألأ في المجتمع المكي بما كانت تتمتع به من خلق رفيع وعلو همة وأمانة وصدق حديث فكانت القلوب تنجذب إليه وهو سليل أسرة طاهرة ولكن الفقر الذي كان حليف أبي طالب دفع بالأسرة الكريمة

ــــــــــــ

(١) البداية والنهاية: ٣ / ٢٩٣، وراجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ١٤ / ١٢٩ و٢٨٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ١ / ١٧.

(٣) سيرة ابن هشام: ١ / ١٤٢.

(٤) السيرة الحلبية: ١ / ١٣٢، البداية والنهاية: ٢ / ٢٩١.

٥١

التي كان يعيش فيها محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يقترح أبو طالب على ابن أخيه الذي كان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره أن يخرج مضارباً بأموال خديجة بنت خويلد وبادر أبو طالب إلى خديجة وفاتحها بالأمر فرحّبت به على الفور وسرّت سروراً عظيماً لما كانت تعرفه عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بذلت له ضعف ما كانت تبذل لغيره ممّن يخرج في تجارتها(١) .

وسافر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام يعينه في رحلته (ميسرة) غلام خديجة واستطاع بجمال شمائله ورقيق عواطفه أن يكسب حبّ ميسرة وإجلاله واستطاع بأمانته وحنكته أن يربح أوفر الربح وظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة، فلما عادت القافلة إلى مكة أخبر ميسرة خديجة بما شاهد وسمع(٢) مما زاد في اهتمام خديجة بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشوّقها إلى الاقتران به.

وزعم بعض المؤرخين: أنّ خديجة قد استأجرته في تجارتها، بينما قال اليعقوبي ـ وتاريخه الذي يعدّ من أقدم المصادر المعتمدة ـ: (وإنه ما كان مما يقول الناس: إنها استأجرته بشيء، ولا كان أجيراً لأحد قط)(٣) .

وقد ورد النصّ عن الإمام الحسن العسكري، عن أبيه الإمام الهاديعليه‌السلام : (إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد) (٤) .

ــــــــــــ

(١) راجع بحار الأنوار: ١٦ / ٢٢، كشف الغمة: ٢ / ١٣٤ نقلاً عن معالم العترة للجنابذي، وراجع أيضاً السيرة الحلبية: ١ / ١٣٢.

(٢) البداية والنهاية: ٢ / ٢٩٦، السيرة الحلبية: ١ / ١٣٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٢١.

(٤) بحار الأنوار: ١٧ / ٣٠٨.

٥٢

الفصل الثالث: من الزواج إلى البعثة

١ ـ الزواج المبارك :

كان لابد لمثل شخصية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التى فاقت كلّ شخصيّة من الاقتران بامرأة تناسبه وتتجاوب مع عظيم أهدافه وقيمه تواصل معه رحلة الجهاد والعمل المضنية وتصبر على متاعبه ومصاعبه، ولم يكن يومذاك امرأة تصلح لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهذه المهمة سوى خديجة، وشاء الله ذلك فاتجه قلب خديجة بكلّ عواطفه نحو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعلق بشخصه الكريم. ولقد كانت خديجة (رضي الله عنها) من خيرة نساء قريش شرفاً وأكثرهن مالاً وأحسنهن جمالاً، وكانت تدعى في الجاهلية بـ(الطاهرة) و(سيدة قريش). وكان كل رجال قومها حريصين على الاقتران بها.

وقد خطبها عظماء قريش وبذلوا لها الأموال، فرفضتهم جميعاً(١) لما كانت تملك من عقل راجح يزن الأمور، ولكنّها اختارت محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما عرفت فيه من النبل والأخلاق الكريمة والسجايا الفاضلة والقيم العالية. فطلبت النزول في ساحة عظمته، وعرضت نفسها عليه.

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ١٦ / ٢٢.

٥٣

وتظافرت النصوص التأريخية على أنّها هي التي أبدت أوّلاً رغبتها في الاقتران به، فذهب أبو طالب في أهل بيته، ونفر من قريش لخطبتها من وليّها آنذاك وهو عمها عمرو بن أسد(١) وكان ذلك قبل بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس عشرة سنة على المشهور.

وكان مما قاله أبو طالب في خطبته: (الحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه ثمّ إن ابن أخي هذا ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به ولا يقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلاًّ في المال; فإن المال رفد جار، وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك، برضاها وأمرها والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله... وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم، ودين شائع ورأي كامل)(٢) .

لكن خديجة (رضي الله عنها) عادت، فضمنت المهر في مالها.. فقال البعض: يا عجباً! المهر على النساء للرجال فغضب أبو طالب، وقال: (إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلاّ بالمهر الغالي).

وتفيد بعض المصادر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه قد أمهرها، ولا مانع من ذلك حينما يكون قد أمهرها بواسطة أبي طالب، ومن خطبة أبي طالب يمكننا أن نستشف علو مكانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قلوب الناس، وما كان يتمتع به بنو هاشم من شرف وسؤدد.

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ١ / ١٣٧.

(٢) الكافي: ٥ / ٣٧٤، بحار الأنوار: ١٦ / ٥ نقلاً عن الكشاف وربيع الابرار، وراجع أيضاً السيرة الحلبية: ١ / ١٣٩، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٢٠، الأوائل لأبي هلال: ١ / ١٦٢.

٥٤

خديجة قبل أن يتزوّجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ولدت خديجة وسط اُسرة عريقة النسب كانت تتمتّع بالذكر الطيب والخلق الكريم وتميل إلى التدين بالحنيفية ـ دين إبراهيم الخليلعليه‌السلام ـ فأبوها خويلد نازع ملك اليمن حين أراد أن يحمل الحجر الأسود إلى اليمن، ولم ترهبه كثرة أنصاره دفاعاً عن معتقده ومناسك دينه، وأسد بن عبد العزى ـ جد خديجة ـ كان من المبرّزين في حلف الفضول الذي قام على أساس نصرة المظلوم، وقد شهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهمية هذا الحلف وأيّد القيم التي قام عليها(١) . وابن عمها ورقة بن نوفل كان قد عاشر النصارى واليهود ودرس كتبهم.

إن التأريخ لا يعطينا تفاصيل دقيقة عن حياة خديجة قبل زواجها من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقد روي أنها تزوجت قبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجلين وكان لها منهما بعض الأولاد وهما عتيق بن عائد المخزومي وأبو هالة التميمي(٢) ، في حين تروي مصادر أُخرى أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين تزوج بها كانت بكراً، وحينئذ تكون زينب ورقية ابنتي هالة أخت خديجة قد تبنّتهما خديجة بعد فقدهما لاُمّهما(٣) .

واختلف المؤرّخون في تحديد عمر خديجة (رضي الله عنها) حين زواجها مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهناك من روى أن عمرها كان (٢٥) عاماً وآخر (٢٨) عاماً وثالث (٣٠) عاماً ورابع (٣٥) عاماً وخامس (٤٠) عاماً (٤) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ١٤١.

(٢) للإطلاع على اختلاف الروايات راجع الاصابة: ٣ / ٦١١، السيرة الحلبية: ١ / ١٤٠، أسد الغابة: ٥ / ٧١ و ١٢١ .

(٣) مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٥٩. وراجع أيضاً أعلام الهداية الجزء ٣ ، والصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١ / ١٢١ ـ ١٢٦ .

(٤) راجع السيرة الحلبية: ١ / ١٤٠، البداية والنهاية: ٢ / ٢٩٥، بحار الأنوار: ١٦ / ١٢، سيرة مغلطاي: ١٢.

٥٥

٢ ـ إعادة وضع الحجر الأسود :

كان للكعبة منزلة كبيرة لدى العرب إذ كانت تعتني بها وتحج إليها في الجاهلية. وقبل البعثة النبوية بخمسة أعوام هدم السيل الكعبة فاجتمعت قريش وقررت بناءها وتوسعتها وباشر أشراف القريشيين والمكيين العمل، ولما تكامل البناء وبلغوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا في مَن يضعه في مكانه; فكل قبيلة كانت تريد أن تختص بشرف ذلك واستعدوا للقتال وانضم كل حليف إلى حليفه وتركوا العمل في بنائها ثم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا واتفقوا على ان يكون أول داخل على الاجتماع هو الحكم بينهم وتعاهدوا على الالتزام بحكمه فكان أول داخل محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حلّ النزاع حين جعل الحجر في ثوب وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثمّ قال: ارفعوا جميعاً ففعلوا فلما حاذوا موضعه أخذه بيده الشريفة ووضعه حيث يجب أن يكون، وبعد ذلك أتمّوا بناءها(١) .

وروى بعض المؤرخين: أنهم كانوا يتحاكمون إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية لأنّه كان لا يداري ولا يماري(٢) .

لقد كان لهذا الموقف أثر كبير في نفوس تلك القبائل وأعطى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رصيداً كبيراً وعمقاً جديداً لتثبيت مكانته الاجتماعية ولفت انتباههم إلى قدراته القيادية وكفاءته الإدارية مما ركّز ثقتهم بسموّ حكمته وحنكته وعظيم أمانته.

ــــــــــــ

والصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١ / ١٢٦ .

(١) راجع تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٩، سيرة ابن هشام: ١ / ٢٠٤، البداية والنهاية: ٢ / ٣٠٠، تاريخ الطبري: ٢ / ٣٧ (ط. الاستقامة).

(٢) السيرة الحلبية: / ١ / ١٤٥.

٥٦

٣ ـ ولادة عليّ عليه‌السلام وتربية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له :

إنّ العلاقة بين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لا تقتصر على النسب بل تتميّز بأنّها علاقة فكرية وعاطفية عميقة جداً، فما ان خرجت فاطمة بنت أسد تحمل وليدها الذي وضعته في بطن الكعبة(١) حتى تقدّم إليها محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذ علياً فضمَّه إلى صدره(٢) وكانت هذه بداية العناية به والإعداد الخاص له.

ونشأ الوليد في أحضان والديه وابن عمه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يتردد كثيراً على دار عمّه حتى بعد زواجه من خديجة (رضي الله عنها)، يشمله بفيض خاص من العواطف والاهتمام الفائق يناغيه في يقظته ويحمله على صدره، ويحرك مهده عند نومه. وقد انعكست هذه الرعاية المستمرة لسنوات طويلة وهذا الحنان العظيم الملفت للنظر بآثارها على سلوك عليّ وشعوره حتّى طفح على لسانه وكلامه فأشار إلى شدة قربه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام :(وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويُمِسُّني جسده ويُشمّني عَرْفه وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به) (٣) .

وحين اشتدت الأزمة الاقتصادية على قريش سارع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقترحاً

ــــــــــــ

(١) قال الحاكم النيسابوري: (فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٤٨٣.

(٢) الفصول المهمة لإبن الصباغ: ١٣ .

(٣) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة رقم (١٩٢).

٥٧

على عمّيه حمزة والعباس أن يعينوا أبا طالب في شدّته فأخذ العباس طالباً وأخذ حمزة جعفراً واستبقى أبو طالب عقيلاً وأخذ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً وقال لهم: قد اخترت من اختار الله لي عليكم: علياً(١) .

وهكذا انتقل عليّعليه‌السلام إلى دار ابن عمه ورعايته وأخذت تتبلور شخصيته ولم يفارقه حتى آخر لحظات عمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن اهتمام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليعليه‌السلام لم يقتصر على فترة الأزمة الاقتصادية وهذا يفيدنا بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يهدف أمراً آخر هو أن يتربى عليّعليه‌السلام في حجرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعدّه إعداداً خاصاً كي يتسنى له القيام بدور رسالي عظيم في صيانة شريعة الرسول الخاتم التي كان الله قد اختار لها خير خلقه وصفوة عباده.

وهكذا هيأ الله لعليعليه‌السلام أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحظى بمودّته وحنانه، ويقتبس من أخلاقه وعظيم سجاياه. هذا وقد عامله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لو كان ولده الحبيب وعاش عليعليه‌السلام مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ التحولات الغيبية التي جرت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يفارقه في كل يومه(٢) .

إن ما حفظه لنا التأريخ من سيرة الإمام عليعليه‌السلام يجسد لنا ـ بعمق وقوة ـ المدى الذي كان الإمام عليه‌السلام قد حظي به في مضمار الإعداد الرسالي على يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة وبعدها وما خصّه به من إعداد روحي ونفسي ممّ جعله جديراً بالمرجعية الفكرية والعلمية فضلاً عن المرجعية السياسية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــ

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦، الكامل في التأريخ: ١ / ٣٧.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ٣١٥ .

٥٨

٤ ـ ملامح من شخصية خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة :

لقد سطع اسم محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجتمع الجزيرة العربية في وقت كان الوهن والتفكك قد بدا على أواصر ذلك المجتمع بكل نواحيه وكانت شخصيّة محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزداد تألّقاً وسموّاً.

وبدأت تظهر استقامة شخصيته في كل جوانب سلوكه وكمالاته الاخلاقية. إلى جانب الأصالة العائلية المتمثلة في كرم المحتد وطهارة المولد يرفده الإمداد الغيبي والتسديد الإلهي الذي يصونه عن كلّ المعاصي والمساوئ.

ولقد كان علي بن أبي طالب أكثر الناس التصاقاً ومعرفة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلامه عن الرسول أصدق قول حيث قال:(ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لَدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره) (١) .

وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدى بغضه للأصنام منذ الطفولة ففي قصة سفره إلى الشام مع عمه أبي طالب نجده يرفض أن يقيم وزناً للأوثان(٢) .

لقد اختار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنفسه ولبناء شخصيته منهجاً خاصّاً حقّق له حياة زاخرة بالمعنوية والقيم السامية فلم يكن كَلاًّ على أحد ولا عاطلاً عن العمل، فقد رعى الأغنام لأهله حين كان فتىً يافعاً (٣) وسافر للتجارة في عنفوان شبابه (٤) ; وفي جانب آخر من شخصيته الفذّة نلمس جمال الإنسانية متجليّاً في كمال الرحمة

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ١٨٢، الطبقات الكبرى: ١ / ١٥٤.

(٣) السيرة الحلبية: ١ / ١٢٥، سفينة البحار، مادة نبأ، السيرة النبوية لابن هشام: ١ / ١٦٦.

(٤) بحار الأنوار: ١٦ / ٢٢ ، كشف الغمة: ٢ / ١٣ ، الكامل في التأريخ: ٢ / ٢٤.

٥٩

وغاية العطف على الضعفاء والفقراء وخير نموذج على ذلك تعامله مع زيد بن حارثة الذي رفض العودة إلى أبيه وفضّل الحياة الكريمة مع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وهكذا نعرف أن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قبل بعثته رجلاً لبيباً فاضلاً رشيداً طوى سنوات شبابه وهو يملك أسمى مقوّمات التعامل الإنساني والاجتماعي في مجتمع الجزيرة الجاهلي وقد فاق بشخصيته المُثلى جميع من سواه في عامة المجتمع الإنساني آنذاك، وبذلك شهد له التنزيل قائلاً له: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) .

ــــــــــــ

(١) الإصابة: ١ / ٥٤٥، أسد الغابة: ٢ / ٢٢٥.

(٢) القلم (٦٨): ٤.

٦٠