اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)0%

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 215

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 115433
تحميل: 8897

توضيحات:

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115433 / تحميل: 8897
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ظهره معتمداً عليها. ثم سجد رسول الله عند آية السجدة. ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك .

فلم يحر عتبة جواباً وقام إلى قومه فلما جلس إليهم قال: إني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشّعر وبالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه).

ولكن أنى للقلوب الميتة أن تستجيب فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم(١) .

٤ ـ الاتّهام بالسّحر :

أرادت قريش أن لا تختلف كلمتها ولا تفقد مكانتها في محاربة الرسالة الإسلامية وفي نفس الوقت أن توقف سريان الرسالة إلى نفوس الناس وموسم الحج على الأبواب فرأت أن تتخذ وسيلة تبدو فيها محافظتها على مكانتها الوثنية وإضعاف دور الرسول ومكانته فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة لكبر سنّه وسعة معرفته لاتخاذ قرار بذلك فاختلفت أقوالهم بين أن يدّعوا أنّه كاهن أو مجنون أو شاعر أو مريض تعتريه الوسوسة أو ساحر، ثم أرجعوا القول للوليد فقال: والله إنّ لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين في هذا شيئاً إلاّ عُرف أنّه باطل وإنّ أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يُفرّق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه، فتفرّقوا يندسّون بين الناس يبثّون شائعتهم الخبيثة(٢) .

ــــــــــــ

(١) راجع السيرة النبوية: ١ / ٢٩٣.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٢٨٩.

٨١

٥ ـ التعذيب وسيلة لقمع المؤمنين :

لقد عجزت قوى الكفر والشرك أن تثني الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحاب الحق عن الاستمرار في نشر الرسالة الإسلامية، مثلما عجزت عقولهم عن إدراك التوحيد والإيمان، وراحت كل جهودهم لإيقاف الرسالة أو تشويهها سدى فلم يجدوا بُدّاً من اتخاذ العنف والقسوة والتعذيب وسيلة لمحاربة أصحاب العقيدة فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب وفرض الجوع والعطش عليهم، محاولين أن يفتنوهم عن دينهم ورسالة ربّهم.

فهذا أمية بن خلف يخرج بلالاً إلى رمضاء مكة إذا حميت الظهيرة ليمارس تعذيبه بأبشع صورة، وهذا عمر بن الخطاب يعذب جارية له ـ لإسلامها ـ ضرباً حتى إذا عجز قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلاّ ملالة، وهذه بنو مخزوم يخرجون عمّاراً وأباه وأمه يعذبونهم في رمضاء مكة فيمرّ بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول: (صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة) ، حتى بلغ من تعذيبهم أن استشهدت سمية أم عمار (١) على أيديهم فكانت أول شهيدة في الإسلام.

وإذا حاولنا أن نرسم صورة عامّة لأساليب مواجهة قريش للرسالة والرسول وأتباعه فنستطيع أن نلخّص مراحل المواجهة في ما يلي:

١ ـ كان الاستهزاء والسخرية بشخصية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإضعاف مكانته في نفوس الناس من أبسط الأساليب. وقد مارس هذا الدور الوليد بن المغيرة (والد خالد)، وعقبة بن أبي معيط، والحكم بن العاص بن أمية، وأبو جهل.

ولكن التسديد الإلهي أحبط كل مساعيهم فقد قال القرآن الكريم:

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية : ١ / ٣١٧ ـ ٣٢٠ .

٨٢

  ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) (١) ،( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (٢) .

٢ ـ إهانة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصياً لإضعافه. فقد روي أنّهم ألقوا الفرث والسلى عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فغضب عمه أبو طالب حين علم بذلك وردّ الإهانة عليهم، ويعتبر موقف أبي جهل وردّ حمزة بن عبدالمطلب عليه شاهداً آخر.

٣ ـ محاولات الإغراء بالملك والسيادة وبذل الأموال الطائلة.

٤ ـ الاتهامات الباطلة: بالكذب والسحر والجنون والشعر والكهانة. وقد تحدث القرآن عن كلّ ذلك.

٥ ـ الطعن في القرآن الكريم، فقد اتهموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقوّله وافترائه على الله فتحدّاهم القرآن بأن يأتوا بمثله. على أن النبيّ كان قد أمضى عمراً بينهم لم يعرف بما اتهموه به.

٦ ـ استخدام التعذيب وقتل المؤمنين برسالته.

٧ ـ الحصار والمقاطعة الشاملة.

٨ ـ التخطيط لقتل صاحب الرسالة(٣) .

وقد تصدّى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكل هذه الأساليب بما يحقق للرسالة أهدافها مسدّداً بالوحي الذي كان يرعى حركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير رعاية.

ــــــــــــ

(١) الحجر (١٥): ٩٥.

(٢) الأنعام (٦) : ١٠.

(٣) الأنفال (٨) :٣٠.

٨٣

٦ ـ الهجرة إلى الحبشة وإيجاد قاعدة آمنة :

لقد أدرك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد عامين من الجهر بالرسالة أن لا قدرة له على حماية المسلمين من العناء الذي يصيبهم من طغاة قريش وزعماء الوثنية.

وحيث اشتدَّ العنف من المشركين وصناديدهم تجاه المستضعفين من المسلمين حثّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين المضطهدين على الهجرة إلى الحبشة ليعطيهم بذلك فترة استراحة واستعادة نشاط ليعودوا ثانية لمواصلة مسيرة الرسالة الإسلامية أو يفتحوا جبهة جديدة للصراع مع قريش بعد أن يحدثوا مركزاً للضغط من خارج الجزيرة على مواقع قريش وعسى الله أن يحدث ـ خلال ذلك ـ أمراً كان مفعولاً إذ أخبرهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أن في الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد) فاستجاب المسلمون لذلك وتسلل عدد منهم صوب الساحل فعبروا البحر غير أن قريشاً لاحقتهم ولكن لم يدركهم طلبها وتتابع المهاجرون منفردين أو مع أهليهم، حتى اجتمعوا بأرض الحبشة بضعة وثمانين مهاجراً عدا أبنائهم الصغار وأمَّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم جعفر بن أبي طالب(١) .

لقد كان اختيار الحبشة داراً للهجرة خطوة موفقة من خطوات الرسول القيادية نظراً للصفة التي وصف بها ملكها في الحديث المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتيسّر السفر إليها بالسفن، فضلاً عن العلاقات المذهبية الطيبة التي أرادها الإسلام أن تكون بين الإسلام والنصرانية.

وقد أقلق قريشاً أمر الهجرة إلى الحبشة فخشيت العاقبة وساءها أن يأمن حملة الرسالة الإسلامية هناك، فأرسلت عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي وحمّلتهما الهدايا في محاولة منها لإقناع النجاشي بالتخلي عن جوارهم وإعادتهم إليها، واستطاعا أن ينفذا إلى بطارقة الملك وإقناعهم بضرورة مساعدتهم لاسترداد المسلمين، لكن الملك أبى ذلك إلاّ بعد أن يسمع رأي المسلمين في التهمة الموجهة إليهم بأنهم قد ابتدعوا ديناً جديداً لهم.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٣٢١، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٢٩، بحار الأنوار: ١٨ / ٤١٢.

٨٤

وشملت العناية الإلهية ذلك اللقاء، فقد انبرى جعفر بن أبي طالب ليجيب بكلام رائع ينفذ إلى قلب النجاشي عن ماهية الدين الجديد فيزداد اقتناعه بحمايتهم. وكانت كلمات جعفر بن أبي طالب كالصاعقة على رؤوس الوفد القرشي الذي لم تنفعه هداياه لإنجاح خطته الشيطانية، وأصبحوا في موقف الذليل أمام النجاشي في الوقت الذي سطع فيه نجم المسلمين وقويت حجتهم مما دلّ على عظيم أثر التربية التي كان قد بذلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنهوض بالإنسان في الفكر والمعتقد والسلوك، فلم يهتز المسلمون ثانية عند ما حاول وفد قريش أن يثير فتنة عن ما جاء به القرآن حول عيسىعليه‌السلام ، ولكن النجاشي قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، عندما سمع آيات الله يرددها جعفر بن أبي طالب ردّاً على سؤاله(١) .

عندها أيقنت قريش بفشل مساعيها لاسترداد المسلمين حين عاد إليها وفدها خائباً، وقرّر زعماؤها أن يضيّقوا على من عندهم من المسلمين بالمأكل والمشرب وأن يحظروا كل أنواع التعامل الاجتماعي معهم حيث لم يتخلّ أبو طالب وبنو هاشم عن نصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعمه الشامل.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٣٣٥، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٢٩.

٨٥

٧ ـ الحصار الظالم وموقف بني هاشم :

ولمّا لم يستجب أبو طالب لقريش، وأصرّ على حماية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهما كان الثمن، كتبت قريش صحيفتها الظالمة(١) بالمقاطعة الشاملة في البيع والشراء والمخالطة والزواج.

ووُقّعت الصحيفة من قبل أربعين زعيماً من زعماء قريش.

وعمد أبو طالب إلى الشِعب مع ابن أخيه وبني هاشم وبني المطلب حيث كان أمرهم واحداً. وقال: نموت من عند آخرنا قبل أن يوصل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني المطلب، ودخل الشعب من كان من هؤلاء مؤمناً كان أو كافراً(٢) .

وكان لا يصل إلى المسلمين خلالها شيء إلاّ سرّاً، يحمله إليهم مستخفياً من أراد مساعدتهم من قريش بدافع من عصبية أو نخوة أو عطف.

وبعد أن مضت على المقاطعة ثلاث سنين وقاسى خلالها المسلمون والنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آلاماً قاسية من الجوع والعزلة والحرب النفسية، أرسل الله دودة الأرضة على صحيفتهم المعلقة في جوف الكعبة فأكلتها جميعاً غير كلمة (باسمك اللهم).

وأنبأ الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر عمه أبا طالب بالأمر فخرج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد الحرام فاستقبله وجهاء قريش ظناً منهم بأن الاستسلام يقودهم إلى التخلّي عن موقفهم من الرسالة فقال لهم أبو طالب: إن ابن أخي أخبرني بأن الله قد سلّط على صحيفتكم الأرضة فأكلتها غير اسم الله، فإن كان صادقاً نزعتم عن سوء

ــــــــــــ

(١) جاء في أعيان الشيعة ، ان الصحيفة الظالمة كتبت في غرّة محرم من السنة السابعة للبعثة.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٣٥٠، أعيان الشيعة: ١ / ٢٣٥.

٨٦

رأيكم وإن كان كاذباً دفعته إليكم... قالوا: قد أنصفتنا، ففتحوها، فوجدوا الأمر كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنكسوا رؤوسهم حياء وخجلاً لما حلّ بهم(١) .

وروي أيضاً أن بعض رجال قريش وشبابها ساءهم أمر القطيعة ومعاناة بني هاشم من المتاعب والشدائد في الشعب فتعاقدوا فيما بينهم لتمزيق الصحيفة وإنهاء المقاطعة وواجهوا المتعنتين منهم، ففتحوا الصحيفة فوجدوا حشرة الأرضة قد أكلتها(٢) .

ومهما كان فإن قريشاً قد أخزاها الله مرة أخرى ولكنها لم ترتدع عن عداوتها للرسول والرسالة.

٨ ـ عام الحزن :

وفي السنة العاشرة من البعثة خرج المسلمون من الحصار وهم أصلب عوداً وأغنى تجربة وأكثر قدرة على التحرك صوب الهدف الذي آلوا على أنفسهم أن لا يتخلوا عنه رغم كل الصعاب. وكان من أثر الحصار أن اشتهر ذكر الإسلام والمسلمين وانتشر في كل أرجاء الجزيرة العربية وكانت أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهام صعبة، منها: الانفتاح بصورة أوسع خارج نطاق مكة، ومحاولة إيجاد أكثر من مكان آمن تتحرك من خلاله الرسالة الإسلامية.

ولكن الرسالة الإسلامية تعرضت لأخطر محنة في مسيرتها في مكة عندما توفّي أبو طالب، سندها الاجتماعي الأول والمدافع القوي عن الرسول والرسالة، وبعده بأيام توفيت اُمّ المؤمنين خديجة ثاني سندي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولشدة تأثير

ــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٢١، طبقات ابن سعد: ١ / ١٧٣، السيرة النبوية: ١ / ٣٧٧.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٣٧٥، تاريخ الطبري: ٢ / ٤٢٣.

٨٧

الحادثتين في مسيرة الرسالة الإسلامية سمّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك العام بـ (عام الحزن)، وصرّح قائلاً:(مازالت قريش كاعّة عنّي حتى مات أبو طالب) (١) .

ومن جرأة قريش على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذاك أن قام أحدهم ونثر التراب على رأسه الشريف وهو مارّ إلى بيته. فقامت إليه ابنته فاطمة عليها‌السلام لتنفض التراب عنه وهي تبكي فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك) (٢) .

٩ ـ الإسراء والمعراج :

وفي هذه الفترة كانت حادثة الإسراء والمعراج تثبيتاً للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على طريق المقاومة الطويل، وتكريماً له في أعقاب سنين طويلة من العمل والصمود، وتتويجاً لهذه المصاعب والآلام المريرة مع قوى الشرك والضلالة، رفعه الله إلى قلب السموات، ليريه جوانب من عظمة ملكه الباهرة في الكون الشاسع وليطلعه على أسرار الخليقة ومصير الإنسان الصالح والطالح.

وفي الوقت نفسه كانت بمثابة امتحان لقدرات أصحابه على تصور المدى الذي يكافحون فيه مع رسولهم وقائدهم من أجل إبلاغ الرسالة وبناء الإنسان الصالح، وإبتلاءاً صعباً لأصحاب النفوس الضعيفة.

ولم تستطع قريش المشركة أن تدرك المعاني السامية في أمر الإسراء فما بحدّثهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك حتى راحوا يسألون عن الصورة المادية من أمر الإسراء وإمكانية تحققها والأدلة على ذلك ـ فقال بعضهم: والله إن العِير لتطّرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة وشهراً مقبلة، أيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع؟! ووصف لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد الأقصى وصفاً دقيقاً، وذكر لهم أنّه مرّ بقافلة وهم يطلبون بعيراً قد ضلّ لهم، وفي رحلهم قعب ماء كان مكشوفاً وقد غطّاه كما كان.

ــــــــــــ

(١) كشف الغمة: ١ / ٦١، مستدرك الحاكم: ٢ / ٦٢٢ ، وكاعّة بمعنى وكعّ عنه: إذ اهابه وجبن عنه.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٤١٦، تاريخ الطبري: ٢ / ٤٢٦.

٨٨

وسألوه عن قافلة اُخرى فقال: مررت بها بالتنعيم، وبيّن لهم أحمالها وهيئاتها وقال: يقدمها بعير بصفة كذا وسيطلع عليكم عند طلوع الشمس. فجاء كل ما قاله صحيحاً كما أخبر به(١) .

الفصل الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة

١ ـ الطائف ترفض الرسالة الإسلامية(٢) :

أدرك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أذى قريش سيزداد ، وأن خطط المشركين ومساعيهم للقضاء على الرسالة لن تتوقف، فقد زال غطاؤها الأمني بوفاة أبي طالب ولابد للرسالة الإسلامية أن تنفتح على جبهة أوسع. وفي الوقت الذي استطاع فيه رسول الله أن يبني الإنسان الرسالي سعى لتهيئة قاعدة تتضح فيها معالم الاستقرار والنظام في محيط يمارس فيه الفرد حياته وعلاقاته مع ربه والناس ولينطلق بعد ذلك إلى بناء الحضارة الإسلامية الإنسانية وفق تعاليم السماء، فوقع اختياره على الطائف حيث تقطن ثقيف كبرى القبائل العربية بعد قريش. ولما انتهى إليها وحده أو بمرافقة زيد بن حارثة أو بمرافقة زيد وعلي(٣) ، عمد إلى نفر من ثقيف وهم يومئذ سادتها وأشرافها، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم المهمة التي جاء من أجلها وهي أن ينصروه في دعوته ويمنعوه من قومه فلم يعبأوا لدعوته وردوا عليه ساخرين فقال أحدهم: إنني أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال آخر: والله لا أكلمك أبداً ولئن كنت رسولاً من الله كما تقول

ــــــــــــ

(١) السير النبوية: ١ / ٣٩٦.

(٢) كان خروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف لليال بقين من شوال سنة عشرة من البعثة.

(٣) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٢٧ و ١٤ / ٩٧ .

٨٩

لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وردّ الآخر قائلاً: أعجزٌ على الله أن يرسل غيرك؟!(١) .

بعد هذا الرد الجاف والعنيف قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عندهم بعد أن طلب منهم أن يكتموا ما جرى بينه وبينهم; إذ كره أن يبلغ قريش ذلك فيجرّئهم عليه، لكن زعماء ثقيف لم يستجيبوا لطلبه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فأخذوا يسبّونه ويصيحون به، ويرمونه بالحجارة، فلم يكن يرفع قدماً ويضع اُخرى إلاّ على الحجارة حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وكانا هناك فتفرق عنه سفهاء الطائف، وقدماه تنزفان دماً، فعمد إلى ظل كرمة ونادى ربّه:(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي) .

ولم يلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ التفاتة عطف من رجل نصراني ضعيف وجد في رسول الله ملامح النبوة(٢) .

وحين انصرف رسول الله من الطائف راجعاً إلى مكة بعد أن يئس من خير ثقيف كان محزوناً حيث لم يستجب له أحد فنزل نخلة (بين مكة والطائف). وفي جوف الليل وحين كان يصلّي مرّ به نفر من الجن واستمعوا للقرآن فلمّا فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين بعد أن آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، وقصّ الله خبرهم عليه قائلاً:( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) إلى قوله تعالى: ( وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٣) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٢٠ ، بحار الأنوار: ١٩ / ٦ و٧ و٢٢ ، إعلام الورى: ١ / ١٣٣.

(٢) الطبري: ٢ / ٤٢٦، أنساب الأشراف: ١ / ٢٢٧، تأريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٦ السيرة النبوية: ١ / ٤٢٠.

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٣٤٦، وسيرة ابن هشام: ٢ / ٦٣، والطبقات: ١ / ٣١٢. راجع سورة الأحقاف : ٢٩ ـ ٣١ .

٩٠

٢ ـ الانفتاح على الرسالة ومعوّقاتها في مكة :

لقد كانت حركة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهاداً رسالياً متكاملاً، وكان منطقه وسلوكه وخلقه يحاكي الفطرة السليمة والأخلاق السامية، يناشد الحق في النفوس ليحييها ويدعو إلى الفضيلة لتنعم البشرية بها ولهذا لم ييأس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم اضطهاد قريش وقسوتها معه وصد الطائف وجفوتها، إذ كان يتحرك بين الناس ويدعو الجميع إلى دين الله ولا سيّما في مواسم العمرة والحج حيث تتوفّر فيها فرص تبليغية عظيمة فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقف على منازل القبائل من العرب ويقول:(يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تتعبدوا إليه ولا تشركوا به شيئاً وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى اُبيّن عن الله ما بعثني به) (١) .

وكرّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مساعيه بالتحرّك على عدة قبائل غير آبه بما يلاقي من ردّ قاس أو اعتذار جميل. على أن بعضهم وجد في الانتماء إلى الإسلام مشروعاً سياسياً لبلوغ السلطان فحاول أن يساوم ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّهم بلسان لا يعرف المساومة والتخاذل ولم يرد انتهاز الفرص على حساب المبادئ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) (٢) .

وفي أثناء ذلك ربما مشى (أبو لهب) خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يثبّط الناس عن متابعته فيقول: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه (٣) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٢٣، تأريخ الطبري: ٢ / ٤٢٩، أنساب الأشراف: ١ / ٢٣٧.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٤٢٤، تأريخ الطبري: ٢ / ٤٣١.

(٣) السيرة النبوية: ١ / ٤٢٣، تاريخ الطبري: ٢ / ٤٣٠.

٩١

وفي جانب آخر تقوم أم جميل في وسط النساء فتسخر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته المباركة لتمنع النساء من متابعته.

ولم يتيسر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقنع القبائل بالرسالة الإسلامية إذ أن قريشاً كانت تتمتع بالمكانة الدينية من بين القبائل الأخرى لما كانت تقوم به من سدانة البيت الحرام كما أنّها كانت تدير مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً في الجزيرة العربية وكانت لقريش أيضاً شبكات من العلاقات والأحلاف مع ما كان يحيط بها من القبائل الأخرى التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرض عليهم دعوته، فكان من الصعب كسر كل تلك القيود وإلغاء هيمنة قريش فكان تردد الناس في قبول الرسالة الإسلامية واضحاً، وخشيت قريش رغم ذلك من تحرّك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوة دعوته فالتجأت إلى أسلوب مبرمج يمكن أن تقبله العقول الوثنية فاتفقوا على دعاية ينشرونها بين الناس فقالوا: إنه ساحر في بيانه يفرّق بين المرء وزوجه وبين الإنسان وأخيه. ولم تفلح قريش في مسعاها حين كانت تنكشف عظمة الرسول والرسالة لكل من يلتقي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

٣ ـ بيعة العقبة الأولى :

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدّخر وسعاً ولا يتوانى في السعي لنشر الرسالة الإسلامية ودعوة أي عنصر يرى فيه الأمل والخير أو يجد فيه التأثير والنفوذ ممن كان يقدم إلى مكة لحاجة ما. وقد كانت مدينة يثرب تعيش صراعاً سياسياً وعسكرياً بين أقوى قطبين فيها وهما الأوس والخزرج، وكان يؤجج هذا الصراع عناصر من اليهود ـ بخبثهم ودسائسهم ـ في جو من ضياع القانون الإلهي.

والتقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض شخصيات يثرب ممن جاء يبحث عن

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٢٧٠.

٩٢

تحالف يزيد قوته، فما برحوا حتى تغلغل أثر الرسالة وصدق النبوة في نفوسهم، ففي إحدى اللقاءات تحدث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جماعة من بني عفراء ـ وهم ينتسبون إلى الخزرج ـ فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم شيئاً من القرآن، فوجد في عيونهم التجاوب وفي قلوبهم اللهفة لسماع المزيد من الآيات... وتأكدوا من حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه هو النبي الذي يقصده اليهود حينما كانوا يتوعدون به المشركين في يثرب كلما وقع شر بينهم فيقولون لهم: إن نبياً قد بعث الآن وقد أطلّ زمانه وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم(١) .

فأعلنوا في الحال إسلامهم وكانوا ستة أشخاص وقالوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك وإلى الدين الذي أجبناك عليه.

ثم انصرفوا راجعين إلى يثرب وشرعوا يتحدثون عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرسالة والأمل القادم لبناء حياة يسودها الأمن والسعادة، حتى فشا أمر الرسالة الإسلامية بينهم ولم يبق دار من دور يثرب إلاّ وفيها ذكر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وما أسرع ما انقضت الأيام فلما كان موسم الحج للعام الحادي عشر من البعثة النبوية قدم وفد من أوس يثرب وخزرجها ـ وهم اثنا عشر رجلاً ـ من بينهم الستة الذين أسلموا من قبل والتقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سراً في العقبة ـ وهي المنفذ الذي يجتازه القادمون من يثرب صوب مكة ـ وأعلنوا هذه المرة بيعتهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصوه في

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٢٨، بحار الأنوار: ١٩ / ٢٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٧ ـ ٣٨، السيرة النبوية: ١ / ٤٢٩، بحار الأنوار: ١٩ / ٢٣.

٩٣

معروف(١) .

ولم يشأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحملهم أكثر من ذلك، وأرسل معهم الشاب المسلم مصعب بن عمير إلى يثرب لكي يتولى شؤون التبليغ والتثقيف العقائدي بينهم، وبذا تمّت بيعة العقبة الأولى.

٤ ـ بيعة العقبة الثانية :

تحرك مصعب بين أزقة يثرب وفي مجتمعاتها يتلو آيات الله ويحرك الأفئدة والعقول بالقرآن حتى آمن بالرسالة الإسلامية عدد كبير من الناس.

وقد أحدث الإسلام في النفوس شوقاً كبيراً للقاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتزود من معينه والطلب الجادّ بالهجرة إليهم.

وعندما اقترب موسم الحج من السنة الثانية عشرة من البعثة خرجت وفود الحجيج من يثرب ومعها وفد المسلمين البالغ ثلاثاً وسبعين رجلاً وامرأتين فواعدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلتقي بهم عند العقبة ـ جوف الليل في أواسط أيام التشريق ـ وكتم مسلمو يثرب أمرهم.

وما إن مضى من الليل ثلثه وفي غفلة عن العيون حتى تسلل المسلمون من أخبيتهم واجتمعوا في انتظار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ومعه بعض أهل بيته فبدأ الاجتماع وتكلم القوم، ثم تحدث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتلا شيئاً من القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام.

وتمّت البيعة هذه المرّة صريحة واضحة مكتملة على كلّ جوانب الإسلام وأحكامه وفي السلم والحرب معاً. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم . فقاموا وبايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٣٣، تأريخ الطبري: ٢ / ٤٣٦.

٩٤

وظهر شعور بالقلق من جانب مسلمي يثرب فقال أبو الهيثم ابن التيهان: يا رسول الله إنّ بيننا وبين الرجال ـ يعني اليهود ـ حبالاً وإنا قاطعوها فهل

عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال:بل الدم الدم والهدم الهدم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم (١) .

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:(أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم) فأخرجوا منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي (٢) .

وبالإرشاد الحكيم والاستخدام الحصيف لكل الإمكانات وبالوعي السياسي العميق خطا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة نحو الأمام يسدده الوحي الإلهي في كل ذلك، وأذنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمبايعين أن يعودوا إلى رحالهم من دون أن يواجهوا المشركين بالقوة فلم يأذن الله بالقتال.

وأدركت قريش بوادر الخطر المحدق بها من نصرة مسلمي يثرب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبلوا والشر والغضب يتملّكانهم كي يحولوا بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين لكن حمزة وعلياً عليهما‌السلام كانا بوّابة الأمان لاجتماع العقبة فرجعت قريش خائبة منكسرة (٣) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٣٨، تأريخ الطبري: ٢ / ٤٤١، مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٨١.

(٢) تأريخ الطبري: ٢ / ٤٤٢، السيرة النبوية: ١ / ٤٤٣، المناقب: ١ / ١٨٢.

(٣) تفسير القمي: ١ / ٢٧٢.

٩٥

٥ ـ الاستعداد للهجرة إلى يثرب :

انتبهت قريش وخرجت من غفلتها فقد انفتح باب الرجاء في الغلبة، في وجه المسلمين فراحت تزيد من استخدام القسوة والتنكيل والاضطهاد للمسلمين في محاولة منها للقضاء عليهم قبل استفحال الأمر، فشكا المسلمون ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستأذنوه للخروج من مكة فاستمهلهم أياماً ثم قال:(لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن أراد الخروج فليخرج إليها) (١) ، وفي رواية أخرى:(إن الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها وإخواناً) (٢) .

وشرع بعض المسلمين يخرجون من مكة إلى يثرب سرّاً كي لا يثيروا هواجس قريش، وبدأت طرقات مكة وبيوتها ونواديها تشهد يوماً بعد يوماً غياباً مستمراً لأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا هو فكان ينتظر الأمر الإلهي بالهجرة وليضمن سلامة ودقة هجرة المسلمين. وأدركت قريش هدف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطته فسعت إلى منع المسلمين من الخروج من مكة ولحقت بالمهاجرين مستخدمة أساليب الإغراء والتعذيب لإعادتهم إلى مكة.

وكانت قريش حريصة في أن يبقى الأمن سائداً في مكة مما جعلها تخشى عواقب قتل المهاجرين خشية وقوع الحرب بينها وبينهم فاكتفت بالتعذيب والحبس للمسلمين.

نعم كانت قريش تحسب ألف حساب لخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يثرب فقد أصبح للمسلمين اليد العليا هناك فإذا لحق بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو المعروف بالثبات وحسن الرأي والتدبير والقوة والشجاعة حينئذ سوف تحل الكارثة بالمشركين عامة وبقريش بشكل خاص.

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٨٢، السيرة النبوية : ١ / ٤٦٨.

٩٦

وسارع رؤساء قريش لعقد اجتماع لهم في دار الندوة للبحث عن حلّ يواجهون به الخطر المحدق بهم فتعددت الأراء وتضاربت وكان من بين الحلول المقترحة حبسه وتكبيله بالأغلال أو نفيه بعيداً عن مكة في منقطع الصحراء، ولكن رأياً بقتله وتفريق دمه بين القبائل ـ لتعجز بنو هاشم عن المطالبة بدمه ـ هو الذي حاز الموافقة والإعجاب(١) ، فإنهم إن قتلوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد قضوا على الرسالة الإسلامية وهي في مهدها.

وجاء الأمر الإلهي يأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتحرك والهجرة إلى يثرب وكانت تلك الإشارة التي ينتظرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشوق بالغ ليحطّ قدمه على أرض يتمكن فيها من بناء دولة على أعمدة التقوى وتعاليم السماء وإنشاء المجتمع الإنساني الصالح.

وبعد أن دبّر المشركون خطّتهم وأحكموها نزل أمين الوحي (جبرئيل) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما حاك المشركون ضدّه من مؤامرة إذ قرأ عليه قوله تعالى: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٢) .

ورغم يقينه الكامل بأن الإمداد الغيبي يرعاه ويسدد خطاه

لم يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطوات بل خطط ودبّر ببصيرة وحنكة وسرية تامة.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٨٠، الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢٧، تفسير العياشي: ٢ / ٥٤.

(٢) المناقب: ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣، الأنفال: ٨ / ٣.

٩٧

٦ ـ المؤاخاة قبل الهجرة :

لقد آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين كنقطة انطلاق نحو المجتمع الإسلامي المتماسك يتعاونون كجسد واحد لمصلحة الإسلام وإعلاء كلمة الله حيث سيواجه المسلمون مصاعب جمّة يستلزم تجاوزها التعاون والتعاضد بأعلى مراتبه.

وكخطوة أولى في طريق الهجرة المباركة آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين بعلاقة إيمانية إلهية على الحق والمؤاساة مؤاخاة ينعكس أثرها على التعامل فيما بينهم بالانسجام والصمود بعيداً عن النوازع النفسية، فلقد آخىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة وبين الزبير وابن مسعود وبين عبيدة بن الحارث وبلال.

كما آخى بين عليعليه‌السلام ونفسه الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لعلي عليه‌السلام : أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال عليه‌السلام : بلى يا رسول الله رضيت . وهنا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأنت أخي في الدنيا والآخرة (١) .

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ٢ / ٢٠، مستدرك الحاكم: ٣ / ١٤.

٩٨

الباب الرابع: فيه فصول:

الفصل الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى.

الفصل الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية.

الفصل الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم.

الفصل الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى

١ ـ الهجرة إلى يثرب :

لكي تتكامل حركة الرسالة وتتحقق النبوّة أهدافها الربّانية المنشودة لابد أن تسدد وتؤيد بقوى الخير وعناصر تملك اليقين المطلق بالعقيدة وتنذر نفسها لتلك العقيدة وتستعد للتضحية على الدوام مع مؤهلات تصونها من الانحراف.

لقد كان علي بن أبي طالبعليه‌السلام ذلك العنصر الفذّ الذي قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(يا علي، إنّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وإنه أوحي إليّ عن ربي أن أهجر دار قومي، فنُم على فراشي والتحف ببردي الحضرمي لتخفي بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل وصانع؟)

فقال عليعليه‌السلام : أَوَ تَسلَمنَّ بمبيتي هناك يانبي الله؟

قال:نعم ، فتبسم علي عليه‌السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً شاكراً لله تعالى لما أنبأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سلامته وقال عليه‌السلام : إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي (١).

ــــــــــــ

(١) راجع إحقاق الحق : ٣/٢٣ ـ ٤٥ مع تعليقات المرعشي النجفي لتقف على مصادر هذا الحدث التاريخي وموقف علي الرساليّ عند علماء أهل السنة. وراجع أيضاً: مسند الإمام أحمد : ١/٣٣١ الطبعة الأولى بمصر، وتفسير الطبري : ٩/١٤٠ الطبعة الميمنية بمصر ومستدرك الحاكم : ٣/٤ طبعة حيدرآباد الدكن.

٩٩

وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد منتصف الليل من داره تحيط به العناية الإلهية مخترقاً طوق قوات الشرك المحيطة بداره تاركاً علياً في فراشه.

وكم كانت خيبة أعداء الله حين اقتحموا دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صباحاً شاهرين سيوفهم تفوح منها رائحة الموت، ويفيض الحقد من وجوههم يتقدمهم خالد بن الوليد، فوثب عليعليه‌السلام من مضجعه في شجاعة فائقة فارتد القوم على أدبارهم وتملّكتهم دهشة وذهول وهم يرون كيف خيّب الله سعيهم وأنقذ نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وتوسّلت قريش بطغيانها بكل حيلة لتردّ هيبتها الضائعة لعلّها تدرك محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسلت العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول حتّى وضعت مئة ناقة جائزة لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً. وقادهم الدليل الحاذق مقتفياً أثر قدم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى باب غار ثور ـ حيث كان قد اختبأ فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه أبو بكر ـ فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا في الأرض.

وفي داخل الغار كان أبو بكر قد غلبه خوف كبير وهو يسمع صوت قريش تنادي: أُخرج يا محمد، ويرى أقدامهم تقترب من باب الغار ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ( لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) .

وعادت قريش بخفيّ حنين فهي لم تدرك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار إذ رأت العنكبوت قد نسج بيته على باب الغار وعندها بَنت الحمامة عشها وباضت فيه.

١٠٠