أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)0%

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 244

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 244
المشاهدات: 148043
تحميل: 8093

توضيحات:

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148043 / تحميل: 8093
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وحين قدم وفد نصارى نجران يحاجج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته إلى الإسلام وعقيدة التوحيد الخالص وامتنع عن قبولها رغم وضوح الحق أمر الله تعالى بالمباهلة، فخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ومعه خير أهل الأرض تقوىً وصلاحاً وأعزّهم على الله مكانةً ومنزلةً: عليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، ليباهل بهم أهل الكفر والشرك وانحراف المعتقد، ومُدَلّلاً بذلك - في نفس الوقت - على أنّهم أهل بيت النبوة وبهم تقوم الرسالة الإسلامية، فعطاؤهم من أجل العقيدة لا ينضب(1) .

وما كان من النصارى إذ رأوا وجوهاً مشرقة وطافحة بنور التوحيد والعصمة؛ إلاّ أن تراجعوا عن المباهلة وقبلوا بأن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.

لقد كانت هذه الفترة القصيرة التي عاشها الحسينعليه‌السلام مع جدّه (صلّى الله عليه وآله) من أهمّ الفترات وأروعها في تأريخ الإسلام كلّه، فقد وطّد الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيها أركان دولته المباركة، وأقامها على أساس العلم والإيمان، وهزم جيوش الشرك، وهدم قواعد الإلحاد، وأخذت الانتصارات الرائعة تترى على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه الأوفياء حيث أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

وفي غمرة هذه الانتصارات فوجئت الأمة بالمصاب الجلل حين توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فخيّم الأسى العميق على المسلمين وبخاصة على أهل بيتهعليهم‌السلام الذين أضنتهم المأساة، ولسعتهم حرارة المصيبة بغياب شخص النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(1) مسند أحمد: 1 / 185، وصحيح مسلم: كتاب الفضائل باب فضائل علي: 2 / 360، وصحيح الترمذي: 4 / 293 ح5 208، والمستدرك على الصحيحين: 3 / 150.

٦١

ميراث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لسبطيهعليهما‌السلام :

ولمّا علمت سيّدة نساء العالمين أنّ لقاء أبيها بربّه عَزَّ وجَلَّ قريب أتت بابنيها الحسن والحسينعليهما‌السلام فقالت: يا رسول الله إن هذان إبناك فورّثهما شيئاً، فقال (صلّى الله عليه وآله): أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له شجاعتي وجودي(1) .

وصيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسبطين عليهما‌السلام :

ووصّى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليّاً برعاية سبطيه، وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيام، فقد قال له: سلام الله عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتيَّ من الدنيا، فعن قليل ينهدّ ركناك، والله خليفتي عليك، فلمّا قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال عليّ: هذا أحد ركني الذي قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا ماتت فاطمةعليها‌السلام قال عليّ: هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله(2) .

لوعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين عليه‌السلام :

حضر الإمام الحسينعليه‌السلام عند جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما كان يعاني آلام المرض ويقترب من لحظات الاحتضار، فلمّا رآه ضمّه إلى صدره وجعل يقول: (ما لي وليزيد؟! لا بارك الله فيه). ثمّ غشي عليه طويلاً، فلمّا أفاق أخذ يوسع الحسين تقبيلاً وعيناه تفيضان بالدموع، وهو يقول: (أما إنّ لي ولقاتلك موقفاً بين يدي الله عَزَّ وجَلَّ)(3) .

____________________

(1) بحارالأنوار: 43 / 263، ومناقب آل أبي طالب: 2 / 465 ونظم درر السمطين: 212.

(2) بحار الأنوار: 43 / 262.

(3) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ، باقر شريف القرشي: 1 / 218، نقلاً عن مثير الأحزان.

٦٢

وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريفصلى‌الله‌عليه‌وآله ألقى السبطانعليهما‌السلام بأنفسهما عليه وهما يذرفان الدموع والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوسعهما تقبيلاً، فأراد أبوهما أمير المؤمنينعليه‌السلام أن ينحّيهما عنه فأبىصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له: (دعهما يتزوّدا منّي وأتزوّد منهما فستصيبهما بعدي إثرة)(1) .

ثمّ التفتصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عوّاده فقال لهم: قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض(2) .

____________________

(1) مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 114.

(2) المصدر السابق.

٦٣

الإمام الحسين عليه‌السلام في عهد الخلفاء

الحسينعليه‌السلام في عهد أبي بكر:

لقد كان أهل البيتعليهم‌السلام بما فيهم الحسن والحسينعليهما‌السلام مفجوعين بوفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وألم المأساة يهيمن على قلوبهم وهم مشغولون بجهاز أعظم نبيّ عرفه التاريخ الإنساني، إذ توجّهت إليهم صدمةٌ أخرى ضاعفت آلامهم وبدّدت آمالهم التي غرسها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في نفوسهم ونفوس الأمة.

إنها صدمة مصادرة الخلافة وتنحية الإمام عليعليه‌السلام عن مسرح القيادة ومصادرة المنصب الذي نصبه فيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله تعالى.

وكانت هذه الصدمة العنيفة بداية لمُسلسل القلق والاضطهاد الذي فرضه الخط الحاكم بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ; لتحقيق العزل التام والإبعاد الكامل لهم عن موقع القيادة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لوعة شهادة الزهراءعليها‌السلام :

كان لوفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقع مؤلم في روح الإمام الحسين الطاهرة، وهو لم يكن بعد قد أنهى ربيعه الثامن.

وما هي إلاّ مدّة قصيرة وإذا بالحسينعليه‌السلام يُفجع باستشهاد أمه فاطمة بنت رسول الله بتلك الصورة المأساوية بعد أن ظلّت تعاني من الظلم والقهر وألم اغتصاب حقّها طوال الأيام التي عاشتها بعد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله فكانت تنعكس معاناتها في روحه اللطيفة؛ إذ كان كلّما نظر إلى أمه بعد وفاة أبيها شاهدها باكيةً محزونة القلب منكسرة الخاطر.

٦٤

وقد روي أنّها سلام الله عليها ما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّةً بعد مرّة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقةً عليكما، فلا يدعكما تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما(1) .

وروي أن الزهراءعليها‌السلام بعد وفاة أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تصطحب الحسنين معها إلى البقيع حيث تظلّ تبكي إلى المساء، فيأتي أمير المؤمنينعليه‌السلام فيعود بهم إلى البيت.

ونقل الرواة عن أسماء بنت عميس قصّة استشهادها مفصّلاً، وقد جاء فيها أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام دخلا البيت بُعَيد وفاة أمهما فقالا: يا أسماء! ما يُنيم أمنا في هذه الساعة؟! قالت: يا ابني رسول الله ليست أمكما نائمة، بل فارقت روحها الدنيا. فوقع عليها الحسن يقبّلها مرةً ويقول: يا أماه! كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني. قالت: وأقبل الحسين يقبّل رجلها ويقول: يا أماه! أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت. قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله! انطلقا إلى أبيكما عليّ فأخبراه بموت أمكما، فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدرهما جميع الصحابة، فقالوا: ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لا أبكى الله أعينكما(2) .

وجاء في نصّ آخر أنّه بعد أن فرغ أمير المؤمنينعليه‌السلام من تغسيل الزهراءعليها‌السلام نادى: يا أم كلثوم! يا زينب! يا سكينة! يا فضّة! يا حسن! يا حسين! هلمّوا

____________________

(1) بحار الأنوار: 43 / 181.

(2) المصدر السابق: 186.

٦٥

وتزوّدوا من أمكم، فهذا الفراق، واللقاء الجنّة. فأقبل الحسن والحسينعليهما‌السلام وهما يناديان: وا حسرةً لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنا محمد المصطفى وأمنا فاطمة الزهراء!

فقال أمير المؤمنين علىّعليه‌السلام : إنّي أُشهدُ الله أنّها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّاً، وإذا بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن! ارفعهما فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات(1) .

وذكرت أكثر الروايات أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام حضرا مراسم الصلاة على جنازة أمهماعليها‌السلام وتولّى غسلها وتكفينها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأخرجها من بيتها ومعه الحسن والحسين في الليل، وصلّوا عليها...(2) .

لقد فجع الحسينعليه‌السلام وخلال فترة قصيرة بحادثتين عظيمتين مؤلمتين: الأولى وفاة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والثانية استشهاد والدته فاطمة بنت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما جرى عليها من أنواع الجفاء والظلم.

وإذا أضفنا إلى ذلك مأساة غصب حقوق أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ومأساة إبعاده عن المسرح السياسي ليصبح جليس بيته; تجلّت لنا شدّة المحن والمصائب التي أحاطت بالحسينعليه‌السلام وهو في صغر سنّه.

ولقد تعمّقت مصائب الإمام الحسينعليه‌السلام بسبب أنواع الحصار المفروض من قِبل خطّ الخلافة وقتذاك على أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الأوفياء لخطّه الرسالي وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام بشكل خاص، مثل منع الخمس وسائر الحقوق من الوصول إليه، كما تجلّى ذلك بوضوح في تأميم (فدك) والذي كان من أهدافه ممارسة ضغوط مالية أخرى على أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبناء أمير المؤمنينعليهم‌السلام .

____________________

(1) بحار الأنوار: 43/179.

(2) المصدر السابق: 212.

٦٦

الحسينعليه‌السلام في عهد عمر بن الخطاب:

وفي عهد عمر بن الخطاب اتّخذ الحصار أبعاداً أكثر خطورة، فقد ذكر المؤرّخون أنّ عمر حظر على أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج من المدينة إلاّ بترخيص منه، وقد طال الحظر أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام حتى مثّل هذا الأمر نمطاً آخر من الضغوط التي مورست على أهل بيت الوحي الطاهرين.

أجل لقد أدّت هذه الممارسات القهرية والمواقف الظالمة إلى إقصاء عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وجعلته جليس بيته، ومن ثم تغييبه عن الميادين السياسية والاجتماعية حتى صار نسياً منسياً، وإن كان الخليفة يرجع إليه في بعض المسائل أحيانا، ولعلّ السبب في عدم إبعاده عن المدينة، هو حاجته إليه في القضايا التي كانت تستجد للخليفة، ولم يكن بمقدور أحد غير عليّعليه‌السلام أن يقدّم الحلّ المقبول لها.

وبالحكمة السديدة والصبر الجميل كظم أمير المؤمنينعليه‌السلام غيظه متغاضياً عن حقّه الذي استأثر به عمر بعد أبي بكر من دون حقّ شرعي ولا حجّة بالغة، وفي كلّ ذلك عاش الحسينعليه‌السلام مع آلام أبيهعليه‌السلام ، ورأى كيفية تعامله مع الحدث، وهو يحمل هموم الأمة الإسلامية ويقلقه مصيرها، إنّه يتذكّر كيف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثر عليّاً على كل من عداه ويوصي به الأمة المرّة بعد المرّة، ولكنّه الآن مقصيٌّ عن مقامه، فما كان يملك إلاّ أن يكتم أحاسيسه ومشاعره.

يروى: أنّ عمر ذات يوم كان يخطب على المنبر فلم يشعر إلاّ والحسينعليه‌السلام قد صعد إليه وهو يهتف: (انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك)،

٦٧

وبهت عمر واستولت الحيرة عليه، وراح يصدّقه ويقول له: صدقت لم يكن لأبي منبر، وأخذه فأجلسه إلى جنبه، وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً له: من علّمك؟ فأجابه الإمام الحسينعليه‌السلام : (والله ما علّمني أحد)(1) .

وقد كان الحق يقضي بأن لا يكتفي عمر بالتصديق الكلامي للحسين من دون إعادة حقّه في فدك والخمس إليه، وإعادة حقّ والده في الخلافة إليه، إطاعةً لله وللرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويروى أيضاً: أنّ عمر كان معنيّاً بالإمام الحسينعليه‌السلام حتى طلب منه أن يأتيه إذا عرض له أمر. وقصده الحسينعليه‌السلام يوماً ومعاوية عنده، ورأى ابنه عبد الله فطلبعليه‌السلام الإذن منه فلم يأذن له فرجع معه، والتقى به عمر في الغد فقال له: ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال الحسينعليه‌السلام : (إنّي جئت وأنت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر) قال عمر: أنت أحقّ من ابن عمر، فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم(2) .

الحسينعليه‌السلام في عهد عثمان:

بخُلق الرسالة وآداب النبوة وبالفضائل السامية أطلّ الإمام الحسينعليه‌السلام على مرحلة الرجولة في العقد الثالث من العمر، يعيش أجواء أبيه المحتسب وهو يرى اللعبة السياسية تتلوّن والهدف واحد، وهو أن لا يصل عليّعليه‌السلام وبنوه إلى زعامة الدولة الإسلامية بل تبقى الخلافة بعيدة عنهم، فهاهو ابن الخطّاب لا يكتفي بحمل الأمة على ما لا تطيق من جفاء رأيه وطبعه وأخطاء اجتهاداته; حتّى ابتلاها بالشورى السداسيّة التي انبثقت منها خلافة عثمان.

____________________

(1) الإصابة: 1 / 332.

(2) المصدر السابق.

٦٨

ولقد وصف الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام هذه المرحلة وهو الذي آثر مصلحة الدين والأمة على حقّه الخاص في الزعامة فصبر صبراً مُرّاً حتّى قال: فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه النظائر؟!(1) .

وازدادت محنة أهل البيتعليهم‌السلام وتضاعفت مهمّتهم صعوبةً، وهم يواجهون عصراً جديداً من الانحراف بالخلافة، وهو عصر يتطلّب جهوداً أضخم وسعياً أكبر لكي لا تضيع الأمة والرسالة، ولكنّ لوناً متميزاً من المعاناة القاسية بدأ واضحاً يصبغ حياة الأمة الإسلامية، فإنّ خيار رجالها من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يهانون ويضربون وينفون في الوقت الذي تتسابق على مراكز الدولة شرارها من الطلقاء وأبنائهم، تحت ظلّ ضعف عثمان وجهله بالأمور أحياناً وعصبيّته القبليّة الأُموية أحياناً أخرى(2) .

وعاش الحسينعليه‌السلام معاناة الأمة وهي تنتفض على فساد حكم عثمان في مخاض عسير، فتمتدّ الأيادي المظلومة لتزيح الخليفة الحاكم بقوّة السيف.

وفي خطبة الإمام عليعليه‌السلام المعروفة بالشقشقيّة والتي وصف فيها محنة الأمة بتولّي الخلفاء الثلاثة دفّة الحكم قبله تصوير دقيق لما جرى في حكم عثمان بن عفّان; إذ قالعليه‌السلام :

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.

(2) تاريخ الخلفاء: 57.

٦٩

إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه(1) بين نثيله(2) ، ومعتلفه(3) ، وقام معه بنو أبيه يخضمون(4) مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع(5) ، إلى أن انتكث عليه فتله(6) ، وأجهز(7) عليه عمله، وكبت(8) به بطنته(9) .

موقف مع أبي ذرّ الغفاري:

أمعن الخليفة عثمان بن عفان في التنكيل بالمعارضين والمندّدين بسياسته غير مراع حرمة أو كرامة أحد من صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين طالتهم يداه، فصبّ عليهم جام غضبه وبالغ في ظلمهم وإرهاقهم، وكان أبو ذر الغفاري - وهو أقدم أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين سبقوا إلى الإسلام - واحداً من المندّدين بسياسة عثمان والرافضين لها، وقد نهاه عثمان عن ذلك فلم ينته، فالتاع عثمان وضاق به ذرعاً فأبعده إلى الشام، وفي الشام أخذ أبو ذر يوقظ الناس ويدعوهم إلى الحذر من السياسة الأُموية التي كان ينتهجها معاوية ابن أبي سفيان والي عثمان الأموي على الشام.

لقد غضب معاوية على حركة أبي ذرّ وكتب إلى عثمان يخبره بخطره عليه، فاستدعاه إلى المدينة، لكن هذا الصحابي الجليل واصل مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من خطر الأُموية الدخيلة على

____________________

(1) نافجاً حضنيه: رافعهما، والحضن: مابين الإبط والكشح.

(2) النثيل: الروث وقذر الدواب.

(3) المعتلف: موضع العلف.

(4) الخضم: أكل الشيء الرطب.

(5) النبِتة - بكسر النون -: كالنبات في معناه.

(6) انتكث عليه فتله: انتقض.

(7) أجهز عليه: تمّم قتله.

(8) كبت به: من كبا الجواد إذا سقط بوجهه.

(9) البِطنة - بالكسر -: البطر والأشر والتخمة.

٧٠

الإسلام والمسلمين، فرأى عثمان أنّ خير وسيلة للتخلّص من معارضة أبي ذر هي نفيه إلى جهة نائية لا سكن فيها، فأمر بإبعاده إلى الربذة موعزاً إلى مروان بن الحكم بأن يمنع المسلمين من مشايعته وتوديعه، ولكنّ أهل الحقّ أبوا إلاّ مخالفة عثمان، فقد انطلق لتوديعه - بشكل علني - الإمام عليعليه‌السلام والحسنانعليهما‌السلام وعقيل وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر رضي الله عنهم. وقد نقل المؤرّخون كلمات حكيمة وساخنة للمودّعين استنكروا خلالها الحكم العثماني الجائر ضدّه، وقد جاء في كلمة الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصّه:

يا عمّاه! إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإنّ الصبر من الدين والكرم، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقاً والجزع لا يؤخّر أجلاً(1) .

وبكى أبو ذر بكاءً مرّاً، فألقى نظرة الوداع الأخيرة على أهل البيتعليهم‌السلام الذين أخلص لهم الودّ وأخلصوا له، وخاطبهم بقوله: (رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فاُفسد الناس عليهما فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة)(2) .

____________________

(1) بحار الأنوار: 22 / 412، وراجع: مروج الذهب: 2 / 350.

(2) المصدر السابق.

٧١

الإمام الحسينعليه‌السلام في عهد الدولة العلوية

انتهى حكم الخلفاء الثلاثة بمقتل عثمان، وانتهت بذلك خمسة وعشرون عاماً، من العناء الناشئ عن إقصاء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين.

وقد أيقن المسلمون أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام هو القائد الذي يحقّق آمالهم وأهدافهم ويعيد لهم كرامتهم، وأنّهم سينعمون في ظلال حكمه بالحرية والمساواة والعدل فأصرّوا على مبايعته بالخلافة.

لكن وللأسف الشديد فقد جاءت قناعة الأمة هذه متأخرةً كثيراً، حيث أصيبت الأمة بأمراض خطيرة وانحرافات كبيرة، وغابت عنها الروح التضحوية والقيم الإيمانية، وتسربلت بالأطماع والمنافع الشخصية، وانحدرت نحو التوجّهات الفئوية الضيّقة. من هنا أعلن الإمام عليعليه‌السلام رفضه الكامل لخلافتهم قائلاً لهم: لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم رضيت(1) .

وذلك لعلمهعليه‌السلام بأنّه من الصعب جدّاً أن يعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلامية التي بدّلها الخلفاء وغيّروها باجتهاداتهم الخاطئة، فإنّهعليه‌السلام كان يعرف جيّداً أنّ المجتمع الذي نشأ على تلك الأخطاء سيقف بوجهه وسيعمل جاهداً على مناجزته والحيلولة بينه وبين تحقيق مخطّطاته السياسية الهادفة إلى تحقيق العدل والقضاء على الجور. هذا وإنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مع سابقته الفريدة إلى الإسلام وحنكته السياسية ومؤهّلاته القيادية العظيمة لم يستطع الوقوف بوجه الانحراف الذي سرى إلى جميع مفاصل المجتمع

____________________

(1) بحار الأنوار: 32/7.

٧٢

الإسلامي، ولم يتمكّن من إعادة هذا المجتمع إلى طريق الحقّ والعدالة اللاّحب، إذ وقفت في وجهه فئات من المنافقين والنفعيين ومن كان يحمل في نفسه البغض والكره لله ولرسوله، وقد أكّد ذلك في خطبته الشقشقية بقولهعليه‌السلام : فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة(1) ومرقت(2) أخرى وقسط آخرون(3) كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول:( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (4) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(5) .

مع أبيهعليه‌السلام في إصلاح الأمة:

لقد بادر الإمام عليعليه‌السلام إلى إعادة الحقّ إلى نصابه والعدل إلى سيادته، محيياً سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الأمة منتهجاً الطريق القويم.

وما أسرع ما وقفت قوى الضلال ضد إصلاحات الإمامعليه‌السلام في مجال الإدارة وفي مجال توزيع الأموال وفي مجال العدل في القضاء وفي مجال مراعاة شؤون الرسالة وشؤون المسلمين!

ولم يتردّدعليه‌السلام في التحرّك لفضح خط النفاق والقضاء على الفساد واجتثاث جذوره لتسلم الرسالة والأمة منه، وقام هو وأهل بيتهعليهم‌السلام يخوضون غمار الحروب دفاعاً عن الإسلام مقتدين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وشارك الإمام الحسينعليه‌السلام في جميع الحروب التي شنّها المنافقون ضدّ الإمام عليعليه‌السلام .

____________________

(1) نكثت طائفة: نقضت عهدها، وأرادعليه‌السلام بتلك الطائفة الناكثة أصحاب الجمل.

(2) مرقت: خرجت، وأرادعليه‌السلام بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب النهروان.

(3) قسط: جار، وأرادعليه‌السلام بالجائرين أصحاب صفّين.

(4) القصص (28): 83.

(5) نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.

٧٣

وكان يبرز إلى ساحة القتال بنفسه المقدّسة كلّما اقتضى الأمر وسمح له والدهعليه‌السلام وقد سجّل المؤرّخون خطاباً للإمام الحسينعليه‌السلام وجّهه لأهل الكوفة لدى تحركهم إلى صفّين، جاء فيه بعد حمد الله تعالى والثناء عليه: يا أهل الكوفة! أنتم الأحبّة الكرماء والشعار دون الدثار، جدّوا في إطفاء ما وتر بينكم وتسهيل ما توعّر عليكم، ألا إنّ الحرب شرّها وريع وطعمها فظيع، فمن أخذ لها أهبتها واستعدّ لها عُدّتها، ولم يألم كُلومها قبل حلولها فذاك صاحبها، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قَمِن أن لا ينفع قومَه وإن يهلك نفسه، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفيئة(1) .

حرص الإمام عليعليه‌السلام على سلامة الحسنين عليهما‌السلام :

قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام في معركة صفّين كما قاتل في معركة الجمل، مع أنّ بعض الروايات أفادت بأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يمنع الحسنينعليهما‌السلام من النزول إلى ساحة القتال خشية أن ينقطع نسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ; إذ كانعليه‌السلام يقول: إملكوا عنّي هذا الغلام لا يَهُدَّني، فإنّني أنفسُ بهذين - يعني الحسن والحسينعليهما‌السلام - على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

وجاء في نصوص أخرى أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يبعث ابنه محمّد ابن الحنفية إلى ساحات القتال مرّات عديدة دون أن يسمح للحسنينعليهما‌السلام بذلك، وقد سئل ابن الحنفية عن سرّ ذلك فأجاب: (إنّهما عيناه وأنا يمينه فهو يدفع عن عينه بيمينه)(3) . ويعكس هذا الجواب مدى ما كان يحظى به

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 284.

(2) نهج البلاغة: من كلام لهعليه‌السلام في بعض أيام صفّين، وقد رأى ابنه الحسن يتسرّع إلى الحرب. باب خطب أمير المؤمنين: 207.

(3) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1 / 118.

٧٤

الحسنان عند الإمام عليعليه‌السلام .

وتفيد الأخبار بأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام ظلّ مع أبيه بعد صفّين أيضاً في جميع الأحداث مثل قضية التحكيم ومعركة النهروان.

ومعلوم أنّ الأحداث التي عايشها الإمام الحسين مع أبيهعليهما‌السلام كانت مأساوية ومرّة جدّاً، وقد بلغت المأساة ذروتها عندما تآمر الخوارج على قتل أسمى نموذج للإنسان الكامل - بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - أي عندما ضرب المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي إمامه أمير المؤمنينعليه‌السلام على رأسه بالسيف وهو في محراب العبادة.

وصايا أمير المؤمنينعليه‌السلام للإمام الحسين عليه‌السلام :

تدلُّ وصايا أمير المؤمنينعليه‌السلام لولده الحسينعليه‌السلام على شدّة اهتمامه به ومحبّته له، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) أوصى للحسن والحسين بالوصية التالية:

(أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زُوِيَ عنكما، وقولا بالحقّ، واعملا للأجر وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم; فإنّي سمعت جدّكماصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام). الله الله في الأيتام! فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم! فإنّهم وصيّة نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننّا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن! لا يسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في الصلاة! فإنّها عمود دينكم. والله الله في بيت ربّكم! لا تخلوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم تُناظروا. والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله! وعليكم بالتواصل والتباذل، وإيّاكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي

٧٥

عن المنكر فيولّى عليكم شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم. ثم قال: يا بني عبد المطلب! لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قُتل أميرُ المؤمنين. ألا لا تقتلنّ بي إلاّ قاتلي. اُنظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تُمثّلوا بالرجل; فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور)(1) .

وثمّة وصية أخرى قيّمة وجامعة خاصّة بالإمام الحسينعليه‌السلام ذكرها ابن شعبة في تحف العقول، ونحن ننقلها لأهمّيتها حيث تضمّنت حكماً غرّاء ووصايا أخلاقية خالدة. وإليك نصّ ما رواه ابن شعبة عن الإمام عليعليه‌السلام :

(يا بُنيّ! أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصديق والعدوّ، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدّة والرّخاء، أي بنيّ ماشرٌ بعده الجنّة بشرّ، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية.

واعلم يا بُنيّ! أنّه مَن أبصر عيب نفسه شُغل عن عيب غيره، ومَن تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس، ومَن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومَن سلّ سيف البغي قتل به، ومَن حفر بئراً لأخيه وقع فيه، ومَن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومَن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم الغمرات غرق، ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومَن تكبّر على الناس ذلّ، ومَن خالط العلماء وُقّر. ومن خالط الأنذال حُقّر. ومَن سفه على الناس شُتم، ومَن دخل مداخل السوء اتّهم، ومَن مزح استخفّ به، ومَن أكثر من شيء عرف به، ومَن كثر كلامه كثر خطؤه، ومَن كثر خطؤه قل حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومَن قلّ ورعه مات قلبه، ومَن مات قلبه

____________________

(1) نهج البلاغة: باب الكتب والرسائل (47).

٧٦

دخل النار.

أي بنيّ! من نظر في عيوب الناس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه، ومَن تفكّر اعتبر، ومَن اعتبر اعتزل، ومَن اعتزل سلم، ومَن ترك الشهوات كان حرّاً، ومَن ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس.

أي بُنيّ! عزّ المؤمن غناه عن الناس، والقناعة مال لا ينفد، ومَن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومَن علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه.

أي بنيّ! العجب ممّن يخاف العقاب فلم يكفّ، ورجا الثواب فلم يتب ويعمل.

أي بنيّ! الفكرة تورث نوراً والغفلة ظلمة والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين، ليس مع قطيعة الرحم نماء ولامع الفجور غنى. أي بُنيّ! العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء.

أي بنيّ! مَن تزيّا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاًّ، ومن طلب العلم علم. أي بنيّ! رأس العلم الرفق، وآفته الخرق، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى، كثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم، وإعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله. أي بُني، كم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت نعمة.

أي بنيّ! لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعزّ من التقوى، ولا معقل أحرزُ من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت، ومن اقتصر على بُلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّأ خفض الدعة.

أي بُنيّ! الحرص مفتاح التعب ومطيّة النصب وداع إلى التقحّم في الذنوب، والشره جامع لمساوئ العيوب، وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك، لأخيك عليك مثل الذي

٧٧

لك عليه، ومن تورّط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرّض للنوائب، التدبيرُ قبل العمل يؤمنك الندم، من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ، الصبر جُنّة من الفاقة، البخل جلباب المسكنة، الحرص علامة الفقر، وصُول مُعدم خير من جاف مكثر، لكل شيء قوت وابن آدم قوت الموت.

أي بُنيّ! لا تؤيّس مذنباً، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير، وكم من مقبل على عمله مُفسد في آخر عمره، صائر إلى النار.

أي بُنيّ! كم من عاص نجا، وكم من عامل هوى، من تحرّى الصدق خفّت عليه المؤن، في خلاف النفس رُشدُها، الساعاتُ تنتقص الأعمار، ويلٌ للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين.

يا بُنيّ! بئس الزادُ إلى المعاد العدوانُ على العباد، في كلّ جُرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص، لن تُنال نعمة إلاّ بفراق أخرى.

ما أقرب الراحة من النصب، والبؤس من النعيم، والموت من الحياة، والسقم من الصحة! فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله، وبخ بخ لعالم عمل فجدّ، وخاف البيات فأعدّ واستعدّ، إن سُئل نصح، وإن تُرك صمت، كلامه صوابٌ، وسكوته من غير عيّ جواب.

والويل لمن بُلي بحرمان وخذلان وعصيان، فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره، وأزرى على الناس بمثل ما يأتي.

واعلم أي بُنيّ! أنّه من لانت كلمتُه وجبت محبّته، وفّقك الله لرشدك، وجعلك من أهل طاعته بقدرته، إنّه جواد كريم(1) .

____________________

(1) تحف العقول: 88 وصايا أمير المؤمنينعليه‌السلام .

٧٨

الإمام الحسين مع أبيهعليهما‌السلام في لحظاته الأخيرة:

كان آخر ما نطق به أمير المؤمنينعليه‌السلام هو قوله تعالى:( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) ، ثمّ فاضت روحه الزكية، تحفّها ملائكة الرحمن، فمادت أركان العدل في الأرض، وانطمست معالم الدين.

لقد مات ملاذ المظلومين والمحرومين الذي كرّس جهده لإقامة دولة تُنهي دور الإثرة والاستغلال وتقيم العدل والحقّ بين الناس.

وقام سبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجهيز أبيهما المرتضىعليه‌السلام فغسّلاه وأدرجاه في أكفانه. وفي الهزيع الأخير من الليل حملاه إلى قبره في النجف الأشرف، وقد واروا أكبر رمز للعدالة والقيم الإنسانية المثلى كما اعترف بذلك خصومه. وكتب المؤرّخون: أنّ معاوية لمّا بلغه مقتل الإمام عليعليه‌السلام خرج واتّخذ يوم قتله عيداً في دمشق! فقد تحقّق له ما كان يأمله، وتمّ له ما كان يصبو إليه من اتّخاذ الملك وسيلة لاستعباد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون(1) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 109.

٧٩

الإمام الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن عليهما‌السلام

حالة الأمة قبل الصلح مع معاوية:

لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي - الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها - في ظلّ حكم معاوية بن أبي سفيان وليد جهود آنيّة، فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة، إذ تولّى زمام اُمور الأمة مَن كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة، وإنّما تصدّى لها من تصدّى على أساس العصبية القبلية(1) . ويشهد لذلك قول أبي بكر: وُلّيت أمركم ولست بخيركم(2) .

وانحدرت الأمة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين مخالفاً سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً، حتى إذا حكم عثمان بن عفّان; استفحل الفساد واستشرى في جهاز الحكم والإدارة، حين سيطر فسّاق الناس وشرارهم على أمور الناس فراحوا يعيثون في الأمة فساداً كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح(3) .

وأصبحت العائلة الأُموية التي لم تنفتح على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الأمة، وعطايا عثمان لهم بغير حق، وتغلغلوا في أجهزة الحكم، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) الإمامة والسياسة: 1 / 6.

(2) عليّ والحاكمون: 109، وتأريخ الخلفاء: 71.

(3) تأريخ اليعقوبي: 2 / 41، والعقد الفريد: 2 / 261، وأنساب الأشراف: 5 / 38، وشرح النهج: 1 / 67.

٨٠