جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)0%

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 305

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 305
المشاهدات: 29260
تحميل: 7300

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29260 / تحميل: 7300
الحجم الحجم الحجم
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال ابن أبي قرّة في (مزاره) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: كان أبي علي بن الحسين (عليه السلام)، قد اتّخذ منزله من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي (عليه السلام) بيتاً من شَعْرٍ، وأقام بالبادية، فلبث بها عدّة سنين، كراهيةً لمخالطة الناس (1) وملاقاتهم.

وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق زائراً لأبيه وجدّه (عليهما السلام)، ولا يُشْعَرُ بذلك من فعله (2) .

إنّه تصرّف غريب في طول تاريخ الإمامة، لم نجد له مثيلاً، لكنّه كما تكشف عنه الأحداث المتتالية عمل عظيم يَنُمّ عن حنكة سياسية، وتدبير دقيق للإمام (عليه السلام).

فإذا كان الإمام (عليه السلام) يعيش خارج المدينة، وكان ينزل البادية:

فإنّ الدولة لا تتمكّن من اتهامه بشيء يحدث في المدينة، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته، في محل مكشوف مثل البادية!

وأمّا هو (عليه السلام): فخير له أن يتخذ منتجعاً مؤقّتاً بعيداً عن الناس، حتّى تهدأ الأوضاع وتستقرّ، وتعود المياه إلى مجاريها.

وبعيداً عن الناس، للاستجمام، ولاستجماع قواه، كي ينتعش ممّا أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب؛ ليتمكّن من مداومة مسيره بعد ذلك بقوّة وجدّ.

وهو (عليه السلام) بحاجة بعد ذلك العناء والضنى إلى راحة جسدية، وهدوء بال وخاطر، حتّى يبلّ من مرضه أو يداوي جراحاته.

ثمّ إنّ المدينة التي دخلها الإمام السجاد (عليه السلام) وهو غلام ابن ( 23 ) سنة أو نحو ذلك لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام، وهو بعد لم يعاشرهم، ولم يداخلهم، وما تداولوا حديثه، ولم تظهر لهم خصائصه، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة.

ولعدم وجود العدد اللازم من الأعوان والأنصار، بالقدر الكافي لإعداد حركة

____________________

(1) يلاحظ أنّ كلمة (الناس) في حديث أهل البيت: خاصة يطلق على غير المعتقدين بالإمامة، في أغلب الأحيان.

(2) فرحة الغري، لابن طاوس (ص 43)؛ الإمام زين العابدين، للمقرّم (ص 42)؛ ولاحظ الكافي للكليني، قسم الروضة (ص 255) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجاد لقبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ولقاء أبي حمزة الثمالي له؛ فليلاحظ.

٦١

مستقلّة يعلنها الإمام، وحفاظاً على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام.

فقد بنى الإمام زين العابدين (عليه السلام) سياسته، في ابتداء إمامته على أساس الابتعاد عن الناس، ودعوتهم إلى الابتعاد عنه (عليه السلام).

وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة، عندما عرضوا عليه ولاءهم، وقالوا له بأجمعهم: نحن كلّنا يا بن رسول الله، سامعون، مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك، رحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذنّ تِرَتك وتِرَتنا ممّن ظلمك وظلمنا.

فقال (عليه السلام): هيهات... ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا (1) .

إنّ الإمام (عليه السلام) أخذ عليهم، سائلاً، أن يأخذوا في تلك الفترة جانب الحياد تجاه أهل البيت (عليهم السلام)، لا لهم، ولا عليهم.

إذ لو رأت السلطة أدنى تجمّع حول الإمام (عليه السلام)، لاتّخذَت ذلك مبرّراً لها أن تستأصل وجوده ومَن معه، فإنّ من الهيّن عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف، بعد أن قتلت الحسين (عليه السلام) وهو أقوى موقعاً في الأُمّة.

كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقّت: أن لا يبقى الإمام (عليه السلام) داخل المدينة، حتّى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتّى يبتعد عن ظنونهم السيئة، بل خرج إلى فضاء البادية المفتوح، وخارج البلد، يسكن في بيت من (شَعْرٍ) ليرفع عن نفسه سهام الريب، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة، كوارث للشهداء.

ولقد طالت هذه الحالة عدّة سنين حسب النصّ، ولعلّها بدأت من سنة ( 61 ) عندما رجع أهل البيت إلى المدينة، وحتّى نهاية سنة ( 63 ) عندما انتهت مجزرة الحرّة الرهيبة.

____________________

(1) الاحتجاج للطبرسي (ص 306) وانظر اللهوف لابن طاوس (ص 6 - 67) ويبدو أنّ هذا الاجتماع كان بعد عودة الإمام (عليه السلام) من الشام إلى الكوفة أو في بعض أسفاره السرّيّة إلى العراق. وانظر فضل الكوفة من مزار ابن المشهدي (ص 78).

٦٢

وأمّا بعد هذه الفترة، فلم يُعْرَف عن هذا البيت من الشَعْر خبر في تاريخ الإمام (عليه السلام)، ولا أثر!.

وأبرز ما أثمرته هذه الظاهرة الغريبة، أنّ القائد الأموي السفّاك مسلم بن عقبة، في هجومه الوحشي الكاسح على المدينة وأهلها، لم يمسّ الإمام بسوء، وعدّه خيراً لا شرّ فيه.

وواضح، أنّ المراد من الخير والشر في منطق هذا الأموي السفّاح، ما هو؟ مع أنّ الإمام كان مستهدفاً بالذات في ذلك الهجوم، كما سنوضحه في ما بعد.

ولقد استنفد الإمام السجاد (عليه السلام) جلّ أغراضه وأهدافه من هذا الإجراء الفريد، فرجع إلى المدينة، وقد انقلبت ظنون رجال الحكم السيّئة، إلى حالة مألوفة، وأصبح الإمام في نظرهم مواطناً، يمكنه أن يسكن المدينة، من دون أن تُنصب له الدوائر، ولا أن تُجعل عليه العيون، بل انقلب البغض الدفين، الذي كان يكنّه الأمويون تجاه بني هاشم، وركّزه معاوية في أهل بيت الرسول، وصبّه على أمير المؤمنين علي وأولاده، وجسّده يزيدُ في الفاجعة المروّعة بقتل شيخ العترة وسيّدها الحسين بن علي (عليه السلام)، وقتل خيرة رجالات أهل بيته، وأصحابه، في مجزرة كربلاء.

انقلب كل ذلك في نهاية المطاف بفضل سياسة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، إلى أن يكون علي بن الحسين أحبّ الناس إلى حكّام بني أمية (1) .

وبهذا يمكن أن نفسّر النصّ الوارد في إعلام إمامة علي بن الحسين (عليه السلام) المعروف بحديث اللوح الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري حيث جاء فيه:

(أطْرِق، واصمت، والزم منزلك، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين) (2) .

فلابد أن تحدّد فترة ذلك بأول عهد إمامة الإمام السجاد (عليه السلام) حين كان يواجه

____________________

(1) كان علي بن الحسين أحبّ الناس إلى مروان وابنه عبد الملك. طبقات ابن سعد (5: 159) تاريخ دمشق (الأحاديث 38 - 40) وابن كثير في البداية والنهاية (9: 106) وتذكرة الحفاظ (1: 75).

(2) الإمامة والتبصرة من الحيرة، لابن بابويه (ص 167) الحديث (20)، وانظر مصادر تخريجه. ولاحظ أمالي الطوسي (1 297).

٦٣

تلك الأخطار والتهديدات والإطراق والصمت معبّران عن التزام السكون، والهدوء، والتخطيط للمستقبل، والابتعاد عن لقاء الناس.

وهذا هو الذي عبّر عنه إسماعيل بن علي أبو سهل النوبختي بقوله: وقُتِل الحسين (عليه السلام) وخلّف علي بن الحسين (عليه السلام) متقارب السنّ - كانت سنّه أقل من عشرين سنة - ثم انقبض عن الناس، فلم يلق أحداً، ولا كان يلقاه إلاّ خواصّ أصحابه، وكان في نهاية العبادة، ولم يخرج عنه من العلم إلاّ يسير، لصعوبة الزمان وجور بني أمية (1) .

فهو شرح عيني لحالة هذه الفترة بالذات.

وإلاّ، فإنّ الفترة التالية من حياة الإمام السجاد (عليه السلام) نراها مليئة بكلّ أغراض الكلام والخطب والأدعية والمواعظ.

فأين الصمت؟.

ونجد في حياته الأسفار المكرّرة إلى الحجّ، والنشاط العملي الجادّ في الإنفاق، والإعتاق، والحضور في المسجد النبوي، والخطبة كلّ جمعة، والمراسلات والمساجلات والاحتجاجات.

فأين الإطراق؟

ولا يُمكن لأحدٍ أنْ يعبّر عن العلم الذي خرج عن الإمام (عليه السلام) بأنّه يسير وهو يجد أمامه: الصحيفة السجّادية، ورسالة الحقوق، ومناسك الحج، مضافاً إلى الخطب والكلمات والرسائل التي احتوتها بلاغة علي بن الحسين (عليه السلام) وجمعتها كتب تراثيّة عديدة (2) .

____________________

(1) نقله الصدوق في إكمال الدين (ص 91) عن كتاب (التنبيه) للنوبختي.

(2) لاحظ تدوين السنة الشريفة (ص 150 152) وراجع معجم ما كُتب... للرفاعي بالأرقام: 20397 باسم (التذكرة) و 20415 باسم التعقيبات، و 20482 باسم الديوان، و20688باسم المخمسّات، و20733 - 20736باسم (الندبة) و 20737و20738 باسم نسخة.

٦٤

وجمع أسماء مَنْ روى عنه في كتب أُخرى (1) ومجموع مَن ذكرهم الشيخ الطوسي فقط من الرواة عن الإمام (عليه السلام) بلغوا 170 راوياً (2) .

ولا ريب أنّ مجموع هذا العلم ليس يسيراً، فلابدّ أنْ يكون ذلك قد حصل بعد تلك الفترة القصيرة فقط.

إنّ كلّ تلك الفعاليات الكلامية والعملية لممّا يتيقّن معها بأنّ الإمام السجاد (عليه السلام) بعد تلك الفترة لم يسكن مطرقاً، ولم يسكت صامتاً، ولم ينعزل عن الناس، بل زاول نشاطاً واسعاً في الحياة العامّة، بل كما ذكره النسّابة قد روى الحديثَ، ورُوي عنه، وأفاد علماً جمّاً (3) .

وستتكفّل الفصول القادمة في هذا الكتاب ذكر الشواهد على كل هذا النشاط بعون الله.

ومع وقعة الحرّة:

ورجع الإمام السجاد (عليه السلام) إلى المدينة:

ليستقبله أهلها، بالبكاء والتعزية، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كربلاء، ويركّزها في الأذهان من طريق القلوب، كي لا يطالها التشويش والإنكار، بمرور الأعصار، كما طال كثيراً من الوقائع والحوادث، فأصبحت مغمورة أو مبتورة.

فأرسل بشر بن حذْيم (4) إلى المدينة وأهلها ناعياً الحسين (عليه السلام) ومعرّفاً إيّاهم بمكان الإمام السجاد (عليه السلام).

قال بشر: فما بقيتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزن من خدورهن،...، فلم

____________________

(1) لاحظ معجم ما كُتِبَ بالأرقام:20483 باسم ذكر مَنْ روى عن الإمام (عليه السلام) للصدوق، و 20714 كتاب مَنْ روى عنه (عليه السلام) لابن عقدة.

(2) رجال الطوسي (ص 107 120) الأرقام (1058 - 1228) وهم مائة وسبعون راوياً، لعلم الإمام (عليه السلام).

(3) المجدي في أنساب الطالبيّين (ص 92).

(4) كذا في بعض نسخ المصدر، ويظهر من هذه الرواية أنّ أباه كان شاعراً وقد ترحّم عليه الإمام (عليه السلام)، وفي أصحابه: حذيم بن شريك الأسدي، وجاء في نسخ أُخرى: بشير بن حذلم.

٦٥

أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه.

قال: فخرج علي بن الحسين، ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسيّ، فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك عن العَبْرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء، وحنين النسوان والجواري، والناس يعزّونه من كل ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة، فأومأ بيده: أن اسكنوا، فسكنت فورتهم، فقال:

(الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارىء الخلق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلا، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة، الكاظّة، الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتِلَ أبو عبد الله الحسين، وعترته، وسُبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها، وتضنّ عن انهمالها؟

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون.

أيّها الناس، أصبحنا مشرّدين، مطرودين، مذودين، شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلاّ اختلاق.

والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصية بنا، لما زادوا على ما فعلوا بنا.

فإنّا لله و إنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأفجعها، و أكظّها، وأفظعها، وأمرّها، و أفدحها

٦٦

فعنده نحتسب ما أصابنا، فإنّه عزيز ذو انتقام) (1) .

ولم تذكر المصادر شيئاً عن رجالات المدينة المعروفين، إلاّ أنّ صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه، فترحّم الإمام على أبيه.

والظاهر أنّ رجال المدينة اكتفوا في مواجهة الإمام السجاد (عليه السلام) بالعواطف الحارّة فقط، وأنّهم لم يتجاوزوا ذلك؛ إذ لم يجدوا مبرّراً في التورّط مع الحكومة، ولو بعد قتل الحسين (عليه السلام) بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد (عليه السلام).

ويظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحرّكهم ضدّ يزيد وحكومته أنّهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما يُنكر من فعل أو ترك، حتّى وفدوا عليه، وحضروا بلاطه، ورأوا بأمّ أعينهم ما رأوا، فرجعوا، وثاروا عليه.

وقد جاء في إعلانهم الأوّل ما نصّه: إنّا قدّمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويدع الصلاة، ويعزف بالطنابير، وتضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخرّاب، والفتيان، و إنّا نُشهدكم أنا قد خلعناه.

وأتوا عبد الله بن الغسيل، فبايعوه وولّوه عليهم (2) .

فليس في بيانهم ذكر الحسين (عليه السلام)، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت (عليهم السلام)، وأمّا الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره، فقد أعلنه الإمام الحسين (عليه السلام) قبل سنين في كتابه إلى معاوية (3) .

فأين كان أهل المدينة يومذاك؟

ولماذا لم يتحرّكوا من أجله حينذاك؟

ثم إنّ مَنْ يحرّكه شرب الخمر، والفسق، والفجور، لماذا لا يتحرّك من أجل قتل الحسين (عليه السلام) والفجائع التي صُبّت على أهل البيت (عليهم السلام)، والتي أدّى علي بن الحسين (عليهم السلام) حقّ بلاغها في خطبته تلك؟

____________________

(1) اللهوف لابن طاوس (ص 4 - 85)، وانظر كامل الزيارات (ص 100).

(2) أيام العرب في الإسلام (ص 420)، وانظر تاريخ الطبري (4:368)، ولاحظ طبقات ابن سعد (5: 47).

(3) الاحتجاج للطبرسي (7 - 298).

٦٧

بل إنّ المسعودي يذكر: أنّ حركة أهل المدينة وإخراجهم بني أمية وعامل يزيد، من المدينة، كان عن إذن ابن الزبير (1) .

فلم يكن لأهل البيت، ولا للإمام السجاد (عليه السلام)، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة، وأصحاب الحرّة، لمّا تحرّكوا ضدّ حكم يزيد.

بينما كان دخول الإمام (عليه السلام) معهم في التحرّك توقيعاً على شرعيّة حركتهم.

والحقّ أنّ أهل المدينة جفوا الإمام السجاد (عليه السلام) بعد كربلاء، وهذه الحقيقة كانت واضحة، حتّى أعلنها الإمام في قوله: (ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا) (2) .

ولعلّ علم الإمام (عليه السلام) بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلّة، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة وبطش وقسوة، من دواعي حياده (عليه السلام).

مضافاً إلى أنّ اتّخاذه القرار السابق، بالابتعاد عن المدينة، للأسباب والمبرّرات التي ذكرناها سابقاً، كان كافياً لعدم تورّطه في هذه الحركة.

ويظهر أنّ الدولة التي واجهت هذه المرّة حركة أهل المدينة، كانت على علم بجفاء أهل المدينة لأهل البيت (عليه السلام)، وبما أنّها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت (عليهم السلام)، أرادت أن تستفيد من الوضع، بالتزلّف إلى علي بن الحسين والتودّد إليه؛ لامتصاص النقمة، فلم تتحرّش به، بل حاولت أن يتمثّل الناس به، حسب نظر رجال الدولة!

ثم إنّ اختيار أهل الحرّة للمدينة بالذات مركزاً للتحرّك، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكّة، والمسجد الحرام بالخصوص، مركزاً لتحرّكه، حتّى عرّضوا هذين المكانين الحرمين المقدّسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الأمويين الحاقدين على الإسلام ومقدّساته.

بينما أهل البيت عامة، بدءاً بالإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومروراً بالإمام

____________________

(1) مروج الذهب (3: 78).

(2) شرح نهج البلاغة (104:4).

٦٨

الحسين (عليه السلام)، وكذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكّام، إنّما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين، حفاظاً على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم، وتهتك لهما حرمة، وإبعاداً لأهالي الحرمين من ويلات الحروب ومآسيها، ونقمة الجيوش وبطشها (1) .

وهذه مأثرة لأهل البيت (عليهم السلام) لابد أن يذكرها لهم التاريخ لكنّ أهل الحرّة، لم يصلوا إلى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق، لبعدهم عن الإمام السجاد (عليه السلام) الذي كان في عمر ( 26 ) سنة.

ولقد هيّأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد (عليه السلام) أمرين كانا في صالح الإمام (عليه السلام)، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل:

أحدهما: النجاة من اتّهام السلطات له بالتورّط في الحركة؛ ولذلك لم تضعه في القائمة السوداء، فإنّ الحكومة وحسب بعض المصادر كانت تعرف ابتعاده عنها.

الثاني: تمكّن الإمام (عليه السلام) من تخليص كثير من الرؤوس أن تُقطع، وكثير من الحرمات أن تُهتك.

ومَنْ يدري؟ فلعلّ اشتراك الإمام السجاد (عليه السلام) في تلك الحركة كان يؤدّي إلى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي، إبادة شاملة، تلك التي كانت من أماني آل أمية؟

فتمكّن الإمام السجاد (عليه السلام) بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل.

ولقد كان الإمام (عليه السلام) ملجأ للكثير من العوائل الأخرى، حتّى من عوائل بني أمية نفسها.

ففي الخبر أنّه (عليه السلام) ضمّ إلى نفسه أربعمئة مُنافيّة يعولهن إلى أن تفرّق الجيش (2) .

وكان في مَنْ آواهنّ عائلة مروان بن الحكم، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفّان الأموي، فكان مروان شاكراً لعلي بن الحسين ذلك (3) .

____________________

(1) علّق سماحة السيد بدر الدين الحوثي (دام علاه) هنا: (ولعلّ ما صدر من الإمام النفس الزكية كان اضطرارياً؛ لأنّ قيامه أيضاً كان اضطرارياً) تمّت.

(2) كشف الغمّة للإربلي (2: 7) وانظر ربيع الأبرار للزمخشري (1: 427).

(3) أيام العرب في الإسلام (ص 424) هامش (1).

٦٩

ويحاول بعض الكتّاب أن يجعل من حياد الإمام (عليه السلام)، وتصرّفاته مع مروان، وعدم تعرّضه من قبل الجيش بسوء، دليلاً على عدم تحرّكه (عليه السلام) ضدّ الحكم الأموي؟

لكنّها محاولة مخالفة للحقيقة: فإنّ الإمام (عليه السلام) إنّما ينطلق في تصرّفاته، من منطلق الحكمة والتدبير، وما ذكرناه من الشواهد كافٍ لأن نبرّر موقفه الحيادي من حركة الحرّة، فكل مَن يدرك تلك الحقائق ويقف عليها يتبيّن له أنّ التحرّز من عمل تكون عواقبه مرئيّة وواضحة ومكشوفة، هو الواجب والمتعيّن، فلو دخل في الحركة، فإمّا أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم، أو تنجح الحركة التي لم تبتنِ على الحقّ في دعواها، وإنّما تبنّاها مَنْ لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقّاً في الإمامة.

مع أنّ من النصوص ما يدلّ على أنّ الإمام كان مستهدفاً:

قال الشيخ المفيد: قدم مسرف (1) بن عقبة المدينة، وكان يقال: (إنّه لا يريد غير علي بن الحسين (عليه السلام)) (2) .

ولا ريب أنّ الحكم الأموي الذي استأصل أهل البيت (عليهم السلام) في كربلاء، لم يكن يخاف الإمام السجاد (عليه السلام)، لما هو معلوم من وحدته وغربته، ومع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه، لأنّه الوارث الوحيد لأهل البيت بمالهم من ثارات ودماء، وبما لهم من مكانة مرموقة في أعين مُحبّيهم، الذين يترقّبون فيهم من الإمامة.

فلا ريب أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) كان مستهدفاً!

وهذا النصّ قبل كل شي يدلّ على أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) كان في نظر الناس عنصراً معارضاً للحكم والدولة، ولم يكن مستسلماً قط، حتّى كان الناس يرون أنّ

____________________

(1) هو المتسمّي باسم (مسلم) معدود من الصحابة، وهذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين، سُمّي لعنه الله بمجرم ومسرف؛ لما كان من إجرامه بأهل المدينة وإسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد (لعنهما الله)، وقد سمّى المدينة (نتنة) خلافاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي سمّاها طيّبة، مروج الذهب (3: 78)، وقد انفضّ فيها ألف عذراء، دلائل البيهقي (6: 475).

(2) الإرشاد للمفيد (ص 292).

٧٠

الجيش الجرّار إنّما توجّه بقصده إلى (علي بن الحسين) لا ليحترمه طبعاً، فعلي بن الحسين - في نظر الناس - لا يزال عدوّاً للدولة، رغم انعزاله، وابتعاده، وعدم تورّطه في الحركة!

كما يدلّ قول البلاذري إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) استجار بمروان وابنه عبد الملك، فأتيا به ليطلبا له الأمان (1) على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة.

لكنّ الدولة، التي لم تغفل عن الإمام السجّاد (عليه السلام) كانت على علمٍ بتصرّفاته، ولم يقع لها ما يبرّر اتهامه وصبّ جام الغضب عليه والفتك به.

ومن أجل امتصاص النقمة، وخاصة بعد تحرّك أهل المدينة، صار رجال الدولة إلى النفاق، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة وأهلها، فأخذوا يعلنون التزلّف إلى الإمام (عليه السلام) بإظهار التودّد إليه، ويكرّمونه، ويقرّبونه، ويعبّرون عنه بالخير الذي لا شرّ فيه، مع موضعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومكانه منه (2) .

وقال المسعودي: ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجّاد، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى مسرف، وهو مغتاظ عليه، فتبرّأ منه ومن آبائه، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قُدّم إلى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثم انصرف عنه.

فقيل لعلي: رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال: قلت: اللّهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّدٍ وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه.

وقيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا أُتي به إليك رفعت منزلته؟

فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلء قلبي منه رعباً (3) .

وهكذا يفرض عنصر (الغيب) نفسه في البحث، ولا يمكن إبعاده لكونه وارداً في المصادر المعتمدة.

____________________

(1) أنساب الأشراف (4: 323)، وانظر الأخبار الطوال للدينوري (ص 266).

(2) الإرشاد للمفيد (ص 260).

(3) مروج الذهب (3: 8).

٧١

ونحن وإن كنّا أبعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به، إلاّ أنّ الذين يريدون أن يُضفوا على حياة الإمام السجاد (عليه السلام) أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر!

مع أنّ خوف الإمام (عليه السلام) وفزعه، من الجيش السفّاك، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف، وسبّ القائد الأموي له وتبرؤه منه، أدلّة كافية في إثبات أن الإمام (عليه السلام) كان مستهدفاً، إلاّ أنّ سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها.

ومع أعباء القيادة:

ورجع الإمام (عليه السلام) إلى المدينة: ليواجه الخطر المحدق بالإسلام، والذي انتشر في نفوس الأُمّة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه، بعدما تعرّض الحسين ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمثل هذا القتل، وما تعرّض له أهله من التشريد والسبي، في بلاد المسلمين.

فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى: أنّ قتل الحسين أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين؛ لأنّ المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه، وعدل ينتظرونه (1) .

هذا بالنسبة إلى أصل الإسلام، وأمّا بالنسبة إلى الإمامة، وإلى أهل البيت، وإلى الإمام (عليه السلام)، فقد تفرّق الناس عنهم، وأعرضوا، بحيث عبّر الإمام الصادق (عليه السلام) عن ذلك بالارتداد.

قال (عليه السلام): ارتدّ الناس بعد قتل الحسين (عليه السلام) إلاّ... (2) .

وكان منشأ اليأس والردّة: أنّهم وجدوا الآمال قد تبدّدت بقتل القائد، وسبي أهله، وظهور ضعف الحقّ وقلّة أنصاره، هذا من جهة.

____________________

(1) نقله الثعالبي في آخر كتاب (ثمار القلوب) بواسطة: علي جلال في (الحسين) (2: 195).

(2) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) (ص 123) رقم (194).

٧٢

ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة، فكيف يمكن التصدّي لها، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّياً إلى الاتهام والمحاسبة؛ فلذلك ابتعد الناس عن الإمام (عليه السلام).

لكنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) بخطّته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد، وقلبه إلى عنصر مطلوب، ومفيد لنفسه، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه.

حتّى أصبح، بما ذكرنا من التصرّفات، في نظر رجال الحكم (خيراً لا شرّ فيه).

وبذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام (عليه السلام)، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة، فقط، بل تمكّن من استعادة قواه، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس؛ لكونه مواطناً صالحاً لا يُخاف من الاتصال به والارتباط به؛ لأنّه أصبح (عليّ الخير) (1) .

وطبيعي أن يعود الناس، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذٍ؛ ولذلك قال الإمام الصادق (عليه السلام) في ذيل كلامه السابق: (... ثمّ إنّ الناس لحقوا وكثروا) (2) .

إنّ انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين (عليه السلام) وتشتّت قواهم، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد (عليه السلام) بعد رجوعه إلى المدينة، وكان عليه، لأنّه الإمام، وقائد المسيرة أن يخطّط لاستجماع القوى، وتكميل الإعداد من جديد، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب، وبثّ العزم في النفوس.

وقد تمكّن الإمام السجاد (عليه السلام) بعمله الهادي الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة، وعلى هذا الإعداد، والتمهيد، بكل قوّة، وبحكمة وبسلامة وجدّ.

وكما قد يكون تأسيس بناء جديد، أسهل وأمتن من ترميم بناء متهرّئ، فكذلك إنّ بناء فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة، والجادّة في الالتفاف حولها، والعزم على إحيائها، هو أسهل، وأوفر جهداً من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها، وتصوّروا إخفاق تجربتها، وهم يُشاهدون إبادة

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (15: 273).

(2) اختيار معرفة الرجال (الكشي) (ص 123) رقم (194).

٧٣

كبار حامليها، وضعف أنصارها، واستيلاء المعارضين عليها، فحرّفوا معالمها، وشوّهوا سمعتها، وزيّفوا أهدافها.

فإنّ عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشكّ من كل ما قيل وطرح وعرض، ويحاولون الانسحاب والارتداد، والوقوف على الحواشي، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة.

فقد مُنِيَ المسلمون بإخفاق ويأس ممّا في الإسلام من خطط تحرّرية، ومخلّصة من العبودية والفساد؛ وذلك لمّا رأوا الأمويين أعداء هذا الدين قديماً، ومناوئيه حديثاً قد استولوا على الخلافة، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والأنصار القدمأ له، ويعيثون فساداً في أرض الإسلام بالقتل والفجور، وكل منكر، حرّمه الإسلام.

وإذا كان صاحب الحقّ، منحصراً في الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام)، الذي قام النصّ على إمامته، وهو وارث العترة، وزعيم أهل البيت في عصره، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه، فلا بدّ أن يدبّر الخطّة الإصلاحية، ليجمع القوى، ويلملم الكوادر المتفرّقة، ويعيد الأمل إلى النفوس اليائسة، والرجاء إلى العيون الخائبة، والحياة إلى القلوب الميّتة.

إلى جانب مقاومته للأعداء، وتفنيد مزاعمهم واتّهاماتهم، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم، وتبديد خططهم وأحابيلهم.

إنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة، التي أقرّ بها لهم جميع الأمّة، هم يهتمّون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم، ليرسّخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام.

والإمام (عليه السلام) قد استلهم الإسلام بكلّ ما له من معارف ومآثر علمية وعملية، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة، وهم آباؤه الطاهرون.

وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسراياه، كما في الحديث عن عبد الله بن محمّد بن عليّ، عن أبيه، قال: سمعتُ عليّ بن الحسين يقول:

٧٤

كنّا نُعلّم مغازي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسراياه كما نعلّم السورةَ من القرآن (1) .

فتلقّن الإمام السجّاد (عليه السلام) أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله، ومن أجل الإسلام، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة.

وبعد أن رأى بأُمّ عينيه في كربلاء بطولات أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) وجهاد أصحابه الأوفياء، في سبيل إعلاء كلمة الله، لم يكن ليرفع اليدَ عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية.

ولقد بدأ الإمامُ السجّاد (عليه السلام) في الفصول التالية، من جهاده وجهوده، لتحقيق هذه الأهداف السامية. وحاولنا نحن - بقدر وسعنا - لجمع ما انتشر من أنباء ذلك الجهاد، وتلك الجهود، في المجالات العملية والعلمية، بعون الله وتوفيقه.

____________________

(1) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي (2 288) رقم (1649).

٧٥

٧٦

الفصل الثاني

النضال الفكري والعلمي

أوّلاً: في مجال القرآن والحديث.

ثانياً: في مجال الفكر والعقيدة.

ثالثاً: في مجال الشريعة والأحكام.

وأخيراً: في إعمار الكعبة المعظّمة.

٧٧

٧٨

يكاد المؤرّخون لحياة الإمام السجاد (عليه السلام)، لاسيّما الدارسون الاجتماعيّون، الذين يريدون إبعاد الإمام عن الحياة السياسية، يتّفقون على أنّ الإمام (عليه السلام): (انكبّ على الشؤون الدينية، ورواية الحديث، والتعليم) (1) وأنّ مهمّته كانت: (الانصراف إلى بثّ العلوم، وتعليم الناس، وتربية المخلصين، وتخريج العلماء والفقهاء، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية) (2) .

ولا ريب في أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) قام بدور بليغ في هذه المجالات كلّها، ولكن لم تكن قطّ هذه الأمور خارجة عن العمل السياسي، أو بديلاً عن العمل السياسي، بل إنّ هذه الواجبات هي من أهم وظائف الأنبياء والأئمّة، بل المصلحين السياسيين من البشر، بأن يقوموا بها، ويبلُغوا بالأمم والشعوب إلى مستويات راقية فيها، خاصة التعاليم الإلهيّة التي من أجلها بُعثوا، ولها عُيّنوا، وبتبليغها وبثّها كُلّفوا، وهم طريق معرفة الناس بها، والأُمناء الوحيدون عليها. والتعليم الصحيح هو واحد من طرق النضال، فكل مناضل يعلم بوضوح أنّ من مقوّمات كل حركة سياسية، هو تثقيف الجماهير، وتوعيتها، بالتعليم والتلقين؛ لتكون على علم بما يجري حولها وما يجب لها من حقوق وما عليها من واجبات. وقد سعى الحكّام الفاسدون على طول التاريخ إلى إبعاد الناس عن الحقّ، والتعاليم الأصيلة، بطرق شتّى:

____________________

(1) معتزلة اليمن (ص 17 18).

(2) الإمام السجاد (عليه السلام) لحسين باقر (ص 13 - 14).

٧٩

منها: التصدّي للذين يبلّغون رسالات الله، بالضغط، والأسر، والتشريد، والحبس، وحتّى القتل.

ومنها: تزييف الأديان وتحريفها بالبِدَع والخرافات، وبثّ التعاليم الباطلة، والعمل من أجل ترويجها.

ومنها: منع تثقيف الناس، حذراً من تنبّههم إلى ما هم عليه من خلل ونقص في الحياة المادّية، وما هم فيه من ذلّ ومهانة في الحياة المعنوية.

ومنها: محاولة استيعاب أجهزة التعليم، بوضع المناهج التعليمية المشبوهة والمحرّفة.

وهكذا تضييع جهود القائمين على التعاليم، بشراء الضمائر، وغسل الأدمغة والعقول، وتفريغها من الرؤى الصائبة، وملئها بالأفكار الفاسدة والمنحرفة. وقد استعمل معاوية هذا الأسلوب بكل جرأة لمّا استولى على أريكة الخلافة، فعمّم كتاباً على أقطار نفوذه، يأمر فيه الولاة بوضع الأحاديث والروايات واختلاقها، وبثّها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت، ليربّي جيلاً ناشئاً مشبّعاً بتلك التعاليم المزوّرة في صالح الأمويين، والتي تعارض التعاليم الإسلامية الأصيلة (1) .

فوجود المعلّمين المناهضين لتلك الخطط الهدّامة، وتلك المناهج التعليمية الفاسدة، يكون صدّاً سياسياً للأنظمة الحاكمة، ويكون عملهم جهاداً ونضالاً سياسياً، بلا ريب. وإنّ الحكومات الفاسدة، من أجل تنفيذ خططها في تحريف الدين وإغواء الناس وإبعادهم عن العلماء المصلحين، اصطنعت من علماء السوء رجالاً مقنّعين بالعلم، ملجمين بلباس الدين، من العملاء بائعي الضمائر، ليكونوا وسائل لإقناع العامّة بما تمليه الدولة عليهم من أحكام باطلة، وقضايا منافية للحقّ، وليصحّحوا للدول الظالمة تصرّفاتها الجائرة.

____________________

(1) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (11: 44 - 46) والاحتجاج للطبرسي (ص 295).

ولاحظ كتابنا (تدوين السنّة الشريفة) (ص 475).

٨٠