حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)0%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 363

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الصفحات: 363
المشاهدات: 149543
تحميل: 7800


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149543 / تحميل: 7800
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

صفات الممكن، ومستحيلة عليه...

ولم يستطع سليمان أن يقول شيئاً، وراح يناقض نفسه فقال: ( ليست - أي الإرادة - بفعل... ).

وقد اعترف سليمان سابقاً بأنّها فعل، والتفت إليه الإمام فقال: ( فمعه - أي مع الله - غيره لم يزل؟... ).

وراوغ سليمان، ولم يجب الإمام عن سؤاله، وقال: ( الإرادة هي الإنشاء... ).

فأجابه الإمام: ( هذا الذي عبتموه على ضرار(1) وأصحابه من قولهم: إنّ كل ما خلق الله عزّ وجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب، أو خنزير، أو قرد، أو إنسان، أو دابة، إرادة الله، وان إرادة الله تحيى، وتموت، وتذهب، وتأكل وتشرب، وتنكح، وتلذ، وتظلم، وتفعل الفواحش، وتكفر، وتشرك، فيبرأ منها، ويعاد بها وهذا حدها ).

عرض الإمامعليه‌السلام إلى الآراء الفاسدة التي التزم بها ضرار والتي عابها على سليمان وأصحابه فإنّ هذه اللوازم الفاسدة كلها ترد على سليمان إلاّ أنّه لم يع مقالة الإمام، وراح يقول: ( إنّها - أي الإرادة - كالسمع والبصر والعلم... ).

لقد كرّر سليمان ما قاله سابقاً من أنّ الإرادة كالسمع والبصر وقد أبطل الإمام ذلك، فقالعليه‌السلام له: ( أخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع؟... ).

( لا... ).

وانبرى الإمام يدلّه على تناقض كلامه قائلاً: ( فكيف نفيتموه؟ قلتم لم يرد، ومرة قلتم: أراد، وليست - أي الإرادة - بمفعول له... ).

وراح سليمان يتخبّط عشواء فقال: ( إنّما ذلك كقولنا: مرة علم، ومرة لم يعلم... ).

فأجابه الإمام ببالغ الحجّة قائلاً:

____________________

(1) ضرار من شيوخ المعتزلة في علم الكلام، وهو من الأباظية.

١٢١

( ليس ذلك سواء؛ لأنّ نفي المعلوم ليس كنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون؛ لأنّ الشيء إذا لم يرد لم تكن إرادة، فقد يكون العلم ثابتاً، وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر، فقد يكون العلم ثابتاً، وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر، فقد يكون الإنسان بصيراً، وإن يكن المبصر وقد يكون العلم ثابتاً، وإن لم يكن المعلوم... ).

وأجاب سليمان: ( إنّها - أي الإرادة - مصنوعة... ).

وأبطل الإمام قول سليمان، قائلاً: ( فهي محدثة، ليست كالسمع والبصر؛ لأنّ السمع والبصر ليسا بمصنوعين، وهذه مصنوعة... ).

فقال سليمان: ( إنّها صفة من صفاته لم تزل... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل لان صفته لم تزل... ).

وأخذ سليمان يراوغ في كلامه قائلاً: ( لا، لأنّه لم يفعلها... ).

فأنكر الإمام عليه ذلك وقال: ( يا خراساني ما أكثر غلطك، أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء؟... ).

وأصرّ سليمان على خطئه قائلاً: ( لا... ).

فأجابه الإمام: ( إذا لم تكن بإرادته، ولا مشيئته، ولا أمره، ولا بالمباشرة فكيف يكون ذلك؟ تعالى الله عن ذلك... ).

وحار سليمان، فلم يستطع أن يقول شيئاً، وراح الإمام يفند شبه سليمان، وما تمسك به من أوهام قائلاً له: ( ألا تخبرني عن قول الله عزّ وجل:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ) (1) . يعني بذلك أنّه يحدث إرادة؟... ).

____________________

(1) سورة الإسراء / آية 16.

١٢٢

وسارع سليمان قائلاً: ( نعم... ).

فأجابه الإمام: ( فإذا أحدث إرادة، كان قولك: إنّ الإرادة هي هو أو شيء منه باطلاً؛ لأنّه لا يكون أن يحدث نفسه، ولا يتغير عن حالة تعالى الله عن ذلك... ).

وانبرى سليمان قائلاً: ( إنّه لم يكن عنى بذلك أنّه يحدث إرادة... ).

( فما عنى به؟... )

(عنى فعل الشيء... ).

فزجره الإمام قائلاً: ( ويلك كم تردد هذه المسألة، وقد أخبرتك أنّ الإرادة محدثة؛ لأنّ فعل الشيء محدث... ).

( فليس لها معنى... ).

( قد وصف نفسه عندكم، حتى وصفها بالإرادة بما له معنى فإذا لم يكن لها معنى قديم، ولا حديث بطل قولكم إنّ الله عزّ وجل لم يزل مريداً... ).

وراح سليمان يتمسك بالشبه قائلاً: ( إنّما عنيت أنها - أي الإرادة - فعل من الله تعالى لم يزل... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( ألم تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً وقديماً وحديثاً في حالة واحدة ).

وحار سليمان في الجواب، فقد أبطل الإمام جميع شبهه، وأوضح له أنّ كل ممكن حادث وليس أزلياً، وإرادة الله تعالى ليست على غرار صفات الممكن.

وراح الإمام يقيم عليه الحجة قائلاً: ( لا بأس أتمم مسألتك... ).

( أنّ الإرادة صفة من صفاته... ).

وأنكر الإمام عليه تكراره لهذه المسألة قائلاً: ( كم تردد عليّ أنّها صفة من صفاته، فصفته محدثة أو لم تزل؟... ).

( محدثة... ).

( الله أكبر فالإرادة محدثة، إن كانت صفة من صفاته لم تزل فلم يرد شيئاً...

١٢٣

إنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً... ).

وراح سليمان يغالط نفسه قائلاً: ( ليس الأشياء إرادة، ولم يرد شيئاً... ).

وردّ الإمام عليه قائلاً: ( وسوست يا سليمان، فقد فعل، وخلق ما لم يزل خلقه، وفعله وهذه صفة من لا يدري ما فعل؟ تعالى عن ذلك... ).

وغالط سليمان فقال: ( يا سيدي فقد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم... ).

وصاح به المأمون قائلاً: ( ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردد؟ اقطع هذا، وخذ في غيره، إذ لست تقوى على غير هذا الرد... ).

والتفت الإمام إلى المأمون، قائلاً: ( دعه يا أمير المؤمنين، لا تقطع عليه مسألته، فيجعلها حجة... ).

ونطر الإمام إلى سليمان قائلاً: ( تكلم يا سليمان... )

ومضى سليمان قائلاً: ( قد أخبرتك أنّها - أي الإرادة - كالسمع والبصر والعلم... ).

فرد عليه الإمام: ( لا بأس اخبرني عن معنى هذه؟ أمعنى واحد أم معان مختلفة؟... ).

( معنى واحد... ).

( فمعنى الإرادات كلها معنى واحد؟... )

( نعم... )

ورد عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً: ( فإذا كان معناها واحدا كانت إرادة القيام وإرادة القعود وإرادة الحياة وإرادة الموت، إذا كانت إرادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضاً، ولم يخالف بعضها بعضاً، وكانت شيئا واحداً... ).

وأجاب سليمان قائلاً: ( إنّ معناها مختلف... ).

١٢٤

وأشكل الإمام عليه قائلاً: ( اخبرني عن المريد أهو الإرادة أم غيرها؟... ).

( بل هو الإرادة... ).

فأجابه الإمام: ( المريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة... ).

( يا سيدي ليس الإرادة المريد... ).

وأشكل الإمام عليه قائلاً: ( فالإرادة محدثة، وإلا فمعه غيره... ).

( إنّها اسم من أسمائه... )

( هل سمى نفسه بذلك؟... ).

( لا، لم يسم نفسه بذلك؟... ).

( فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه... ).

وراوغ سليمان، فقال: ( قد وصف نفسه بأنّه مريد... ).

وقال الإمام: ( ليس صفته نفسه، أنّه مريد إخبار عن أنّه إرادة ولا إخبار عن أنّ الإرادة اسم من أسمائه... ).

( لأنّ إرادته علمه... ).

وأجابه الإمام: ( إذا علم الشيء فقد أراده... ).

( أجل... ).

( إذا لم يرده لم يعلمه ).

( أجل... ).

وانبرى الإمام يوضح فساد ما ذهب إليه سليمان قائلاً: ( من أين قلت ذلك؟ وما الدليل على أن إرادته عمله؟ وقد يعلم ما لا يريده أبداً، وذلك قوله عزّ وجل: ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) (1) فهو يعلم كيف يذهب به، وهو لا يذهب به ابداً... ).

____________________

(1) سورة الإسراء / آية 86.

١٢٥

وقال سليمان: ( لأنّه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً... ).

ورد الإمام عليه قائلاً: ( هذا قول اليهود: فكيف قال تعالى:( ادعوني استجب لكم ) (1) .

وأنكر سليمان ذلك وقال: ( إنّما عنى بذلك، أنّه قادر عليه... ).

وأجابه الإمام: ( أفيعد ما لا يفي به؟ فكيف قال:( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ) (2).

وقال عزّ وجل:( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (3) وقد فرغ من الأمر... ).

وحار سليمان، فقد سد الإمام عليه كل نافذة، فأين ما اتجه فالإمام يواجهه ببالغ الحجة، وقوة البرهان في إبطال ما يذهب إليه...

ومضى الإمامعليه‌السلام في إبطال شبه سليمان قائلاً:

( يا سليمان هل يعلم أنّ إنساناً يكون، ولا يريد أن يخلق إنساناً أبدا، وأنّ إنساناً يموت اليوم، ولا يريد أن يموت اليوم... ).

وسارع سليمان قائلاً: ( يعلم أنّهما يكونان جميعاً... ).

وأجابه الإمام بما يترتب على قوله من التناقض قائلاً: ( إذا يعلم أنّ إنساناً حي ميت، قائم، قاعد، أعمى، بصير، في حالة واحدة، وهذا هو المحال... ).

وراح سليمان يكثر من التناقض في كلامه الذي ألزمه به الإمام قائلاً:

____________________

(1) سورة المؤمن / آية 60.

(2) سورة فاطر / آية 1.

(3) سورة الرعد / آية 39.

١٢٦

( جعلت فداك، فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر... ).

فقال الإمام: ( لا بأس، فأيّهما يكون الذي أراد أن يكون، أو الذي لم يرد أن يكون؟... ).

وراح سليمان يتخبط خبط عشواء، لم يدر ما يقول، وما يترتب على كلامه من التهافت فقال: ( أراد الذي أن يكون... ).

وغرق القوم في الضحك، وضحك الإمام الرضا، والمأمون، فقال الإمام: ( غلطت، وتركت قولك: إنّه يعلم أنّ إنساناً يموت اليوم، وهو لا يريد أن يموت اليوم، وانه يخلق خلقاً، وأنّه لا يريد أن يخلقهم، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون، فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون؟... ).

وراح سليمان يوجّه ما قاله: ( فإنّما قولي: إنّ الإرادة ليست هو ولا غيره... ).

وانبرى الإمام يدله على تناقض قوله: ( إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها غيره، وإذا قلت: ليست هي غيره، فقد جعلتها هو... ).

وقال سليمان: ( كيف فهو يعلم - أي الله - كيف يصنع الشيء؟... ).

( نعم... ).

( فإنّ ذلك إثبات للشيء... ).

فأجابه الإمام بمنطق الحكمة والعلم قائلاً: ( أحلت - أي تكلمت بالمحال - لأنّ الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن، ويحسن الخياطة، وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبداً. يا سليمان هل تعلم أنّه واحد لا شيء معه؟... ).

( نعم... ).

( فيكون ذلك إثباتاً للشيء... ).

وأنكر سليمان ما قاله سابقاً. ( ليس يعلم أنّه واحد لا شيء معه... ).

فأجابه الإمام:

١٢٧

( أفتعلم أنت ذاك؟... ).

( نعم... ).

( فأنت يا سليمان إذا أعلم منه؟... ).

وراح سليمان يقول: ( المسألة محال... ).

فرد الإمام عليه قائلاً: ( محال عندك، إنّه واحد، لا شيء معه وانه سميع بصير، حكيم قادر... ).

( نعم... ).

وأجابه الإمام بمنطق العلم والحكمة قائلاً: ( كيف أخبر عزّ وجل أنّه واحد، حي سميع، بصير، حكيم، قادر عليم، خبير، وهو لا يعلم ذلك، وتكذيبه... تعالى الله عن ذلك ).

وأضاف الإمام قائلاً: ( كيف يريد صنع ما لا يدري صنعه، ولا ما هو؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فإنما هو متحير... تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً... ).

وراح سليمان يتخبط فقال: ( إنّ الإرادة القدرة... ).

فرد الإمام عليه بقوله: ( وهو عزّ وجل يقدر على ما لا يريده أبداً، ولا بد من ذلك؛ لأنّه قال تبارك وتعالى:( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته... ).

وبان العجز على سليمان، ووقف حائراً أمام هذا البحر المتلاطم من العلم والفضل، فانقطع عن الكلام، والتفت إليه المأمون مشيداً بمواهب الإمام وعبقرياته قائلاً: ( يا سليمان هذا أعلم هاشمي... ).

واحتوت هذه المناظرة على بحوث فلسفية بالغة الأهمية دلّت على مدى ما يحمله الإمام الرضاعليه‌السلام من طاقات علمية هائلة أثبتت صدق وواقعية ما تذهب إليه الشيعة الإمامية من أنّ الإمام لا بد أن يكون أعلم أهل عصره؛ وبذلك فقد

١٢٨

باءت بالفشل محاولة المأمون الذي أراد تعجيز الإمام ولو بمسألة واحدة ليتخذ منها وسيلة للطعن في معتقدات الشيعة بالإمام، وقد علّق الشيخ الصدوق نضر الله مثواه على هذه المناظرة بقوله: كان المأمون يجلب على الرضا من متكلّمي الفرق والأهواء المضلة كل مَن سمع به حرصاً على انقطاعه عن الحجة مع واحد منهم، وذلك حسداً منه له، ولمنزلته من العلم، فكان لا يكلمه أحد إلاّ أقر له بالفضل وألزم الحجة له عليه؛ لأنّ الله تعالى ذكره يأبى إلاّ أن يعلي كلمته، ويتم نوره، وينضر حجته، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (1) يعني بالذين آمنوا الأئمة الهداة، وأتباعهم العارفين بهم، والآخذين عنهم بنصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا، وكذلك يفعل بهم في الآخرة وان الله عزّ وجل لا يخلف الميعاد )(2) .

مناظرة أبي قرة للإمام:

وتصدى الإمام الرضاعليه‌السلام لتزييف الشبه وإبطالها، التي أثيرت حول العقيدة الإسلامية، وقد قصد أبو قرة خراسان، لامتحان الإمامعليه‌السلام ، وطلب من صفوان بن يحيى وهو من خواص الإمام أن يستأذن منه للدخول عليه، فأذن الإمام له، فلما تشرف بالمثول أمامه سأله عن أشياء من الحلال والحرام، والفرائض والأحكام فأجابه عنها، ثم سأله عن بعض قضايا التوحيد وهي:

س 1: ( أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى؟... ).

ج 1: ( الله أعلم بأيّ لسانٍ كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية... ).

وأخرج أبو قرة لسانه، وقال: إنّما أسألك عن هذا اللسان ومعنى ذلك أنّه هل كلمه بلسان كلسان الإنسان؟

فرد الإمام عليه ذلك بقوله: ( سبحان الله عما تقول: ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون، ولكنّه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء، ولا كمثله قائل ولا فاعل... ).

وانبرى أبو قرة قائلاً: ( كيف ذلك؟..... ).

____________________

(1) سورة المؤمن / آية 51.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 182 - 191.

١٢٩

فقالعليه‌السلام : ( كلام الخالق لمخلوق، ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول: (كن) فكان بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردد في نفس؟... ).

إنّ كلام الله تعالى ليس بواسطة الجارحة كما في كلام الإنسان، فإنّه تعالى يستحيل عليه ذلك، إذ ليس كمثله شيء، ولا قائل.

س 2: ( ما تقول في الكتب؟... ).

ج 2 - ( التوراة والإنجيل والزبور، والفرقان، وكل كتاب انزل كان كلام الله، أنزله للعالمين نورا وهدى، وهي كلها محدثة، وهي غير الله حيث يقول:( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ) (1) وقال:( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) (2) والله أحدث الكتب كلها التي أنزلها... ).

س 3: ( هل تفنى؟ - أي الكتب - ).

ج 3: ( أجمع المسلمون على أنّ ما سوى الله فان، وما سوى الله فعل الله، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله، ألم تسمع الناس يقولون: ( رب القرآن ) وإنّ القرآن يقول يوم القيامة: ( يا رب هذا فلان - وهي أعرف به منه - قد أظمأت نهاره وأسهرت ليله، فشفعني فيه ) وكذلك التوراة والإنجيل والزبور وهي كلها محدثة، مربوبة، أحدثها من ليس كمثله شيء، هدى لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن معه، فقد أظهر: أنّ الله ليس بأوّل قديم، ولا واحد، وان الكلام لم يزل معه، وليس له بدو، وليس بإله... ).

س 4: ( إنّا روينا: إنّ الكتب كلها تجئ يوم القيامة، والناس في صعيد واحد، قيام لربّ العالمين، ينظرون حتى ترجع فيه؛ لأنّها منه، وهي جزء منه، فإليه تصير ).

ج 4: ( هكذا قالت النصارى في المسيح إنّه روحه، جزء منه، ويرجع فيه، وكذلك قالت المجوس: في النار والشمس إنّهما جزء منه ترجع فيه. تعالى ربنا أن يكون متجزياً أو مختلفاً، وإنّما يختلف، ويأتلف المتجزي؛ لأنّ كل متجزي متوهم

____________________

(1) سورة طه / آية 113.

(2) سورة البقرة / آية 21.

١٣٠

والكثرة والقلّة مخلوقة دالة على خالق خلقها... ).

س 5: ( إنّا روينا: إنّ الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم لموسى الكلام ولمحمد (صلى الله عليه وآله) الرؤية... ).

ج 5: ( فمن المبلغ عن الله الثقلين: الجن والإنس، إنّه لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شيء، أليس محمد (صلى الله عليه وآله)؟... ).

( بلى... ).

وأوضح الإمامعليه‌السلام له الأمر، وكشف ما التبس عليه قائلاً: ( كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم: أنّه جاء من عند الله، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله، ويقول: إنّه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شيء، ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا؟ أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر..... ).

س 6: إنّه يقول: ( ولقد رآه نزلة أخرى... )(1) .

ج 6: ( إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) يقول: ما كذب فؤاد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رأت عيناه، فقال: ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) فآيات الله غير الله وقال:( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (2) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم، ووقعت المعرفة... ).

س 7: ( فنكذب بالرواية؟... ).

ج 7: ( إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنّه - أي الله تعالى - لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء... ).

لقد وضع الإمامعليه‌السلام لصفة الخبر وزيفه مقياساً وهو أنّ الخبر إن اتفق مع القرآن الكريم فهو صحيح، وإلاّ فهو باطل.

س 8: ما معنى قوله تعالى:( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى... ) (3) ؟

____________________

(1) سورة النجم / آية 13 وما بعدها.

(2) سورة طه / آية 11.

(3) سورة الإسراء / آية 1.

١٣١

ج 8: ( لقد أخبر الله تعالى أنّه أسرى به، ثم أخبر - أي الله - أنّه لم أسري به - أي أخبر الله عن العلة في هذا الإسراء - فقال:( لنريه من آياتنا ) (1) فآيات الله غير الله، فقد اعذر، وبين لم فعل به ذلك، وما رآه، وقال:( فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون ) (2) .

س 8: ( أين الله؟... ).

ج 8: ( الأين مكان، وهذه مسألة شاهد عن غائب، فالله تعالى ليس بغائب، ولا يقدمه قادم، وهو بكل مكان، موجود مدبّر، صانع، حافظ، ممسك السماوات والأرض... ).

س 9: ( أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟... ).

ج 9: هو الله في السماوات، وفي الأرض، وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء وهو معكم أينما كنتم، وهو الذي استوى إلى السماء وهي دخان، وهو الذي استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو الذي استوى على العرش، قد كان ولا خلق، وهو كما كان إذ لا خلق، لم ينتقل مع المنتقلين..... ).

س 10: ( فما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟... ).

ج 10: ( إنّ الله استعبد خلقه بضروب من العبادة ولله مفازع يفزعون إليه، ومستعبد فاستعبد عباده بالقول والعلم، والعمل والتوجّه، ونحو ذلك استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكعبة، ووجه إليها الحج والعمرة واستعبد خلقه عند الدعاء، والطلب، والتضرّع ببسط الأيدي، ورفعها إلى السماء حال الاستكانة، وعلامة العبودية والتذلّل له... ).

س 11: ( مَن أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض؟... ).

ج 11: ( إن كنت تقول بالشبر والذراع، فإنّ الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض، يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره من غير عناء، ولا كلفة ولا مؤنة، ولا مشاورة، ولا نصب وإن كنت تقول: مَن أقرب إليه في الوسيلة، فأطوعهم له وأنتم ترون أنّ أقرب ما

____________________

(1) سورة الإسراء / آية 1.

(2) سورة الجاثية / آية 5.

١٣٢

يكون العبد إلى الله، وهو ساجد، ورويتم أنّ أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق،

وأحدهم من شرق الخلق، وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: ( من عند الله ( أرسلني بكذا وكذا، ففي هذا دليل على أنّ ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل... ).

س 12: ( أتقر أنّ الله محمول؟... ).

ج 12: ( كل محمول مفعول، ومضاف إلى غيره محتاج فالمحمول اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل، وهو في اللفظ ممدوح، وكذلك قول القائل: فوق، وتحت، وأعلى، وأسفل، وقد قال الله تعالى:( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) .

ولم يقل في شيء من كتبه إنّه محمول بل هو الحامل في البر والبحر، والممسك للسماوات والأرض، والمحمول ما سوى الله، ولم نسمع أحداً آمن بالله وعظمه قط، قال في دعائه: يا محمول... ).

س 13: ( أفنكذب بالرواية؟ إنّ الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش، يجدون ثقله في كواهلهم فيخرون سجّداً، فإذا ذهب الغضب، خف فرجعوا إلى مواقفهم... ).

ج 13: ( أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا، والى يوم القيامة، فهو غضبان على إبليس، وأوليائه أو عنهم راض؟... ).

وأيد أبو قرة كلام الإمام قائلاً: ( نعم هو غضبان عليه... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( ويحك كيف تجترئ أن تصف ربّك بالتغير من حال إلى حال، وأنّه يجري عليه ما يجري على المخلوقين؟ سبحانه لم يزل مع الزائلين، ولم يتغير مع المتغيرين... ).

واستولى الذهول على أبي قرة، وحار في الجواب وانهزم من المجلس، وهو مندحر قد أترعت نفسه بالغيظ، والحقد على الإمام.

مناظرته مع الجاثليق:

ومن بين الإجراءات التي اتخذها المأمون لامتحان الإمام لعلّه يظفر بتعجيزه أنّه

____________________

(1) الاحتجاج 2 / 185 - 189.

١٣٣

أوعز إلى وزيره الفضل بن سهل أن يجمع له الأعلام المتكلمين من أصحاب المقالات والأديان، مثل الجاثليق(1) . ورأس الجالوت(2) ، والهربذ الأكبر(3) وأصحاب زردهشت(4) ونسطاس الرومي(5) وسائر المتكلمين فجمعهم الفضل في بلاط المأمون، ثم أدخلهم عليه فقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم، وعرض عليهم ما يرومه قائلاً: ( إنّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمي المدني، القادم علي، فإذا كان بكرة فاغدوا علي، ولا يتخلف منكم أحد... ).

فأجابوه بالسمع والطاعة، والامتثال لأمره، وأمر المأمون ياسر الخادم أن يدعو الإمام لمناظرة علماء الأديان في اليوم الثامن، فخف ياسر إلى الإمام وأبلغه مقالة المأمون فأجابه إلى ذلك والتفت الإمام إلى الحسن بن محمد النوفلي فقال له: ( يا نوفلي أنت عراقي، ورقّة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمّي علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات... ).

وعرف النوفلي غاية المأمون، فقال للإمام: ( جعلت فداك يريد الامتحان، ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى... ).

وسارع الإمام قائلاً: ( وما بناؤه في هذا الباب؟... ).

وعرض النوفلي على الإمام ما يحذره ويخافه عليه منهم قائلاً: ( إنّ أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء؛ وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون، وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، إن احتججت عليهم بأنّ الله واحد، قالوا: صحيح وحدانيته، وإن قلت: إنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول، قالوا: ثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل - وهو مبطل عليهم بحجته - ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك... ).

____________________

(1) الجاثليق: رئيس الأساقفة.

(2) الجالوت: هو أحد علماء اليهود.

(3) الهربذ: هو من علماء الهنود.

(4) في نسخة: ( زرادشت ) وهو من تلاميذ بعض الأنبياء، وقيل: إنّه مرسل من قبل بعض الأنبياء إلى بني إسرائيل.

(5) النسطاس: عالم بالطب.

١٣٤

لقد أعرب النوفلي عن مخاوفه من هؤلاء الذين يحاججهم الإمام؛ لأنّهم لا يبغون الوصول إلى الواقع، والتعرف على الحق، وهم دوماً يعتمدون على المغالطات للوصول إلى أهدافهم الرخيصة.

وأزال الإمام ما في نفس النوفلي من المخاوف قائلاً ( أتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟... )

إنّهم أمام بحر من العلم، وطاقات هائلة من الفضل، فكيف يقطعون على الإمام حجته، وسارع النوفلي فقال: ( لا والله ما خفت عليك قط، وإنّي لأرجو أن يظفرك الله بهم، إن شاء الله... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( يا نوفلي، أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟... ).

( نعم... )

( إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أهل المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون أنّ الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم... ).

لقد كشف الإمام عليه بهذه الكلمات عما يملكه من ثروات علمية لا تحد، وأنّه باستطاعته أن يناظر جميع أهل الأديان والمذاهب، ويفند أوهامهم، ويوضح لهم الحق، وإذا استبان ذلك للمأمون فإنه يندم على هذه الإجراءات، ويظهر له أنّه على غير صواب.

ولما انقضى النهار، واقبل اليوم الثاني خف الفضل بن سهل مسرعاً إلى الإمامعليه‌السلام ، فقال له: ( جعلت فداك إنّ ابن عمك - يعني المأمون - ينتظرك، اجتمع القوم، فما رأيك في اتيانه؟... ).

فأجابه الإمام أنه مستعد للحضور، وانه قادم على المأمون، وخرج الإمام، وهو بهيبة تعنو لها الجباه، فكان يلهج بذكر الله ودخل على المأمون وكان المجلس

١٣٥

مكتظاً بالطالبيين والهاشميين، وقادة الجيش والعلماء، من مسلمين وغيرهم، وقام المأمون وجميع من في المجلس تكريما وتعظيماً للإمام، وجلس الإمام، والناس وقوف احتراماً له، فأمرهم المأمون بالجلوس، وبعدما استقر المجلس بالإمام التفت المأمون إلى الجاثليق، فقال له: ( يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن علي بن أبي طالبعليه‌السلام فأحب أن تكلمه وتحاجه، وتنصفه... ).

وانبرى الجاثليق قائلاً: ( يا أمير المؤمنين، كيف أحاج رجلاً يحاج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أومن به... ).

لقد حسب الجاثليق أنّ الإمامعليه‌السلام يستدل على ما يذهب إليه بآيات من القرآن الكريم، أو بكلمات من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو لا يؤمن بذلك، وإنما يبغي دليلاً وبرهاناً من كتبهم، وردّ الإمام عليه مقالته: ( يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( هل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقرّ به... ).

( سل عمّا بدا لك، واسمع الجواب... ).

س 1 - ( ما تقول في نبوّة عيسى، وكتابه هل تنكر منهما شيئاً؟... ).

ج 1 - ( أنا مقر بنبوّة عيسى وكتابه، وما بشّر به أمّته، وأقرّت به الحواريون، وكافر بنبوّة عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه، ولم يبشر به أمّته... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟... ).

( بلى... ).

( فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمد ممّن لا تنكره النصرانية، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا... ).

وصدق الإمام مقالته، فقد جاء بالنصف قائلاً: ( الآن جئت بالنصفة، ألا تقبل مني العدل، والمقدم عند المسيح بن مريم؟... ).

١٣٦

( من هذا العدل سمه لي؟... ).

( ما تقول: في يوحنا الديلمي؟... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( بخ بخ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح... ).

وانبرى سليل النبوة قائلاً: ( أقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال: إنّ المسيح أخبرني بدين محمد العربي: وبشرني به، أنّه يكون من بعدي، فبشرت به الحواريين، فآمنوا به... ).

ولم يسع الجاثليق إنكار ذلك إلاّ أنّه قال: إنّ يوحنا لم يسمه لنا، حتى نعرفه.

ورد عليه الإمام: ( فإن جئناك بمَن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد، وأهل بيته، وأمّته أتؤمن به؟... ).

وقال بصوت خافت: ( أمر سديد... ).

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى نسطاس الرومي، فقال له: ( كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟... ).

( ما أحفظني له... ).

وخاطب الإمامعليه‌السلام الجاثليق فقال له: ( ألست تقرأ الإنجيل؟... ).

( بلى... )

( خذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي... ). وتلا الإمام عليه السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التفت إلى الجاثليق فقال له: ( إنّي أسألك بحق المسيح وأمّه أتعلم أنّي عالم بالإنجيل؟... ).

( نعم... ).

ثم قرأ ما في السفر الثالث من ذكر النبي وأهل بيته وأمته، وأضاف قائلاً: ( ما تقول: هذا قول عيسى بن مريم، فإن كذبت ما نطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك، القتل لأنّك تكون قد

١٣٧

كفرت بربّك ونبيك، وكتابك... ).

وراح الجاثليق يقول: ( لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل، وإنّي لمقر به... ).

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فطلب منهم الشهادة على إقراره، ثم قال له: ( يا جاثليق سل عمّا بدا لك... ).

وسارع الجاثليق سائلاً:

س 2 - ( اخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟... ).

ج 2 - ( على الخبير سقطت، أمّا الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً، وكان أفضلهم وأعلمهم (لوقا) وأمّا علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: ( يوحنا ) الأكبر - يا حي - و ( يوحنا ) بقرقيسيا، (ويوحنا ) الديلمي بزخار، وعنده كان ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر أهل بيته، وهو الذي بشّر أمّة عيسى وبني إسرائيل به ).

وأضاف الإمام قائلاً: ( والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وما ننقم على عيسى شيئاً إلاّ ضعفه، وقلّة صيامه وصلاته... ).

وحينما سمع الجاثليق الكلمات الأخيرة من هذا فصاح: ( أفسدت، والله علمك، وضعف أمرك، وما كنت ظننت إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام... ).

وقابله الإمام بهدوء فقال له: ( وكيف ذلك؟... ).

وفقد الجاثليق صوابه، وراح يقول: ( من قولك: إنّ عيسى كان ضعيفاً، قليل الصوم والصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قط، وما نام بليل قط، وما زال صائم الدهر، قائم الليل... ).

وانبرى الإمام ينسف العقيدة المسيحية الزاعمة بأنّ المسيح إله يعبد من دون الله، فقالعليه‌السلام : ( لـمَن كان يصوم - أي المسيح - ويصلّي؟... ).

فانقطع الجاثليق عن الجواب، ولم يدر ما يقول.

والتفت الإمام إليه قائلاً:

١٣٨

( إنّي أسألك عن مسألة؟... ).

( سل فإن كان عندي علمها أجبتك... ).

ووجّه الإمام إليه السؤال التالي: ( ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله؟... ). وأجاب الجاثليق: ( أنكرت ذلك من قبل، إنّ مَن أحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص فهو ربّ مستحق لأن يعبد... ).

ورد الإمام عليه مقالته: ( فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسىعليه‌السلام ، مشى على الماء، وأحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم لا تتخذه أمّته ربّاً، ولم يعبده أحد من دون الله عزّ وجل، فأحيى خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة، يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة اختارهم (بخت نصر) من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس، ثم انصرف بهم إلى بابل، فأرسله الله عزّ وجل إليهم، فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكر... ).

وبهر الجاثليق بمعلومات الإمام عنهم، وقال: ( قد سمعنا به، وعرفناه... ).

والتفت الإمام إلى يهودي كان في المجلس، فأمره أن يقرأ إحدى فصول التوراة، فأخذ في قراءتها، وكان فيه ذكر لبعض الأنبياء، وأقبل الإمام على رأس الجالوت فقال له: ( أهؤلاء - يعني الأنبياء - كانوا قبل عيسى، أم عيسى كان قبلهم؟... ).

( بل كانوا قبله... ).

وأخذ الإمام يتلو عليهم بعض معجزات جدّه الرسول الأعظم خاتم الأنبياء قائلاً: ( لقد اجتمعت قريش على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجّه معهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له: اذهب إلى الجبانة، فناد بأسماء هؤلاء الرهط، الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان، يا فلان يقول لكم محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا بإذن الله عزّ وجل، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أنّ محمداً قد بعث نبياً، فقالوا: وددنا أنّا أدركناه، فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص

١٣٩

والمجانين، وكلّمته البهائم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه ربّاً من دون الله، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم فإن اتخذتم عيسى ربّاً جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربّين؛ لأنّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم، من إحياء الموتى وغيره، ثم إنّ قوماً من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل القرية فحظروا عليهم حظيرة، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم، وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم، ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟

قال: نعم. فأوحى الله أن نادهم، فقال أيّتها العظام البالية قومي بإذن الله، فقاموا أحياءً أجمعين ينفضون التراب عن رؤوسهم، ثم إبراهيم خليل الله حين اتخذ الطير فقطعهن قطعاً، ثم وضع على كل جبل منهم جزءا ثم ناداهن فأقبلن سعياً إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم، صاروا معه إلى الجبل، فقالوا له: إنّك قد رأيت الله فأرناه. فقال لهم: إنّي لم أره.

فقالوا: لن نؤمن حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم، فبقي موسى وحيداً.

فقال: يا رب! اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم، فارجع أنا وحدي، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به فلو شيءت أهلكتهم من قبل وإيّاي، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منها؟ فأحياهم الله عزّ وجل من بعد موتهم، وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه؛ لأنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل مَن أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ ربّاً من دون الله، فاتخذ هؤلاء كلهم أرباباً، ما تقول يا نصراني؟ ).

لقد نعى الإمامعليه‌السلام على النصارى اتخاذهم السيد المسيح ربّاً من دون الله لأنّه أحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص فقد جرت أمثال هذه المعاجز إلى سيد الأنبياء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض الأنبياء العظام، ولم يتخذوا أرباباً يعبدون من دون الله تعالى. وانبرى الجاثليق فخاطب الإمام بعد ما سمع منه هذه الكلمات المشرقة فقال:

١٤٠