أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)0%

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 244

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 244
المشاهدات: 148057
تحميل: 8093

توضيحات:

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148057 / تحميل: 8093
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قتلُ مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام).

فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه، وإنَّما فعل ذلك لأنّهعليه‌السلام علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون(1) . فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثم ساروا.

لقاء الإمام الحسينعليه‌السلام مع الحرّ:

وبينما كان الإمامعليه‌السلام يسير بمن بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته; إذا بهم يرون أشباحاً مقبلة من مسافات بعيدة، وظنّها بعضهم أشباح نخيل، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار النخيل، ولكنّها جيوش زاحفة، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسينعليه‌السلام وتسيّره كما يريد، ولمّا اقتربوا من ركب الحسينعليه‌السلام سألهم عن المهمّة التي جاءوا من أجلها، فقال لهم الحرّ: لقد أمرنا أن نلازمكم ونجعجع بكم حتى ننزلكم على غير ماء ولا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد وعبيدالله بن زياد(2) .

____________________

(1) الإرشاد: 2/ 75 - 76، والبداية والنهاية: 8 / 182، وأعيان الشيعة: 1 / 595.

(2) تأريخ الطبري: 3 / 305، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 229، والبداية والنهاية: 8 / 186، وبحار الأنوار: 44 / 375.

١٨١

وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من الرجوع إلى الحجاز أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة، وأبى الحسينعليه‌السلام أن يستسلم ليزيد وابن زياد(1) ، وكان ممّا قاله الحسين وهو واقف بينهم خطيباً: (أيّها الناس! إنّي لم آتِكم حتى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم، أنِ أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم). فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة، فقال للحرّ: (أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟) قال: لا، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم الحسينعليه‌السلام (2) .

وبعد أن صلّى الإمامعليه‌السلام بهم العصر خاطبهم بقوله: (أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم)(3) ، فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فقال الحسينعليه‌السلام لبعض أصحابه: (يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ) فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ

____________________

(1) تأريخ الطبري: 3 / 305، مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: 1 / 229، البداية والنهاية: 8 / 186، بحار الأنوار: 44 / 375.

(2) الإرشاد: 2 / 79، والفتوح لابن أعثم: 5 / 85، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 596.

(3) الفتوح لابن أعثم: 5 / 87، وتأريخ الطبري: 3 / 206، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 332.

١٨٢

نفارقك حتى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.

فقال له الحسينعليه‌السلام : (الموت أدنى إليك من ذلك) ثم قال لأَصحابه: (قوموا فاركبوا)، فركبوا وانتظروا حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: (انصرفوا)، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسينعليه‌السلام للحرّ: (ثَكَلَتْكَ أمك ما تريد؟)، قال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه(1) .

النزول في أرض الميعاد:

أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسينعليه‌السلام نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السلطة الأُموية، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتى تلتحق به جيوش بني أُمية وتلتقي به بعيداً عن الكوفة خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغل ابن زياد ظروف المنطقه الصعبة للضغط على الإمامعليه‌السلام واستسلامه.

وبغباء المنحرف الساذج وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسينعليه‌السلام - يزيد بن مهاجر - مدافعاً عمّا جاء به قائلا: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي، فقال له ابن مهاجر: بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله تعالى:

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 80، تاريخ الطبري: 3 /306.

١٨٣

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ) (1) .

وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسينعليه‌السلام دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد وأصرّوا على أن يدفعوا الإمامعليه‌السلام نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.

وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني أُمية، فقال للحسينعليه‌السلام : (إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم)، ولكنّ الإمامعليه‌السلام رفض هذا الرأي لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للأمة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى إلى بنائها في الأمة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه، فقالعليه‌السلام : (ما كنت لأبدأهم بقتال).

وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين(2) ، ثم اقترح زهير على الإمامعليه‌السلام أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الأموي لو نشبت المعركة.

وسأل الإمامعليه‌السلام عن اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت عيناه وهو يقول: (اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء)، ثم قال: (ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمد

____________________

(1) القصص (28): 41.

(2) تأريخ الطبري: 3 / 309، ومعجم البلدان: 4 / 444، وإعلام الورى: 1 / 451، والأخبار الطوال: 252، وبحار الأنوار: 44 / 380.

١٨٤

ينزلون هاهنا)(1) .

قبض الإمام الحسينعليه‌السلام قبضةً من ترابها فشمّها وقال: (هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني أم سلمة)(2) .

فأمر الإمامعليه‌السلام بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.

جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد:

وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين و توعّد كلَّ مَنْ يقدر على حمل السلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.

وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السجونُ بالشيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الأمويين وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميع الاحتياطات، وبخاصة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم

____________________

(1) مجمع الزوائد: 9 / 192، والأخبار الطوال: 253، وحياة الحيوان للدميري: 1 / 60.

(2) تذكرة الخواص: 260، ونفس المهموم: 205، وناسخ التواريخ: 2 / 168، وينابيع المودة: 406.

١٨٥

على أمر من الأُمور(1) .

وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسينعليه‌السلام وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم. وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسينعليه‌السلام أوضح فيها الإمامعليه‌السلام لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كل الحجج في سبيل إظهار الحق، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد.

ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الأموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمامعليه‌السلام ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه(2) ، متجاهلاً حرمة البيت النبوي بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان(3) .

____________________

(1) سيرة الأئمة الاثني عشر القسم الثاني: 68.

(2) الإرشاد للمفيد: 2 / 85، الفتوح: 5 / 97، بحار الأنوار: 44 / 284، إعلام الورى: 1 / 451، البداية والنهاية: 8 / 189، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 245.

(3) إعلام الورى: 1 / 452.

١٨٦

البحث السادس: ماذا جرى في كربلاء؟

ليلة عاشوراء:

نهض عمر بن سعد إلى الحسينعليه‌السلام عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم، وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسينعليه‌السلام فقال: أين بنو أُختنا؟ يعني العباس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء عليّعليه‌السلام . فقال الحسينعليه‌السلام : أجيبوه وإن كان فاسقاً فإنّه بعض أخوالكم؛ وذلك أنّ أمهم أم البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني كلاب أيضاً.

فقالوا له: ما تريد؟ فقال لهم: أنتم يا بني أختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد. فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟

وناداه العباس بن أمير المؤمنين تبّت يداك ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!

ثم نادى عمر بن سعد يا خيل الله! اركبي وبالجنة أبشري. فركب الناس ثم زحف ابن سعد نحوهم بعد العصر والحسينعليه‌السلام جالس أمام بيته محتب بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته زينب الصيحة، فدنت من أخيها وقالت: يا أخي! أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه فقال: إني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الساعة في المنام فقال إنّك تروح إلينا، فلطمت أخته وجهها، ونادت بالويل، فقال لها الحسينعليه‌السلام : ليس لكِ الويل، يا أُخيّة اسكتي، رحمك الله.

١٨٧

وقال له العباس: يا أخي أتاك القوم فنهض ثم قال: يا عباس اركب - بنفسي يا أخي - أنت حتى تلقاهم وتقول لهم: ما بالكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟ فأتاهم في نحو من عشرين فارساً منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فسألهم فقالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم، قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم، فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفّونهم عن قتال الحسينعليه‌السلام .

فلما أخبره العباس بقولهم قال له: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشية لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.

فسألهم العباس ذلك، فتوقف ابن سعد، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: سبحان الله! والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمد؟! وقال له قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم، لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم إلى ذلك.

وجمع الحسينعليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء. قال الإمام زين العابدينعليه‌السلام : فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشاكرين.

( أمّا بعد ) فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً ألا وإنّي لأظنّ أنه آخر يوم لنا من هؤلاء ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه

١٨٨

جملاً، وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم; فإنّهم لا يريدون غيري.

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول أخوه العباس بن أمير المؤمنين واتبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه.

ثم نظر إلى بني عقيل فقال: حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم إذهبوا قد أذنت لكم، قالوا: سبحان الله! فما يقول الناس لنا وما نقول لهم، إنّا تركنا شيخنا سيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرِب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ذلك ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نردَ موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدّو؟ وبم نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به; لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت معك.

وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال: لا والله يا ابن رسول الله لا نخلّيك أبدا حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله والله لو علمت أني أُقتل فيك ثم أحيا ثم أُحرق ثم أذرى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة; ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونَك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

وقام زهير بن القين وقال: والله يا ابن رسول الله لوددت أني قُتلت ثم

١٨٩

نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك.

وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً وقالوا: أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا(1) .

وأمر الحسينعليه‌السلام أصحابه أن يقرّبوا بين بيوتهم، ويدخلوا الأطناب بعضها في بعض، ويكونوا بين يدي البيوت كي يستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم.

وقام الحسينعليه‌السلام وأصحابه الّليل كله يصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.

قال بعض أصحاب الحسينعليه‌السلام : مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا وكان الحسينعليه‌السلام يقرأ:( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) فسمعها رجل من تلك الخيل يقال له عبد الله بن سمير فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميزنا منكم، فقال له برير بن خضير: يا فاسق أنت يجعلك الله من الطيبين؟! فقال له: مَن أنت ويلك؟ قال: أنا برير بن خضير فتسابّا، فلمّا كان وقت السحر خفق الحسينعليه‌السلام برأسه خفقة ثم استيقظ فقال: (رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص)(2) .

____________________

(1) الإرشاد: 2/93.

(2) راجع أعيان الشيعة: 1 / 601.

١٩٠

يوم عاشوراء:

انقضت ليلة الهدنة، وطلع ذلك اليوم الرهيب، يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسينعليه‌السلام وتفتك بدعاة الحق والثوار من أجل الرسالة والمبدأ.

نظر الحسينعليه‌السلام إلى الجيش الزاحف، ولم يزلعليه‌السلام كالطود الشامخ، قد اطمأنت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر جيش الباطل أمامه، ورفع يديه متضرعاً إلى الله تعالى قائلاً: اللهم أنت ثقتي في كل كَرْب، وأنت رَجائي في كُلِ شِدّة وأنت لي في كل أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ، كم من همٍّ يَضْعَفُ فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمّن سواك ففرّجته عني وكشفته فأنت وليّ كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة(1) .

خطاب الإمامعليه‌السلام في جيش الكوفة:

أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمامعليه‌السلام ولما رأى الحسينعليه‌السلام كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وركب ناقته وأَخذ سلاحه ثم دنا من معسكرهم حيث يسمعون صوته وراح يقول: يا أهل العراق - وجُلُّهُمْ يسمعون -، فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظَكم بما يحق لكم عليَّ وحتى أُعْذَرَ إليكم فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 96.

١٩١

ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً ثم اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) ، ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر الله تعالى بما هو أهله وصلّى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكته وأنبيائه فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قط قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق منه، ثم قال: أمّا بعد فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟ ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عَمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي: هذانِ سيّدا شباب أهل الجنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخِدْري و سهل بنَ سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنسَ بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟... ثم قال لهم الإمام الحسينعليه‌السلام : فإن كنتم في شك من هذا فتشكّون أني ابن بنت نبيكم فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبىّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجّار بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار واْخضرّ الجَنابُ وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟ فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسينعليه‌السلام : (لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فِرار العبيد). ثم نادى: (يا عبادَ الله! إني عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ، أعوذ بربّي و ربّكم من كلِّ متكبر

١٩٢

لا يؤمن بيوم الحساب)(1) .

لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله عَزَّ وجَلَّ عنهم في كتابه الكريم:( مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاًً ) (2) .

الحر يخيّر نفسه بين الجنّة والنار:

وتأثر الحر بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسينعليه‌السلام وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سئل عن السبب في ذلك قال: (والله إني أُخيِّرُ نفسي بين الجنة والنار وبين الدنيا والآخرة ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنة شيئاً)، ثم ضرب فرسه والتحق بالحسينعليه‌السلام ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسينعليه‌السلام فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصفح، فقال له الحسينعليه‌السلام : (نعم، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم). فقال له الحر: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتى أموتَ دونك. وخطب الحر في أهل الكوفة فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمامعليه‌السلام ودعوتهم له وحثّهم على عدم مقاتلة الإمامعليه‌السلام ثم مضى إلى الحرب فتحاماه الناس، ثم تكاثروا عليه حتى استشهد(3) .

المعركة الخالدة:

حصّن الإمامعليه‌السلام مخيّمه وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 98، إعلام الورى: 1/459.

(2) هود (11): 91.

(3) الإرشاد: 2 / 99، الفتوح: 5 / 113، بحار الأنوار: 5 / 15.

١٩٣

ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.

نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح: ( يا حسينُ تعجّلت النار قبل يوم القيامة، فرد عليه أنت أولى بها صِلِيّا)(1) ، وحاول صاحب الحسينعليه‌السلام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام ومنعه قائلا: (لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم)(2) .

ويقول المؤرخون: إن بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الأولى، وأنّ الإمامعليه‌السلام أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم فخاطبهم للمرة الثانية بقوله: يا قوم! إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم استشهدهم عن نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله ابن زياد، فقالعليه‌السلام : (تباً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً أحين استصرختمونا(3) والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً(4) لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ - لكم الويلاتُ - تركتمونا والسيفُ مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يستحصفْ! ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا(5) ، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثم نقضتموها فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأمة وشُذّاذَ الأحزابِ و نبذة الكتابِ ومحرّفي الكلِمِ وعصبة الإثمِ ونفثةَ الشيطان ومطفئي السُنَنِ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل! والله

____________________

(1) مقتل الحسين، للمقرم: 277.

(2) مقتل الحسين، للمقرم: 277، تاريخ الطبري: 3 / 318.

(3) استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.

(4) إلباً: مجتمعين متضامنين ضدنا.

(5) الدَّبا: الجراد الصغير.

١٩٤

غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه اُصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجىً للناظر وأكلةً للغاصب. ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة. وهيهات منا الذلة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ واُنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر. ثم أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:

فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْما

ن نُهْزَمْ فغيْرُ مهزَّمينا

وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكن

منايانا ودولةُ آخرينا

فَقُلْ للشامتين بنا أفيقوا

سَيَلْقى الشامتون كما لقينا

إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس

كلاكله أناخ بآخرينا(1)

أما والله لا تلبثون بعدها إلاكريثما يُركبُ الفرس، حتى تدور بكم دور الرَّحى، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) (2) ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (3) . ثم رفع يديه نحو السماء وقال: (اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً، فإنهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير)(4) .

كل ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسينعليه‌السلام ، والإمام الحسينعليه‌السلام يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولما لم يجد النصح مجدياً قال لابن سعد: (أيْ عمر أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟

____________________

(1) تاريخ ابن عساكر: 69/265، اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس: 59 و 124.

(2) يونس (10): 71 و هود (11): 56.

(3) يونس (10): 71 و هود (11): 56.

(4) مقتل الحسين، للمقرم: ص289 - 286، مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 6، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : 216، راجع إعلام الورى: 1 / 458.

١٩٥

والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاً بينهم) فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً(1) .

واستحوذَ الشيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى باتجاه معسكر الحسينعليه‌السلام وقال: (إشهدوا أني أولُ مَنْ رمى) ثم ارتمى الناس وتبارزوا(2) .

فخاطب الإمامعليه‌السلام أصحابه قائلا: (قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم)(3) .

فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت مستبشرين بلقاء الله جَلَّ جلاله، وكأنهم رأوا منازلهم مع النبيين والصديقين وعباده الصالحين، وكان لا يقتل منهم أحد حتى يقول: السلام عليك يا أبا عبد الله ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسينعليه‌السلام حتى يَقْتل العشرة والعشرين)(4) .

استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحابُ الحسينعليه‌السلام يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا. لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشقهم بالنبال والحجارة.

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرم: 289.

(2) الإرشاد: 2 / 101، اللهوف: 100، إعلام الورى: 1 / 461.

(3) مقتل الحسين للمقرم: 292.

(4) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 76.

١٩٦

فبدأ الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسينعليه‌السلام وأحاطوا بهم من جهات متعددة مستخدمين كل أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.

وزالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسينعليه‌السلام ينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم يكن في مقدور السيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.

ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل، حتّى لم يبق مع الحسينعليه‌السلام إِلاّ أهل بيته خاصّةً. فتقدّم ابنه عليّ بن الحسينعليه‌السلام - وأمه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ - وكان من أصبح النّاس وجهاً، فشدَّ على النّاس وهو يقول:

أنا علي بن الحسين

نحن وبيت الله أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدَّعي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال: عليَّ آثام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم اثكل أباه؛ فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصرع، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم، فجاء الحسينعليه‌السلام حتّى وقف عليه فقال: (قتل الله قوماً قتلوك يا بنيَّ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول!) وانهملت عيناه بالدُّموع ثمّ قال: (على الدُّنيا بعدك العفا) وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا أُخيّاه وابن أُخيّاه، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه فقال: (احملوا أخاكم) فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه.

١٩٧

ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال له: عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل (رحمه الله) بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.

وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله.

وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله.

وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله.

قال حميد بن مسلم: فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله لأشدَّنَّ عليه، فقلت: سبحان الله، وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد منهم؛ فقال: والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه! فجلى(1) الحسينعليه‌السلام كما يجلي الصقر ثمّ شدَّ شدّة ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسينعليه‌السلام . وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات.

وانجلت الغبرة فرأيت الحسينعليه‌السلام قائماً على رأس الغلام وهو

____________________

(1) جلّى ببصره: إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. ( الصحاح - جلا - 6: 2305 ).

١٩٨

يفحص برجله والحسين يقول: (بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك) ثمّ قال: (عزَّ - والله - على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت - والله - كثرَ واتروه وقلَّ ناصروه) ثمّ حمله على صدره، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالبعليهم‌السلام .

ثمّ جلس الحسينعليه‌السلام أمام الفسطاط فأتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسينعليه‌السلام دمه، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال: (ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين) ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله.

ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالبعليهم‌السلام فقتله.

فلمّا رأى العبّاس بن عليّ رحمة الله عليه كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من أمه - وهم عبد الله وجعفر وعثمان - يا بني اُمِّي! تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم. فتقدّم عبد الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانيء بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانيء لعنه الله. وتقدّم بعده جعفر بن عليّعليه‌السلام فقتله أيضاً هانيء. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّعليه‌السلام وقد قام مقام إخوته فرماه بسهم فصرعه، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه.

١٩٩

وحملت الجماعة على الحسينعليه‌السلام فغلبوه على عسكره، واشتدَّ به العطش، فركب المسنّاة(1) يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء، فقال الحسينعليه‌السلام : (اللّهمّ أظمئه) فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسينعليه‌السلام السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم، فرمى به ثمّ قال: (اللّهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيِّك) ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به العطش.

استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام

لم يبقَ مع الإمام الحسينعليه‌السلام سوى أخيه العباس الذي تقدم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين وعانقه ثم أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة من قتل منهم، ولما قتل قال الحسينعليه‌السلام : (الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي)(2) .

وفي رواية أخرى: أن الإمام الحسينعليه‌السلام اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله) وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء، فقال الحسينعليه‌السلام : اللهم أظمئه، فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه فانتزع الحسينعليه‌السلام السهم و بسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم فرمى به ثم قال: (اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك)، ثم رجع إلى مكانه

____________________

(1) المسناة: تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. ( تاج العروس - سنى - 10: 185 ).

(2) سيرة الأئمة الاثني عشر: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 440، المنتخب للطريحي: 431.

٢٠٠