منهاج الصالحين - المعاملات الجزء ٣

منهاج الصالحين - المعاملات23%

منهاج الصالحين - المعاملات مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 333

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76894 / تحميل: 5343
الحجم الحجم الحجم
منهاج الصالحين - المعاملات

منهاج الصالحين - المعاملات الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

يبغضني إلّا منافق ولا يُحبّني إلّا مؤمن.١

وقد أعرب عن ذلك الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام في خطبته في جامع دمشق، عند ما صعد المنبر وعرَّف نفسه فحمد الله وأثنىٰ عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، ثمّ قال:

« أيّها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع، أُعطينا: العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبَّة في قلوب المؤمنين ».٢

ولا عجب في أنّه تبارك وتعالى سمّاهم كوثراً أي الخير الكثير، وقال:( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قال الرازي: الكوثر: أولاده، لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابهعليه‌السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيتعليهم‌السلام ، ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيها من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضاعليهم‌السلام .٣

إنّ محبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسينعليه‌السلام لم تكن محبة نابعة من حبّه لنسَبه بل كان واقفاً على ما يبلغ إليه ولده الحسينعليه‌السلام في الفضل والكمال والشهادة في سبيله، ونجاة الأُمّة من مخالب الظلم، والثورة على الظلم والطغيان، وهناك كلام للعلّامة المجلسي يقول :

إنّ محبة المقربين لأولادهم وأقربائهم وأحبّائهم ليست من جهة الدواعي

__________________

١. مسند أحمد: ١ / ٨٤، إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة.

٢. بحار الأنوار: ٤٥ / ١٣٨.

٣. تفسير الفخر الرازي: ٣٢ / ١٢٤.

٢٢١

النفسانية والشهوات البشرية، بل تجرّدوا عن جميع ذلك وأخلصوا حُبَّهم، و وُدَّهم لله. وحُبّهم لغير الله إنّما يرجع إلى حبهم له، ولذا لم يحب يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحبّ يوسفعليه‌السلام منهم، ولجهلهم بسبب حبّه له نسبوه إلى الضلال، وقالوا: نحن عصبة، ونحن أحقّ بأن نكون محبوبين له، لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدنيا، ففرط حبّه يوسف إنّما كان لحب الله تعالى له واصطفائه إيّاه فمحبوب المحبوب محبوب.١

__________________

١. سفينة البحار: ١ / ٤٩٦، مادة حبب.

٢٢٢

من سمات أهل البيت:

٣

استجابة دعائهم :

الابتهال إلى الله وطلب الخير منه أو طلب دفع الشرِّ ومغفرة الذنوب، أمر مرغوب، يقوم به الإنسان تارة بنفسه، وأُخرى يتوصل إليه بدعاء الغير.

واستجابة الدعاء رهن خرق الحجب والوصول إليه سبحانه، حتى يكون الدعاء مصداقاً لقوله سبحانه:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ١ وليس كلّ دعاء مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه، فانّ لاستجابة الدعاء شروطاً مختلفة قلّما تجتمع في دعاء الإنسان العادي.

نعم هناك أُناس مطهّرون من الذنوب يكون دعاؤهم صاعداً إلى الله سبحانه ومستجاباً قطعاً، ولذلك حثَّ سبحانه المسلمين على التشرّف بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلب الاستغفار منه، قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) .٢

وقال سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ

__________________

١. غافر: ٦٠.

٢. آل عمران: ٦٥.

٢٢٣

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) .١

ولذلك طلب أبناء يعقوب من أبيهم أن يستغفر لهم كما يحكيه قوله سبحانه:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) .٢

ويظهر ممّا جرى بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران من المحاجَّة والمباهلة أنّ أهل البيت إذا أمَّنوا علىٰ دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُستجاب دعاءه، فقد وفد نصارى نجران على الرسول وطلبوا منه المحاجَّة، فحاجَّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببرهان عقلي تشير إليه الآية المباركة:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فيَكُونُ ) .٣

فقد قارعهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا البيان البليغ الذي لا يرتاب فيه ذو مرية، حيث كان نصارىٰ نجران يحتجّون ببنوّة المسيح بولادته بلا أب فوافاهم الجواب: « بأنّ مثل المسيح كمثل آدم، إذ لم يكن للثاني أب ولا أُمّ مع أنّه لم يكن ابناً لله سبحانه » وأولى منه أن لا يكون المسيح ابناً له.

ولـمّا أُفحموا في المحاجَّة التجأوا إلى المباهلة والملاعنة، وهي وإن كانت دائرة بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجال النصارى، لكن عمَّت الدعوة للأبناء والنساء، للدلالة على اطمئنان الداعي بصدق دعوته وكونه على الحقّ، وذلك لما أودع الله سبحانه في قلب الإنسان من محبة الأولاد والشفقة عليهم، فتراه يقيهم بنفسه ويركب الأهوال والاخطار دونهم، ولذلك قدَّم سبحانه في الآية المباركة الأبناء على النساء، وقال:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ

__________________

١. المنافقون: ٥.

٢. يوسف: ٩٧.

٣. آل عمران: ٥٩.

٢٢٤

أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .١

وإنَّ إتيانه سبحانه بلفظ الأبناء بصيغة الجمع يعرب عن أنّ طرف الدعوى لم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده بل أبناؤه ونساؤه، ولذلك عدَّتهم الآية نفس النبي ونساء النبي وأبناءه من بين رجال الأُمة ونسائهم وأبنائهم.

ثمّ إنّ المفسرين قد ساقوا قصة المباهلة بشكل مبسوط منهم صاحب الكشّاف، قال: لـمـّا دعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر.

فلّما تخالوا قالوا للعاقب، وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله لقد عرفتم يامعشر النصارى أنّ محمّداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيّاً قطُّ، فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكنّ، فإن أبيتم إلّا إِلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعليٌّ خلفها، وهو يقول: « إذا أنا دعوت فأمِّنوا ».

فقال أُسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتُهلكوا، ولا يبقىٰ على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرّك على دينك، ونثبت على ديننا. قال: « فإذا أبيتم المباهلة، فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم ».

__________________

١. آل عمران: ٦١.

٢٢٥

فأبوا. قال: « فإنّي أُناجزكم »، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردُّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة، ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك.

وقال: « والذي نفسي بيده أنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

وعن عائشة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليٌّ، ثمّ قال:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .١

الشاهد على استجابة دعائهم أمران:

أ: قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أنا دعوت فأمّنوا، فكان دعاء النبي يصعد بتأمينهم، وأيُّ مقام أعلى وأنبل من أن يكون دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاعداً بفضل دعائهم.

ب: قول أُسقف نجران: « إنّي لأرىٰ وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها » والضمير يرجع إلى الوجوه، أي لأزاله بدعائهم أو لأزاله بالقسم على الله بهم، وقد أيَّد القول الثاني ابن البطريق في « العمدة » حيث قال: المباهلة بهم تصدق دعوى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقد صار إبطال محاجَّة أهل نجران في القرآن الكريم بالقسم على الله بهم.٢

__________________

١. الكشّاف: ١ / ٣٢٦ - ٣٢٧، ط عام ١٣٦٧ ه‍.

٢. العمدة: ٢٤٣.

٢٢٦

وقد تركت مباهلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته أثراً بالغاً في نفوس المسلمين، يشهد عليها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما يمنعك أن تسبَّ أباتراب ؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فلن أسبَّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال له عليُّ: يا رسول الله، خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي ؟

وسمعته يوم خيبر، يقول: لأُعطينّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله.

قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأُتي به أرمد العين، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله على يديه.

ولما نزلت هذه الآية:( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) دعا رسول الله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: أللّهم هؤلاء أهل بيتي.١

__________________

١. صحيح مسلم: ٧ / ١٢٠، باب فضائل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

٢٢٧

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٤

ابتغاء مرضاة الله تعالى ٰ

الإنسان الكامل، هو الذي لا يفعل شيئاً ولا يتركه إلّا لابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، فيصل في سلوكه ورياضاته الدينيَّة إلىٰ مكان تفنىٰ فيه كلّ الدوافع والحوافز إلّا داع واحد وهو طلب رضا الله تبارك وتعالى، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال الإنساني، وربَّما يبلغ الإنسان في ظل الرضا درجة لا يتمنّى وقوع ما لم يقع، أو عدم ما وقع، وإلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري بما في منظومته:

وبهجة بما قضى الله رضا

وذو الرضا بما قضى ما اعترضا

أعظم باب الله، في الرضا وُعي١

وخازن الجنّة رضواناً دُعي

فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى

وذان سيّان لصاحب الرضا

عن عارف عُمّر سبعين سنة

إن لم يقل رأساً لأشيا كائنة

يا ليت لم تقع ولا لما ارتفع

مما هو المرغوب ليته وقع٢

__________________

١. إشارة إلى ما روي أنّ الرضا باب الله الأعظم.

٢. شرح منظومة السبزواري: ٣٥٢.

٢٢٨

وممَّن يمثل ذلك المقام في الأُمّة الإسلامية هو إمام العارفين وسيد المتّقين عليٌّ أمير المؤمنينعليه‌السلام فهو في عامَّة مواقفه، في جهاده ونضاله، وعزلته وقعوده في بيته، وفي تسنّمه منصَّة الخلافة بإصرار من الأُمّة، فهو في كلّ هذه الأحوال والمواقف، لا همّ له إلّا طلب رضوانه تعالى.

وقد صرح الإمام بذلك عندما طلب منه تسلّم مقاليد الخلافة، فقال: « أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ».١

وقد تجلّت هذه الخصلة في عليٍّعليه‌السلام حين مبيته في فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

روى المحدّثون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا أراد الهجرة خلّف عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بمكّة لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: يا عليُّ اتَّشح ببردي الحضرمي الأخضر، ثمّ نم على فراشي، فانّه لا يخلص إليك منهم مكروه، إن شاء الله عزّ وجلّ، ففعل ذلكعليه‌السلام فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيلعليهما‌السلام إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟، فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنام على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٢٢٩

فقال جبرئيل: بَخٍّ بَخٍّ مَن مثلك يابن أبي طالب ؟ يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متوجِّه إلى المدينة في شأن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) .١

وقد نقل غير واحد نزول الآية في حقّ عليٍّعليه‌السلام .

وقال ابن عباس: أنشدني أمير المؤمنين شعراً قاله في تلك الليلة:

وقيت بنفسي من وطئ الحصا

وأكرم خلق طاف بالبيت والحجر

وبتُّ أُراعي منهم ما يسوءني

وقد‌صبَّرت نفسي على‌القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمناً

ومازال في حفظ الإله وفي الستر٢

وإلى هذه الفضيلة الرابية وغيرها يشير حسّان بن ثابت في شعره عند مدح عليٍّعليه‌السلام :

من ذا بخاتمه تصدَّق راكعا

وأسرّها في نفسه إسرارا

من كان بات على فراش محمّد

ومحمد اسرى يؤم الغارا

من كان في القرآن سمّي

في تسع آيات تلين غزارا٣

محاولة طمس الحقيقة لولا

إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهميّة هذا العمل التضحويّ العظيم، دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام عليّعليه‌السلام، وإلى أن

__________________

١. البقرة: ٢٠٧.

٢. شواهد التنزيل: ١ / ١٣٠ ؛ أُسد الغابة: ٤ / ٢٥.

٣. سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواصّ: ٢٥، ط عام ١٤٠١ ه‍.

٢٣٠

يَصِفُوا بها عليّاً بالفداء والبذل والإيثار، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات، كلّ ما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.١

إنّ هذه الحقيقة لا تنسي أبداً، فإنّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلّا أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوّة وبخاصّة للإمام أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللّامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد « سمرة بن جندب » الذي أدرك عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انضمّ بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق مقابل أموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن عليٍّعليه‌السلام، ويقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليٍّ ( أي عبد الرحمٰن بن ملجم المرادي )، ويأخذ في مقابل هذه الأُكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفضيع - الذي أهلك به دينه ـ، مائة ألف درهم.

فلم يقبل « سمرة » بهذا المقدار ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك، فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوَّداً

__________________

١. الغدير: ٢ / ٤٨.

٢٣١

بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل، وذلك عندما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.١

وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أنّ ( عبد الرحمٰن بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ ؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تُنسىٰ بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد زالت حكومة معاوية وهلك أعوانها، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهدها المشؤوم، وطلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى، واعترف أغلبُ المفسِّرين الأجلّة والمحدّثين الأفاضل - في العصور والأدوار المختلفة - بأنّ الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل عليٍّعليه‌السلام ومفاداته النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

__________________

١. لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٤ / ٧٣.

٢٣٢

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٥

الإيثار

إنّه سبحانه تبارك وتعالى وصف الإيثار في كتابه الكريم، وهو من صفات الكرام حيث يقدِّمون الغير على أنفسهم، يقول سبحانه في وصف الأنصار:( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .١

كما أنّه سبحانه أمر بالوفاء بالنذر، قال سبحانه:( مَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ ) ٢ ، وقال سبحانه:( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) .٣

وفي الوقت نفسه ندب إلى الخوف من عذابه، يقول سبحانه:( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) ٤ وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ

__________________

١. الحشر: ٩.

٢. البقرة: ٢٧٠.

٣. الحجّ: ٢٩.

٤. النور: ٣٧.

٢٣٣

أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) .١

ما ذكرنا من الصفات الثلاث هي من أبرز الصفات التي يتحلّىٰ بها أولياؤه سبحانه، ونجد هذه الصفات مجتمعة في أهل البيتعليهم‌السلام في سورة واحدة، يقول سبحانه:

( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) .٢

فقوله سبحانه:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) إشارة إلى إيثارهم الغير على أنفسهم، والضمير في( عَلَىٰ حُبِّهِ ) يرجع إلى الطعام أي انّهم مع حبّهم للطعام قدَّموا المسكين على أنفسهم، كما أنّ قوله:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) إشارة إلى صلابتهم في طريق إقامة الفرائض.

ثمّ قوله:( وَيَخَافُونَ يَوْمًا ) إشارة إلى خوفهم من عذابه سبحانه يوم القيامة.

وقد نقل أكثر المفسرين لو لم نقل كلّهم، أنّ الآيات نزلت في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام .

روي عن ابن عباس ( رض ) أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام مرضا فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أُناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر عليٌّ وفاطمة وفضّة جاريةٌ لهما، إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما

__________________

١. الرعد: ٢١.

٢. الإنسان: ٧ - ١٠.

٢٣٤

معهم شيء، فاستقرض عليٌّعليه‌السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص علىٰ عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صائمين.

فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، وجاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ عليٌّعليه‌السلام بيد الحسن والحسينعليهما‌السلام ودخلوا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة.١

روى السيوطي في الدر المنثور، وقال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) الآية، قال: نزلت هذه الآية في عليِّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .٢

ورواه الثعلبي في تفسيره، وقال: نزلت في عليِّ بن أبي طالب وفاطمةعليهما‌السلام وفي جاريتهما فضّة، ثمّ ذكر القصّة على النحو الذي سردناه لكن بصورة مبسطة.

وقال: وذهب محمّد بن علي صاحب الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه

__________________

١. الكشّاف: ٣ / ٢٩٧ ؛ تفسير الفخر الرازي: ٣٠ / ٢٤٤.

٢. الدّر المنثور: ٨ / ٣٧١، تفسير سورة الإنسان.

٢٣٥

المعروف بـ‍ « البلغة » انّهمعليهم‌السلام نزلتعليهم‌السلام مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيّام، وحديث المائدة ونزولها عليهم في جواب ذلك مذكور في سائر الكتب.١

وقد سرد سبب نزول هذه الآية في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام غير واحد من أئمّة الحديث.٢

__________________

١. العُمدة: ٢ / ٤٠٧ - ٤١٠.

٢. شواهد التنزيل: ٢ / ٤٠٥ - ٤٠٨ ؛ أُسد الغابة: ٥ / ٥٣٠ ؛ مناقب ابن المغازلي: ٢٧٢.

٢٣٦

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٦

هم خير البريّة

إنّ خير الناس في منطق القرآن الكريم من آمن بالله ورسوله وعرف خالقه ومنعمه، وقد قال سبحانه:( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) .١

وهذه الصفات المذكورة في الآية تجدها، متمثلة في أهل البيتعليهم‌السلام شهد على ذلك سيرتهم، ولذلك صاروا خير البرية.

أخرج الطبري في تفسير قوله سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .٢ باسناده عن أبي الجارود، عن محمد بن علي، قال: قال

__________________

١. البقرة: ١٧٧.

٢. البيّنة: ٧.

٢٣٧

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « أنت يا عليُّ وشيعتك ».١

روى الخوارزمي عن جابر قال: كنّا عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ بن أبي طالب، فقال رسول الله: « قد أتاكم أخي » ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة »، ثمّ قال: « إنّه أوّلكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعيّة، وأقسمكم بالسويّة، وأعظمكم عند الله مزيّة »، قال: وفي ذلك الوقت نزلت فيه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، وكان أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل عليٌّ، قالوا: قد جاء خير البرية.٢

وروى أيضاً من طريق الحافظ ابن مردويه، عن يزيد بن شراحيل الأنصاري، كاتب عليّعليه‌السلام، قال: سمعت عليّاً يقول: « حدَّثني رسول الله وأنا مُسْنده إلى صدري، فقال أي عليّ ! ألم تسمع قول الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟ أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تُدعون غرّاً محجّلين ».٣

وأرسل ابن الصباغ المالكي في فصوله عن ابن عباس، قال: لـمّا نزلت هذه الآية، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّعليه‌السلام: « أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة، أنت وهم راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين ».٤

__________________

١. تفسير الطبري: ٣٠ / ١٤٦.

٢. المناقب للخوارزمي: ١١١ برقم ١٢٠.

٣. المناقب للخوارزمي: ٢٦٥ برقم ٢٤٧.

٤. الفصول: ١٢٢.

٢٣٨

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٧

أهل البيتعليهم‌السلام ورثة الكتاب

اختلفت الأُمّة الإسلامية بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر الخلافة - وإن كان اللائق بها عدم الاختلاف فيها، للنصوص الصحيحة الصادرة عنه في مختلف الموارد - وقد استقصينا البحث فيها في مبحث الإمامة من هذا الجزء.

والذي نركِّز عليه في هذا البحث هو تبيين المرجع العلمي بعد رحيله - سواء أكانت الخلافة لمن نصَّ عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الغدير أو من اختاره بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة ـ.

والمراد من المرجع العلمي مَن ترجع إليه الأُمّة في أُصول الدين وفروعه، ويصدر عنهم في تفسير القرآن وتبيين غوامضه، ويستفهم منه أسئلة الحوادث المستجدَّة.

يقول سبحانه:( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ *ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

٢٣٩

الْكَبِيرُ ) .١

المراد من الكتاب في قوله:( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) هو القرآن بلا شكّ وكونه حقّاً لأجل براهين قطعية تُثبت أنّه منزل من ربّه فانّ قوانينه تنسجم مع الفطرة الإنسانية، والقصص الواردة فيها مصونة من الأساطير، والمجموع خالٍ من التناقض إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أنّه حقّ. ومع ذلك هو مصدِّق لما بين يدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب السماوي.

هذا هو مفاد الآية الأُولى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) المراد من الكتاب هو القرآن: لأنَّ اللاّم للعهد الذكري أي الكتاب المذكور في الآية المتقدمة، والوراثة عبارة عمّا يستحصله الإنسان بلا مشقة وجهد، والوارث لهذا الكتاب هم الذين أُشير إليهم بقوله:( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، فلو قلنا بأنّ« من » للتبيين فيكون الوارث هو الأُمة الإسلامية جميعاً، ولو قلنا: إنّ« مِن » للتبعيض فيكون الوارث جماعة خاصة ورثوا الكتاب.

والظاهر هو التبيين كما في قولنا:( وَسَلامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ) .٢

ولكن الأُمة الإسلامية صاروا على أقسام ثلاثة:

أ: ظالم لنفسه: الَّذين قصَّروا في وظيفتهم في حفظ الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، فلذلك صاروا ظالمين لأنفسهم.

ب: مقتصد: الذين أدُّوا وظيفتهم في الحفظ والعمل لكن لا بنحو كامل

__________________

١. فاطر: ٣١ - ٣٢.

٢. النمل: ٥٩.

٢٤٠

ويبقى الباقي للاخوال. وحينئذٍ يقتسمون المال بالسوية. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الاخوال جميعاً إخوة لاُم الميت من أبويها أو من أبيها فقط أو من اُمها فقط، وأن يكونوا مختلفين.

نعم لا يرث المتقرب بالاب فقط مع وجود المتقرب بالابوين، أما المتقرب بالاُم فإنه يرث مع كل منهم، نظير ما تقدم في الاعمام.

(مسألة ٦٣): إذا اجتمع العم أو الاعمام مع الخال أو الاخوال، كان للخال أو الاخوال الثلث، يقسم بينهم على النهج المتقدم، وللعم أو الاعمام الباقي يقسم بينهم على النهج المتقدم. إلا أن يكون معهم زوج أو زوجة، فيكون للزوج النصف وللزوجة الربع، وللاخوال الثلث، وللاعمام الباقي، فيقع النقص على الاعمام وحدهم.

(مسألة ٦٤): أولاد الاعمام والعمات والاخوال والخالات يقومون مقام الاعمام والعمات والاخوال والخالات عند فقدهم جميع، ولا يرثون مع وجود بعضهم، فلا يرث ولد العم مع وجود أبيه أو غيره من الاعمام. بل لا يرث ولد العم مع الخال. وكذا الحال في ولد الخال، فإنه لا يرث مع وجود أبيه أو غيره من الاخوال، ولا مع وجود العم.

(مسألة ٦٥): يستثنى مما تقدم ما إذا ترك الميت عمه أخا أبيه لابيه فقط وابن عمه أخي أبيه لابيه واُمه، فإن ابن العم يمنع العم حينئذٍ. ولو كان معهما خال أو خالة حجب ابن العم وكان الميراث للعم والخال أو الخالة. ولو تعدد العم أو ابن العم أو كان معهما زوج أو زوجة ففي حجب العم وميراث ابن العم إشكال، والأحوط وجوباً التصالح.

(مسألة ٦٦): يرث أولاد الاعمام والاخوال ميراث من يتقربون به على النحو المتقدم في ميراث أولاد الاخوة، ويقتسمونه بينهم لو تعددوا على النحو

٢٤١

المتقدم هناك. فراجع المسألتين الاخيرتين من الفصل السابق.

(مسألة ٦٧): الاعمام والاخوال طبقات مترتبة، فأعمام الميت وأخواله مقدمون على أعمام أبويه وأخوالهم، وأعمام الابوين وأخوالهما مقدمون على أعمام الاجداد وأخوالهم وهكذ، وكل طبقة لا ترث إلا مع فقد جميع أفراد الطبقة السابقة عليه. بل أولاد كل طبقة وإن نزلوا يقومون مقام آبائهم، ويقدمون على الطبقة اللاحقة. وكل صنف منهم يرث نصيب من يتقرب به. ويقتسمون النصيب بينهم مع تعددهم على النهج المتقدم في ميراث أولاد الاخوة المتقدم في المسألة الاخيرة من الفصل السابق.

(مسألة ٦٨): قد يجتمع لوارث جهتان، وذلك على صور..

الاُولى: أن يكونا من نوع واحد، كالجدودة في مثل الجد للاب وللاُم.

الثانية: أن يكونا من نوعين من طبقة واحدة، كالخؤولة والعمومة. ومثاله ما إذا كان زيد أخا عمرو لابيه، وهند اُخت عمرو لاُمه، فتزوج زيد هنداً فأولدها بكر، فإن عمر يكون عم بكر وخاله، ومثل ذلك ما إذا كان الشخص عم أبي الميت وخال اُمه أو بالعكس.

الثالثة: أن تكون إحدى الجهتين نسباً والاُخرى سبب، كالقرابة والزوجية، كما لو كان الزوجان ابني عم. وفي الصور الثلاث يتعين الميراث من كلتا الجهتين، إلا أن تكون إحداهما مانعة من الاُخرى، فيرث بالجهة المانعة دون الممنوعة، كما في أخ هو ابن عم، كما لو تزوج زيد هنداً فأولدها عمر، ثم تزوجها أخوه فأولدها بكر، فإن بكراً أخو عمرو لاُمه وابن عمه.

٢٤٢

الفصل السادس

في الميراث بالولاء

وقد تقدم أن الولاء متأخر عن مراتب النسب الثلاث، فلا يكون سبباً للميراث مع وجود أحده. كما تقدم أنه ثلاث مراتب أيض، ولا ترث المتأخرة شيئاً مع وجود المتقدمة.

الاُولى: ولاء العتق. فإن من أعتق عبداً كان له ميراثه بشروط أعرضنا عن ذكرها كما أعرضنا عن فروع ذلك، لندرة الابتلاء بالعتق في عصورنا أو عدمه.

الثانية: ولاء ضمان الجريرة. والمراد بالجريرة دية قتل الخطأ الذي تتحمله عاقلة القاتل، وهم ورثته على تفصيل يأتي في كتاب الديات إن شاء الله تعالى، فإذا لم يكن للانسان وارث نسبي، ولا معتق وارث فإن له أن يتولى شخصاً على أن يضمن جريرته، فإن فعل ذلك كان الضامن وارثاً له.

(مسألة ٦٩): لابد في حصول الولاء من ضمان الجريرة، فيترتب عليه الميراث، من دون حاجة للتنصيص عليه. نعم لا يضر التنصيص عليه مع ضمان الجريرة. ولا يكفي في الولاء الالتزام بالارث وحده من دون ذكر ضمان الجريرة، فإن اقتصر على الالتزام بالارث لم يترتب الميراث، فضلاً عن ضمان الجريرة.

(مسألة ٧٠): ضمان الجريرة من العقود. فهو عقد يتضمن الولاء من شخص لآخر على أن يضمن جريرته، ولابد فيه من الايجاب والقبول كسائر العقود، فيقول الضامن مثلاً: واليتك على أن أعقل عنك وأضمن جريرتك، فيقول المضمون: قبلت، أو يقول المضمون عنه: واليتك على أن تعقل عني وتضمن جريرتي، فيقول الضامن: قبلت.

٢٤٣

(مسألة ٧١): يمكن فسخ عقد ضمان الجريرة بالتقايل من الطرفين. بل في لزومه في حق كل منهما بحيث ليس له فسخه من دون رضا الطرف الآخر إشكال، واللازم الاحتياط.

(مسألة ٧٢): يشترط في المضمون عنه أن لا يكون له من يعقل عنه من الارحام أو المعتق. وفي اشتراط عدم الوارث له وإن لم يكن عليه عقل كالنساء إشكال، وكذا الاشكال في بطلان عقد ضمان الجريرة لو حصل العاقل او الوارث من الارحام وتجدد بعد العقد.

(مسألة ٧٣): ضمان الجريرة إنما يقتضي ميراث الضامن للمضمون، ولا يقتضي ميراث المضمون للضامن، إلا أن يكون الضمان من الطرفين.

(مسألة ٧٤): إذا مات ضامن الجريرة لم ينتقل الضمان لورثته.

(مسألة ٧٥): ضامن الجريرة يرث جميع المال، إلا أن يكون معه زوج أو زوجة، فيكون للزوج النصف وللزوجة الربع، ولضامن الجريرة الباقي.

الثالثة: ولاء الامامة. فإن الامام وارث من لا وارث له من المراتب السابقة للنسب والولاء.

(مسألة ٧٦): إذا لم يكن للميت وارث إلا الزوجة كان لها الربع، والباقي للامام. أما إذا انحصر الميراث بالزوج فإنه له النصف بالاصل، ويرد عليه النصف الثاني أيض، ولا يرثه الامام.

(مسألة ٧٧): إذا أوصى من لا واث له بماله كله في المسلمين والمساكين وابن السبيل نفذت وصيته ولم يكن للامام شيء. أما إذا أوصى بجميع ماله في غير ذلك فلا تنفذ وصيته إلا في الثلث، وكان الباقي للامام.

(مسألة ٧٨): إذا كان الامام ظاهراً كان الميراث له يعمل به ما يشاء.

٢٤٤

وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يفرقه في فقراء أهل بلد الميت. وأما في عصر الغيبة فيجري عليه حكم سهم الامام عليه السلام من الخمس يراجع فيه الحاكم الشرعي وعليه أن يتولى صرفه في مصارف السهم المذكور. والاولى صرفه في المحتاجين من أهل بلد الميت.

(مسألة ٧٩): المراد بمن لا وارث له من يعلم بعدم الوارث له من الارحام المسلمين والمعتق وضامن الجريرة، كالذي يسلم من الكفار وحده ويموت قبل أن يحصل له وارث مسلم من الطبقات السابقة أو ينفرد بنسبه حتى يبعد من يشاركه في النسب بحيث لايصدق عليه أنه رحمه. ويلحق به اللقيط قبل أن يعرف أهله، دون من كان له وارث من المسلمين إلا أنه لا يعرف بسبب انقطاعه عن أهله وبعده عنهم كالمسافر المنقطع والحاضر المنحاز عن أهله لخوف أو نحوه، بحيث لا يعرف أهله، فإن مثل هذا لا يرثه الامام، بل يرثه أهله وإن كانوا مجهولين، فيجري على تركته حكم مجهول المالك من وجوب الفحص عن صاحبه. ومع اليأس عن العثور عليه يجوز أن يتصدق به على الفقراء عن صاحبه، على ما تقدم في ذيل كتاب اللقطة.

الفصل السابع

في ميراث الازواج

الزوجية من أسباب التوارث بين الزوجين إذا كانت دائمة، أما إذا كانت منقطعة فلا توجب التوارث إلا مع اشتراطه في عقد الزواج، وفي صحة اشتراط الميراث لاحدهما دون الآخر إشكال.

(مسألة ٨٠): لا يشترط في توارث الزوجين الدخول، فلو مات أحدهما قبل الدخول ورثه الآخر، إلا في زواج المريض فإنه لا يصح من دون دخول، فلا

٢٤٥

يترتب عليه الميراث، كما تقدم في أواخر فصل العيوب والشروط من كتاب النكاح.

(مسألة ٨١): يلحق بالزوجية العدة الرجعية، فإنها بحكم الزوجية يثبت التوارث مع موت أحد الزوجين فيه. كما تقدم في أواخر الفصل االرابع من كتاب الطلاق. كما يلحق بها المطلقة من قبل المريض إلى سنة بشروط تقدمت في آخر الفصل الثالث من كتاب الطلاق أيض.

(مسألة ٨٢): مما تقدم يظهر أن للزوج النصف من زوجته إذا لم يكن لها ولد ذكر ولا اُنثى، وإن نزل كولد الولد، والربع إذا كان لها ولد. وللزوجة الربع من زوجها إذا لم يكن له ولد، والثمن إذا كان له ولد. ولا ينقصان عن ذلك ولا يزادان مع جميع طبقات الميراث. إلا الزوج مع عدم وجود وارث للزوجة غير الامام، فإنه له تمام المال، وليس للامام شيء، كما تقدم في الفصل السابق.

(مسألة ٨٣): مع تعدد الزوجات وما اُلحق بهن يشتركن في سهم الزوجية المتقدم بالتساوي.

(مسألة ٨٤): الزوج كسائر الورثة يرث نصيبه من جميع ما تتركه الزوجة من الارض وغيرها من المنقول وغيره. أما الزوجة فإنما ترث نصيبها من المنقول - كالنقود والبضائع والسفن والحيوانات وغيرها - دون الارض المجردة أو العامرة بالبناء أو الزرع أو نحوهم، فإنها لا ترث من عينها ولا من قيمته. نعم ترث مما ثبت فيها من البناء والشجر والاخشاب والالات ونحوه. وللوارث دفع قيمة ذلك ويجب عليها القبول به.

(مسألة ٨٥): الثابت في الارض إن كان تابعاً لها أو للبناء عرفاً لم تستحق الزوجة من عينه بل من قيمته كعريش العنب والناعور وتجهيز الماء والكهرباء والابواب والمغاسل ونحوه. وإن لم يكن تابعاً لها وإنما ثبت فيها لتوقف أداء وظيفته على ذلك، فالظاهر أنها تستحق سهمها من عينه كالمعامل المنصوبة في

٢٤٦

الارض والمكائن الزراعية ونحوه، فليس للوارث إلزامها بقبول القيمة.

(مسألة ٨٦): كيفية التقويم في البناء أن تُقوّم أجزاؤه بذاتها لا بما أنها مبنية. وفي مثل النخل والشجر أن يقوّم بما هو نخل أو شجر أو نحوها غير مستحق للبقاء في الارض.

(مسألة ٨٧): ترث الزوجة من عين ثمرة النخل والشجر والزرع الموجودة حال موت الزوج، وليس للوارث إجبارها على القيمة.

(مسألة ٨٨): إذا لم يدفع الوارث القيمة فإن كان عن تراض منه ومنها واتفاق بينهما فهما على اتفاقهم. وإن لم يكن عن تراض منهما كان لها سهمها من اُجرة أجزاء البناء على من استوفى منفعته. ولها سهمها من عين ثمرة الشجر ونحوه.

(مسألة ٨٩): إذا انقلعت الشجرة أو انكسرت أو انهدم البناء قبل دفع القيمة للزوجة فالظاهر أن لها المطالبة بسهمها من العين وليس للوارث إجبارها على أخذ القيمة. بخلاف ما إذا كان البناء مستعداً للانهدام والشجر مستعداً للقلع أو القطع، فإنه ليس لها المطالبة بسهمها من العين، بل للوارث إجبارها على أخذ القيمة. نعم إذا خرج الشجر عن كونه شجراً بل صار حطباً فالظاهر أنه كالثمر تستحق سهمها من عينه وليس للوارث إجبارها على أخذ قيمته.

(مسألة ٩٠): القنوات والعيون والآبار ترث الزوجة من آلاته، وللوارث إجبارها على أخذ القيمة. أما الماء الموجود فيها فإنها ترث من عينه، وليس للوارث إجبارها على أخذ قيمته.

(مسألة ٩١): إذا حفر سرداباً أو بئراً قبل أن يصل إلى حد النبع فإن كان فيه بناء استحقت منه، وكان للوارث إجبارها على أخذ القيمة، وإن لم يكن فيه بناء فلا تستحق منه شيئاً - كالارض - حتى لو كان له قيمة في نفسه أو كان سبباً في زيادة قيمة الارض التي حفر فيه. ومثل ذلك ما إذا شق في الارض طريقاً أو

٢٤٧

أنشأ فيها سدة ترابية أو نحو ذلك.

(مسألة ٩٢): إذا لم يدفع الوارث القيمة للزوجة فإن كان ذلك عن رضا منه بمشاركتها في العين وإسقاط منه لحقه في التبديل بالقيمة نفذ ذلك عليها وعليه وليس له الرجوع فيه، وإن لم يكن كذلك، بل كان عن عجز منه عن القيمة أو تسويف منه في دفعها فلا يلزم بذلك، وله دفع القيمة متى شاء.

(مسألة ٩٣): المدار في القيمة على قيمة يوم الدفع. إلا أن يتصالح الوارث والزوجة على قيمة معينة قبل الدفع، فتلزم عملاً بمقتضى الصلح.

(مسألة ٩٤): الزوجة وإن كانت لا ترث من الارض - كما سبق - إلا أنها ترث من الحقوق المتعلقة بالارض كحق السرقفلية وحق الخيار الذي لا يشترط فيه المباشرة وينتقل للوارث، فإذا باع الزوج الارض أو اشتراها بخيار إلى أجل ثم مات ورثت الزوجة الحق المذكور ولم يختص به غيرها من الورثة، بل هي مثلهم في السلطنة على إعمال الحق المذكور بالنحو الذي يأتي توضيحه في الخاتمة إن شاء الله تعالى.

(مسألة ٩٥): ما يخرج من أصل التركة كالديون والواجبات المالية يؤخذ من أرض وغيرها من أقسام التركة بالنسبة، فإذا كان مجموع التركة مثلاً مائة وعشرين ألف دينار ثلثها أرض وثلثاها غير أرض، وكانت الاُمور المذكورة من الديون وغيرها بقدر أربعين ألف دينار، فثلثها يخرج من الارض، وثلثاها من الباقي لعدم المرجح، وعليه يكون ثُمن الزوجة ثلثي العشرة آلاف دينار. ولا مجال لآخراجها بأجمعها من غير الارض المستلزم لكون ثمن الزوجة خمسة آلاف دينار، لأن في ذلك إجحافاً بالزوجة، ولا لآخراجها بأجمعها من الارض المستلزم لكون ثمن الزوجة عشرة آلاف دينار تامة، لأن في ذلك اجحافاً ببقية الورثة. وهذا أمر قد يغفل عنه.

٢٤٨

الفصل الثامن

في ميراث ولد الملاعنة والزن

والحمل والمفقود

(مسألة ٩٦): تقدم في فصل اللعان من كتاب الطلاق أن ولد الملاعنة ترثه اُمه ومن يتقرب بها - كالاخوة للاُم والجد للاُم والاخوال - دون الاب ومن يتقرب به - كالاخوة للاب والجد للاب والاعمام - وعلى ذلك يكون إخوته لابويه بحكم إخوته لاُمه، فيشاركون إخوته لاُمه في ميراثهم، وتكون قسمة الميراث بين الجميع بالسوية.

(مسألة ٩٧): كما ترثه اُمه ومن يتقرب بها يرثه بقية الورثة غير الاب ومن يتقرب به كالزوجين وضامن الجريرة والامام. وعلى ذلك يفرض كما لو لم يكن له أب ولا من يتقرب به وتجري على تركته قسمة المواريث في حق غيرهم وفق الضوابط المتقدمة فيمن لم يكن له أب ولا من يتقرب به، فلا نطيل بإعادته.

(مسألة ٩٨): لا يرث ولد الملاعنة أباه، ولا قرابة أبيه كإخوته من أبيه وجده لابيه وأعمامه، ولا يرثه أبوه ولا أحد منهم.

(مسألة ٩٩): إذا ادعى الاب بعد الملاعنة الولد وأكذب نفسه اُلحق الولد بالاب وورث الاب دون قرابة الاب، فإنه لا يرثهم بذلك. أما الاب فلا يرث الولد إذا ادعاه.

(مسألة ١٠٠): يرث ولد الملاعنة اُمه وإخوته من اُمه وإخوته من أبيه واُمه، لكن يحكم عليه بأنه أخوهم من اُمهم لا غير.

٢٤٩

(مسألة ١٠١): يرث ولد الملاعنة جده لاُمه مطلق، وكذا يرث أخواله إذا ادعاه أبوه بعد الملاعنة. وأما إذا لم يدعه أبوه ففي ميراثه من أخواله إشكال، فاللازم الاحتياط.

(مسألة ١٠٢): يرث ولد الملاعنة بقية الناس ويرثونه بأسباب الميراث الشرعية كالزوجية والولاء.

(مسألة ١٠٣): إذا تبرَّأ الاب من جريرة ابنه ومن ميراثه فلا أثر للتبرؤ من الميراث، فإن مات الولد ورثه أقرب الناس إليه سواءً كان الاب أم غيره.

(مسألة ١٠٤): ولد الزنا لا يرثه أبوه الزاني ولا من يتقرب به ولا يرثهم هو، ولا ترثه اُمه الزانية ولا من يتقرب بها ولا يرثهم هو، بل يثبت التوارث بينه وبين غيرهم من الورثة كأولاده والزوج أو الزوجة، كما يورث ويرث بالولاء كولاء ضمان الجريرة والامامة على النحو المتقدم في غيره. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل أحكام الاولاد من كتاب النكاح.

(مسألة ١٠٥): إذا كان الزنا من أحد الابوين مع الشبهة من الآخر ثبت التوارث بينه وبين صاحب الشبهة ومن يتقرب به دون الزاني ومن يتقرب به، كما تقدم هناك أيض.

(مسألة ١٠٦): الحمل حين موت المورث يرث منه إذا سقط حياً بأن صاح أو تحرك حركة الحياة أو غير ذلك مما يعلم منه حياته. أما إذا سقط ميتاً فإنه لا يرث وإن كان حياً قبل انفصاله عن اُمه وتمام ولادته.

(مسألة ١٠٧): تثبت حياة المولود بالبينة وهي رجلان عدلان. كما تثبت بشهادة أربع نساء. ولو شهدت امرأة واحدة ثبت بشهادتها ربع الميراث، فإن كانتا اثنتين ثبت نصف الميراث، فإن كنّ ثلاثاً ثبت ثلاثة أرباع الميراث. نعم لو حصل العلم بقولها أو قولهن ثبت له تمام الميراث في حق من حصل له العلم.

٢٥٠

(مسألة ١٠٨): إذا سقط حياً فورث سهمه ثم مات ورثه أقرب الناس إليه.

(مسألة ١٠٩): إذا علم باتحاد الحمل عزل له عند قسمة الميراث سهم واحد، وإن علم بتعدده عزل له بقدره، ولو شك في ذلك اقتصر على الاقل. إلا أن يرضى الورثة بعزل الأكثر احتياط. كما أنه إن علم بكونه ذكراً عزل له سهم الذكر، وإن علم بأنه اُنثى عزل له سهم الاُنثى، وإن جهل حاله عزل له سهم الذكر احتياطاً حتى يتبين الحال. فإن تبين حاله عمل عليه. وإن مات ولم يتبين حاله تعين الصلح بين وارثه وبقية الورثة.

(مسألة ١١٠): المفقود لغيبة ونحوها إذا لم يعلم حياته ولا موته يتربص بماله أربع سنين مع الفحص عنه في الارض، وعشر سنين من دون فحص ولو لتعذر الفحص، ثم يحكم بموته، فيدفع ماله لوارثه بعد مدة التربص. كما أنه إذا مات له مورث قبل مضي مدة التربص حكم بإرثه منه. أما إذا مات بعد مدة التربص فلا يحكم بإرثه منه. وقد تقدم في أواخر كتاب الدين ما ينفع في المقام، لأن المقامين من باب واحد.

هذا إذا لم يكن له من يكلف بالانفاق عليه، أما مع وجوده - كما لو كان له أولاد محتاجين - فيجوز الانفاق عليه من ماله قبل مدة التربص.

(مسألة ١١١): إذا تعارف اثنان بالنسب وتصادقا عليه توارث، على تفصيل تقدم في فصل أحكام الاولاد من كتاب النكاح.

٢٥١

الفصل التاسع

في ميراث الخنثى وما يشبهه

المعيار في الذكورة والاُنوثة في الانسان شرعاً على العضو الذكري والعضو الاُنثوي، فواجد العضو الذكري وحده ذكر، تترتب عليه أحكام الذكر شرع، وواجد العضو الاُنثوي وحده اُنثى تترتب عليه أحكام الاُنثى شرع، ولا عبرة بغير ذلك من لوازم الذكورة والاُنوثة الغالبية ظاهرة كانت - كاللحية في الذكر وكبر الثديين في الاُنثى - أو خفية كالاحساسات الغريزية التي يدركها الشخص نفسه وكالهرمونات الذكرية والاُنثوية التي يعرفها أهل الاختصاص في زماننا هذ، لامكان الشذوذ الخلقي في اللوازم المذكورة.

ويترتب على ذلك أمران..

الأول: أنه لا يتحول الذكر اُنثى ولا الاُنثى ذكراً بعملية جراحية أو أدوية تستهدف الفوارق الجسدية بين الجنسين. نعم لو تبدل الحال خلقياً بمعجزة أو نحوها تحقق التحول عرف، إلا أن ذلك لو وقع فهو شذوذ في التكوين لا يخضع لسيطرة الانسان.

الثاني: أن الخنثى هو الانسان الواجد للعضوين مع، ولا عبرة بغيرهما من الخواص مهما كانت. وحينئذٍ إن علم بأنه من أحد الجنسين، لعدم كون العضو الآخر حقيقي، وإنما هو بصورة العضو عمل على العلم المذكور. وإلا فلا طريق للعلم بأنه من أحد الجنسين، مع قطع النظر عن الامارات الاتية، لانه بعد كون معيار الجنس هو العضو دون بقية الخواص، وفرض وجود العضوين مع،

٢٥٢

كيف يتيسر العلم بأنه من أحد الجنسين !. ومن ثم لابد من النظر في العلامات الشرعية. وهو ما عقد له هذا الفصل..

(مسألة ١١٢): الخنثى إن كان يبول من فرج الرجال دون فرج النساء اُلحق بالرجال واستحق ميراثهم، وإن كان يبول من فرج النساء دون فرج الرجال اُلحق بالنساء واستحق ميراثهن.

(مسألة ١١٣): الخنثى إن كان يبول من الفرجين معاً كان العمل على ما يسبق منه البول. فإن كانا سواءً في ذلك فالعمل على ما ينبعث منه البول ويقوى اندفاعه.

(مسألة ١١٤): إذا لم يعلم حال الخنثى من جهة البول، فإن تيسر عدّ أضلاعه من الجانبين، فإن اختلفت بأن كانت سبعة عشر تسعة في اليمين وثمانية في اليسار فهو رجل، وإن تساوت بأن كانت ثمانية عشر في كل جانب تسعة فهو اُنثى.

(مسألة ١١٥): إذا لم يتيسر الرجوع للامارات السابقة في تعيين حال الخنثى إما لتعارضها أو لعدم وضوحه، كما لو مات قبل أن يبول أولم يتضح عدد أضلاعه، صار الخنثى مشكلاً الذي يأتي حكمه.

(مسألة ١١٦): يعطى الخنثى المشكل نصف نصيب الذكر ونصف نصيب الاُنثى. وذلك بأن يفرض ذكراً ويقسم الميراث بينه وبين بقية الورثة على الفرض المذكور، ثم يفرض اُنثى ويقسم الميراث بينه وبين بقية الورثة على الفرض المذكور. ثم يعطى هو وبقية الورثة نصف كل من السهمين الحاصل في الفرضين. مثلاً إذا ترك الميت ولداً ذكراً وخنثى، يقسم الميراث اثني عشر سهم، فإذا فرض الخنثى ذكراً كان له ستة وللذكر ستة، وإذا فرض الخنثى اُنثى كان له أربعة وللذكر ثمانية، فيعطى الخنثى نصف كل من السهمين، وهو خمسة ويعطى الذكر نصف كل من السهمين، وهو سبعة. وإذا ترك الميت ذكرين وخنثى يقسم الميراث ثلاثين سهماً فإذا فرض الخنثى ذكراً كان له عشرة، ولكل من الذكرين

٢٥٣

عشرة، وإذا فرض الخنثى اُنثى كان له ستة، ولكل من الذكرين اثنى عشر، فيعطى الخنثى نصف كل من السهمين، وهو ثمانية، ويعطى كل من الذكرين نصف كل من السهمين وهو أحد عشر. وإذا ترك الميت أباً وولداً خنثى يقسم الميراث أربعة وعشرين سهم، فإذا فرض الخنثى ذكراً كان له عشرون وللاب أربعة، وإذا فرض الخنثى اُنثى كان له ثمانية عشر وللاب ستة، فيعطى الخنثى نصف كل من السهمين وهو تسعة عشر، ويعطى الاب نصف كل من السهمين وهو خمسة. وعلى هذا تجري قسمة الميراث في جميع فروض المسألة.

(مسألة ١١٧): من ليس له عضو الذكر ولا عضو الاُنثى يورث بالقرعة يكتب على سهم (عبد الله) وعلى سهم (أمة الله) ثم يدعو المقرع الله ويبتهل إليه في كشف الحال، ثم يطرح السهمان في سهام ليس عليها كتابة ثم تشوش السهام ثم يأخذ المقرع سهماً فسهماً حتى يقع على أحد السهمين المكتوب عليهما فأيهما خرج أولاً عمل عليه، وورث المولود على مقتضاه.

(مسألة ١١٨): الأحوط وجوباً أن يكون الاقتراع برضا الورثة كلهم عند إرادة معرفة الحال من أجل قسمة المال، ولا يكتفى بتسرع شخص بالاقتراع من دون مراجعتهم. بل الأحوط وجوباً أن يكون ذلك بإذن الحاكم الشرعي.

(مسألة ١١٩): يستحب أن يقول المقرع عند الدعاء: (اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون بيّن لنا أمر هذا المولود حتى كيف يورث ما فرضت له في الكتاب).

(مسألة ١٢٠): إذا لم يعلم حال المولود أنه ذكر أو اُنثى لموانع خارجية، كما لو غرق أو أكله السبع أو نحو ذلك، ففي الرجوع للقرعة - كما في الفاقد للعضوين - أو للتنصيف - كما في الخنثى المشكل - وجهان فلا يترك الاحتياط بالتصالح.

(مسألة ١٢١): من له رأسان على صدر واحد أو بدنان على حقو واحد

٢٥٤

يترك حتى ينام ثم ينبه، فإن انتبها جميعاً كان له ميراث واحد، وإن انتبه أحدهما دون الآخر كان له ميراث اثنين. والظاهر التعدي من الميراث إلى سائر أحكام الواحد والمتعدد.

الفصل العاشر

في ميراث الغرقى والمهدوم عليهم

الغرقى والمهدوم عليهم إن علم بالمتقدم منهم موتاً والمتأخر ورث المتأخر من المتقدم ولم يرث المتقدم من المتأخر، وإن علم بتقارنهم في الموت لم يرث بعضهم من بعض، وإن جهل المتقدم والمتأخر ورث بعضهم بعض.

(مسألة ١٢٢): كيفية التوراث بينهم أن يفرض كل طرف حياً حين موت الآخر، فيرث من مال الآخر الاصلي الذي كان له في حياته، ثم يعكس الفرض، فيفرض الآخر حياً حين موت صاحبه، فيرث من ماله الذي كان له في حياته دون المال الذي ورثه من الاول. مثلاً: إذا غرق الزوجان وكان للزوج أربعمائة دينار وللزوجة أربعة آلاف درهم، ولم يكن لهما أولاد، فرض الزوج حياً حين موت زوجته فيرث منها ألفا درهم، ثم فرضت الزوجة حية حين موت زوجها فترث منه مائة دينار، فيدفع لورثة الزوج الآخرين ثلاثمائة دينار بقية تركته الاصلية وألفا دينار التي ورثها من زوجته، ويدفع لورثة الزوجة ألفا درهم بقية تركتها الاصلية ومائة دينار التي ورثتها من زوجه.

ويجري هذا لو كان الغرقى أو المهدوم عليهم الذين يرث بعضهم من بعض أكثر من اثنين، كأب واُم وولدهم. فيفرض الاُم والولد حيين حين موت الاب فيرثان من ماله الاصلي، ويفرض الاب والولد حيين حين موت الاُم فيرثان من مالها الاصلي، ويفرض الاب والاُم حيين حين موت الولد فيرثان

٢٥٥

من ماله الاصلي، ثم يدفع لوارث كل منهم غير الغريق بقية مال مورثه الاصلي وما ورثه من الغريقين الآخرين.

(مسألة ١٢٣): كما يفرض كل طرف حياً حين موت الآخر من أجل ميراثه منه، كذلك يفرض حياً من أجل ميراث الحي غير الغريق من المال الاصلي للغريق لو كان لحياته أثر في ذلك. مثلاً: إذا غرقت الزوجة مع ابنتها من غير الزوج ولم يكن لها ذرية غيرها وبقي الزوج، فالزوج يرث من المال الاصلي للزوجة الربع لا النصف، للحكم ببقاء بنتها حين موته، والثلاثة الارباع الباقية من مال الزوجة للبنت الغريقة مع اُمها تدفع لورثة البنت. كما أنه لو كان للبنت في الفرض مال أصلي فلا يكون بتمامه لابيه، بل له منه الثلثان، للحكم بحياة اُمها حين موتها فترث من المال المذكور الثلث، ويكون لورثة الاُم، ومنهم الزوج.

(مسألة ١٢٤): كما يفرض كل طرف حياً من أجل ميراثه من الآخر ومن أجل ميراث الحي منه - كما تقدم - كذلك يفرض حياً من أجل منع ميراث غريق آخر منه لو كان حاجباً له. مثلاً: لو غرق أب وولداه، فلا توارث بين الولدين الاخوين، للحكم بحياة الاب عند موت كل منهما فيكون حاجباً للآخر، لأن الاب يحجب الاخ، فيحكم في الفرض مع تأخر الورثة الاحياء لكل منهم عن صاحبيه طبقة بانتقال المال الاصلي لكل من الولدين للاب، وبانتقال المال الاصلي للاب لهما مع. مثلاً: إذا كان للاب غنم، وللولد الكبير ألف دينار وللصغير ألف درهم حكم بميراث الاب من الولدين الدراهم والدنانير، وبميراثهما من أبيهما الغنم بالتناصف. والظاهر عدم ميراث كل منهما من الاب ما ورثه الاب من الآخر. فلا يرث الكبير من أبيه الدراهم التي ورثها من الصغير، ولا يرث الصغير من أبيه الدنانير التي ورثها من الكبير، بل يقتصر ميراثهما على الغنم يدفع لورثة كل منهما حصته منه ويختص الوارث الحي للاب بالدراهم والدنانير.

٢٥٦

(مسألة ١٢٥): لا يشترط في ميراث بعضهم من بعض التوارث من الجانبين، بل لو كان أحد الطرفين يرث من الآخر دون العكس ثبت الميراث كذلك، فلو غرق أخوان لاحدهما أولاد دون الآخر ورث صاحب الاولاد أخاه ولم يرثه أخوه، بل يكون ميراثه لاولاده، فيصير لهم ماله الذي كان عنده في حياته وما ورثه من أخيه الغريق معه.

(مسألة ١٢٦): لا يشترط في ميراث بعضهم من بعض أن يكون لكل من الطرفين مال، فلو كان لاحد الطرفين مال دون الآخر ورث من ليس له مال من صاحبه ولم يرث صاحبه منه، فيكون المال لوارث من ليس له مال، ولا يبقى لوارث من له مال شيء إذا كان الغريق حاجباً له. مثلاً: إذا غرق أخوان لاُم ولكل منهما عم ليس له وارث غيره بعد الاخ وكان لاحدهما مال دون الآخر فالمال يصير لعم من ليس له مال، ولا يبقى لعم من له مال شيء.

(مسألة ١٢٧): إذا مات المتوارثون بغير الغرق والهدم، فهنا صور..

الاوُلى: أن يعلم بالمتقدم والمتأخر، ولا إشكال في ميراث المتأخر من المتقدم دون العكس.

الثانية: أن يعلم بالتقارن، ولا إشكال - حينئذٍ - في عدم الثوارث، نظير ما تقدم في الغرقى والمهدوم عليهم.

الثالثة: أن يتردد الامر بين التقارن وعدمه. وحينئذٍ إن علم تاريخ موت بعضهم وجهل تاريخ موت الآخر حكم بميراث مجهول تاريخ الموت من معلوم تاريخ الموت دون العكس، فإذا مات الاب والابن وعلم بأن الاب مات عند الزوال ولم يعلم بتاريخ موت الابن حكم بميراث الابن من الاب وعدم ميراث الاب من الابن. وإن جهل تاريخ موت كل منهما حكم بعدم التوارث منه، فكل منهما لا يرث الآخر.

٢٥٧

الرابعة: أن يعلم بعدم التقارن مع الجهل بالمتقدم والمتأخر، فإن علم بتاريخ موت أحدهم وجهل تاريخ موت الآخر حكم بميراث مجهول تاريخ الموت من معلوم تاريخ الموت، نظير ما سبق في الصورة الثالثة. وإن جهل تاريخ الموت في الكل فقيل بالرجوع للقرعة في تعيين الوارث. ولكن الظاهر عدم الرجوع إليه، بل يحكم بعدم التوارث. وإن كان الأحوط استحباباً الصلح ولو بالرجوع للقرعة.

هذا كله في فرض التوارث من الجانبين، أما إذا كان الميراث من جانب واحد - كما إذا مات أخوان لاحدهما أولاد دون الآخر - فمع العلم بالتقارن لا ميراث كما تقدم. ومع عدم العلم به أو العلم بعدمه فإن علم تاريخ موت المورث وجهل تاريخ موت الآخر حكم بالميراث. وإن جهل التاريخان فلا ميراث، وإن كان الأحوط استحباباً التصالح.

ثم أنه لا يفرق في هذه المسألة بتفاصيلها بين موتهم جميعاً حتف الانف، وموتهم جميعاً بسبب غير الغرق والهدم - كالقتل في الحرب وافتراس السباع - واختلافهم بأن مات بعضهم حتف أنفه وبعضهم بسبب غير الغرق والهدم، أو بسبب الغرق أو الهدم، بل وكذا لو مات بعضهم بالغرق وبعضهم بالهدم. فالمعيار في هذه المسألة على عدم موتهم جميعاً بالغرق وعدم موتهم جميعاً بالهدم.

٢٥٨

خاتمة

فيها مسائل:

الاُولى: سهام المواريث المتقدمة إنما تجري فيما يقبل القسمة عرفاً ولو بنحو الاشاعة وهي الاموال عيناً كانت أو ديناً أو منفعة، وكذا الحقوق المقابلة بالمال، كحق السرقفلية الذي تقدم الكلام فيه في آخر كتاب الاجارة، فلو بيع قسـم الثمن بين الورثة قسمة سهام المواريث. أما الحقوق غير المقابلة بالمال - كحق القصاص والخيار - فهي لا تقبل القسمة، حتى بنحو الاشاعة، ولا تجري السهام فيه، بل يشترك فيها الورثة بنحو المجموعية، فالحق الواحد يكون ملكاً لجميع الورثة ويكون تحت سلطنة الكل بنحو المجموعية فليس لكل منهم إعماله أو إسقاطه إلا برضا الآخرين. أما لو صالحوا عنه بمال قابل للقسمة ففي جريان سهام المواريث فيه إشكال، بل الظاهر قسمته بين الكل بالتساوي، إلا مع قيام القرينة على ابتناء الصلح من الكل على قسمته قسمة المواريث، فيكون العمل على ذلك.

الثانية: سهام المواريث المتقدمة إنما تجري بعد خروج الديون والواجبات المالية وواجبات التجهيز والوصية، فالمراد بالثلث أو السدس مثلاً في المواريث هو الثلث أو السدس من الباقي بعد إخراج الاُمور المذكورة، لا من أصل التركة. ولعل هذا من الواضحات.

الثالثة: يلحق بمال الميت الذي يجري عليه الميراث وتنفذ منه الوصايا والديون دية قتله، سواءً كانت مستحقة ابتداء وهي دية الخطأ أم كانت بدلاً عن القصاص في القتل العمدي إذا رضي أولياء الميت. وأما دية الجروح والاعضاء فما كان منها بسبب العدوان عليه في حياته فهو قد ملكه قبل موته وصار من

٢٥٩

أمواله الحقيقية التي تركه. وما كان منها بسبب العدوان عليه بعد وفاته ينفق في وجوه البر عنه، ولا يلحق بأمواله ولا يجري عليه الميراث. نعم يوفى منه ديونه لو انحصر وفاؤه به، لانه من أفضل وجوه البر.

الرابعة: يرث الدية كل من يرث المال عدا الاخوة للاُم فقط، فإنهم لا يرثون منه. وألحق بهم المشهور كل من يتقرب بالاُم فقط كالاخوال وأبنائهم، ولا يخلو عن إشكال. بل الاظهر عدم إلحاقهم بالاخوة، بل هم يرثون من الدية كغيرهم من الورثة.

الخامسة: قد تختلف قسمة المواريث عند المخالفين عن قسمتها عندن، وحينئذٍ إذا ثبت للمؤمن حق بمقتضى قسمتها عندهم لا يثبت بمقتضى قسمتها عندنا جاز له الاخذ به إلزاماً لهم بمقتضى دينهم. والملزم بذلك هو الوارث الذي يدخل عليه النقص ويأخذ المؤمن منه ما يستحقه في مذهبه، لا الميت، فلابد من كون الوارث المذكور مخالفاً ليلزم بمقتضى مذهبه، سواء كان الميت مؤمناً أم مخالف، ولا أثر لكون الميت مخالفاً في ذلك.

السادسة: لما كان الميراث يجري على ما يملكه الميت فلا تورث الاراضي الميتة التي قد سبق تسجيلها باسم الميت شراء من الدولة أو هبة منها لعدم ملكيته له، كما سبق في أول كتاب إحياء الموات. بل هي على إباحتها الاصلية يملكها كل من يحييها وليس للورثة منعه منه. نعم لا يجب عليهم التنازل للمحيي بالطابو ولهم أخذ مال في مقابل ذلك.

كما أن الارصدة التي في البنوك التابعة لجهات غير مالكة لا يجري عليها التوارث وما يؤخذ في مقابلها إما مباح أصلي أو مجهول المالك. نعم الأحوط وجوباً لمن يقبض المال أن يدفعه للورثة على نحو سهام المواريث وعدم خروجه في المال المذكور عن مقتضاه.

والحمد لله رب العالمين

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333