الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة0%

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 183

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد العبادي
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 183
المشاهدات: 94224
تحميل: 6477

توضيحات:

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 183 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94224 / تحميل: 6477
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

استعراض لهذه القوات وملاحظتها، ( ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف، فقالت: انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يوم بدر، أَما والله! ما ينتظر بكم إلا زوال الشمس )(١) .

إنّ هذه الخطوات العسكرية غير مختصة بحرب دون حرب، وإنّما هي خطوات اتبعها الإمام في جميع حروبه التي واجه بها الفتن الداخلية.

الإمام يراعي الموقع الخاص والزمان والظروف المحيطة بالحرب والطريقة التي يهاجم أو يدافع فيها الأعداء.

ثمّ يقوم ( عليه السلام ) بالتثقيف وبيان أخلاق الحرب، قال أبو مخنف: ( حدّثني عبد الرّحمن بن جندب الأزدي عن أبيه، أنّ علياً كان يأمرنا في كلّ موطن لقينا فيه معه عدوّاً فيقول:( لا تقاتلوا القوم حتى يبتدئوكم، فأنتم بحمد الله عزّ وجلّ على حجة، وترككم إيّاهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً، ولا تُجهزواً على جريح، ولا تكشفوا عورةً، ولا تمثّلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً إلاّ بإذنٍ، وتأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيّجوا امرأةً بأذىً، وإن شتمنَ أعراضكم، وسببنَ أمراءكم وصلحاءكم، فإنّهنّ ضعاف القُوى والأنفس ) (٢) .

د. الدعاء والتسكين المعنوي:

عند قدوم أمارات الحرب وإدبار بوادر

____________________

(١) الفتوح: ٢/٣١٤.

(٢) تاريخ أبي مخنف: ١/١٦٩، تاريخ الطبري: ٣/٨٢، أنساب الأشراف: ٣/٣٦، نهج البلاغة: ٤٩٤.

٤١

السلم، تكون النفوس مشدودةً إلى القتال وما ستؤول إليه الأمور من نتائج.

الإمام ( عليه السلام ) في هذه المواضع أراد أن تكون العودة إلى الله، باللجوء إليه تعالى، وهو الذخيرة الكبرى والمغنم الجسيم الذي على المقاتلين أن يتوجّهوا إليه بنيّاتهم ومقاصدهم.

نعم سلاح المرء الدعاء، ذكر سليم بن قيس: ( أنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان إذا لقي عدّواً يوم الجمل ويوم صفين ويوم النهروان، استقبل القبلة على بغلته الشهباء، بغلة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، ثمّ قال:( اللّهمّ بُسطت إليك الأيدي ورُفعت الأبصار وأفضت القلوب ونُقلت الأقدام، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين ) ، وهو رافع يديه وأصحابه يؤمّنون.(١) .

ثانياً: في المسجد

يُعتبر مسجد الكوفة المقر المعنوي الذي تهوي إليه الأفئدة وتقام فيه الصلاة.

وهو أيضاً المنبر الثقافي والإعلامي والوعظي الأَوّل الذي تنطلق منه كلمات أمير المؤمنين لتنتقل إلى المواقع والبيوت والأزقة المختلفة: ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) [ بالكوفة ] إذا صلّى بالناس العشاء الآخرة، ينادي بالناس ثلاث مّرات حتى يسمع أهل المسجد:( أيّها الناس تجهّزوا - يرحمكم الله - فقد نودي فيكم بالرّحيل، فما التّعّرج على الدنيا بعد النداء فيها بالرّحيل! ) (٢)

____________________

(١) كتاب سليم بن قيس الهلالي: ٢/٩١٣، نهج البلاغة: ٤٩٤.

(٢) الأمالي / شيخ المفيد: ١٩٨.

٤٢

خطب كثيرة أشرق بها مسجد الكوفة وغيره مثل: ( التوحيد والهداية والملاحم واللؤلؤة والغرّاء، والقاصعة والافتخار والأشباح والدرة اليتيمة، والأقاليم والوسيلة والطالوتية والقصبية والنخيلة والسليمانية والناطقة والدافعة والفاضعة )(١) .

هذا العدد من الخطب وغيره يكشف عن حجم الثقافة التي نائت بحملها الكوفة.

الإمام يعتبر المسجد المكان الذي يسدي فيه الخدمة إلى الناس، فقد كان يقوم بإطعام الناس في رحبة المسجد(٢) ويقوم أيضاً بحلّ مشاكل الناس وخلافاتهم بعد الانتهاء من أداء الصلاة.

قال عروة بن الزبير: ( سمع بعض التابعين أنس بن مالك يقول: نزلت في عليّ بن أبي طالب:( أَمّن هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ) [ الزمر: ٩ ] قال الرجل: فأتيت علياً وقت المغرب فوجدته يصلي ويقرأ القرآن إلى أن طلع الفجر، ثمّ جدّد وضوءه وخرج إلى المسجد وصلى بالناس صلاة الفجر، ثمّ قعد في التعقيب إلى أن طلعت الشمس ثمّ قصده الناس، فجعل يقضي بينهم إلى أن قام إلى صلاة الظهر فجدّد الوضوء، ثمّ صلى بأصحابه الظهر، ثمّ قعد في التعقيب إلى أن صلى بهم العصر، ثمّ كان يحكم بين الناس ويفتيهم إلى أن غابت الشمس )(٣) .

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب: ٢/٥٨.

(٢) تاريخ سياسي إسلام: ٢/٣٣٧.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٢/١٤٢.

٤٣

ثالثاً: في المحافل العامة

تعدّ الأسواق وما فيها من باعة ومَحال تجارية وحِرف مختلفة أماكن عامة يرتادها النّاس من كلّ فجٍ عميقٍ، وهي تشهد بالحركة اليومية لأمير المؤمنين ( عليه السلام ).

النّاس في الكوفة آنذاك ينشطون نحو أعمالهم اليومية لتحصيل قوتهم ولإدامة حياتهم المعاشية، وكلٌّ يعمل على شاكلته وقصده، إلاّ أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يمشي في الأسواق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وموعظة الناس.

فالمُلاحظ أنّه ( عليه السلام ) لا يتجاوز شيئاً إلا وأسدى النصح والإرشاد حوله، وأبان فيه الاستقامة والسُنّة، وسنطّلع على يوم واحد دخل فيه أمير المؤمنين إلى الأسواق، ومقدار الدوافع التلقائية عنده لنيل رضا الله تعالى.

عن رجل من أهل البصرة من بني بطر يُكنّى أبا مطر قال: ( خرجت من باب المسجد بالكوفة في زمن عليّ بن أبي طالب، وعليّ إزار طويل ربّما عثرت به! فإذا أنا بشيخ ينادي من خلفي:( أي بنيّ، ارفع ثوبك؛ فإنّه أبقى لثوبك وأتقى لربّك، وخذ شاربك إن كنت مسلماً [ قال ]: فنظرت فإذا هو [ عليّ بن أبي طالب ] ( عليه السلام ) فمشيت خلفه وهو بين يدي وعلى عليّ إزار ورداء فكأنّه بدوي فانطلق وأنا خلفه حتى أتى سوق الإبل فقال:يا معشر أصحاب الإبل، إيّاكم والأَيمان فإنّ اليمين يُنفق [ السلعة ] ثمّ يمحق .

ثمّ انطلق حتى بلغ [ سوق ] أصحاب التمر فإذا هو بخادمة تبكي عند تمّار فقال [ لها ]:ما يبكيك؟

٤٤

فقالت: باعني هذا تمراً بدرهم فردّه عليّ مولاي فأبى [ البائع ] أن يأخذه منّي، فقال [ ( عليه السلام ) للبائع ]:أَعطِها درهمَها وخذ تمرك فإنّها خادمة ليس لها أمر! فدفعها التمّار؛ فقيل له: أتدري مَن هذا؟: فقال: لا، قالوا: هذا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين! فصبّ [ البائع ] تمره وأعطاها درهمها ثمّ قال: يا أمير المؤمنين ارضَ عني قال [ عليه السلام ]:أنا راضٍ إن أوفيت المسلمين حقوقهم ثمّ قال: يا أصحاب التمر، أطعموا المساكين يربو كسبكم .

ثمّ مضى حتى رأى السمّاكين فقال:يا أصحاب السمك، لا تبيعوا الجرّي ولا الطافي، ثمّ مرّ حتى أتى القصّابين فقال:يا معشر القصّابين، لا تنفخوا [ في ] اللحم ولا تذبحوا شاةً على شاة .

ثمّ دخل إلى البزّازين فدنا إلى بزّاز منهم فقال:يا شيخ، أَحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، قال: نعم يا أمير المؤمنين.

فلمّا رأى أن قد عرفه انطلق إلى غيره فقال:أَحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فتركه وانطلق إلى غلام قال:يا غلام، أَحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم .

فأعطاه [ الغلام ] قميصاً فلبسه ما بين الرسخين إلى الكعبين فلمّا لبسه قال:الحمد لله الذي كساني من الرياش ما أواري به عورتي وأتجمّل به في الناس، ثمّ قال:سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يقوله عند الكسوة ) (١) .

____________________

(١) مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ): ٣/٦٠، نحو ذلك في أمالي الصدوق: ٤٩٧، ومناقب ابن شهر آشوب: ٢/١٢٩، بحار الأنوار: ٤١/١٠٤، وسفينة البحار: ١/٤٥٠.

٤٥

الشيء الذي يعرفه الناس من أهل الكوفة، أنّه ( عليه السلام ) كان شديد التواضع ولا يرى فرقاً بينه وبين الناس إلاّ بالتقوى: ( اشترى ( عليه السلام ) تمراً بالكوفة فحمله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال ( عليه السلام):( ربّ العيال أحق بحمله ) .

ذكر صاحب قوت القلوب عن أبي طالب المكي: كان علي ( عليه السلام ) يحمل التمر والملح بيده ويقول:

لا ينقص الكامل من كمالهِ

ما جرَّ من نفعٍ إلى عيالهِ(١)

ممّا سبق نعرف أنّ الإمام عكس الوجه الإسلامي في هذا المجال الثقافي الذي تحرّك فيه.

رابعاً: في الكتب والوصايا

كان مجموع الكتب التي أرسلها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى ولاته في الأمصار وعماله على الصدقات والخراج (٣٠) كتاباً، ومجموع الوصايا لأهل بيته، وللأمراء والعمال (١١) وصيةً، أمّا مجموع ما أُرسل إلى أمراء الجيوش من كتب فهو (٥) كتب بالإضافة إلى عهدين.

أمّا مجموع الكتب التي أرسلها إلى أهل الأمصار فكانت ثمانية كتب، ثلاثة منها لأهل الكوفة.

والكتب التي بعث بها لأعدائه كانت (٢٠) كتاباً، (١٦) منها إلى

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب: ٢/١٢٠.

٤٦

معاوية، وما بقي إلى طلحة والزبير وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري.

إن هذا الكّم الذي وصل إلينا من الكتب والوصايا، والذي يصل إلى ٧٨ كتاباً، يعكس شدة الأحداث التي واجهها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في مدة أربع سنوات وتسعة أشهر.

الإمام ( عليه السلام ) يشرح في كل كتاب وحسب ما تقتضيه الحكمة مختلف القضايا، ويضع مختلف النصائح والإرشادات والتوصيات والتعليمات التي يحتاجها العمال، وأيضاً يجيب على رسائل وكتب الأعداء راجياً بذلك إعادتهم إلى جادة الصواب، ولقد بالغ لهم في النصيحة وأوقفهم على المحجّة البيضاء.

إنّ هذه الكتب والوصايا لها تأثيرات ثقافية، وتعتبر أحد الأُطر الثقافية التي توضّح ما عند الأطراف من مواقف وتترك أثرها على الناس.

خامساً: المناسبات المتنوّعة

كان الإمام يراقب المناسبات التي تبعث على التقرب من الله تعالى، ( رمضان وشوال سواء يحيي الليل كله )(١) عندما يسمع شيء، يأخذ بأحسنه.

بل إنّه ( عليه السلام ) كان شديد الأخذ، قوي الالتزام،( ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي ( صلّى الله عليه وآله ): صلاة الليل نور ، فقال ابن الكوا: ولا ليلة الهرير؟ قال: ولا ليلة الهرير ) (٢) .

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب: ٢/١٤٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٢/١٤٢.

٤٧

إنّ عمل الإمام في هذه المناسبات وغيرها يترك أثراً ايجابياً في دفع الناس نحو الالتزام بهذه المناسبات وإحيائها، وهو ما يؤدّي بالنتيجة إلى إحياء الشعائر والمناسبات الإسلامية الأخرى، ( إنّه كان يمشي في حجّه حافياً، ويعلّق نعليه بيده اليسرى: يوم الفطر والنحر ويوم الجمعة وعند العيادة وتشييع الجنازة ويقول:( إنّها مواضع الله، وأُحب أن أكون فيها حافياً ) (١) .

هذه المناسبات فيها ما قد يتكرّر في اليوم مثل تشييع الجنازة والعيادة، وفيها ما يعود كل أسبوع كيوم الجمعة، وما يكون كلّ سَنة مرّة مثل يوم الفطر، هذا يعني أنّ الإمام ( عليه السلام ) يمارس هذه الأعمال العبادية في المناسبات خلال السَنة برقم كبير؛ كي يعلم الناس أدب العبودية وكيفية التخفّف والدخول إلى الساحات الإلهية بإلقاء كلّ شيء من أحمال الدّنيا، والتوجه بتذلل وتواضع إلى الله تعالى.

ممّا تقدم نعرف أنّ للإمام ( عليه السلام ) في كلّ مجال قدمَ سبق، وفي كلّ مناسبة مقعدَ صدق، في نشر الثقافة الإسلامية وإحيائها.

____________________

(١) نفس المصدر: ٢/١٢٠.

٤٨

الفصل الرابع: الإمام علي ( عليه السلام ) والأهداف الثقافية

الوصول إلى الأهداف يكون حسب الهمة التي يمتلكها الإنسان( قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ ) (١) وتجلّت الهمة العظيمة في أهداف علي ( عليه السلام ) حيث إنّه يريد من الإنسان أن يكون كاملاً في الحظوظ الدنيوية والأخروية، ويريد منه أن يرتقي في الأسباب وأمام كل لحظة تشرف عليها أنفاسه.

إنّ الأهداف الثقافية التي توخّاها الإمام ( عليه السلام ) هي ما يلي:

١. الاتقاء

الاتقاء كما هو في اللغة: ( اتقى الشيء: حَذره وتجنّبه )(٢) .

التجنّب والاتقاء ليس بالمعنى المطلق، أي عن كل شيء، إنّما عن الأشياء التي تردي الإنسان وتورده موارد الذمّ والسّوء. أعطى الإمام

____________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة: ٤٧.

(٢) المعجم الوسيط: ٢/١٠٥٢.

٤٩

قاعدةً كليةً في كيفية التجنّب والابتعاد( مَن حصّن شهوته صانَ قدره ) (١) الاتقاء يحصل على صعيدين:

١. الصعيد الداخلي للإنسان: ذلك عبر تحصين الشهوة عن الاقتراب من لذائذها ومراتعها، عن جعفر الصادق بن محمد الباقر عن أبيه ( عليه السلام ):( إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أتي بخبيص (٢) فأبى أن يأكله فقالوا له: أتحّرمه؟ قال: لا، ولكنّي أخشى أن تتوق إليه نفسي فأطلبه ) (٣) .

٢. الصعيد الاجتماعي للإنسان: وذلك يحصل عبر تجنّب كل علاقة تعود عليه بالضرر وأن يحسن انتخاب علاقاته بالأشياء، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال:( كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه إذا صعد المنبر قال: ينبغي للمسلم أن يتجنّب مؤاخاة ثلاثة: الماجن والأحمق والكذّاب ) (٤) .

وأيضاً عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال:( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): لا ينبغي للمرء المسلم أن يؤاخي الفاجر، فإنّه يزيّن له فعله ويحب أن يكون مثله، ولا يعينه على أمر دنياه ولا أمر معاده، ومدخله إليه ومخرجه من عنده شَين عليه ) (٥) .

إنّ الاتقاء من هؤلاء الأفراد، يعطي زخماً ثقافياً وأخلاقياً للمسلم؛ لأنّ هؤلاء الأفراد عبارة عن عوائق ثقافية تقف حائلاً أمام مسير الإنسان وتكامله.

____________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٣٩٤.

(٢) طعام معمول من التمر والزبيب والسمن، الحلواء.

(٣) أمالي المفيد: ١٣٤.

(٤) الأصول من الكافي: ٢/٣٧٦.

(٥) نفس المصدر: ٢/٦٤٠.

٥٠

٢. الإرساء

أرسى وثبّت الإمام العقائد الحقة بين الناس، مثل التوحيد والصورة الحقيقية لصفات الله تعالى وعدله( الأَوَّلُ لا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ وَالآخِرُ لا غَايَةَ لَهُ، لا تَقَعُ الأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ وَلا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَلا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ وَلا تُحِيطُ بِهِ الأَبْصَارُ وَالْقُلُوبُ ) (١) .

إنّ هذا الإرساء للصفات الإلهية تُعلم أهميته حينما يلاحظ العقائد الحسية والتجّسيمية التي جعلت لله أعضاء وجوارح، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

تطرق الإمام إلى القضايا التي قد يقع فيها الاختلاف - قد وقع التية والاختلاف بالفعل - مثل إيمان آباء الأنبياء والأولياء، فأرسى الرؤية العقائدية الصحيحة والسليمة في كل شك، والتي استقى عذب معينها من كلمات الله تعالى الباقية:( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (٢) ( فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الأَصْلابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ ) (٣) .

أعاد الإمام ( عليه السلام ) إلى الأذهان أنفاس القرآن في الخلافة والإمامة بعد النبوة،( وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَلا عَلَمٍ قَائِمٍ ) (٤) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٨٥.

(٢) سورة الشعراء: ٢١٩، انظر تفسير مجمع البيان: ٧/٣٢٣، وتفسير القمي: ٢/١٢٥.

(٣) نهج البلاغة: ٩٤/١٧٦.

(٤) نفس المصدر: الخطبة ١.

٥١

إنّ بيان الإمام للمسائل العقائدية التي يحتاجها الناس في حياتهم الدنيا يدل على مدى أهمية هذا الهدف الثقافي، الذي بفقدانه تنعدم الرؤية الواضحة للأصول الإسلامية.

يدل كما على ضرورة تعليم الناس وسوقهم نحو الأهداف الأهم، والتي ترتكز عليها باقي المسائل والفروع الإسلامية، فعليه نعرف أنّ الإرساء يعتبر هدف ثقافي يعمل لتحقيقه مَن يطلب الاستقامة والمعرفة.

٣. الارتقاء

هو السّمو إلى درجات أعلى،( أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ ) (١) هنا سؤال: هذا الهدف العزيز كيف يتم تحقيقه؟ نجد الجواب واضحاً في وصيته لابنه محمد بن الحنيفة حيث إنّ الإمام يريد أن يوصل ابنه محض الحق،( وألجئ نفسك في الأمور كلّها إلى الله الواحد القهّار، فإنّك تلجئها إلى كهفٍ حصينٍ، وحرز حريزٍ، ومانعٍ عزيز، وأخلص المسألة لربّك فإنّ بيده الخير والشرّ والإعطاء والمنع ) (٢) .

من الشواهد المؤيّدة للارتقاء - الذي حصل لأفراد يسهل عدّهم وإحصائهم - أنّه قال علي ( عليه السلام ) لأبي أيّوب الأنصاري:( يا أبا أيّوب، ما بلغ من كرم أخلاقك؟ قال: لا أؤذي جاراً فمَن دونه، ولا أمنعه معروفاً أقدر عليه ) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٦٢.

(٢) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٨.

٥٢

وعن ابن عبد البرّ قال: ( كان أبو أيوب الأنصاري مع عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) في حروبه كلها )(١) .

يعمّم الإمام ( عليه السلام ) هذا الهدف عند سؤال أبي أيوب، ليستفيد من ذلك مَن كان حاضراً، وهذا الصحابي له سابقة حسنى في الجهاد بحيث إنّ إيمانه كان يدفعه أن يلازم الإمام في حروبه كلها.

إنّ الهدف الأعلى لعلي ( عليه السلام ) هو تقريب الناس من الله تعالى،( وَإِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ ) (٢) .

____________________

(١) سفينة البحار: ١/١٩٦.

(٢) نهج البلاغة: الحكمة ٣٨٣.

٥٣

٥٤

الفصل الخامس: الإمام علي ( عليه السلام ) وعناصر البناء الثقافي

لكل عمل ثقافي عناصر يشدّ بعضها بعضاً ويرتبط بعضها ببعض، فالعمل الثقافي بدون أحد هذه العناصر يفقد تكامله ولا يصل إلى تمامه، وهي ما يلي:

١. الكلمة الطيبة

هي الكلمة الحسنة التي ثبتت في وجود الإنسان فأصبحت مِلكه وخرجت على لسانه بأغصانها وفروعها، لتعانق قلوب الناس،( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ ) (١) .

لقد كانت كلمات أمير المؤمنين تحمل الوداعة والطيب الإنساني إلى الناس، فهي سامية بصفائها ومتفرعة بما تحمله من خير إلى الجميع.

____________________

(١) إبراهيم: ٢٤ - ٢٥.

٥٥

لكن المعيار في معرفة الكلمة الطيبة هو صواب هذه الكلمات وسدادها، بحيث إنّها لو صادفت القلوب الصافية استقرّت، ولو التقت الألباب الحازمة لدلتها على مواطن المعرفة، وتأخذ موضعها على جوارح الإنسان،( َيَا لَهَا أَمْثَالاً صَائِبَةً وَمَوَاعِظَ شَافِيَةً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً وَأَسْمَاعاً وَاعِيَةً وَآرَاءً عَازِمَةً وَأَلْبَاباً حَازِمَةً ) (١) .

فالكلمة الطيبة تساهم في البناء الثقافي للإنسان، وتقوده إلى مغانم المعرفة والأخلاق، فهي ذات عطاء ثر على الصعيد الروحي بتأليف القلوب وتطييبها، وعلى الصعيد الاجتماعي تربط الناس بأواصر من المحبة والتراحم والاحترام، ويكون ما يعود منها إلى الإنسان توسيع علاقاته،( مَن لانت كلمته وجبت محبته ) (٢) .

ممّا سبق نعرف أنّ الكلمة الطيبة لها دور في بناء الإنسان المسلم؛ حيث إنّها تحمل الخير للآخرين وتشدّ الناس إلى بعضهم بروح من الودّ والمحبّة.

٢. الأسوة الحسنة

ورد ذكر الأُسوة في القرآن الكريم،( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ) (٣) و ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٨٣.

(٢) العقد الفريد: ٢/ ١٢٧.

(٣) سورة الأحزاب / ٢١.

٥٦

حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ ) (١) و( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ ) (٢) .

بعد درج آيات من التنزيل الحكيم، نسأل مَن هو الأُسوة الحسنة؟ ما هي الفائدة المترتبة على وجوده؟.

أمّا بالنسبة للشق الأَوّل من السؤال فيمكن تعريف الأسوة الحسنة تعريفاً بالمثال،( إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِي‏ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا ) (٣) .

أمّا الفائدة المترتبة على وجود الأُسوة الحسنة، فهي كما يصوّرها الإمام ( عليه السلام ):( إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ، وَكُفِيتُمْ مَئُونَةَ الاعْتِسَافِ، وَنَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الأَعْنَاقِ ) (٤) .

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يريد أن يأخذ بأيدي الناس إلى أقصر الطرق في الوصول إلى الله؛ وذلك عبر الأبواب العلمية والعملية التي تقدّر بآلاف الأبواب التي فتحها الرسول في عقله وقلبه وعلى جوارحه، ويريد من الناس أن يستفيدوا من هذا العلم النافع، والعمل الصالح عبر التأسي والاقتداء به، والذي هو في الحقيقة تأسي بالنبي ( صلّى الله عليه وآله ) صاحب الخلق العظيم و المقام الكريم،( فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ ( صلى الله عليه وآله ) فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى

____________________

(١) سورة الممتحنة / ٤.

(٢) سورة الممتحنة / ٦.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٨٧.

(٤) نفس المصدر: الخطبة ١٦٦.

٥٧

وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي ِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَلَقَدْ كَانَ ( صلى الله عليه وآله ) يَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً وَوَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلا تَنْبِذُهَا عَنْكَ، فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى ) (١) .

فالتأَسّي يكون بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وبمَن تبعه واقتفى أثره، وهو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هذا الاقتداء يتم عبر الاهتداء يهدي النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والاستنان بسنته.

ثمّ إنّ الأُسوة الحسنة يختلف عن باقي أفراد الأمّة، بحيث إنّه يريد أن يشارك في أحزان الناس وجُشوبة وعسر العيش( أأقنع مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! ) (٢) .

هذه هي الحقيقة التي يعيش عليها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين أهل الكوفة، قد بيّنها على ما تقدم من السطور، بيان هذه الحقيقة على ألسن الناس فهي

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٦٠.

(٢) نفس المصدر: كتاب ٤٥.

٥٨

كثيرة، لكنّنا اقتصرنا على ما يقتضيه المقام، عن سويد بن غفلة قال: ( دخلت على علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) القصر، فوجدته جالساً وبين يديه صَحفة فيها لبن حازر(١) أجد ريحه من شدة حموضته، وفي يده رغيف يُرى قشار الشعير على وجهه، وهو يكسره ويستعين أحياناً بركبته، وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه، فقلت يا فضّة أمّا تتقون الله في هذا الشيخ؟ أَلا نخلتم دقيقه؟ فقالت إنّا نكره أن تؤجر ونأثم نحن، قد أخذ علينا أن لا ننخل له دقيقاً فأصلحناه قال: وعليّ ( عليه السلام ) لا يسمع ما تقول، فالتفت إليها فقال:ما تقولين؟ قالت سلَه، فقال لي:ما قلت لها؟ [ قال ] إنّي قلت لها: لو نخلتم دقيقه، فبكى ثمّ قال:( بأبي وأمّي مَن لم يشبع ثلاثاً متوالية من خبز بُرّ حتى فارق الدنيا، ولم ينخل دقيقه ) ، قال: يعني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ) (٢) .

لسائل أن يسأل من أين لعلي ( عليه السلام ) هذه القابلية والقدرة على تحمل هذه المشاقّ؟.

لقد كان الإمام ( عليه السلام ) يملك زمام نفسه فهو الذي أكبّ الدنيا على وجهها.

روى معاوية بن عمّار عن جعفر بن محمد ( عليها السلام ) قال:( ما اعتلج على عليّ ( عليه السلام ) أمران في ذات الله تعالى إلاّ أخذ بأشدّهما، ولقد علمتم أنّه كان يأكل يا أهل الكوفة عندكم من ماله بالمدينة، وأن كان ليأخذ السّويق فيجعله في جِراب ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره، ومَن كان أزهد في الدّنيا من

____________________

(١) لبن حامض.

(٢) الغارات: ٢/٧٠٧، كشف الغمة في معرفة الأئمة: ١/٢١٨، بحار الأنوار: ٤١/١٣٨، سفينة ا لبحار: ٣/٥٤١.

٥٩

عليّ ( عليه السلام )؟ ) (١) .

( اعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّهِ لا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، وَلا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي، وَايْمُ اللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً ) (٢) .

القدرة العالية التي كانت عند علي ( عليه السلام ) هي حصيلة الترويض الجادّ المستمرّ في ذات الله تعالى.

للقدرة الحسنة صفات يتأسّى بها المؤمنون ويركن إليها المتقون، ولقد جرت تلك الصفات على لسان ضرار بن عمرو عند معاوية الذي كان خصماً لدوداً وعنيداً لأمير المؤمنين، قال معاوية ابن أبي سفيان لضرار بن عمرو: صف لي علياً قال: أَوَ تعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال:

إمّا إذا لابدّ، فإنّه والله كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، وكان والله غزير العَبرة طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما جشب!

وكان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويبتدؤنا إذا أتيناه ويلبّينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلمّه هيبةً ولا نبتديه لعظمته! فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم.

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤١/١٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الكتاب ٤٥.

٦٠