اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)0%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 170630
تحميل: 8018

توضيحات:

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170630 / تحميل: 8018
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقال ابن عباس : أمّا قولك : إنّ قريشاً كرهت فإنّ الله تعالى قال لقوم : ( ذلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (١) وأمّا قولك : إنّا كنّا نجحف فلو جحفنا بالخلافة جحفنا بالقرابة ، ولكنّا قوم أخلاقنا من خلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي قال ربّه فيه : ( وَإِنّكَ لَعَلَى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) وقال له :( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) وأمّا قولك : إنّ قريشاً اختارت فإنّ الله تعالى يقول :( وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (٤) ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار من خلقه من اختار ، فلو نظرت قريش حيث نظر الله لوفّقت وأصابت .

فتفكّر عمر هُنيئة ثمّ قال (وقد آذاه من ابن عباس هذا الحديث الصريح) : على رسلك يا ابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلاّ غشّاً في أمر قريش لا يزول ، وحقداً عليها لا يحول .

قال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش ، فهي من قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي طهّره وزكّاه ، وإنّهم لأهل البيت الذين قال لهم الله : ( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٥) .

ثمّ قال ابن عباس : وأمّا الحقد فكيف لا يحقد من غُصب شيئه ويراه في يد غيره ؟ فغضب عمر وصاح ـ وقد حضره في هذه الآونة أمر كان يكتمه ـ ما أنت يا ابن عباس ! إنّي قد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي .

قال ابن عباس : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ أخبرني به فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقّاً فإنّ منزلتي عندك لا تزول به .

قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول : اُخذ هذا الأمر منّا حسداً وظلماً .

ــــــــــــ

(١) محمد (٤٧) : ٩ .

(٢) القلم (٦٨) : ٤ .

(٣) الشعراء (٢٦) : ٢١٥ .

(٤) القصص (٢٨) : ٦٨ .

(٥) الأحزاب (٣٣) : ٣٣ .

١٤١

فلم ينكص ابن عباس ولم يتزحزح عن مواطئ قدميه ، بل قال : نعم حسداً وقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة ، ونعم ظلماً وإنّك لتعلم يا أمير المؤمنين صاحب الحقّ من هو يا امير المؤمنين ، ألم تحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول الله واحتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول الله ؟ فنحن أحقّ برسول الله من سائر قريش وغيرها .

فقال عمر : إليك عنّي يا ابن عباس ، فلما رآه عمر قائماً يريد أن يبرح خشي أن يكون قد أساء إليه فأسرع يقول متلطّفاً به : أيّها المنصرف ! إنّي على ما كان منك لراعٍ حَقَّكَ .

فالتفت ابن عباس إليه وهو يقول ولم يزايله جدّه : إنّ لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كلّ المسلمين حقّاً برسول الله ، فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحقّ نفسه أضاع(١) .

موقف الإمامعليه‌السلام من الشورى :

أَلمَّ الحزن والأسى بقلب الإمام عليّعليه‌السلام ، وساورته الشكوك والمخاوف من موقف عمر وترشيحه ، فأيقن أنّ في الأمر مكيدةً دبّرت لإقصائه عن الخلافة وحرف الحكومة الإسلامية عن مسارها الصحيح ، وما إن خرج الإمامعليه‌السلام من عند عمر ؛ حتى تلقّاه عمّه العباس فبادره قائلاً :

يا عمّ ، لقد عُدِلَتْ عنّا ، فقال العباس : من أعلمك بذلك ، فقال عليّعليه‌السلام : قُرن بي عثمان ، وقال عمر : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٣ / ٢٨٩ و ٢٩٠ ط مؤسسة الأعلمي .

١٤٢

الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني(١) .

وصدق تفرّس الإمامعليه‌السلام فقد آلت الخلافة إلى عثمان بتواطؤ عبد الرحمن ، فقد روي أنّ سعداً وهب حقّه في الشورى لابن عمّه عبد الرحمن ، ومال طلحة لعثمان فوهب له حقّه ، ولم يبق إلاّ الزبير فتنازل عن حقّ لصالح الإمامعليه‌السلام ، وهنا عرض عبد الرحمن أن يختار الإمام أو عثمان فقال عمار : إن أردت ألاّ يختلف المسلمون فبايع عليّاً ، فردّ عليه ابن أبي سرح : إن أردت ألاّ تختلف قريش فبايع عثمان فتأكّد التوجّه غير السليم للخلافة وبدت أعراض الانحراف واضحة جلية تؤجّجها نار العصبية .

فعرض عبد الرحمن بيعته بشرط السير على كتاب الله وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الشيخين ، فرفض الإمام سيرة الشيخين وقبلها عثمان فتمّت له البيعة ، فقال عليّعليه‌السلام لعبد الرحمن :(حبوته حبو دهره ، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (٢) (والله ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دقَّ الله بينكما عطر منشم) (٣) .

ثمّ التفتعليه‌السلام إلى الناس ليوضّح لهم خطأهم المتكرّر في الاستخلاف ورأيه في مصير الرسالة الإسلامية فقال :

(أيّها الناس ! لقد علمتم أنّي أحقّ بهذا الأمر من غيري ، أما وقد انتهى الأمر إلى ما

ــــــــــــ

(١) المصدر السابق : ٥ / ٢٢٦ .

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩٧ ط مؤسسة الأعلمي .

 (٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ١٨٨ .

١٤٣

ترون ، فو الله لأُسالمنّ ما سَلِمَتْ أمورالمسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة ، التماساً لأجرِ ذلك وفضلِه ، وزهداً فيما تنافَسْتُموه من زُخرفه وزِبْرجه) (١) .

إنّ الإمامعليه‌السلام دخل مع الباقين في الشورى وهو يعلم بما ستؤول إليه ، محاولة منه لإظهار تناقض عمر ومن سار على نهجه عند وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان يرى أنّه لا تجتمع الخلافة والنبوّة في بيت واحد ، أمّا الآن فقد رشّح الإمامعليه‌السلام للخلافة .

روي عن أمير المؤمنين : (ولكنّي أدخل معهم في الشورى لأنّ عمر قد أهَّلني الآن للخلافة ، وكان قبل ذلك يقول : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنَّ النبوّة والإمامة لا يجتمعان في بيت ، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته)(٢) .

وبايع الإمامعليه‌السلام عثمان بن عفّان سعياً منه أن يصلح الأُمة ويوجّهها ، وأن يحافظ على كيانها ، فلم يبخل على الأُمة بالنصيحة والهداية والتربية ، فإن أبعدت الخلافة عنهعليه‌السلام فإنّه لم يدّخر وسعاً إلاّ وبذله يوضّح الحقّ ويُرشد إليه ، ويهدي السبيل الصحيح ويُدلّ عليه ، ويعين الحاكم حين يعجز ، ويعلّمه إذ يجهل ، ويردعه إذ يطيش.

لماذا لم يوافق الإمامعليه‌السلام على شرط عبد الرحمن بن عوف ؟

لم يقف الإمام عليّعليه‌السلام موقف المعارض للخليفتين لمصلحة خاصّة أو غاية شخصية ، إنّما لصالح الدين والأمة والعقيدة الإسلامية ، مبتعداً عن الأهواء والرغبات ، مستنداً على القرآن والسنّة في كلّ مواقفه ، حريصاً على الموضوعية والرسالية في كل قرار يتّخذه وهو الراعي لشؤون الرسالة والأمة في غياب الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لئلاّ يشوب الرسالة الإسلامية شيء يحيد بها عمّا نزلت من أجله .

وموقفه من رفض البيعة بشرط سيرة الشيخين نابع من هذا المنطلق ، فلا يوجد في أصل العقيدة شيء يصحّ أن يسمّى بسيرة الشيخين ، وإنّما هناك القرآن والسنّة النبوية ، فلو أنّ الإمام وافق بهذا الشرط ؛ لكان معناه إمضاء سيرة الشيخين كالسنّة النبويّة ، وإنّ في سيرة الشيخين أنواع التناقض والتفاوت فيما بينهما معاً ، بل فيما بينهما وبين القرآن والسنّة النبويّة الشريفة .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ٧٤ ، طبعة صبحي الصالح .

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد : ١ / ١٨٦ .

١٤٤

ثمّ إنّ الإمامعليه‌السلام يرى أنّ دوره دور المربي بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الأُمة ، فلم يكن من شأنه أن يوافق على أن يسير بسيرة الشيخين ثم يخالفها كما فعل عثمان حيث رضي بهذا الشرط ولكنّه لم يفِ به .

الفصل الرابع: الإمام عليعليه‌السلام في عهد عثمان(*)

قال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام واصفاً عهد عثمان :

(إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه بين نَثيله ومعتلَفِه ، وقام معه بنو أبيه يخضَمون مال الله خِضْمَةَ الإبل نِبْتَةَ الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتلُه ، وأجهز عليه عملُه ، وكبَتْ به بِطْنَتُهُ) (١) .

لم يكن عثمان كسابقيه سياسياً ماكراً يدير شؤونه بدقّة ، فما أن فرضه ابن عوف خليفة للمسلمين وجاءوا به يزفّونه إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعلن سياسة حكومته الجديدة وما أعدّ من مواقف لمستجدات الأمور ؛ صعد على المنبر فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يجلس فيه أبو بكر ولا عمر ، إذ كان أبو بكر يجلس دونه بمرقاة ، وعمر كان يجلس دونه أيضاً بمرقاة ، وتكلّم الناس في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشرّ(٢) .

ولم يستطع أن يتكلّم ، فقال : أمّا بعد ، فإنّ أول مركب صعب ، وما كنا خطباء ، وسيعلم الله وإنّ أمراً ليس بينه وبين آدم إلاّ أب ميّت لموعوظ(٣) .

ــــــــــــ

(*) استخلاف عثمان بن عفان في ذي الحجّة سنة (٢٣) هـ .

(١) نهج البلاغة : من الخطبة الشقشقية .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٣ ، والبداية والنهاية : ٧ / ١٦٦ ن وتأريخ الخلفاء : ١٦٢ .

(٣) راجع الموفقيات : ٢ / ٢ .

١٤٥

وقال اليعقوبي : فقام مليّاً لا يتكلّم ثم قال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً وأنتم إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقّق الخطب وإن تعيشوا فسيأتيكم الخطْب ، ثم نزل(١) .

استهلّ عثمان أعماله بأمور جعلت عامّة المسلمين ينقمون عليه سوى أفراد عشيرته ـ بني أُمية ـ فقد جاهر بقبيلته وأظهر ميله لقوم معلناً أمويَّته ، فأخذ يسوّدهم ويرفعهم فوق رقاب الناس ، فوزّع مناصب الولاية على بني أُمية وسلّم إليهم مقاليد الأمور يعبثون بلا رادع لهم .

وقد تجاوز عثمان حدود سياسة سلطة العشير التي رسمها أبو بكر وعمر ، وحصر المناصب والمهامّ الرسمية ضمن دائرة ضيّقة هي بني أُمية .

ولم يعبأ بنصح وتحذير الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فإنّ عثمان وصل إلى الحكم وقد استفحل التوجّه القبلي في مقابل النهج الصحيح للحكومة الإسلامية ، وقد ضعف دور العناصر الصالحة في تغيير سياسة الحاكم مباشرة ، فقد كان لسياسة أبي بكر وعمر من إبعاد أمير المؤمنينعليه‌السلام عن الحكم واعتمادهم على آرائهم الأثرُ الكبيرُ في انحراف خطّ السلطة الحاكمة وظهور التيار المعادي لخطّ أهل البيتعليهم‌السلام ، لذا فليس من السهل أن ينصاع الخليفة الجديد للنصح وحوله تيار المنافقين والطلقاء وذوو المصالح .

أبو سفيان بعد بيعة عثمان :

بعد أن تمّت بيعة عثمان ؛ أقبل أبو سفيان إلى دار عثمان بن عفان وقد غصّت بأهله وأعوانه تسودهم نشوة النصر والفوز بالحكم ، وقد بدت على ملامحه علامات الفرح والسرور ، تعلو شدقه بسمة حقود شامت ، ففي الأفق تلوح بوادر الاستعلاء بعدما أذلّ كبرياءَهم الإسلام ، فأدار وجهه يميناً وشمالاً قائلاً للحاضرين

ــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٣ .

١٤٦

المجتمعين في دار عثمان : أفيكم أحد من غيركم ؟ فأجابوه بالنفي فقال : يا بني أُمية ! تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنّةٍ ولا نارٍ ، ولا حسابٍ ولا عقابٍ ولقد كنت أرجوها لكم ، ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة(١) .

ثمّ سار إلى قبر سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، فوقف على القبر وركله برجله وقال : يا أبا عمارة ! إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا يتلعّبون به(٢) .

ملامح سلبيّة في حكم عثمان :

تعايش الإمام عليّعليه‌السلام مع أبي بكر وعمر ، ولم يظهر معارضته العلنية لهما ، فقد كان الانحراف في مسيرة الحكومة الإسلامية مستتراً ، وكان الإمامعليه‌السلام يتدخّل في أحيان كثيرة لإصلاح موقف الخليفة الخاطئ فيستجيب له ، ولم يخشَ أبو بكر وعمر من الإمامعليه‌السلام إلاّ لكونه الممثّل الشرعي للأمة وصاحب الحقّ في الخلافة وقائداً لتيار المعارضة الذي يضمّ أجلاّء الصحابة ، ولكنّ الإمام تنازل عن حقّه في الخلافة فأمّن القوم من جانبه ، ولكنه لم يتنازل عن المبدأ الذي ورثه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكونه المراقب والمحافظ للعقيدة الإسلامية .

أمّا في فترة حكم عثمان فقد استشرى الفساد ودبَّ في أجهزة الدولة بصورة علنية مكشوفة ، وانتقلت العدوى إلى فئات المجتمع الإسلامي ، فوقف الإمام معلناً رفضه واستنكاره على عثمان بصورة علنية ، ووقف معه الصحابة الأجلاّء أمثال عمّار بن ياسر وأبي ذر ، بل حتّى الذين وقفوا موقف المعارض لخلافة أمير المؤمنين لم يرضوا على عثمان سوء إدارته وفساد حكومته ، ويمكن لنا أن نجمل طبيعة حكم عثمان وملامحه فيما يلي :

ــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ١ / ٤٤٠ .

(٢) راجع الغدير : ٨ / ٢٧٨ ، والاستيعاب : ٢ / ٦٩٠ ، وتأريخ ابن عساكر : ٦ / ٤٠٧ ، والأغاني : ٦ / ٣٣٥ .

١٤٧

إن عثمان وصل إلى الحكم وقد تجاوز السبعين عاماً ، وكان وصولاً لأرحامه ولوعاً بحبّهم وإيثارهم ، فقد روي عنه قوله : لو أن بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتها بني أُمية حتى يدخلوا من عند آخرهم كما أنّ عثمان عاش غنيّاً مترفاً قبل الإسلام ، وظلّ على غناه في الإسلام ، فلم يكن ليتحسّس معاناة الفقراء وآلام المحرومين ، فكانت شخصيته مزدوجة في التعامل مع الجماهير المحرومة التي تطالبه بالعدل والسوية ، فيعاملها بالشدّة والقسوة ، كما في تعامله مع عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر وغيرهم .

وأمّا من جهة أقربائه وقلّدهم الأمور ، فاستعمل الوليد بن عقبة ابن أبي معيط على الكوفة وهو ممّن أخبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه من أهل النار ، وعبد الله ابن أبي سرح على مصر ، ومعاوية بن أبي سفيان على الشام ، وعبد الله بن عامر على البصرة ، وصرف الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاّها سعيد بن العاص(١) .

وكان عثمان ضعيفاً أمام مروان بن الحكم ، يسمع كلامه وينفّذ رغباته ، حتى أنّه عندما تألّبت الأمصار على عثمان وتأزّمت الأوضاع ؛ تدخّل الإمام ليهدّئ الحالة ويرجع الثائرين ـ الذين جاءوا يطالبون بإصلاح السياسة الإدارية والمالية وتبديل الولاة ـ إلى بلدانهم ، وأخذ من عثمان شرطاً أن لا يطيع مروان بن الحكم وسعيد بن العاص .

ولكن بمجرد أن هدأت الأوضاع ؛ عاد مروان وحرّض عثمان على أن يخرج وينال من الثوار ، فخرج إليه الإمام عليّعليه‌السلام مغضباً فقال :(أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الضعينة يُقاد

ــــــــــــ

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٠ وتأريخ الطبري : ٣ / ٤٤٥ ط مؤسسة الأعلمي ، وأنساب الأشراف للبلاذري : ٥ / ٤٩ ، وحلية الأولياء : ١ / ١٥٦ ، وشيخ المضيرة أبو هريرة : ١٦٦ ، والغدير : ٨ / ٢٣٨ ـ ٢٨٦ والنص والاجتهاد : ٣٩٩ .

١٤٨

حيث يُسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه) (١) ؟

وفي موقف آخر مع الوليد بن عقبة أنّ الخليفة عثمان غضب على الشهود الذين شهدوا على الوليد بشربه الخمر ودفعهم ، وهنا تدخّل الإمام وهدّد عثمان من عواقب الأمور ، فأمره الإمامعليه‌السلام باستدعاء الوليد ومحاكمته وإقامة الحد عليه ، وحين اُحضر الوليد وثبتت عليه شهادة الشهود ؛ أقام الإمامعليه‌السلام عليه الحدّ ممّا أغضب عثمان ، فقال للإمام : ليس لك أن تفعل به هذا ، فأجابه الإمام بمنطق الحقّ والشرع قائلاً :(بل وشرّ من هذا إذا فسق ومنع حقّ الله أن يؤخذ منه) (٢) .

وأمّا سياسة عثمان المالية فقد كانت امتداداً لسياسة عمر من إيجاد الطبقية وتقديم بعض الناس على بعض في العطاء ، إلاّ أنّها أكثر فساداً من سياسة سابقه ، فقد أثرى بني أميّة ثراءً فاحشاً ، وحين اعترض عليه خازن بيت المال قال له : إنّما أنت خازن لنا ، فإذا أعطيناك فخذ وإذا سكتنا عنك فاسكت ، فقال : والله ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك ، إنّما أنا خازن للمسلمين وجاء يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال : أيّها الناس ! زعم عثمان أنّي خازن له ولأهل بيته ، وإنّما كنت خازناً للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم ، ورمى بها(٣) .

موقف للإمام عليعليه‌السلام مع عثمان :

نقم المسلمون على عثمان ، وتصلّب خيار الصحابة في مواقفهم تجاه انحراف الخليفة وجهازه الحاكم ، وفي قبال ذلك أمعن عثمان بالتنكيل بالمعارضين والمندّدين بسياسته المنحرفة ، وبالغ في ذلك دون أن يرعوي لصحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن ذلك أنّ أبا ذر الصحابيّ الجليل أكثَرَ من اعتراضه

ــــــــــــ

(١) الطبري : ٣ / ٣٩٧ ط مؤسسة الأعلمي .

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٢٢٥ .

(٣) الطبقات لابن سعد : ٥ / ٣٨٨ ، وتاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٥٣ ، وأنساب الأشراف : ٥ / ٥٨ ، والمعارف لابن قتيبة : ص ٨٤ ، وشيخ المضيرة أبو هريرة : ١٦٩ ، والغدير : ٨ / ٢٧٦ .

١٤٩

على مساوئ عثمان ، فسيّره إلى الشام ، ولم يطق معاوية وجوده فأرجعه إلى المدينة ، واستمرّ أبو ذر بجهاده وإنكاره السياسة الأموية ، فضاق عثمان به ذرعاً فقرّر نفيه إلى الربذة ومنع الناس من توديعه.

ولكنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام خفّ لتوديعه ومعه الحسنان وعقيل وعبد الله بن جعفر ، فاعترضهم مروان بن الحكم ليردّهم ، فثار الإمام عليّعليه‌السلام فحمل على مروان ، وضرب أذني دابته وصاح به :تنحَّ نحّاك الله إلى النار (١) ، ووقف الإمام عليّعليه‌السلام مودّعاً أبا ذر فقال له :(يا أبا ذر ! إنّك غضبت لله فَارْجُ من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ! وما أغناك عمّا منعوك ! وستعلم مَن الرابح غداً والأكثر حسداً !) (٢) .

فلمّا رجع عليّعليه‌السلام من توديع أبي ذر ؛ استقبله الناس فقالوا له : إنّ عثمان عليك غضبان ، فقال عليّعليه‌السلام :(غضب الخيل على اللجم) .

الآثار السلبية لحكومة عثمان في الأُمة :

كانت حكومة عثمان استمراراً للخطّ السياسي الحاكم غير الواعي لمحتوى الرسالة سلوكاً ومعتقداً ، فتركت آثارها السيّئة على مسيرة الحكومة الإسلامية والأمة ككل ، وأضافت مثالب ومطاعن في وضوح الرسالة الإسلامية لدى الجماهير الإسلامية التي لم تعش مع القائد المعصوم ـ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سوى عقد واحد رأته فيها حاكماً ومربيّاً ، واشتعلت نار الفتن في أطراف البلاد الإسلامية والتي جرّت على المسلمين الويلات والملمّات ، فإنّنا من خلال سبرنا أغوار التأريخ نستنتج ما يلي .

ــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠ .

(٢) شرح النهج : ٣ / ٥٤ ، وذكر ذلك أبو بكر أحمد بن عبد العزيز في كتابه السقيفة ، وأعيان الشيعة : ٣ / ٣٣٦ .

١٥٠

١ ـ إنّ حكومة عثمان ابتعدت عن نهج الشريعة الإسلامية ، فعطّلت الحدود وأشاعت الفساد وتهاونت في محاسبة المسؤولين عن ذلك ، وهذا ما فسح المجال لشيوع الفوضى في السلوك الاجتماعي وبثّ روح التمرّد على القانون وكان من مظاهر الفساد شيوع الاستهتار والاستخفاف بالقيم والأحكام الإسلامية ، فنجد أنّ بيوت الولاة والشخصيّات المتنفّذة تعجّ بحفلات الغناء ومجالس الخمرة(١) .

٢ ـ ركّزت حكومة عثمان على روح العصبية القبلية التي شرّعها أبو بكر في نهجه السياسي القبلي ، فتوضّح في بروز سلطة بني أُمية كاُسرة لها سلطتها على جميع مرافق الدولة لا لشيء سوى أنّها ترى لنفسها السيادة الملطقة التي انتزعها الإسلام منها ، لأنّها ليس لها أساس شرعي، وأصبح بنو أُمية جبهة سياسية قويّة لها توجّهها المناوئ للإسلام وخصوصاً لخطّ آل البيتعليهم‌السلام فأصبحوا فيما بعد العقبة الرئيسة أمام حكم الإمام عليّعليه‌السلام ، حيث تكتّلوا حول معاوية بن أبي سفيان في مواجهة الإمام عليّعليه‌السلام .

٣ ـ اعتبرت حكومة عثمان أنّ الحكم حقّ موهوب لهم ولا يحقّ لأحد انتزاعه ، واتخذوه وسيلةً لإرضاء رغباتهم المنحرفة وشهواتهم الشيطانية ، ولم تجعل من الحكم وسيلةً للإصلاح الاجتماعي ونشر الرّسالة الإسلامية في بقاع الأرض(٢) ممّا شجّع الكثيرين في السعي للتسلّق إلى الحكم للتمتّع بالسلطة والجاه ، فعمرو بن العاص ومعاوية وطلحة والزبير لم يكونوا ينشدون من السعي للحكم أيّ هدف إنساني أو اجتماعي يعود بالنفع والمصلحة على الأُمة .

٤ ـ خلقت حكومة عثمان طبقة كبيرة من الأثرياء(٣) تتضرّر مصالحها مع الحكومة القائمة في مواجهةِ حكومة تطالب بتطبيق الحقّ والشرع ، ممّا أدّى إلى

ــــــــــــ

(١) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني : ٧ / ١٧٩ .

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد : ٣ / ٦٤ ، وتأريخ الطبري : ٥ / ٣٤١ ـ ٣٤٦ .

(٣) مروج الذهب : ٢ / ٣٤٢ .

١٥١

تحرّك قطعات المسلمين الفقراء للمطالبة بالقوّة في إصلاح النظام المالي وتطوير الحياة الاقتصادية وتنظيم الدخل الفردي وحركة أبي ذرّ تجاه الفساد المالي للحكومة خير شاهد ودليل على عمق تفشّي الفقر في أوساط الأُمة .

٥ ـ إنّ استعمال العنف والقوّة والشدّة والقسوة في التعامل مع المعترضين وإهانتهم ولّد ردّة فعل معاكسة للثورة على النظام القائم عسكرياً ، وكان مقتل عثمان نقطة تحوّل في الصراعات الدائرة بين وجهات نظر المسلمين ، فعمل السيف عمله في أفراد الأُمة وأجّجه وزاد فيه تعنّت بني أمية ومن والاهم على تحدّي الحقّ ورغبة الأُمة في الإصلاح .

وهذا ما فسح المجال أمام النفعيّين في الوصول إلى الحكم بقوّة السيف بعد أن افترقت الأُمة الإسلامية في توجّهاتها السياسية ، كلّ فرقة تريد الحكم لنفسها .

٦ ـ خلّف مقتل عثمان فتنةً يتأجّج أوارها كلّ حين ، وشعاراً يرفعه النفعيّون والخارجون على الطاعة والبيعة لإثارة المشاكل والحروب تجاه حكومة شرعية جماهيرية بزعامة الإمام عليّعليه‌السلام ، وتكامل دور الفتنة والشقاق على يد معاوية فيما بعد ، فحارب الإمامعليه‌السلام وسالت دماء المسلمين كثيراً ، ثمّ حرّفوا التوجّه الديني الصحيح إلى ثقافة مشبوهة يحرّكون بها المجتمع لغرض إدامة سلطانهم الذي تحوّل إلى ملك متوارث ، يساعدهم على ذلك سعة الدولة الإسلامية الجديدة ووجود فئات واسعة من المجتمع الإسلامي لم تفهم العقيدة الإلهية بوعي وبصيرة .

٧ ـ من نتائج الثورة على عثمان أن وجدت فئات مسلّحة من مختلف الأقطار الإسلامية لا زالت تحيط بالمدينة تنتظر مصير الحكومة ، كما أنّ الأحداث أثبتت وشجّعت على تحرّك الجماهير لتغيير الحكم بالقوّة ، وهذا يعتبر ورقةَ ضغطٍ قويّةً تؤثّر على الحكم الجديد .

١٥٢

الباب الرّابع فيه فصول :

الفصل الأوّل : الإمام عليّعليه‌السلام بعد مقتل عثمان.

الفصل الثاني : الإمام عليّعليه‌السلام مع الناكثين.

الفصل الثالث : الإمام عليّعليه‌السلام مع القاسطين.

الفصل الرابع : الإمام عليّعليه‌السلام مع المارقين.

الفصل الخامس : الإمام عليّعليه‌السلام شهيد محراب.

الفصل السادس : تراث الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

الفصل الأول: الإمام عليّعليه‌السلام بعد مقتل عثمان

بيعة المسلمين للإمام عليّعليه‌السلام (*) :

سادت الفوضى أرجاء المدينة بعد مقتل عثمان ؛ فاتّجهت الأنظار والآراء إلى الإمام عليّعليه‌السلام لينقذ الأمة من محنتها وتخبّطها ، ولم يتجرّأ أحد أن يدّعي أحقيّته بالخلافة التي تكتنف طريقها المشاكل المستعصية ، كما أنّ الظرف السياسي لم يمهل عثمان أن يتّخذ قراراً بشأن الخلافة كما اتّخذ صاحباه من قبل ، ولم يكن المتبقّي من أصحاب الشورى يملك مؤهّلات الخلافة أصلاً ، فكيف وقد تعقّدت الأمور وتدهور وضع الدولة وكيانها ، ولابدّ أن يتزعّم الأمة قائدٌ يملك القدرة للنهوض بالأمة بعد انحطاطها وقيادتها لاجتياز الأزمة وصيانتها عن الضياع ، ولم يكن من شخص إلاّ الإمام عليّعليه‌السلام راعيها وسيّدها .

تحرّكت جماهير المسلمين بإصرار نحو الإمام عليّعليه‌السلام لتضغط عليه كي يقبل قيادتها ، ولكنّ الإمامعليه‌السلام استقبل الجماهير المندفعة بوجوم وتردّد ، فقد حُرِم منها وهو صاحبها وجاءته بعد أن امتلأت الساحة انحرافاً والأمة تردّياً ، وتجذّرت فيها مشاكل تستعصي دون النجاح في المسيرة ، فقال لهم :(لا حاجة لي

ــــــــــــ

(*) تمّت بيعة الإمام عليّعليه‌السلام في ذي الحجّة عام (٣٥) هـ.

١٥٣

في أمركم أنا معكم فمن اخترتم رضيت به فاختاروا) (١) وقالعليه‌السلام :(لا تفعلوا فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً) (٢) .

وأوضح لهم الإمامعليه‌السلام عمّا سيجري فقال :(أيّها الناس ! أنتم مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت له العقول ...) (٣) وأمام إصرار الجماهير على توليته الأمر قال لهم :(إنّي إن أجبتُكم ركبتُ بكم ما أعلم وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ، ألا وإني من أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ) (٤) وتكاثرت جموع الناس نحو الإمام وقد وصفعليه‌السلام توجّههم نحوه مطالبين قبوله بالخلافة بقوله :(فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع ينثالون عليَّ من كلّ جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم) (٥) .

لم يكن الإمام حريضاً على السلطان ، بل كان حرصه أن ينقذ ما بقي من الأمة ، وأن يحافظ على الشريعة الإسلامية نقيّةً من الشوائب والبدع ، فَقبِلَ أن يتولّى أمر الخلافة ولكنّه أخَّر القبول إلى اليوم الثاني ، وأن تكون بيعة الجماهير علنيةً في المسجد ، رافضاً بذلك أسلوب بيعة السقيفة والتوصية والشورى ، وفي الوقت ذاته ليعطي الأمة فرصةً أخرى كي تمتحن عواطفها وقرارها في الخضوع له ، فقد ضَيَّعَتْ فيما سبق نصوص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلافته فانحرفت ومن هنا قالعليه‌السلام :(والله ما تقدّمت عليها ـ أي الخلافة ـ إلاّ خوفاً من أن ينزو على الأمة تيسٌ علج من بني أمية فيلعب بكتاب الله عَزَّ وجَلَّ) (٦) .

لقد كانت خطورة الموقف من نفوذ بني أمية في مراكز الدولة وطمعهم الشديد للسلطان في حالة من غياب الوعي الرسالي في المجتمع .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٤٥٠ ط مؤسسة الأعلمي .

(٢) المصدر السابق .

(٣) و (٤) نهج البلاغة : الكلمة (٩٢) .

(٥) نهج البلاغة : الخطبة (٣) المعروفة بالشقشقية .

(٦) عن أنساب الأشراف ١ : ق ١ / ١٥٧ .

١٥٤

وما أن أقبل الصباح ؛ حتى حفّت الجماهير بالإمامعليه‌السلام تسير نحو المسجد ، فاعتلى المنبر وخاطب الجماهير :(يا أيّها الناس ! إنّ هذا أمركم ليس لأحدٍ فيه حقّ إلاّ من أمَّرْتُم ، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم ، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم ، وإلاّ فلا آخذ على أحد ...) .

فهتفت الجماهير بصوت واحد : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس وقالوا : نبايعك على كتاب الله ، فقالعليه‌السلام :اللّهمّ اشهد عليهم (١) .

وتدافع الناس كالموج المتلاطم إلى البيعة ، فكان أوّل من بايع طلحة بيده الشلاّء والذي سرعان ما نكث بها عهد الله وميثاقه ، وجاء بعده الزبير فبايع ، ثمّ بايعه أهالي الأمصار وعامّة الناس من أهل بدر والمهاجرين والأنصار عامّة .

كانت بيعة الإمام عليّعليه‌السلام أول حركة انتخاب جماهيرية ، ولم يحضَ أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة ، وبلغ سرور الناس ببيعتهم أقصاه ، فقد أطلّت عليهم حكومة الحقّ والعدل ، وتقلّد الخلافة صاحبها الشرعي ناصر السمتضعفين والمظلومين ، وفرحت الأمة بقبول الإمام للخلافة كما وصف الإمامعليه‌السلام ذلك بقوله :(وبلغ سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير ، وهَدَجَ اليها الكبير ، وتحامل نحوها العَليل ، وحَسَرَتْ إليها الكِعاب) (٢) .

المتخلّفون عن بيعة الإمامعليه‌السلام :

إنّه لأمر طبيعيّ أن يقف ضد الحقّ أو يحايد من ساءت سريرته وضعف يقينه وأضمرت نفسه الحقد والحسد ، فرغم أنّ الإمام علياًعليه‌السلام هو الخليفة الشرعي كما نصّت على ذلك الأحاديث النبويّة الشريفة ، وأكدّها تأريخ الرسالة الإسلامية بأنّ خير من يصون الأمة والرسالة بعد غياب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الإمام

ــــــــــــ

(١) أنساب الأشراف : ٥ / ٢٢ .

(٢) نهج البلاغة : الكلمة (٢٢٩) .

١٥٥

عليّعليه‌السلام لما له من قابليات ومؤهّلات لا تتوفر لغيره من المسلمين ، كما وأنّ الأمة هي التي فزعت إلى الإمام بكل شرائحها وفئاتها ترتجي منه قبول الخلافة ، لكنّنا نجد أنّ فئة قليلة اتّسمت بالانحراف عن الحقّ والجبن في مواجهته بدأت ترتدّ عن بيعتها .

لقد كان تخلّفهم خرقاً لإجماع الأمة وتحدّياً لبيعتها ، وبذلك فتحوا باباً جديدة في تأجيج الفتنة واستمرار الصراع الداخلي ، ومن هؤلاء المتخلّفين : سعد ابن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن البشير ، ورافع بن خديج ، وعبد الله بن سلام ، وقدامة بن مظعون ، وأسامة بن زيد ، والمغيرة بن شعبة ، وصهيب بن سنان ، ومعاوية بن أبي سفيان(١) .

ولكنّ بعضهم ندم على تفريطه في أمر بيعة الإمام ، وأما موقف الإمامعليه‌السلام من هؤلاء فإنّه لم يتعرّض لأحد منهم بأيّ سوء ، وتركهم وحالهم في الأمة لهم ما للناس وعليهم ما على الناس .

عقبات في طريق حكومة الإمامعليه‌السلام :

وصل الإمام عليّعليه‌السلام إلى الحكم بعد ربع قرن من عزله عن ممارسة الحكم الإسلامي وقيادة الأمة والدولة ، وهما يسيران في مسارات منحرفة للسلطات التي حكمت طيلة هذه الفترة ، فكان هذا عاملاً مؤثّراً في إضعاف موقف الإمامعليه‌السلام من الأحداث ، فطوال الفترة السابقة أَلِفَ الناس أن يروا الإمام محكوماً لا حاكماً ، محكوماً لأناس أقلّ كفاءةً وشأناً منه كما أنّ عدداً من الشخصيات تنامى لديها الشعور بالمنافسة وبلوغ قمّة السلطة لتحقيق أغراضهم الشخصية ، فالزبير في السقيفة كان يدافع عن حقّ الإمامعليه‌السلام مقابل الفئات المندفعة نحو السلطة ، ثمّ نجده اليوم ينازع الإمام على السلطة ، ومعاوية الطليق ابن الطليق أصبح بعد هذه المدّة مناوئاً قويّاً يهدّد كيان الدولة .

وأيضاً ممّا أعاق حركة الإمام أنّ العناصر التي وقفت ضدّه على الخطّ المنحرف كان أغلبهم ممّن له صحبة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا ممّا انخدع به أعداد كبيرة من المسلمين ، وعقّد الأمر على نجاح حكومتهعليه‌السلام واستمراره في الحكم .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٤٥٢ ط مؤسسة الأعلمي .

١٥٦

إضافة إلى أنّ الإمامعليه‌السلام استلم دولة مترامية الأطراف ، ففي زمن أبي بكر لم تكن تتجاوز الدولة الإسلامية حدود الجزيرة والعراق ، أمّا في عهد الإمام فإنّها تمتد إلى شمال أفريقيا وأواسط آسيا إضافةً إلى تمام الجزيرة والعراق والشام ، وقد دخل في الإسلام أقوام من غير العرب ، وهؤلاء المسلمون الجدد فتحوا عهدهم مع الإسلام في ظلّ حكومة غير معصومة ، بل منحرفة عن الخطّ الصحيح للرسالة الإسلامية ، وكان على حكومة الإمام القيام بمهامّ رئيسية في أقصر وقت مع وجود الصراع الداخلي فمنها :

١ ـ هدم الكيان الطبقي الذي أنشأه الخلفاء وذلك عبر :

أ ـ المساواة في العطاء بين المسلمين جميعاً ، متّبعاً في ذلك سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أهملها من كان قبله من الخلفاء ، وقد أوضح في خطبته سياسة التوزيع النابعة من حكم الله( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) فقال :

(ألا وأيّما رجلٍ استجاب لله وللرسول فصدّق ملّتنا ودخَل في ديننا واستقبل قبلتنا ؛ فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يُقسّم بينكم بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، وللمتّقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب) (١) .

ب ـ استرجاع الأموال المنهوبة من بيت المال في عهد عثمان ، فقد أعلن الإمام أنّ الأموال المأخوذة بغير حقّ ـ وما أكثرها في عهد عثمان ـ لابدّ أن ترجع

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٣٢ / ١٧ و ١٨ .

١٥٧

إلى بيت المال ، حيث كانت الأموال الطائلة عند طبقة محيطة بالخليفة أو أنّ عثمان كان يعطيها ليستميلها إليه فقالعليه‌السلام :(ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تُزوج به النساء ومُلك به الإماء وفرِّق في البلدان لرددته ، فإنّ في العدل سعةً ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق) (١) .

هذه السياسة المالية لم ترق لقريش ، فقد كان العايد من أقطابها تنالهم قرارات الإمام وهم في أنفة الطغيان والتكبّر والاستعلاء ، مثل : مروان بن الحكم وطلحة والزبير ، فما أن استوثقوا الجدّ في عمل الإمام حتى بدأوا بإثارة الفتن والإحَن أمام حكومة الإمام ، حتى أن طلحة والزبير جاء إلى الإمامعليه‌السلام يعترضان على ذلك فقالا : إنّ لنا قرابةً من نبي الله وسابقةً وجهاداً ، وإنّك أعطيتنا بالسوية ولم يكن عمر ولا عثمان يعطوننا بالسوية ، كانوا يفضّلونا على غيرنا .

فقالعليه‌السلام :فهذا كتاب الله فانظروا ما لكم من حقٍّ فخذوه ، قالوا : فسابقتنا ! قالعليه‌السلام :أنتما أسبق منّي ؟ قالا : لا ، فقرابتنا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! قالعليه‌السلام :أقرب من قرابتي ؟ قالا : لا ، فجهادنا ، قالعليه‌السلام :أعظم من جهادي ؟ قالا : لا ، قالعليه‌السلام :فو الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلاّ بمنزلة سواء (٢) .

ج ـ المساواة أمام حكم الله تعالى : لم يكن الإمامعليه‌السلام غافلاً عن تطبيق أحكام الشريعة في عهد من سبقه من الخلفاء ، فكان يحكم ويفصل بالحقّ والعدل ، إذ يعجز غيره ، وما أن استلم زمام أمور الدولة ؛ حتى ضرب أروع صنوف العدل وسلك أوضح سبل الحقّ مظهراً عدل الشريعة الإلهية وقدرة الإسلام على إقامة دولة تنعم بالحرية والأمان والعدل .

ومواقف الإمامعليه‌السلام كثيرة وما كان يتحرّج أن يجري القانون على نفسه وأهل

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة (١٥) .

(٢) بحار الأنوار : ٤١ / ١١٦ .

١٥٨

بيته وأصحابه ، فقد ترافع مع اليهودي إلى شريح القاضي ليفصل بينهم في درع افتقدهعليه‌السلام (١) .

وقد كانت أحكام الإمام في فصل القضاء نابعة من عمق الشريعة وسعة علم الإمام بأمور الدين والدنيا ، وتدلّ على العصمة في الفكر والعمل .

٢ ـ التنظيم الإداري وإعادة السيطرة المركزية للدولة :

فقد قام الإمامعليه‌السلام بإعفاء الولاة الذين عيّنهم عثمان من مناصبهم ، ونصب ولاة كانوا جديرين بهذه المهمّة ، وهم محلّ ثقة المسلمين ، فأرسل عثمان بن حنيف الأنصاري بدلاً عن عبد الله بن عامر إلى البصرة ، وعلى الكوفة أرسل عمارة بن شهاب بدلاً عن أبي موسى الأشعري ، وعلى اليمن عبيد الله بن عبّاس بدلاً عن يعلى بن منبه ، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بدلاً عن عبد الله بن سعد ، وعلى الشام سهل بن حنيف بدلاً من معاوية بن أبي سفيان ، كلّ هذا لسوء سيرة الولاة السابقين وفساد إداراتهم حتى آخر لحظة ، فقد استولى يعلى بن منبّه على بيت مال اليمن وهرب به ، وحرّك معاوية قوّة عسكرية لصدّ سهل بن حنيف عن ممارسة مهامّه الجديدة(٢) .

وفي عملية اختيار الولاة الجدد كان الإمامعليه‌السلام دقيقاً وموضوعياً وحريصاً على تطبيق الشريعة الإسلامية بجهازه الإداري الجديد ، وقد أعاد الثقة للأنصار بأنفسهم ورفع معنويّاتهم ، إذ أشركهم في الحكم ، كما أنّ الإمام لم يكن مستعدّاً لقبول الحلول المنحرفة أو أنصاف الحلول ، فقد كان حازماً في اجتثاث الفساد ، فقد رفضعليه‌السلام اقتراح إبقاء معاوية على الشام حتّى يستقر حكم

ــــــــــــ

(١) السنن الكبرى : ١٠ / ١٣٦ ، وتأريخ دمشق : ٣ / ١٩٦ ، وقد وردت مواقف الإمام هذه في عدّة مصادر منها : الأغاني : ١٦ / ٣٦ ، والبداية والنهاية : ٨ / ٤ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٣٩٩ ، والصواعق المحرقة : ٧٨ .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٦٢ ط مؤسسة الأعلمي .

١٥٩

الإمام ثمّ تنحيته فيما بعد(١) .

حاول الإمام فرض سيطرة الخلافة المركزية على ولاية الشام بعد أن امتنع معاوية فيها عن البيعة ، فدفع الراية إلى ولده محمد بن الحنفية ، وولّى عبد الله بن عبّاس على ميمنته وعمر بن أبي سلمة على الميسرة ، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجرّاح فجعله على مقدّمة الجيش ، وخطب في أهل المدينة وحثّهم على القتال ، ولكن حال دون التحرّك وصول خبر خروج طلحة والزبير على حكم الإمام إلى البصرة بعد أن كانا قد استأذناه في الخروج للعمرة فأذن لهم ، وكان قد حذّرهم من نكث البيعة(٢) .

محاور عمل الإمامعليه‌السلام في الأمة :

هناك دور مفروض في الشريعة الإسلامية لشخصيّة يرعى شؤون الرسالة الإسلامية وديمومتها في الحياة ومقاومتها في الصراع مع التيارات المختلفة بعد غياب النبيّ القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نصّت الشريعة على أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام ومِن بعده أبناءه هم المعنيّون بذلك .

وممارسة دور الراعي والقائد لشؤون الرسالة تقتضي أن يتولّى الإمام المعصوم أعلى السلطات في الدولة ، ولكن بعد وفاة الرسول تدخّلت عناصر غير مؤهّلة لذلك في ظرف معقّد فاستولت على السلطة ، ولم يكن ذلك ليمنع الإمامعليه‌السلام عن ممارسة دوره ، ولكن طبيعة الصراع تقتضي تعدّد الدور وتنوّعه ، فعمل الإمام عليّعليه‌السلام على محورين في محاولة منه لإصلاح انحراف الأمة والمحافظة على عقائدها ومقدّساتها :

المحور الأول : السعي لاستلام مقاليد الحكم وزمام التجربة ، والنهوض بالأمة

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٦١ و ٤٦٢ ط مؤسسة الأعلمي ، والبداية والنهاية : ٧ / ٢٥٥ .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٦٩ .

١٦٠