العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد0%

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 216

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمّد علي يوسف الاشيقر
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 216
المشاهدات: 42923
تحميل: 7184

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42923 / تحميل: 7184
الحجم الحجم الحجم
العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

العباس (عليه السلام) رجل العقيدة والجهاد

مؤلف:
الناشر: مؤسسة محبّين للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهكذا كانت عملية السقي هوايته، ثمّ أصبحت رسالته، وفي سبيلها تمّت شهادته.

وعندها نهض السجّاد (عليه السّلام) وكان مريضاً واتّجه نحو الأعداء، وهو يتوكأ بيد على عصا، ويشهر سيفه بيده الاُخرى، فلمّا رآه الحسين (عليه السّلام) صاح باُمّ كلثوم: (( احبسه؛ لئلاّ تخلو الأرض من نسل آل محمّد )). وتشبثت به اُمّ كلثوم وأعادته إلى فراشه.

لقد شعر أهل البيت (عليهم السّلام) بالكارثة من مقتل العبّاس؛ لأنّه كان عمود خيمتهم وها هو العمود قد انكسر، وكان حامل رايتهم وها هي الراية قد سقطت.

وعن هذه الحالة يقول الشاعر:

لا أقمرت ليلةٌ صارَ صبيحتها بدورُ آلِ رسولِ اللهِ في خسفِ

لا أشرقت شمسٌ يومَ صارَ في غده شموسُ آلِ رسولِ اللهِ في كسفِ

كما ونظم شاعر آخر حول شهداء أهل البيت (عليهم السّلام) يقول:

عين جودي بعبرةٍ وعويلِ واندبي إن ندبتِ آلَ الرسولِ

سبعةٌ منهم لصلبِ عليٍّ قد أبيدوا وتسعةٌ لعقيلِ

وإذا ما بكيت عيني فجودي بدموعٍ تسيلُ كلّ مسيلِ

ونشير بعد هذا إلى أنّ الحسين (عليه السّلام) كان قد أفرد خيمة في حومة الميدان بجوار معسكره، وكان يأمر بحمل جثمان كلّ مَنْ يُقتل من صحبه وأهل بيته إليها، إلاّ أنّ أخاه العبّاس (عليه السّلام) كان قد تركه في مكان سقوطه قرب نهر الفرات (العلقمي) منحازاً عن الشهداء، وحيث مرقده الطاهر الحالي.

وإنّما لم ينقل جثمان أخيه العبّاس إلى حيث حمل الشهداء من الأصحاب

١٤١

والأقارب إليها؛ وذلك « لسرّ مكنون أطرته الأيام ليكون له مشهد خاصّ به يقصده الناس عبر الزمن بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها الناس، وتتزلف إلى المولى تعالى تحت قبّته التي ضاهت السماء رفعة وسناء، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الأمّة مكانته السامية، ومنزلته الرفيعة عند الله تعالى فتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد، والزيارة المتواصلة، ويكون (عليه السّلام) حلقة الوصل فيما بينهم وبين الله تعالى »(١) .

وهكذا بات العبّاس (عليه السّلام) ينتقل من جيل إلى جيل - وعبر الزمن - ليس كتراث للإنسانية فحسب بل كمنبّه دائم لضمير البشرية كلّما عصفت به أزمة المثل العليا.

____________________

(١) الثورة الحسينيّة - الشيخ فاضل المالكي.

١٤٢

ما بعد الملحمة

لقد قال الكثير عن العبّاس (عليه السّلام) ومواقفه المميّزة في يوم الطفّ، كما وجرى الكثير بعد هذا اليوم الذي ليس له نظير في تاريخ الإنسانية.

فممّا قاله أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) في شأن العبّاس، نكتفي هنا بإيراد قولين فقط؛ فقد قال عنه الإمام علي بن الحسين السجّاد (ت ٩٥هـ) بالحرف: (( رحم الله عمّي العبّاس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعت يداه، فأبدله الله عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب. وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة )).

كما وقال الإمام جعفر الصادق (ت ١٤٨هـ) عنه: (( كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أخيه أبي عبد الله الحسين وأبلى بلاء حسناً، ومضى شهيداً )).

وأمّا ما قاله سواهم إزاء العبّاس فلا يعدّ ولا يحصى، وكلّ الذي جاء في هذه الدراسة من أقوال لهم (شعراً ونثراً) هو النزر اليسير ممّا قالوه في شأن العبّاس، مكتفين هنا بهذه الإشارة، وإنّ في وسع مَنْ يرغب في الاستزادة الرجوع إلى تلك المظان والمراجع.

وأمّا الذي جرى بعد يوم الطفّ فهي حوادث ووقائع كثيرة، نقتطف منها هنا الشيء اليسير الذي يرتبط بهذا اليوم التاريخي المهم.

١٤٣

لقد كانت اُمّ البنين (والدة العباس) من أوّل الناس الذين خرجوا لاستقبال بشر بن حذلم، الذي أرسله علي بن الحسين (عليه السّلام) إلى المدينة؛ لغرض إشعار أهلها بما حلّ بالحسين (عليه السّلام) وبأهل بيته وأصحابه، حيث نادى بشر هذا عند وصوله مشارف المدينة برفيع صوته:

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها قتلَ الحسينُ فأدمعي مدرارُ

الجسمُ منهُ بكربلاء مضرّجٌ والرأسُ منهُ على القناة يدارُ

وحين وقع بصرها على الناعي لم تستفسر منه على مصير ابنها العبّاس وإخوته الثلاثة، وإنّما سألته عن الحسين (عليه السّلام).

وما كاد يصل إلى ذكر ولدها العبّاس [حتّى] اضطربت، وسقط حفيدها الصغير الذي كانت تحمله على الأرض، وقالت: قطّعت نياط قلبي، أولادي الأربعة ومن تحت الخضراء فداء لسيدي الحسين.

وحين أخبرها بمقتل الحسين صرخت ونادت بألم وحسرة: وا حسيناه! وا حبيب قلباه! يا ولدي يا حسين! نور عيني يا حسين!

ولقد شاركها مَنْ كان حاضراً إلى جوارها في النياحة والبكاء والعويل على شهداء كربلاء عامّة والحسين خاصّة.

وعن هذه الحالة نظم الشاعر الشيخ أحمد الدجيلي:

اُمّ البنين وما أسمى مزاياكِ خلّدت بالصبرِ والإيمانِ ذكراكِ

أبناؤك الغرّ في يومِ الطفوفِ قضوا وضحّوا في ثراها بالدمِ الزاكي

لمّا أتى بشرُ ينعاهمُ ويندبهم إليكِ لم تنفجر بالدمعِ عيناكِ

١٤٤

وقلتِ قولتكِ العظمى التي خلدت إلى القيامةِ باقٍ عطرها الزاكي

أفدي بروحي وأبنائي الحسينَ إذا عاشَ الحسينُ قريرَ العينِ مولاكِ

ولقد كانت اُمّ البنين بعد وصول أخبار مجزرة كربلاء إليها، وسماعها لاستشهاد أبنائها الأربعة، تخرج إلى البقيع (حاملة ولد العبّاس عبيد الله) وتندب وترثي أولادها الأربعة أشجى ندبة وأحرقها، حيث يجتمع الناس عندها لسماع ندبتها وبكائها.

ويعبّر الخطيب الشيخ محمّد علي اليعقوبي عن هذه الحالة فينظم:

وإن أنسى لن أنسى اُمّ البنين وقد فقدت ولدها أجمعا

تنوحُ عليهم بوادي البقيع فيذري الطريدُ لها الأدمعا

ولم تسلُ مَنْ فقدت واحداً فما حال مَنْ فقدت أربعا

ويُقال هنا: إنّها كانت تخطّ قبوراً لأولادها الأربعة على الأرض وتجلس في الشمس بينها تندبهم، وتنعيهم بصوت حزين يقرح القلوب، ويحرّك المشاعر، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها.

وكان مروان بن الحكم على شدّة عداوته لأهل البيت يجيء فيمَنْ [يجيء] فلا يزال يسمع ندبتها ونعيها ويبكي، وفي هذا نظم الشاعر:

رقّ لها الشامتُ عمّا بها ما حالُ مَنْ رقّ لهُ الشامتُ

وممّا كانت اُمّ البنين ترثي أولادها الأربعة قولها:

لا تدعوني ويكِ اُمَّ البنينْ تذكّريني بليوثِ العرينْ

كانت بنونُ ليَ اُدعى بهم واليومُ أصبحت ولا من بنينْ

أربعةٌ مثلُ نسورِ الرُّبى قد واصلوا الموتَ بقطعِ الوتينْ

يا ليتَ شعري أكما أخبروا بأنّ عباساً قطيعَ اليمينْ

١٤٥

وكانت العقيلة زينب بنت علي (عليها السّلام) تزور اُمّ البنين باستمرار في بيتها، وخصوصاً أيام الأعياد والمناسبات، كما وتزورها أيضاً بقية نساء أهل البيت والمدينة مواسين لها، ومخفّفين من آلامها وحزنها إزاء أولادها الأربعة، وبقية الشهداء من أهل بيتها الأكرمين.

أمّا عن دفن ضحايا واقعة الطفّ فنشير إلى قيام أبناء قبيلة بني أسد في اليوم الثالث عشر من المحرّم الحرام عام (٦١هـ) - أي بعد ثلاثة أيام من الملحمة - بدفن جثمان الحسين (عليه السّلام) وأخيه العبّاس (عليه السّلام) وبقية شهداء كربلاء في أرض الطفوف، كلّ في أماكنها التي حدّدها لهم الإمام زين العابدين السجّاد (عليه السّلام)، وبنو للقبور علائم لا يُدرس أثرها.

ونشير هنا - وبهذه المناسبة - إلى أنّه حين دفن الأجساد الطاهرة نزل الإمام السجّاد (عليه السّلام) مساعداً لبني أسد في نقل الجثث الزواكي إلى محلّها الأخير، عدا جسد الحسين (عليه السّلام) وجثة عمّه العبّاس (عليه السّلام)؛ فتولّى وحده إنزالهما إلى مقرّهما، وقال لبني أسد: (( إنّ معي مَنْ يعينني )).

وحيث إنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ الإمام فهذا أمر مفهوم، أمّا بالنسبة للعباس فهو أمر لا نكاد نصل إلى حقيقته، وإن كنّا نرى أنّ مكانة العبّاس ودرجته وسموّ مركزه، أنّ كلّ هذه قد أوصلته إلى نقطة قريبة من تلك التي يقف عندها الإمام المعصوم.

هذا ولقد كان عبيد الله بن الحرّ الجعفي(١) هو أوّل شخص كان قد جاء إلى

____________________

(١) بعد استشهاد الحسين (عليه السّلام) تفقّد ابن زياد أشراف الكوفة فلم يجد بينهم عبيد الله بن الحرّ الجعفي، فطلبه فجاءه بعد أيام ودخل عليه، وقال له: أين كنت يابن الحرّ؟ فأجابه: كنت مريضاً. فقال له: كنت مريض القلب أم مريض البدن؟ فأجابه: أمّا قلبي فلم يمرض، وأمّا بدني فقد منّ الله عليه العافية. فقال: كذبت، ولكنّك كنت مع عدوّنا. فأجابه: لو كنت مع عدوك لرؤي مكاني وما =

١٤٦

كربلاء - بعد ملحمة الطفّ - لغرض زيارة قبر الحسين والعباس (عليهما السّلام) وبقية الشهداء؛ حيث رأى الديار خالية، والأرض وحشة إلاّ قبري الحسين مع شهداء الطفّ في جهة، وقبر العبّاس في الجهة الاُخرى (الشرقية). ووقف على قبر الحسين (عليه السّلام) وبكى عنده بكاءً شديداً كادت روحه تزهق، ثمّ أنشده قصيدة طويلة جاء في بعضها:

سقا اللهُ أرواحَ الذين تآزروا على نصرهِ سقياً من الغيثِ دائمهْ

وقفتُ على أجداثهم ومحالِهمْ فكادَ الحشا ينفضّ والعينُ ساجمهْ

لعمري لقد كانوا مصاليتَ في الوغى سراعاً إلى الهيجا حماةً خضارمهْ

تآسوا على نصر ابنِ بنتِ نبيّهمْ بأسيافهم آسادُ غيلٍ ضراغمهْ

وعند حلول أربعين شهداء كربلاء في (٢٠ صفر ٦١هـ)، وقيل: (٢٠ صفر ٦٢ هـ)، والأخير « هو التاريخ الذي تميل إليه الأوساط العلمية عند مؤرّخي الإماميّة »(١) ، قدمت إلى كربلاء سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) بقيادة الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام)، وهي في طريق عودتها من الشام إلى المدينة المنوّرة.

وصادف عند مجيئها إلى أرض الطفوف قدوم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (ت ٧٦هـ) إلى المنطقة لزيارة مشهد شهداء الطفّ؛ حيث تولّى الجميع دفن رؤوس الشهداء إلى جوار أجسادهم الطاهرة، ثمّ غادروها إلى المدينة المنوّرة.

وحول ملحمة الطفّ نظم الكثير من الشعراء، منها هذا الشاعر نظم يقول:

____________________

= كان مثل مكاني ليخفى على أحد. وعند انشغال ابن زياد بالحديث مع غيره تمكّن ابن الحرّ من التسلل إلى الخارج، فجاء إلى داره، ثمّ خرج إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين وبقية شهداء الطفّ (عليهم السّلام).

(١) مدينة الحسين - محمّد حسن مصطفى الكليدار.

١٤٧

يا وقعةَ الطفِّ كم أوقدتِ في كبدي وطيسَ حزنٍ ليومِ الحشرِ مسجورا

كأنّ كلّ مكانٍ كربلاء لدى عينيّ وكلّ زمانٍ يوم عاشورا

كما ونظم السيد الحميري يقول:

اُمرر على جدثِ الحسي ن وقل لأعظمهِ الزكيهْ

يا أعظماً لا زلت من وطفاء ساكبةً رويهْ

ما لذّ عيشٌ بعد رضّ كِ بالجيادِ الأعوجيّهْ

ونظم الشاعر عقبة بن عمرو العبسي أيضاً حول الموضوع، حيث قيل: إنّه أوّل مَنْ رثى الحسين بعد شهادته، يقول:

مررتُ على قبرِ الحسينِ بكربلا ففاضت عليهِ من دموعي غزيرُها

وما زلتُ أبكيه ورائي لشجوهِ ويعدّ عيني دمعها وزفيرُها

سلامٌ على أهلِ القبورِ بكربلا وقلَّ لهم منّي سلامٌ يزورُها

ولا برحَ الوفّادُ زوّارُ قبرهِ يفوحُ عليهم مسكها وعبيرُها

كما ونظم الشاعر محمّد حسن أبو المحاسن الكربلائي يقول:

فيا يوم عاشوراء كم أوقدت في الحشا! من الحزنِ نيراناً مدى الدهرِ لا تخبو

قد كنت عيداً قبل يجنى بك الهنا فعدت قذى الأطفال يجنى بك الكربُ

فكم قد أريقت فيهِ من آلِ أحمدٍ دماءٌ لساداتٍ وكم هُتكت حجبُ

كما ونظم الشاعر دعبل الخزاعي يقول:

هلاّ بكيت على الحسينِ وأهلِه هلاّ بكيت لمَنْ بكاهُ محمّدُ

فلقد بكتهُ في السماءِ ملائكٌ زهرٌ كرامٌ راكعونَ وسجّدُ

قتلوا الحسينَ فأثكلوهُ بسبطه فالثكلُ من بعدِ الحسينِ مبدّدُ

ونظم شاعر آخر حول الموضوع يقول:

١٤٨

ألم تر أنّ الأرضَ أضحت مريضةً لفقدِ حسينٍ والبلادَ اقشعرتِ

وقد أعولت تبكي السماءُ لفقده وأنجمها ناحت عليهِ وصلّتِ

كما ونظم شاعر كربلاء الحاج محمّد علي كمونة الأسدي يقول:

لعصابة أورى الظما أحشاءها قضيت ولم يبرد جوى أحشائها

نظرت إلى الملكوتِ فاشتاقت لمَنْ في عالمِ اللاهوتِ من نظرائها

خاضت غمارَ الحتفِ حتّى خضّبت دونَ ابن فاطمةٍ بفيضِ دمائها

عن كربلا وبلائها سل كربلا سل كربلا عن كربلا وبلائها

١٤٩

كرامات العبّاس (عليه السّلام)

إنّ الحديث عن كرامات العبّاس قد يطول شرحه وتبيانه، ولا تتّسع له هذه الدراسة الموجزة رغم ما قد يبذل من جهود وعناء، كما وأنّه من العبث مناقشة هذه الكرامات وفقاً لما يسمّيه البعض بالتفسير العلمي للتاريخ أو الأحداث، إذ من الغرور والسطحية بمكان ادّعاء أي فرد أنّه ملمّ بكلّ ما في الكون من أسرار إلهية، أو خفايا غيبية، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُم مّنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً ) (١) .

ومن غير هذا المنطق، وبقدر تعلّق الأمر بموضوع هذه الدراسة نشير إلى أنّ مزار العبّاس (عليه السّلام) في كربلاء، وهو البطل المغوار الذي قدّم كلّ غال وثمين في سبيل القضية المقدّسة التي كان يدافع عنها.

إنّ هذا المزار يغصّ بالزوار والقاصدين من هذا القطر أو ذاك، وعلى مدار أيام السنة، وهو أيضاً باب وملجأ أصحاب الحاجات والمطاليب، والمشاكل والقضايا والمسائل يأتونه من كلّ فجّ عميق؛ لأنّه يذكّرهم بالله تعالى وبالتضحيات التي قدّمها في الذود عن الحقّ والحرية والمثل العليا.

____________________

(١) سورة الإسراء / ٨٥.

١٥٠

ويؤكّد الثقات والأخيار الذين سمعنا منهم مباشرة، أو غير مباشرة بأنّ الله سبحانه وتعالى - كرامة لوليه الذي قدّم حياته رخيصة في سبيله(١) - قد استجاب لدعوات المئات، بل الاُلوف من زوّار حرم العباس (عليه السّلام)؛ فشفي كثيرون من أعراض مستعصية كالسلّ والسرطان والشلل والجنون، كما واستقام وطاب آخرون كانوا يشكون العوق في أرجلهم أو سواها.

فضلاً عن أنّه سبحانه قد فرّج عن غيرهم أزماتهم وهمومهم ومشاكلهم، والتي قد تصل هنا أو هناك إلى مرتبة ودرجة المعجزات(٢) .

____________________

(١) لقد قلنا في أكثر من مكان في هذا البحث إلى أنّ الله سبحانه قد منح بعض أصحاب العبقريات ممّن يعملون في سبيله بإخلاص ويقين معلوماتٍ ومعارف في الحياة الدنيا - قد تصل إلى حد الغيب - ولا تتوفر عند الآخرين.

كما ويوفر لمراقدهم بعد رحيلهم كرامات بسبب تقديمهم لحياتهم رخيصة في سبيل المبادئ الإلهية السامية؛ لذا فقد ورد في الحديث القدسي تأكيداً لهذا النقطة وهو قوله تعالى: « عبدي أطعني تكن مَثَلي - أو مِثْلي - تقول للشيء كن فيكون ».

وعن هذه الكرامات نظم الشاعر الشيخ كاظم السوداني يقول:

فكم لأبي الفضلِ الأبي كراماتٌ لها تُليت عند البرية آياتٌ

وشاراتُه كالشمس في الاُفق شوهدت لها من بنات المجد أومت إشاراتٌ

وقال شاعر آخر:

أبو الفضل ابن داحي الباب أعلا! إله العرش في الدنيا مقامه

وكم من معجزات باهرات له قد عرفوه أبا الكرامه!

حباه الله فيها منه فضلاً كذا فرع النبوّة والإمامه

وقال شاعر آخر:

قصدتُ أبا الفضل الذي هو لم يزلْ قديماً حديثاً للحوائج يُقصدُ

يمدّ على العين السقيمةِ كفّهُ وإن قُطعت يوم الطفوف له يدُ

١٥١

وعليه فللعباس (عليه السّلام) حضور يومي في حياة الملايين من الناس، وهو وسيلتهم في الحصول على الحوائج من الله تعالى وقدوتهم في البحث عن الغايات، فضلاً عن اتّخاذه كمثابة موقع للحلف به، وكشاهد أو طرف ثالث، أو (فصل) في كثير من القضايا والمنازعات المهمّة القائمة بين صفوف هؤلاء الملايين.

إنّني هنا - من منطلق الدراسة العلمية لهذا الموضوع - لن أورد الكرامات الكثيرة التي سطّرها العديد من الكتّاب والمؤلّفين في كتبهم؛ لأنّه في المستطاع لمَنْ أراد الوقوف عليها مراجعة هذه الكتب مباشرة، وإنّما آثرت هنا أن أضيف إلى تلك الكرامات - والتي قد يؤمن بها القارئ الكريم أم لا؛ حيث إنّ هذا من شأنه - كرامات اُخرى قد تتشابه مع سابقاتها أو لا تتشابه.

نعم، أن أضيف وأدوّن في هذه الدراسة بعض الكرامات التي رواها إليّ شهود عيان، ووجهاً لوجه من دون حاجز وحائل؛ لأنّي من منطلق هذه النظرة العلمية آثرت أن أتأكّد بنفسي من صحة مشاهداتهم ورواياتهم للأحداث التي يرونها لي عن كرامات شاهدوها عن كثب، أو إنّها وقعت أمامهم ولم يشعرهم شخص آخر عنها.

وطبيعي أنّ كلّ كرامة حين وقوعها فإنّها تحدث أمام حشد كبير من الزائرين والحاضرين، وهم الذين كانوا متواجدين في الحرم عند ظهورها وبروزها شاخصة؛

____________________

= وقال شاعر رابع:

كم فرّجَ اللهُ عن كلّ معضلةٍ كرامةً منهُ للعباسِ شبلِ علي

ورحمة اللهِ خصتنا بفضلهمُ عند الصعابِ وعمّت فيه كلّ ولي

١٥٢

لذا فقد حاولت هنا البحث بجديّة عن هؤلاء، فضلاً عن ملاحقة كلّ امرئ طرق سمعي أنّه كان موجوداً في الحرم المقدّس عند ظهور كرامة معينة؛ للاستماع إليهم وبأذن صاغية لكلّ ما شاهدوه بأعينهم - وبأعينهم فقط - ومن ثمّ يروونه لي من أحداث وكرامات عن كثب، ومن دون حاجز يذكر.

أكرر هنا أنّ أسلوبي في الكتابة الآن وقبل الآن هو علمي قبل أن يكون أدبي، وموضوعي قبل أن يكون عاطفي، وأنّ ما سأشير إليه في أدناه - سواء قبله البعض وارتضاه أم لا - هو الذي سمعته ممّن عاصر الحدث والكرامة، وشاهدها بعينيه المفتوحتين، وبعيداً عن العبارة أو الجملة التي تفيد أو تقول: « ر وى فلان عن فلان » ، أو « سمعت ممّن أثق به » ، أو « ش اهدها خلق كثير » إلخ.

هذا، إضافة إلى أنّ الذين استمعت إليهم ليست لهم مصلحة صغيرة أو كبيرة في صحة أو عدم صحة ما يقولونه ويروونه، وإن كان لديهم شيء من ذلك فهو يقدر ما لديّ ولديك - أيّها القارئ العزيزـ من مصلحة في حصة وحقيقة أو عدم صحة وحقيقة ذلك، ثمّ إنّ الذين استمعت منهم هم من الأخيار والملتزمين والبعيدين عن الكذب واللف والدوران، خصوصاً في حالات لا مصلحة لهم بها من قريب أو بعيد.

وأشير بعد هذا إلى أنّني قد أكون أكثر من كثير من القرّاء من حيث عدم اليقين والإيمان بالخرافات والأوهام؛ سواء التي تُضاف إلى الدين أو المذهب، أو التاريخ أو الأهداف من قبل الكثير من المتزمّتين والمتشدّدين عبر الزمن؛ لتصوّرهم بأنّ هذه الإضافات قد تُضفي بريقاً ورسوخاً على تلك الأمور، بل هي في الحقيقة

١٥٣

تسلبها نقاءها وواقعها التي هي عليه في الحقّ والحقيقة.

وقبل أن أخوض وأنقل بعض بعض الكرامات والأحداث التي سمعتها في أدناه، أروي للقارئ الكريم حادثة وواقعة بسيطة جرت أمامي، وعلى بعد عدّة أمتار منّي وقد شاهدتها بكلتا عينيّ - وللقارئ العزيز أن يثق بها أو لا يثق؛ فهذا أمر يخصّه هو -، وقد تكون هذه الواقعة ضمن مسلسل الأمور والشؤون التي لا يربطها بالعلم رابطة؛ لبعدها عن التفسير العلمي.

كما ويمكن اعتبارها وربطها في خانة وزاوية ما سننقله من كرامات تجلّت لكثير من الناس، وإن كانت هذه تختلف عن تلك في شيء، فكونها لم تقع في حرم العباس (عليه السّلام)، بل إنّ مسرحها كان في أحد بيوت الله تعالى التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه.

والواقعة باختصار هي: في ليلة النصف من شهر رمضان المبارك لعام (١٤١٤ هـ )، وبعد أن أقمت صلاة المغرب في البيت، ومن ثمّ تناول طعام الإفطار لذلك اليوم، آثرت أن يكون أداء صلاة العشاء في وسط البلدة، وفي أحد مساجدها(١) .

وشاء القدر أن تكون صلاة العشاء لهذه الليلة في مسجد المخيّم الخاصّة بالحرم، وقبل الدخول إلى الحرم لا بدّ من اجتياز العارضة الحديدية، والتي هي بارتفاع قدم واحد من الأرض، حيث تُخلع عندها الأحذية تمهيداً للدخول إليه.

____________________

(١) يبلغ عدد مساجد مدينة كربلاء وأحيائها حوالي (١١٠) مسجداً، علماً بأنّ المدينة التي تضمّ أكثر عدد من المساجد في العالم هي مدينة كراجي بباكستان، حيث تضمّ أكثر من (٥) آلاف مسجد. ولقد أشرنا إلى تواريخ وأحكام وآداب المساجد في كتابنا « تاريخ المساجد في الإسلام ».

١٥٤

ولقد شاهدت عند العارضة هذه حذاء واحد وبلون أصفر، وهذا يعني طبعاً بوجود شخص واحد فقط في داخل حرم المسجد دون سواه.

وتركت حذائي إلى جوار ذلك ودخلت الحرم باجتياز العارضة، حيث وجدت فيه بالفعل شخصاً، وكان يقف بالقرب من جدار المحراب وأمامه، وهو متّجه إلى القبلة، ورافع يديه إلى الأعلى بالدعاء، وظهره إليّ وإلى حرم المسجد.

إنّ هذا الحال لم يجلب انتباهي ولا اهتمامي إلاّ شيء واحد وهو رفع الرجل ليديه إلى الأعلى وبكلّ امتدادها؛ حيث إنّ الجاري والمتعارف لدينا هو أن تكون الكفّين عند الدعاء أمام الوجه، أو إلى الأعلى قليلاً، وليس إلى نهاية امتدادها كما كان حال هذا الرجل، ورغم ذلك فقد اعتبرت أنّ هذا شيئاً عادياً يخصّ مَنْ يدعو؛ حيث له الخيار في القيام بأيّة طريقة يدعو الله تعالى بها.

وشرعت في أداء صلاة العشاء - والرجل الذي يقف أمامي لا يغيب عن نظري -، وعند وصولي إلى الركعة الثانية وما بعدها ظلّ هذا الرجل مواظباً على دعائه من دون أن يحرّك يديه شيئاً، أو يسمع منه صوت ولو كان هذا خافتاً.

وبعد الفراغ من صلاة العشاء استمر الرجل على حاله؛ ممّا جلب اهتمامي وشكوكي، حيث امتد وقت وفترة دعائه كلّ وقت صلاتي الرباعية وهي العشاء. وفي سبيل معرفة حقيقة هذا الرجل، صلّيت في مكاني - وكان هذا المكان عند مدخل الحرم - صلّيت صلاة (الوتيرة)، وهي ركعتان عن جلوس تُقام بعد العشاء استحباباً، ويقرأ بعد سورة الحمد في الركعة الأولى سورة، كما تقرأ أيّة سورة بعد سورة الحمد في الركعة الثانية.

١٥٥

وبعد الفراغ من هذه الصلاة ظلّ الرجل على حاله من دون حركة يديه، أو ذهابه إلى الركوع، أو الالتفاف إلى اليمين أو الشمال؛ ليمكن مشاهدته بوضوح، أو أي شيء آخر.

وهنا آثرت الانتظار في المسجد لفترة اُخرى للوقوف على جلية الأمر، حيث تناولت مصحفاً من مصاحف المسجد للقراءة فيه لحين فراغ الرجل من دعائه وعبادته؛ ليتاح لي مشاهدته عن كثب بعد ذلك.

وفي الحقيقة فإنّ كلّ نظراتي وأفكاري - والتي كان المفروض أن تنصبّ في المصحف - قد انقلبت على العكس، حيث ظلّت كلّ هذه مسدّدة صوب الرجل، والذي يقف أمامي وعلى بعد (٥) أمتار فقط إلى الأمام.

وبعد حوالي الـ (٥) دقائق من البدء في القراءة بالمصحف فوجئت بغياب واختفاء هذا الرجل من أمامي ومن دون أيّ أثر له، وكأنّه لم يكن هناك أمامي إنسان بطوله وعرضه وملابسه، وهو رافع يديه إلى السماء لما يقرب من (١٥) دقيقة.

وقمت في الحال - بعد غلق المصحف الشريف - إلى المكان الذي كان يقف الرجل عليه فلم أجد أيّ أثر أو ذكر له، وخرجت مسرعاً إلى السوق الذي يقع المسجد فيه فلم أجد أيّ شيء أو أثر يرشد إلى الرجل.

إنّ علم النفس يشير إلى « أنّ بعض حواس الإنسان تتعطّل أو تتوقّف مؤقتاً؛ كلاً أو جزءاً في حالات الارتباك والخوف والفزع والقلق، حيث تضطرب نشاطات العقل فلا يعي المرء كلّ الأشخاص الذين معه أو حوله، فتضيع حلقات أو مفردات من الإدراك والاستيعاب يتفاوت عددها (عند الجماعة) بين شخص

١٥٦

وآخر، فما يراه هذا لا يراه ذاك، وما يسمعه هذا لا يدركه أو يعيه غيره... »

نعود بعد هذا إلى صلب الموضوع فنقول: إنّ كرامات العباس لا تُعدّ ولا تُحصى، وقد آثرت هنا الإشارة إلى بعضها، والتي رواها لي مشاهدوها من دون واسطة، ومن هذه الكرامات هي:

١ - لقد أخبرنا الشيخ حسين نجل المرحوم الشيخ محمّد علي الكيشوان، وفي حرم العباس المقدّس بالحرف: « ل قد جاء رجل مع زوجته في عام ١٩٣٨ إلى حرم العباس، وهما من سكنة أطراف كربلاء، وكان هذا الرجل يحمل على ظهره ابنته وهي بحدود (١٤) سنة، وكانت معوّقة في كلّ أطرافها ولا تتكلّم، وكنت عند قدومهم جالساً عند باب القبلة، حيث طلب منّي الرجل عند دخوله إلى الروضة أن أصاحبه إلى داخل الحرم وأربط البيت بشباك العباس (عليه السّلام).

وفعلاً دخلت مع الثلاثة (الرجل والبيت على ظهره والزوجة) إلى داخل الحرم وربطت البنت التي كانت ممتدّة على الأرض (لعجزها عن الوقوف) بقطعة من القماش بشباك ا لعباس - كما هي العادة -، ودعوت الله تعالى عند الشباك أن يعافيها من علّتها، وعقب ذلك عدّت إلى مكاني عند باب القبلة.

وبعد فترة زمنية سمعت أصوات عالية، وزغاريد وصلوات على محمّد وآله منبعثة من داخل الحرم، وإثرها جاءني الرجل المذكور (والد البنت) وطلب منّي مصاحبته إلى داخل الحرم؛ لأنّ البنت قد شفيت من علّتها بكرامة العباس، وهي لا تترك الشباك والمربوطة إلاّ بحضوري.

وبالفعل دخلت الحرم معه، ووجدت البنت واقفة على قدميها من دون دعم أو إسناد من آخر، وبعد ذلك خرجت البنت من الحرم مع والديها تمشي على رجليها

١٥٧

وبصورة طبيعية واعتيادية »

٢ - وأعلمنا السيد عبد الأمير السيد محمّد علي نصر الله الخادم في الروضة العباسية بالحرف: « ف ي شهر آذار من عام ١٩٧٥ جاء إلى الحرم العباسي رجل بمعية زوجته وأخته، وهم من أهالي الموصل، وكان وصولهم هذا في الساعة (١٠) مساءً (وكانت ليلة الجمعة)، حيث إنّ خفارتي في الحرم تبدأ في هذه الساعة حتّى الفجر؛ حيث إنّ الحرم يبقى مفتوحاً للزائرين طيلة هذه الليلة من كلّ أسبوع.

وكان الرجل مكفوف البصر تقوده زوجته وأخته، وقد طلبوا منّي ربطه بشباك العباس (عليه السّلام)، وفعلاً ربطته بالشباك كالعادة، وأعطيته قدراً من ماء الشفاء (وهو الماء الذي يسكب ويمرر على قفل باب الشباك)، ودعوت الله تعالى أن يمنّ على الرجل بالعافية بجاه ومنزلة العباس (عليه السّلام) لديه.

وفي الساعة (١٢) مساءً (أي في منتصف الليل)، أي بعد ساعتين من ربطه بالشباك، ارتفعت الأصوات داخل الحرم، وزغاريد النسوة والصلوات على محمّد وعلى آل محمّد.

وتوجّهت على الفور صوب مكان الرجل حيث شاهدته بعينيّ قد استرد بصره، وأخذ ينظر يمنة ويسرة وبصورة طبيعية، وقد تجمهر جماهير كبيرة من زوار الحرم ممّن كان متواجداً هناك في تلك الساعة حول الرجل وكلّ واحد يطلب من الله المراد... »

٣ - روى لنا أحد الزائرين للحرم العباسي، واسمه عدنان الخباز الدعمي « أنّه في إحدى ليالي الجمع من عام ١٩٩٦ جيء بمعوّق في قدميه بصحبة أمّه إلى حرم

١٥٨

العباس (عليه السّلام)، وقد ربطه أحد خدّام العباس (عليه السّلام) بالشباك بقطعة من القماش، ودعا له عند الله بالعافية والصحة، وكان ممدّداً على الأرض بجوار الشباك؛ لعدم قدرته على الوقوف، وبينما كنّا نؤدّي الصلاة على بعد عدّة أمتار من الشباك فإذا بأصوات، وزغاريد النسوة والصلوات على محمّد وعلى آل محمّد ترتفع وتملأ أركان المكان.

وعندما اقتربت من الرجل وجدته واقفاً أمام الشباك وعلى ارتفاع قليل من الأرض؛ حيث إحدى يديه كانت متّجهة إلى الأعلى والأخرى والتي سبق أن رُبطت بالشباك إلى الأسفل، وجاء خدم الحرم وأوقفوه على الأرض، وقد سألت أمّه عمّا حدث حيث أجابت:

إنّ ابني هذا معوّق منذ مدّة، وأنا أجلبه لثلاثة أيام متتالية لربطه بشباك العباس (عليه السّلام)، والآن فقد شافاه الله تعالى بكرامة العباس »

٤ - اتّهم رجل من أهالي الكوت بأنّ له علاقة مريبة مع امرأة من أقاربه، وطلب إليه الزواج منها - لقطع دابر القيل والقال - إلاّ أنّه رفض الزواج منها؛ بادّعاء أنّها حامل من غيره، وليس له علاقة بها أبداً، وقد أشعر أهلها بأنّه مستعدّ للذهاب إلى كربلاء وأداء القسم عند ضريح العباس (عليه السّلام) بصحة أقواله هذه.

وفعلاً جاء هذا الرجل إلى كربلاء برفقة أقرباء المرأة في يوم ١٦ رجب لعام ١٤١٦ هـ، المصادف لعام ١٩٩٦ م، ودخل حرم العباس (عليه السّلام)، وقبل أن يرفع يده ليؤدّي القسم جاءته ضربات وصدمات شديدة وعنيفة من جهات مختلفة أفقدته صوابه؛ حيث أخذ الدم ينزف من جسمه وتمزّقت ثيابه، ثمّ أخذ يصرخ ويستغيث بكلمات وألفاظ غير مفهومه، وقد أُخرج إلى خارج الروضة ووضع عند الباب الشرقية المسمّاة « ب اب الأمير علي » وهو بهذه الحالة المزرية.

١٥٩

وصادف أن كان الأخ الأستاذ (علي عبود أبو لحمة) مارّاً من هناك، فشاهد الحالة على حقيقتها، ووقف على طبيعتها، كما وشاهدها صديق آخر هو (أحمد مهدي الكربلائي) حيث كان مارّاً من هناك في تلك اللحظة ممتطياً لدراجة هوائية، حيث وقف وشاهد المشهد على الطبيعة أمامه، واستفسر من الحاضرين على ملابسات الموضوع فكان كما ورد أعلاه.

٥ - كما وروى لنا الحاج الشيخ عباس نجل المرحوم الشيخ محمّد علي الكيشوان ومن داخل حرم العباس (عليه السّلام)، وعلى مشهد جمع غير قليل من الأصدقاء وزوار العباس (عليه السّلام)، حيث قال لي ولهؤلاء وأمام شباك وضريح العباس (عليه السّلام) وبالحرف: « ف ي عام ١٩٦٨، وقبيل الساعة (١٠) مساءً، وعند الشروع والبدء في غلق باب حرم العباس القبلي - وبعد أن تمّ غلق بقية أبواب الحرم الاُخرى - شاهدت عن بعد وقوف سيارة (مرسيدس استيشن) أمام باب قبلة العباس (عليه السّلام)، حيث نزل منها ثلاثة رجال مع امرأتين برفقة طفلة (بنت) مريضة وبعمر (١٢) سنة، حيث كانت مسجّاة فوق فراشها.

ولقد قام الرجال - وأحدهم كان أباها ويُدعى (زبلان) - بنقل الطفلة (البنت) وهي في فراشها ووضعوها في أرض الصحن المحيط بالحرم المقدّس، حيث كان يسمح في ذلك الوقت بمنام الزوار في داخل الصحن رغم غلق أبوابه عند منتصف الليل، عدا ليالي الجمع حيث تظلّ أبواب الحرم والصحن مفتوحة حتى الصباح. وعند وصولي إليهم طلب الرجال منّي - والذين هم من أهالي الدليم (الأنبار) - طلبوا منّي وضع الطفلة (البنت) المريضة في صباح الغد في الحرم، وربطها بشباك العباس (عليه السّلام) لعلّ الله تعالى يعافيها ممّا تشكو منه؛ لأنّهم قد يئسوا من

١٦٠